شرح العقيدة الطحاوية [57]


الحلقة مفرغة

قال رحمه الله تعالى: [ قوله: (فويل لمن ضاع له في قدر قلباً سقيماً -وفي نسخة: فويل لمن صار قلبه في القدر قلباً سقيماً- لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سراً كتيماً، وعاد بما قال فيه أفاكاً أثيماً):

القلب له حياة وموت، ومرض وشفاء، وذلك أعظم مما للبدن، قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122]، أي: كان ميتاً بالكفر فأحييناه بالإيمان؛ فالقلب الصحيح الحي إذا عرض عليه الباطل والقبائح نفر منها بطبعه وأبغضها ولم يلتفت إليها، بخلاف القلب الميت؛ فإنه لا يفرق بين الحسن والقبيح، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: هلك من لم يكن له قلب يعرف به المعروف والمنكر. وكذلك القلب المريض بالشهوة؛ فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك، بحسب قوة المرض وضعفه ].

هذا ميزان صحيح، وينبغي لكل مسلم أن يعرض حاله على هذا الميزان دائماً وفي كل وقت، بمعنى: أن يستعرض قوة إيمانه ويحاسب نفسه بمثل هذا الميزان لينظر مدى ما في قلبه من حب الخير وأهل الخير؛ ومدى ما في قلبه من حب الإسلام والمسلمين ونصرة الحق والمعروف وبذله، ومدى ما في قلبه من غيرة على الحق، وولاء للمؤمنين، ونحو ذلك، فقد يقوى الدافع ويقوى القلب بهذا الأمر وقد يضعف، وقد ينعدم الإحساس نسأل الله السلامة، أما معدوم الإحساس فإنه -إن شاء الله- لا يكون في أهل العلم وأهل الخير والمنتسبين للحق وأهله، لكن الكلام على ضعف الإحساس؛ فإن ضعف الإحساس دليل على ضعف الإيمان، ويجب على كل مسلم أن يختبر نفسه بين وقت وآخر بهذا الميزان، ليعلم مدى شعور قلبه بالأمور الإيمانية، وبحب الحق وأهل الحق وبالولاء للحق وأهله، ومدى ما في قلبه من غيرة ومن شعور بما يجري للإسلام والمسلمين، وليعلم ما يجد في قلبه مما يجري من أمور تعارض الحق والإسلام، ومن أمور المنكرات وأمور الشرور والمصائب التي تجلب الفتن، فإن كان القلب يتحرك بذلك ففيه إيمان، وإن كان تحركه أقوى؛ فهذا دليل على قوة الإيمان، وإن كان القلب يتمعر ويتأثر ويعظم إحساسه بهذه الأمور فهذا -إن شاء الله- دليل على الاستقامة.

فالمهم أن هذا الميزان ميزان حق، ويجب على المسلم أن يستعرض أحواله ويستعرض أعماله وإحساسه وخواطره وعواطفه بهذا الميزان.

مرض القلوب بالشبهات والشهوات

قال رحمه الله تعالى: [ ومرض القلب نوعان كما تقدم: مرض شهوة، ومرض شبهة، وأردؤهما مرض الشبهة، وأردأ الشبه ما كان من أمر القدر، وقد يمرض القلب ويشتد مرضه ولا يعرف به صاحبه؛ لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته، وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح، ولا يوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة؛ فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه، وتألم بجهله بالحق بحسب حياته، و: ما لجرح بميت إيلام.

وقد يشعر بمرضه، ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها، فيؤثر بقاء ألمه على مشقة الدواء، فإن دواءه في مخالفة الهوى؛ وذلك أصعب شيء على النفس، وليس له أنفع منه.

وتارة يوطن نفسه على الصبر، ثم ينفسخ عزمه ولا يستمر معه؛ لضعف علمه وبصيرته وصبره، كمن دخل في طريق مخوف مفض إلى غاية الأمن، وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى الخوف وأعقبه الأمن، فهو محتاج إلى قوة صبر وقوة يقين بما يصير إليه، ومتى ضعف صبره ويقينه رجع من الطريق ولم يتحمل مشقتها، ولاسيما إن عدم الرفيق واستوحش من الوحدة، وجعل يقول: أين ذهب الناس فلي أسوة بهم؟! وهذه حال أكثر الخلق، وهي التي أهلكتهم.

فالصابر الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق ولا من فقده، إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول: الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69].

وما أحسن ما قال أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بـأبي شامة في كتاب الحوادث والبدع: حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة؛ فالمراد لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلاً والمخالف له كثيراً؛ لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ولا ننظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم.

وعن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: السنة -والذي لا إله إلا هو- بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله؛ فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي؛ الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم ولا مع أهل البدع في بدعتهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك فكونوا ].

العدول عن الأغذية النافعة إلى الضارة علامة مرض القلب

قال رحمه الله تعالى: [ وعلامة مرض القلب عدوله عن الأغذية النافعة الموافقة له إلى الأغذية الضارة، وعدوله عن دوائه النافع إلى دوائه الضار.

فهاهنا أربعة أشياء: غذاء نافع، ودواء شاف، وغذاء ضار، ودواء مهلك ].

قصده هنا بالغذاء النافع الهدى والإيمان، والدواء الشافي: هو الوحي والقرآن، والغذاء الضار والدواء الضار ضد هذين الأمرين.

إذاً: فأعظم غذاء للقلوب هو الهدى والإيمان الذي يستقر في القلوب، واليقين والتقوى، وأعظم الدواء الذي يستشفي به الناس هو كتاب الله عز وجل وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، والمتمثل في الوحي، خاصة القرآن، فهو شفاء لما في الصدور، شفاء للقلوب في أمراضها القلبية، وشفاء للأبدان في أمراضها الحسية.

قال رحمه الله تعالى: [ فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذي، والقلب المريض بضد ذلك، وأنفع الأغذية غذاء الإيمان، وأنفع الأدوية دواء القرآن، وكل منهما فيه الغذاء والدواء، فمن طلب الشفاء في غير الكتاب والسنة فهو من أجهل الجاهلين وأضل الضالين؛ فإن الله تعالى يقول: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت:44]، وقال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء:82]، و(من) في قوله: (من القرآن) لبيان الجنس لا للتبعيض، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57].

فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواء الدنيا والآخرة، وما كل أحد يؤهل للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به ووضعه على دائه بصدق وإيمان وقبول تام واعتقاد جازم واستيفاء شروطه لم يقاوم الداء أبداً، وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء، الذي لو نزل على الجبال لصدعها، أو على الأرض لقطعها؟! فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه والحمية منه لمن رزقه الله فهماً في كتابه.

وقوله: (لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سراً كتيماً) أي: طلب بوهمه في البحث عن الغيب سراً مكتوماً؛ إذ القدر سر الله في خلقه، فهو يروم ببحثه الاطلاع على الغيب، وقد قال تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا [الجن:26].. إلى آخر السورة.

وقوله: (وعاد بما قال فيه)، أي: في القدر: (أفاكاً): كذاباً، (أثيماً): أي مأثوماً ].

قال رحمه الله تعالى: [ ومرض القلب نوعان كما تقدم: مرض شهوة، ومرض شبهة، وأردؤهما مرض الشبهة، وأردأ الشبه ما كان من أمر القدر، وقد يمرض القلب ويشتد مرضه ولا يعرف به صاحبه؛ لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته، وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح، ولا يوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة؛ فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه، وتألم بجهله بالحق بحسب حياته، و: ما لجرح بميت إيلام.

وقد يشعر بمرضه، ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها، فيؤثر بقاء ألمه على مشقة الدواء، فإن دواءه في مخالفة الهوى؛ وذلك أصعب شيء على النفس، وليس له أنفع منه.

وتارة يوطن نفسه على الصبر، ثم ينفسخ عزمه ولا يستمر معه؛ لضعف علمه وبصيرته وصبره، كمن دخل في طريق مخوف مفض إلى غاية الأمن، وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى الخوف وأعقبه الأمن، فهو محتاج إلى قوة صبر وقوة يقين بما يصير إليه، ومتى ضعف صبره ويقينه رجع من الطريق ولم يتحمل مشقتها، ولاسيما إن عدم الرفيق واستوحش من الوحدة، وجعل يقول: أين ذهب الناس فلي أسوة بهم؟! وهذه حال أكثر الخلق، وهي التي أهلكتهم.

فالصابر الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق ولا من فقده، إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول: الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69].

وما أحسن ما قال أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بـأبي شامة في كتاب الحوادث والبدع: حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة؛ فالمراد لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلاً والمخالف له كثيراً؛ لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ولا ننظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم.

وعن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: السنة -والذي لا إله إلا هو- بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله؛ فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي؛ الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم ولا مع أهل البدع في بدعتهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك فكونوا ].