شرح العقيدة الطحاوية [69]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قوله: (ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن عليهم، ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم، ونخاف عليهم ولا نقنطهم) ].

هذا الموضوع داخل في باب الأسماء والأحكام، أي: أنه تفصيل في أحكام المسلمين، سواء منهم المتقون والمقصرون الذين وقعوا في بعض التقصير أو وقعوا في بعض العظائم؛ فهؤلاء وأولئك يدخل موضوعهم في العقيدة في باب الأسماء والأحكام، أي: تسميتهم مسلمين ومؤمنين، وأحكامهم في الدنيا والآخرة.

قال رحمه الله تعالى: [ وعلى المؤمن أن يعتقد هذا الذي قاله الشيخ رحمه الله في حق نفسه وفي حق غيره، قال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:57]، وقال تعالى: فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، وقال تعالى: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة:41]، وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40]، فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [المائدة:44].

ومدح أهل الخوف، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:58-61] .

وفي المسند والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: (يا رسول الله! الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة، أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟ قال: لا، يا ابنة الصديق ، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف ألا يقبل منه) .

قال الحسن رضي الله عنه: عملوا - والله - بالطاعات واجتهدوا فيها، وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحساناً وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمناً. انتهى ].

في المقطع التالي سيذكر أن الخوف والرجاء يستلزمان العمل، وليس الخوف والرجاء مجرد أمانٍ، وإنما لا بد أن يكون الخوف وراءه عمل، والرجاء وراءه عمل.

قال رحمه الله تعالى: [ وقد قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:218]، فتأمل كيف جعل رجاءهم مع إتيانهم بهذه الطاعات؟! فالرجاء إنما يكون مع الإتيان بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله تعالى، شرعه وقدره وثوابه وكرامته.

ولو أن رجلاً له أرض يؤمل أن يعود عليه من مغلها ما ينفعه فأهملها ولم يحرثها ولم يبذرها، ورجا أنه يأتي من مغلها مثل ما يأتي من حرث وزرع وتعاهد الأرض؛ لعده الناس من أسفه السفهاء، وكذا لو رجا وحسن ظنه أن يجيئه ولد من غير جماع، أو يصير أعلم أهل زمانه من غير طلب العلم وحرص تام، وأمثال ذلك، فكذلك من حسن ظنه وقوي رجاؤه في الفوز بالدرجات العلا والنعيم المقيم من غير طاعة ولا تقرب إلى الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.

ومما ينبغي أن يعلم أن من رجا شيئاً استلزم رجاؤه أموراً:

أحدها: محبة ما يرجوه.

الثاني: خوفه من فواته.

الثالث: سعيه في تحصيله بحسب الإمكان ].

الشيخ: لذلك قرر أهل العلم أهل السنة والجماعة أن العبادة لا بد أن تقوم على ثلاثة أركان، وإذا اختل ركن اختلت العبادة:

الركن الأول: المحبة لله عز وجل.

والركن الثاني: رجاء رحمة الله عز وجل ورجاء ثوابه.

والركن الثالث: هو الخوف، أي: الخشية من الله عز وجل والخشية من عقابه وعذابه. وهذه الأمور كلها لا بد أن تترجم إلى عمل.

قال رحمه الله تعالى: [ وأما رجاء لا يقارنه شيء من ذلك فهو من باب الأماني، والرجاء شيء والأماني شيء آخر، فكل راج خائف، والسائر على الطريق إذا خاف أسرع السير مخافة الفوات.

وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فالمشرك لا ترجى له المغفرة؛ لأن الله نفى عنه المغفرة، وما سواه من الذنوب في مشيئة الله، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه.

وفي معجم الطبراني : (عند الله يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان لا يغفر الله منه شيئاً، وهو الشرك بالله، ثم قرأ: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48] وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وهو مظالم العباد بعضهم بعضاً، وديوان لا يعبأ الله به، وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه) ].

قال رحمه الله تعالى: [ وقد اختلفت عبارات العلماء في الفرق بين الكبائر والصغائر، وستأتي الإشارة إلى ذلك عند قول الشيخ رحمه الله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون).

ولكن ثم أمر ينبغي التفطن له، وهو أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر، وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل، والإنسان يعرف ذلك من نفسه وغيره ].

ومن الأشياء التي تلحق الصغيرة بالكبيرة إدمان الصغيرة والإصرار عليها، فالصغائر إذا أدمن عليها صاحبها وأصر عليها دخلت عند كثير من أهل العلم في الكبائر.

أما التفريق بين الصغائر والكبائر فسيأتي في مقام آخر فيما بقي إن شاء الله من الكتاب.

التوبة النصوح

قال رحمه الله تعالى: [ وأيضاً: فإنه قد يعفى لصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره، فإن فاعل السيئات تسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة:

السبب الأول: التوبة، قال تعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ [مريم:60]، وقال: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [النور:5] .

والتوبة النصوح -وهي الخالصة- لا يختص بها ذنب دون ذنب، لكن هل تتوقف صحتها على أن تكون عامة، حتى لو تاب من ذنب وأصر على آخر لا تقبل؟ والصحيح أنها تقبل، وهل يجب الإسلام ما قبله من الشرك وغيره من الذنوب وإن لم يتب منها؟ أم لا بد مع الإسلام من التوبة من غير الشرك؟ حتى لو أسلم وهو مصر على الزنا وشرب الخمر -مثلاً- هل لا يؤاخذ بما كان منه في كفره من الزنا وشرب الخمر؟ أم لا بد أن يتوب من ذلك الذنب مع إسلامه؟ أو يتوب توبة عامة من كل ذنب؟ وهذا هو الأصح: أنه لا بد من التوبة مع الإسلام، وكون التوبة سبباً لغفران الذنوب وعدم المؤاخذة بها مما لا خلاف فيه بين الأمة ].

الذي ورد في النصوص أن الإسلام يجب ما قبله، وإذا كان يجب ما قبله -كما هو ظاهر الحديث- فإن ذلك يتضمن التوبة من الذنوب ويستلزمها أيضاً، أي: الإسلام بعد الكفر، فالدخول في الإسلام بعد كفر وشرك يعد توبة مطلقة يدخل فيها -والله أعلم- الذنوب التي يرتكبها الإنسان حال كفره، اللهم إلا إذا أصر على ذنب، فإذا أصر على ذنب واستمر عليه -بمعنى أنه صار عليه حال كفره وحال إسلامه- فإنه يبقى عليه ذنبه، لكنه يدخل في الإسلام.

إذاً: فالكافر إذا أسلم فالظاهر أن إسلامه يجب كل ما سبق من ذنوبه، ولا ذنب أعظم من الشرك والكفر، ولا شك أن من أسلم فقد استسلم وسلم لله عز وجل، ومن سلم فإنه بدأ أعماله من جديد، والإسلام يمحو كل ما سبق، هذا الظاهر والله أعلم، اللهم إلا إن بقي ذنب من الكبائر أصر عليه حال إسلامه؛ فإنه يستمر عليه الإثم، وهو ظاهر كلام المؤلف هنا.

قال رحمه الله تعالى: [ وكون التوبة سبباً لغفران الذنوب وعدم المؤاخذة بها مما لا خلاف فيه بين الأمة، وليس شيء يكون سبباً لغفران جميع الذنوب إلا التوبة، قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53] وهذا لمن تاب، ولهذا قال: لا تَقْنَطُوا [الزمر:53] وقال بعدها: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ [الزمر:54] ].

الاستغفار

قال رحمه الله تعالى: [ السبب الثاني: الاستغفار، قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33]، لكن الاستغفار تارة يذكر وحده وتارة يقرن بالتوبة، فإن ذكر وحده دخل معه التوبة، كما إذا ذكرت التوبة وحدها شملت الاستغفار، فالتوبة تتضمن الاستغفار، والاستغفار يتضمن التوبة، وكل واحد منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق، وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى؛ فالاستغفار: طلب وقاية شر ما مضى، والتوبة: الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله ].

وهناك أيضاً من الفروق الرئيسة بين الاستغفار والتوبة أن التوبة أعم، بمعنى أن التوبة تكون من الشرك والكفر وما دون ذلك، والاستغفار لا يقع إلا من مسلم، بمعنى أنه لا ينفع الكافر استغفاره إذا كان باقياً على كفره، لكنه لو تاب من جميع ما هو عليه قبلت توبته.

إذاً: الاستغفار أخص من هذا الوجه، فالاستغفار لا ينفع الكافر، لكنه من خصائص المسلمين.

قال رحمه الله تعالى: [ ونظير هذا: الفقير والمسكين، إذا ذكر أحد اللفظين شمل الآخر، وإذا ذكرا معاً كان لكل منهما معنى، قال تعالى: فإِطْعَامُ عَشَرَة مَسَاكِينَ [المائدة:89]، وقال: فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً [المجادلة:4]، وقال: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271].

لا خلاف أن كل واحد من الاسمين في هذه الآيات لما أفرد شمل المقل والمعدم، ولما قرن أحدهما بالآخر في قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60] كان المراد بأحدهما المقل، والآخر المعدم، على خلاف فيه.

وكذلك: الإثم والعدوان، والبر والتقوى، والفسوق والعصيان، ويقرب من هذا المعنى: الكفر والنفاق، فإن الكفر أعم، فإذا ذكر الكفر شمل النفاق، وإن ذكرا معاً كان لكل منهما معنى.

وكذلك الإيمان والإسلام، على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى ].

الحسنات

قال رحمه الله تعالى: [ السبب الثالث: الحسنات؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها، فالويل لمن غلبت آحاده عشراته، وقال تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، وقال صلى الله عليه وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) ].

المصائب الدنيوية

قال رحمه الله تعالى: [ السبب الرابع: المصائب الدنيوية، قال صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب، ولا غم ولا هم ولا حزن، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر بها من خطاياه).

وفي المسند: (أنه لما نزل قوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123] قال أبو بكر : يا رسول الله! نزلت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءاً؟ فقال: يا أبا بكر ! ألست تنصب؟! ألست تحزن؟! ألست يصيبك اللأواء؟! فذلك ما تجزون به).

فالمصائب نفسها مكفرة، وبالصبر عليها يثاب العبد، وبالسخط يأثم، فالصبر والسخط أمر آخر غير المصيبة، فالمصيبة من فعل الله لا من فعل العبد، وهي جزاء من الله للعبد على ذنبه، ويكفر ذنبه بها، وإنما يثاب المرء ويأثم على فعله، والصبر والسخط من فعله، وإن كان الثواب والأجر قد يحصل بغير عمل من العبد، بل هدية من الغير، أو فضل من الله من غير سبب، قال تعالى: وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء:40]، فنفس المرض جزاء وكفارة لما تقدم.

وكثيراً ما يفهم من الأجر غفران الذنوب، وليس ذلك مدلوله، وإنما يكون من لازمه ].

هناك فرق بين الثواب وبين التكفير، بمعنى أن الثواب أو الإثم على شيء أمر زائد عن مجرد تكفير الذنوب، فمثلاً: المصائب الدنيوية التي تصيب المسلم تكون تكفيراً عن ذنوبه، لكنه قد لا يؤجر إذا لم يصبر، فإذا جزع فليس له في ذلك أجر، لكن لا يعني ذلك أنه لا تكفر ذنوبه، وهذا هو وجه الجمع بين النصوص؛ لأنه ورد في النصوص أن الذي يجزع ولا يصبر ليس له في ذلك أجر، كما أنه ورد النصوص المطلقة كحديث البخاري السابق وحديث مسلم أن المصائب تكفر الذنوب.

إذاً: فتكفير الذنوب أمر، والأجر الحاصل أمر زائد، فالمسلم إذا أصابته اللأواء وأصابته المصائب في دنياه، فإن صبر أجر على ذلك أجراً عظيماً، وإن لم يصبر فإنه -إن شاء الله- قد يكفر عنه من الذنوب ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، وذلك من فضل الله ورحمته بعباده.

عذاب القبر

قال رحمه الله تعالى: [ السبب الخامس: عذاب القبر. وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى ].

يقصد بعذاب القبر أن طوائف من المؤمنين الذين يعذبون في قبورهم بعد الموت يكون هذا العذاب تطهيراً لهم من بعض ما ارتكبوه من ذنوب، وعلى هذا فإن هذا العذاب الذي يلقاه بعض من يستحقه في القبر من المؤمنين لا يعذب به يوم القيامة بعد البعث، هذا ظاهر كلام المؤلف.

ذكر سائر موانع إنفاذ الوعيد

قال رحمه الله تعالى: [ السبب السادس: دعاء المؤمنين واستغفارهم في الحياة وبعد الممات.

السبب السابع: ما يهدى إليه بعد الموت من ثواب صدقة أو قراءة أو حج، ونحو ذلك، ويأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى.

السبب الثامن: أهوال يوم القيامة وشدائده.

السبب التاسع: ما ثبت في الصحيحين: (أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة).

السبب العاشر: شفاعة الشافعين، كما تقدم عند ذكر الشفاعة وأقسامها.

السبب الحادي عشر: عفو أرحم الراحمين من غير شفاعة، كما قال تعالى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فإن كان ممن لم يشأ الله أن يغفر له لعظم جرمه؛ فلابد من دخوله إلى الكير؛ ليخلص طيب إيمانه من خبث معاصيه، فلا يبقى في النار من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، بل من قال: لا إله إلا الله، كما تقدم من حديث أنس رضي الله عنه.

وإذا كان الأمر كذلك امتنع القطع لأحد معين من الأمة غير من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، ولكن نرجو للمحسنين، ونخاف عليهم ].

ما يتعلق بعذاب القبر سيأتي الكلام عنه تفصيلاً كما ذكر الشارح، لكن أحب أن أشير إلى أن كلام كثير من أهل العلم أن عذاب القبر ثلاثة أقسام: منه ما يكون على ذنوب يستمر معها العذاب في القبر وبعد البعث، كذنوب المنافقين والمشركين.

ونوع آخر يكون فيه تكفير كامل، وهو عذاب المسلمين الذين يعذبون ببعض الذنوب في قبورهم، فإن هناك صنفاً من المؤمنين يكون تعذيبهم في القبر من التكفير الكامل لذنوبهم.

ونوع ثالث يكون تعذيب أهله في القبر تخفيفاً للجزاء وليس تكفيراً بالكلية.

فالمعذبون ثلاثة أصناف: صنف يستمر عذابهم في القبر وبعد البعث، وهم العتاة من المشركين والكفار والمنافقين، نسأل الله السلامة.

وصنف يكفر الله عنهم بعذاب القبر وهم طوائف من المؤمنين.

وصنف يخفف الله عنهم بعذاب القبر، وهم أيضاً طوائف من المؤمنين.

قال رحمه الله تعالى: [ وأيضاً: فإنه قد يعفى لصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره، فإن فاعل السيئات تسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة:

السبب الأول: التوبة، قال تعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ [مريم:60]، وقال: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [النور:5] .

والتوبة النصوح -وهي الخالصة- لا يختص بها ذنب دون ذنب، لكن هل تتوقف صحتها على أن تكون عامة، حتى لو تاب من ذنب وأصر على آخر لا تقبل؟ والصحيح أنها تقبل، وهل يجب الإسلام ما قبله من الشرك وغيره من الذنوب وإن لم يتب منها؟ أم لا بد مع الإسلام من التوبة من غير الشرك؟ حتى لو أسلم وهو مصر على الزنا وشرب الخمر -مثلاً- هل لا يؤاخذ بما كان منه في كفره من الزنا وشرب الخمر؟ أم لا بد أن يتوب من ذلك الذنب مع إسلامه؟ أو يتوب توبة عامة من كل ذنب؟ وهذا هو الأصح: أنه لا بد من التوبة مع الإسلام، وكون التوبة سبباً لغفران الذنوب وعدم المؤاخذة بها مما لا خلاف فيه بين الأمة ].

الذي ورد في النصوص أن الإسلام يجب ما قبله، وإذا كان يجب ما قبله -كما هو ظاهر الحديث- فإن ذلك يتضمن التوبة من الذنوب ويستلزمها أيضاً، أي: الإسلام بعد الكفر، فالدخول في الإسلام بعد كفر وشرك يعد توبة مطلقة يدخل فيها -والله أعلم- الذنوب التي يرتكبها الإنسان حال كفره، اللهم إلا إذا أصر على ذنب، فإذا أصر على ذنب واستمر عليه -بمعنى أنه صار عليه حال كفره وحال إسلامه- فإنه يبقى عليه ذنبه، لكنه يدخل في الإسلام.

إذاً: فالكافر إذا أسلم فالظاهر أن إسلامه يجب كل ما سبق من ذنوبه، ولا ذنب أعظم من الشرك والكفر، ولا شك أن من أسلم فقد استسلم وسلم لله عز وجل، ومن سلم فإنه بدأ أعماله من جديد، والإسلام يمحو كل ما سبق، هذا الظاهر والله أعلم، اللهم إلا إن بقي ذنب من الكبائر أصر عليه حال إسلامه؛ فإنه يستمر عليه الإثم، وهو ظاهر كلام المؤلف هنا.

قال رحمه الله تعالى: [ وكون التوبة سبباً لغفران الذنوب وعدم المؤاخذة بها مما لا خلاف فيه بين الأمة، وليس شيء يكون سبباً لغفران جميع الذنوب إلا التوبة، قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53] وهذا لمن تاب، ولهذا قال: لا تَقْنَطُوا [الزمر:53] وقال بعدها: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ [الزمر:54] ].

قال رحمه الله تعالى: [ السبب الثاني: الاستغفار، قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33]، لكن الاستغفار تارة يذكر وحده وتارة يقرن بالتوبة، فإن ذكر وحده دخل معه التوبة، كما إذا ذكرت التوبة وحدها شملت الاستغفار، فالتوبة تتضمن الاستغفار، والاستغفار يتضمن التوبة، وكل واحد منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق، وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى؛ فالاستغفار: طلب وقاية شر ما مضى، والتوبة: الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله ].

وهناك أيضاً من الفروق الرئيسة بين الاستغفار والتوبة أن التوبة أعم، بمعنى أن التوبة تكون من الشرك والكفر وما دون ذلك، والاستغفار لا يقع إلا من مسلم، بمعنى أنه لا ينفع الكافر استغفاره إذا كان باقياً على كفره، لكنه لو تاب من جميع ما هو عليه قبلت توبته.

إذاً: الاستغفار أخص من هذا الوجه، فالاستغفار لا ينفع الكافر، لكنه من خصائص المسلمين.

قال رحمه الله تعالى: [ ونظير هذا: الفقير والمسكين، إذا ذكر أحد اللفظين شمل الآخر، وإذا ذكرا معاً كان لكل منهما معنى، قال تعالى: فإِطْعَامُ عَشَرَة مَسَاكِينَ [المائدة:89]، وقال: فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً [المجادلة:4]، وقال: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271].

لا خلاف أن كل واحد من الاسمين في هذه الآيات لما أفرد شمل المقل والمعدم، ولما قرن أحدهما بالآخر في قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60] كان المراد بأحدهما المقل، والآخر المعدم، على خلاف فيه.

وكذلك: الإثم والعدوان، والبر والتقوى، والفسوق والعصيان، ويقرب من هذا المعنى: الكفر والنفاق، فإن الكفر أعم، فإذا ذكر الكفر شمل النفاق، وإن ذكرا معاً كان لكل منهما معنى.

وكذلك الإيمان والإسلام، على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى ].

قال رحمه الله تعالى: [ السبب الثالث: الحسنات؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها، فالويل لمن غلبت آحاده عشراته، وقال تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، وقال صلى الله عليه وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) ].