شرح العقيدة الطحاوية [61]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وعلوه سبحانه وتعالى كما هو ثابت بالسمع ثابت بالعقل والفطرة، أما ثبوته بالعقل فمن وجوه:

أحدها: العلم البديهي القاطع بأن كل موجودين إما أن يكون أحدهما سارياً في الآخر قائماً به كالصفات، وإما أن يكون قائماً بنفسه بائناً من الآخر ].

كلمة (قائم به) كثير ما يعبر بها أهل الكلام فيما يتعلق بالصفات وكثير من الأمور الغيبية، ويقصدون لزوم الشيء للشيء، يعني: الصفات الملازمة لله سبحانه.

وأحياناً يقصدون أن القائم بالشيء هو الذي يعد جزءاً منه، أو أنه غير منفصل عنه، فأبرز تعبيراتهم هي القائم بالشيء، أي: اللازم له الحاصل منه أو الحاصل فيه الذي لا ينفصل عنه، وهو تعبير فلسفي ينبغي أن يتفاداه المسلم إلا عند الضرورة عندما يضطر للرد.

قال رحمه الله تعالى: [ الثاني: أنه لما خلق العالم فإما أن يكون خلقه في ذاته أو خارجاً عن ذاته، والأول باطل، أما أولاً: فبالاتفاق، وأما ثانياً: فلأنه يلزم أن يكون محلاً للخسائس والقاذورات! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

والثاني: يقتضي كون العلم واقعاً خارج ذاته، فيكون منفصلاً، فتعينت المباينة؛ لأن القول بأنه غير متصل بالعالم وغير منفصل عنه غير معقول.

الثالث: أن كونه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه يقتضي نفي وجوده بالكلية؛ لأنه غير معقول، فيكون موجوداً إما داخله وإما خارجه، والأول باطل، فتعين الثاني، فلزمت المباينة ].

وهذه الأمور بدهية، وتكرير البدهيات كثيراً ما يشكل، ولولا أن المؤلف ساق هذا هنا في الرد على أناس ممن ينتسبون للعلم، ويفتن بهم كثير من المسلمين، خاصة في تلك العصور التي كانوا فيها أعلاماً، ينظر إليهم نظرة إكبار وإعجاب، كحال أبي المعالي الجويني قبل رجوعه، والرازي قبل رجوعه، والغزالي والشهرستاني والبغدادي وغيرهم من الذين كان كثير من الناس ينظر إليهم نظرة إكبار وإعجاب، فوجد منهم هذا التلبيس، فاضطر السلف إلى أن يردوا على هذه المقولة دفعاً للبس، وإلا فالمفروض ألا يتكلم المسلم بهذه الأمور لغير ضرورة قصوى خاصة في الأماكن العامة والدروس العامة.

لذا نجد أن الذين تصدوا لهذه الردود أحياناً يقولون أشياء غير لائقة، وبإمكانهم أن يعبروا عنها بتعبيرات أخرى سليمة، لكن الحرص على الرد والإمعان في رد هذه الشبهات جعلهم يقعون في مصطلحات وتعبيرات استعملها الخصوم.

فمثلاً: استعمال الشارح عبارة لا ينبغي لطالب العلم أن يستعملها أبداً، وهي قوله: أما ثانياً: فلأنه يلزم أن الله عز وجل يكون محلاً لكذا وكذا، والمفروض أن يعبر بتعبير يدل على المراد مجملاً، كأن يقول: يلزم منه أن يكون محلاً لما لا يليق، وهذا كاف؛ لأن أي إنسان مطبوع على الفطرة السليمة ينفر من أن يعبر عن الله بما لا يليق دون ذكر العبارات التي توقع في حرج، فالمسلم يجد حرجاً شديداً في أن يحكيها حتى وإن قالها هؤلاء الملبسون.

ولذا فإن ذكر هذه الأمور أحياناً يوجد أحياناً شيئاً من الإشكال عند الناس الذين هم على الفطرة، فلا يلجأ المسلم إلى هذا التعبير إلا عند الضرورة القصوى، أو في دروس خاصة من دروس العقيدة ونحوها، وأن يؤمن فيها عدم وجود الأحداث الصغار وعدم وجود العوام الجهال، وعدم وجود قليلي العلم الشرعي من المثقفين المغرورين ونحوهم.

قال رحمه الله تعالى: [ وأما ثبوته بالفطرة فإن الخلق جميعاً بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم عند الدعاء، ويقصدون جهة العلو بقلوبهم عند التضرع إلى الله تعالى.

وذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمذاني حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين وهو يتكلم في نفي صفة العلو ويقول: كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان! فقال الشيخ أبو جعفر : أخبرنا -يا أستاذ- عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا؟ فإنه ما قال عارف قط: (يا الله) إلا وجد في قلبه ضرورة تطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة عن أنفسنا؟! قال: فلطم أبو المعالي على رأسه ونزل! وأظنه قال: وبكى وقال: حيرني الهمذاني ، حيرني الهمذاني ! أراد الشيخ: أن هذا أمر فطر الله عليه عباده، من غير أن يتلقوه من المعلمين، يجدون في قلوبهم طلباً ضرورياً يتوجه إلى الله ويطلبه في العلو ].

هذه الضرورة يدركها كل إنسان، وليس المسلم فقط، فكل إنسان يعرف الله عز وجل ويدرك هذه الضرورة، وهي اللجوء إلى الله عز وجل والتوجه إلى العلو، سواء كان توجهاً فعلياً أو توجهاً قلبياً.

والناس في هذا درجات، فالمسلم الموقن الصادق المتقي لله عز وجل يستصحب في كل أموره دائماً هذه الحقيقة، فيتوجه إلى العلو حينما يدعو الله عز وجل، يتوجه قلبه وجوارحه، أما توجه قلبه فهذا أمر دائم، أما توجه جوارحه فعندما يدعو أو يعبر عن شيء من كمالات الله عز وجل يجد أنه يشير إلى العلو، دون أن يقصد أحياناً، أي: يشير بفطرته.

أما العاصي والكافر ونحوهما فإنهم عند الضرورة -أي: عند الأمور الملحة وعندما يمسهم الضر- تجدهم بفطرتهم تتوجه قلوبهم وجوارحهم إلى الله عز وجل، حتى عند المفاجئة التي ليس من طبع الإنسان أن يفكر فيها بسرعة، فعندما يدهمه أمر يجد أنه متوجه إلى الله عز وجل إلى جهة العلو بجوارحه وبقلبه، بل الحيوانات كذلك، فالحيوانات عندما يمسها شيء من الضر -خاصة عند النزع- أو عندما تفقد شيئاً من الأمور الغالية عليها -كأن تفقد الدابة ولدها- تجدها تشخص ببصرها إلى الله عز وجل إلى جهة السماء، فهذا أمر فطري يدرك في الحيوان وفي الإنسان، لكن الفلسفة أحياناً تضيع الحقائق الفطرية وتضيع الأمور التي يقتضيها العقل السليم، ودليل ذلك أن الناس إذا تمادوا في الفلسفات أنكروا البدهيات المشاهدة أمامهم فضلاً عن البدهيات العقلية؛ لأنه يوجد من الفلاسفة من يذهب إلى الشك في وجود نفسه، فالناس ليس في أوهامهم وظنونهم دلالة، والعقول لا تنضبط بشيء، فمن أضل الله عقله فلن يهتدي بالحق، فليس فيما يوجد من شذوذات عند المتكلمين والفلاسفة دليل على ما في الفطر والعقول السليمة، إنما الدليل ما عليه جمهور العقلاء وما تقتضيه النصوص الشرعية والفطرة السلمية التي يعبر عنها السذج من الناس، فإذا اختلف المتجادلون فليلجئوا إلى ما عليه أهل الفطرة السليمة الذين لم تدخلهم الفلسفة، فسيجدون عندهم حقيقة الأمور الفطرية، نعم ليس عندهم فقه شرعي، لكن الحقيقة في الأمور الفطرية تجدها عند السذج السالمين من الأهواء، السالمين من البدع، السالمين من الفلسفات الدخيلة، تجد عندهم كثيراً من الحقائق التي يماري فيها أهل الأهواء، سواء ما يتعلق بوجود الله عز وجل، وبعلوه سبحانه وفوقيته، وما يتعلق بأسمائه وصفاته وأفعاله.

قال رحمه الله تعالى: [ وقد اعترض على الدليل العقلي بإنكار بداهته؛ لأنه أنكره جمهور العقلاء، فلو كان بديهياً لما كان مختلفاً فيه بين العقلاء، بل هو قضية وهمية خيالية.

والجواب عن هذا الاعتراض مبسوط في موضعه، ولكن أشير إليه هنا إشارة مختصرة، وهو أن يقال: إن العقل إن قبل قولكم فهو لقولنا أقبل، وإن رد العقل قولنا فهو لقولكم أعظم رداً؛ فإن كان قولنا باطلاً في العقل فقولكم أبطل، وإن كان قولكم حقاً مقبولاً في العقل؛ فقولنا أولى أن يكون مقبولاً في العقل؛ فإن دعوى الضرورة مشتركة.

فإنا نقول: نعلم بالضرورة بطلان قولكم، وأنتم تقولون كذلك، فإذا قلتم: تلك الضرورة التي تحكم ببطلان قولنا هي من حكم الوهم لا من حكم العقل؛ قابلناكم بنظير قولكم، وعامة فطر الناس -ليسوا منكم ولا منا- يوافقونا على هذا ].

هذا ما أشرت إليه سابقاً، وهو أن عامة الناس الذين هم على الاستقامة في الأصل ولم تدخلهم الفلسفات هم الذين يعتد بفطرهم السليمة، وقد لا يدركون الأمور العقلية العميقة، لكن هذه ليست محل خلاف، فأغلب الخلاف في الأمور البدهية، والأمور التي يتعمق فيها الفلاسفة ناتجة عن الخلاف في البدهيات.

فأغلب الأمور التي تفلسف فيها المتفلسفون وتكلم فيها المتكلمون، ودوخوا فيها أنفسهم ودوخوا فيها المسلمين راجعة إلى البدهيات، فإذا أسقطنا أصولهم بالبدهيات سقطت جميع الفرعيات التي فرعوا عنها.

فمثلاً: كثير من الأمور التي أولوا فيها الصفات راجعة إلى مسألة العلو ومسألة الاستواء، ومسألة كلام الله عز وجل.

فهذه الأمور هي التي يدور عليها أكثر تأويل المؤولة من الجهمية والمعتزلة، وأهل الكلام وغيرهم تبع لهم، ثم هذه الثلاث كلها تدور على مسألة واحدة، وهي مسألة العلو، فإذا قررنا العلو بالفطرة تقرر الوجود الذاتي لله عز وجل، وإذا تقرر الوجود الذاتي تقرر إثبات الأسماء والصفات والأفعال لله على ما يليق بجلاله، وتقرر الاستواء ثم الكلام ثم سائر الصفات.

ومسألة العلو بدهية، فإذا قررناها بالبداهة بعيداً عن السفسطة وبعيداً عن التكلف الذي تكلف به المتكلفون انتهى وانهدم أصل الخصم الذي بنى عليه التأويل أو بنى عليه التعطيل.

وقول الهمذاني مثال فقط لما يجري بين أهل السنة وبين غيرهم في تقرير العقيدة، فـالهمذاني ما ذهب يتفلسف، بل ألجأ الجويني إلى الاعتراف بحقيقة الفطرة الساذجة، فقال: دعنا من كلامك هذا كله، لكن فسر لي الضرورة التي يجدها قلب كل إنسان ما تفلسف ولا درس على الجويني ولا على غيره، يجد في قلبه أنه إذا دعا الله عز وجل توجه قلبه إلى فوق، فهذه الضرورة من أين جاءت؟! مع أنه ما قرأ ولا تعلم على يد معلم ولا سمع الجويني ولا غير الجويني ، فمن أين جاءت هذه الضرورة؟!

فـالجويني تأمل وقال: هذه فطرة، فالله عز وجل هو الذي خلق هؤلاء العباد وفطرهم، فمن أين جاءتهم هذه الضرورة التي يتفقون عليها؟! ولماذا أنا وعدد من الناس يعدون على الأصابع على الحق وهذه الأمة التي هي على الفطرة السليمة يضيع إيمانها كلها، حيث لم تؤمن بما قاله الجويني وحينما آمنت بصيغة العلو؟! تأمل ذلك قليلاً ثم ضرب على رأسه وبكى، وبعد ذلك رجع رجعة عبر عنها بتعبير لا يستطيع أحد أن يعبر بمثل تعبيره؛ لأنه جرب.

قال رحمه الله تعالى: [ فإن كان حكم فطر بني آدم مقبولاً ترجحنا عليكم، وإن كان مردوداً غير مقبول بطل قولكم بالكلية؛ فإنكم إنما بنيتم قولكم على ما تدعون أنه مقدمات معلومة بالفطرة الآدمية، وبطلت عقلياتنا أيضاً، وكان السمع الذي جاءت به الأنبياء معنا لا معكم، فنحن مختصون بالسمع دونكم، والعقل مشترك بيننا وبينكم.

فإن قلتم: أكثر العقلاء يقولون بقولنا؟ قيل: ليس الأمر كذلك، فإن الذين يصرحون بأن صانع العالم ].

كان اللازم أن يعبر بـ(خالق العالم)، لكن هذا التعبير من تعبير شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يرد على أهل الكلام، فكثيراً ما يستعمل مصطلحاتهم؛ لأنها أقرب إلى مفاهيمهم وأقرب إلى إقامة الحجة عليهم، وعلى هذا ينبغي أن يكون بدلها (خالق العالم).

قال رحمه الله تعالى: [ فإن الذين يصرحون بأن صانع العالم ليس هو فوق العالم وليس فوق العالم شيء موجود، وأنه لا مباين للعالم ولا حال في العالم؛ طائفة من النظار، وأول من عرف عنه ذلك في الإسلام جهم بن صفوان وأتباعه ].

قال رحمه الله تعالى: [ واعترض على الدليل الفطري أن ذلك إنما لكون السماء قبلة للدعاء، كما أن الكعبة قبلة للصلاة ].

الذين اعترضوا على الدليل الفطري في إثبات العلو لله عز وجل هم أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة، والذين ورثوهم في هذه المسألة هم متكلمة الأشاعرة والماتريدية، فهؤلاء قالوا: إن الدليل الفطري ينقضه أن توجه الناس إلى السماء يعني أن السماء قبلة الدعاء، لا أنه غريزة، كما أن الكعبة بزعمهم هي قبلة الصلاة، يقولون: كما أن الكعبة هي قبلة الصلاة كذلك السماء أو العلو قبلة الدعاء، وهذا سينقضه المؤلف بكلام بين واضح.

قال رحمه الله تعالى: [ واعترض على الدليل الفطري أن ذلك إنما لكون السماء قبلة للدعاء، كما أن الكعبة قبلة للصلاة، ثم هو منقوض بوضع الجبهة على الأرض مع أنه ليس في جهة الأرض.

وأجيب على هذا الاعتراض من وجوه:

أحدها: أن قولكم: (إن السماء قبلة للدعاء) لم يقله أحد من سلف الأمة، ولا أنزل الله به من سلطان، وهذا من الأمور الشرعية الدينية، فلا يجوز أن يخفى على جميع سلف الأمة وعلمائها.

الثاني: أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة؛ فإنه يستحب للداعي أن يستقبل القبلة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل القبلة في دعائه في مواطن كثيرة، فمن قال: إن للدعاء قبلة غير قبلة الصلاة، أو: إن له قبلتين: إحداهما الكعبة والأخرى السماء؛ فقد ابتدع في الدين، وخالف جماعة المسلمين.

الثالث: أن القبلة: هي ما يستقبله العابد بوجهه، كما تستقبل الكعبة في الصلاة والدعاء والذكر والذبح، وكما يوجه المحتضر والمدفون، ولذلك سميت وجهة.

والاستقبال خلاف الاستدبار، فالاستقبال بالوجه، والاستدبار بالدبر، فأما ما حاذاه الإنسان برأسه أو يديه أو جنبه فهذا لا يسمى قبلة، لا حقيقة ولا مجازاً، فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه إليها، وهذا لم يشرع، والموضع الذي ترفع اليد إليه لا يسمى قبلة لا حقيقة ولا مجازاً؛ ولأن القبلة في الدعاء أمر شرعي تتبع فيه الشرائع، ولم تأمر الرسل أن الداعي يستقل السماء بوجهه، بل نهوا عن ذلك، ومعلوم أن التوجه بالقلب واللجأ والطلب الذي يجده الداعي من نفسه أمر فطري، يفعله المسلم والكافر، والعالم والجاهل، وأكثر ما يفعله المضطر والمستغيث بالله، كما فطر على أنه إذا مسه الضر يدعو الله، مع أن أمر القبلة مما يقبل النسخ والتحويل، كما تحولت القبلة من الصخرة إلى الكعبة.

وأمر التوجه في الدعاء إلى الجهة العلوية مركوز في الفطر، والمستقبل للكعبة يعلم أن الله تعالى ليس هناك، بخلاف الداعي فإنه يتوجه إلى ربه وخالقه، ويرجو الرحمة أن تنزل من عنده.

وأما النقض بوضع الجبهة فما أفسده من نقض، فإن واضع الجبهة إنما قصده الخضوع لمن فوقه بالذل له، لا أن يميل إليه إذ هو تحته، هذا لا يخطر في قلب ساجد، لكن يحكى عن بشر المريسي أنه سمع وهو يقول في سجوده: سبحان ربي الأسفل! تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً.

وإن من أفضى به النفي إلى هذه الحال لحري أن يتزندق إن لم يتداركه الله برحمته، وبعيد من مثله الصلاح، قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:110]، وقال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، فمن لم يطلب الاهتداء من مظانه يعاقب بالحرمان، نسأل الله العفو والعافية ].

وجه دلالة مباينة الله تعالى لخلقه على علوه جل جلاله

السؤال: الوجوه التي ذكرها المؤلف في إثبات علو الله سبحانه بالعقل فهمت منها إثبات المباينة، فهل يلزم من إثبات المباينة إثبات العلو؟

الجواب: نعم، فيلزم من إثبات المباينة إثبات العلو؛ لأنَّ الله عز وجل غير خلقه، فوجوده غير وجود المخلوقات، والله عز وجل منزه عن النقص، ولا بد أن يوصف بالكمال، وأكمل وأحسن الجهات هي العلو؛ لأن العلو هو الدليل على التمكن والدليل على الهيمنة والدليل على الإحاطة، والله عز وجل موصوف بأنه العلي العظيم، وهو بكل شيء محيط، فأي الجهات تناسب صفات الله وأسماءه الحسنى؟!

فكونه عز وجل غير خلقه لا بد أن يكون مبايناً لها، أي: منفصلاً عنها، فليس هو المخلوقات، ووجوده وجود ذاتي، بمعنى أنه له وجود فعلي حقيقي، ليس كما يتوهم أولئك أنه وجود ذهني أو معنوي؛ لأن الوجود المعنوي ليس بشيء، فالمعدوم له وجود معنوي في التصور والأذهان والأوهام، بمعنى أن النفس تتخيله وهو عدم.

بيان معنى قول أهل الكلام: (لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها)

السؤال: ما معنى قول الشارح في الطحاوية: لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها؟

الجواب: هذه عبارة الجهمية والمعتزلة وطوائف من أهل الكلام، قالوا: لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها، ذلك أن السلف قالوا: يلزم من نفي الفوقية ثبوت ضد الفوقية وهو السفل، ذلك أنه لا يعقل أن يكون موجود بلا جهة على الإطلاق؛ إذ الجهة أمر نسبي لكل موجود، فالموجودات التي هي المخلوقات تحكمها الجهات الأربع والجهات الست.

أما بالنسبة لوجود الله عز وجل فإنه لا بد أن يوصف بالكمال، والكمال بالنسبة للجهات هو الفوق والعلو، وما دام المنازعون -وهم أكثر أهل الكلام- يقرون بوجود الله عز وجل، وأن الوجود صفة ثبوتية حقيقية عند كثير منهم؛ فإنه يلزمهم بناءً على إقرارهم أن يكون هذا الوجود إلى جهة، والجهة اللائقة بالله عز وجل هي العلو، لا سيما أنها ثبتت في النصوص الشرعية، فهي مقتضى النص والفطرة والعقل السليم، فمن لم يصف الله عز وجل بالفوقية والعلو والاستواء على العرش وغير ذلك مما ورد في النصوص فإنه يلزمه بناءً على ذلك أن يصف الله عز وجل بضد العلو؛ لأنه أقر بوجود الله الوجود الثبوتي، ويلزم من الوجود الجهة.

فقال المنازع: لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها. وهذا من العبث بالألفاظ ومعارضة العقول السلمية والفطر فضلاً عن رد الشرع.

فالرسول صلى الله عليه وسلم عند وفاته شخص ببصره إلى السماء وقال: (بل الرفيق الأعلى)، أليس هذا من أدلة العلو؟! والجواب: بلى، بل هو دليل صريح على العلو.