Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73

Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73

شرح العقيدة الطحاوية [13]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا إله غيره):

هذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلها، كما تقدم ذكره.

وإثبات التوحيد بهذه الكلمة باعتبار النفي والإثبات المقتضي للحصر؛ فإن الإثبات المجرد قد يتطرق إليه الاحتمال؛ ولهذا -والله أعلم- لما قال تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة:163]، قال بعده: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]؛ فإنه قد يخطر ببال أحد خاطر شيطاني: هب أن إلهنا واحد، فلغيرنا إله غيره، فقال تعالى: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:163]].

ذكر ما قيل في تقدير الخبر في كلمة التوحيد

قال رحمه الله تعالى: [وقد اعترض صاحب المنتخب على النحويين في تقدير الخبر في: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:163]، فقالوا: تقديره: لا إله في الوجود إلا الله، فقال: يكون ذلك نفياً لوجود الإله، ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود، فكان إجراء الكلام على ظاهره والإعراض عن هذا الإضمار أولى.

وأجاب أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في (ري الظمآن)، فقال: هذا كلام من لا يعرف لسان العرب، فإن (إله) في موضع المبتدأ على قول سيبويه ، وعند غيره اسم لا، وعلى التقديرين فلابد من خبر للمبتدأ، وإلا فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد، وأما قوله: إذا لم يضمر يكون نفياً للماهية؛ فليس بشيء؛ لأن نفي الماهية هو نفي الوجود، لا تتصور الماهية إلا مع الوجود، فلا فرق بين لا ماهية ولا وجود، وهذا مذهب أهل السنة، خلافاً للمعتزلة، فإنهم يثبتون ماهية عارية من الوجود، و(إلا الله) مرفوع بدلاً من (لا إله)، لا يكون خبراً لـ(لا)، ولا للمبتدأ. وذكر الدليل على ذلك].

سبب الخلاف في تقدير الخبر في كلمة التوحيد

هناك كلام لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز أورده المحقق في الهامش، وأحب أن أشير قبل ذكره إلى السبب في الخلاف في تقدير المضمر أو في تقدير الخبر في مسألة لا إله إلا الله، أو: لا إله غيره.

فسبب الخلاف في هذه التقديرات ناشئ عن مذاهب الناس في التوحيد.

فالباطنية والفلاسفة وغلاة المتكلمين يقدرون العبارة هكذا: لا إله موجود، وهذا تقدير ناشئ عن تصورهم أن غاية ما يمكن أن يثبت لله من التوحيد هو إثبات الوجود، وما يستلزمه من لوازم أخرى عند المتكلمين.

وطائفة أخرى -ومنهم أغلب المتكلمين، وبعض من ينتسب للسنة- قدروا التقدير الثاني، ولم يذكره هنا ولكنه أشار إليه، فقالوا بأن المقصود تقدير الخالق، أي: لا إله خالق وموجد أو رب غير الله.

وهناك تقدير ثالث أيضاً قال به بعض المتكلمين، وهو: (لا إله إلا الله) بلا تقدير، فقالوا: لا داعي للتقدير، فنفوا الإلهية عن غير الله تعالى مطلقاً، وهذا قريب من الحق، لكن لا يتم به المعنى اللغوي؛ لأنه لا يتم المعنى اللغوي إلا بتقدير.

فلذلك الذي عليه جمهور أهل السنة والجماعة أن تقدير الكلام: لا إله بحق، أو لا إله حق، أو معبود بحق، فكلها عبارات متقاربة صحيحة، لا إله معبود بحق، أو لا إله حق، أو لا إله بحق إلا الله؛ لأنه ليس المقصود مجرد نفي الآلهة؛ لأنه يوجد في البشر من يعبد آلهة غير الله، وإن كانت آلهة لا تستحق العبادة، لكنها موجودة، إذاً: فنفي الوجود لآلهة غير الله ينافي الواقع؛ لأن هناك من يعبد غير الله ويزعم أنه إله.

وكذلك نفي الماهية، وهو نفي الإلهية مطلقاً دون أن تقيد لا معنى له ولا يتم به المعنى اللغوي.

وكذلك تقدير المتكلمين بأنه لا إله خالق أو رازق أو مدبر، أو لا إله يستحق الربوبية غير الله، فهذا تقدير ناقص؛ لأنه ليس المقصود نفي الربوبية؛ لأن نفي الربوبية عن غير الله مما يعترف به المشركون، يعترفون بأنه لا رب -أي: لا رزاق ولا خالق- إلا الله، إنما جاء النفي في الرد على المشركين، أي: نفي المعبودين من دون الله سبحانه، وهذا هو الذي نزل من أجله القرآن؛ لأن الله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وأول ركائز الهدى: الدعوة إلى توحيد الله في العبادة، وهو الذي نازع فيه المشركون، بل نازعت فيه جميع الأمم التي خالفت الأنبياء، نازعت في طاعة غير الله وفي عبادة غير الله، وجعلت غير الله معبوداً من دون الله، وجعلت غير الله مطاعاً من دون الله، فلذلك جاء القرآن للرد عليهم، ولتقرير الإلهية بمعنى العبودية لله سبحانه وتعالى.

إذاً: إذا قيل: لا إله غيره. فالمعنى: لا إله يعبد ويستحق العبادة إلا الله سبحانه وتعالى.

تعليق ابن باز على ما قيل في تقدير الخبر في كلمة التوحيد

وقبل أن نستكمل بقية الشرح يناسب أن نقرأ ما نقل هنا من تعليق الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى.

قال الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز حفظه الله تعليقاً على هذا الكلام من شرح الطحاوية: [ما قاله صاحب المنتخب ليس بجيد، وهكذا ما قاله النحاة وأيده الشيخ أبو عبد الله المرسي من تقدير الخبر بكلمة (في الوجود)، ليس بصحيح؛ لأن الآلهة المعبودة من دون الله كثيرة وموجودة، وتقدير الخبر بلفظ (في الوجود) لا يحصل به المقصود من بيان أحقية ألوهية الله سبحانه وبطلان ما سواها؛ لأن لقائل أن يقول: كيف تقولون: لا إله في الوجود إلا الله، وقد أخبر الله سبحانه عن وجود آلهة كثيرة للمشركين، كما في قوله سبحانه: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [هود:101]، وقوله سبحانه: فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً [الأحقاف:28] الآية؟!

فلا سبيل إلى التخلص من هذا الاعتراض، وبيان عظمة هذه الكلمة، وأنها كلمة التوحيد المبطلة لآلهة المشركين وعبادتهم من دون الله إلا بتقدير الخبر بغير ما ذكره النحاة، وهو كلمة (حق)؛ لأنها هي التي توضح بطلان جميع الآلهة وتبين أن الإله الحق والمعبود الحق هو الله وحده، كما نبه على ذلك جمع من أهل العلم، منهم: أبو العباس ابن تيمية ، وتلميذه العلامة ابن القيم وآخرون رحمهم الله.

ومن أدلة ذلك قوله سبحانه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62]، فأوضح سبحانه في هذه الآية أنه هو الحق، وأن ما دعاه الناس من دونه هو الباطل، فشمل ذلك جميع الآلهة المعبودة من دون الله من البشر والملائكة والجن وسائر المخلوقات.

واتضح بذلك أنه المعبود الحق وحده، ولهذا أنكر المشركون هذه الكلمة وامتنعوا من الإقرار بها؛ لعلمهم بأنها تبطل آلهتهم؛ لأنهم فهموا أن المراد بها نفي الألوهية بحق عن غير الله سبحانه؛ ولهذا قالوا جواباً لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم لما قال لهم: (قولوا لا إله إلا الله): أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، وقالوا أيضاً: أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات:36].

وما في معنى ذلك من الآيات، وبهذا التقرير يزول جميع الإشكال ويتضح الحق المطلوب. والله ولي التوفيق].

قال رحمه الله تعالى: [وليس المراد هنا ذكر الإعراب، بل المراد دفع الإشكال الوارد على النحاة في ذلك، وبيان أنه من جهة المعتزلة، وهو فاسد؛ فإن قولهم: في الوجود ليس تقييداً؛ لأن العدم ليس بشيء، قال تعالى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا [مريم:9]، ولا يقال: ليس قوله: (غيره)، كقوله: (إلا الله)؛ لأن (غير) تعرب بإعراب الاسم الواقع بعد (إلا)، فيكون التقدير للخبر فيهما واحداً، فلهذا ذكرت هذا الإشكال وجوابه هنا].

قال رحمه الله تعالى: [وقد اعترض صاحب المنتخب على النحويين في تقدير الخبر في: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:163]، فقالوا: تقديره: لا إله في الوجود إلا الله، فقال: يكون ذلك نفياً لوجود الإله، ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود، فكان إجراء الكلام على ظاهره والإعراض عن هذا الإضمار أولى.

وأجاب أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في (ري الظمآن)، فقال: هذا كلام من لا يعرف لسان العرب، فإن (إله) في موضع المبتدأ على قول سيبويه ، وعند غيره اسم لا، وعلى التقديرين فلابد من خبر للمبتدأ، وإلا فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد، وأما قوله: إذا لم يضمر يكون نفياً للماهية؛ فليس بشيء؛ لأن نفي الماهية هو نفي الوجود، لا تتصور الماهية إلا مع الوجود، فلا فرق بين لا ماهية ولا وجود، وهذا مذهب أهل السنة، خلافاً للمعتزلة، فإنهم يثبتون ماهية عارية من الوجود، و(إلا الله) مرفوع بدلاً من (لا إله)، لا يكون خبراً لـ(لا)، ولا للمبتدأ. وذكر الدليل على ذلك].

هناك كلام لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز أورده المحقق في الهامش، وأحب أن أشير قبل ذكره إلى السبب في الخلاف في تقدير المضمر أو في تقدير الخبر في مسألة لا إله إلا الله، أو: لا إله غيره.

فسبب الخلاف في هذه التقديرات ناشئ عن مذاهب الناس في التوحيد.

فالباطنية والفلاسفة وغلاة المتكلمين يقدرون العبارة هكذا: لا إله موجود، وهذا تقدير ناشئ عن تصورهم أن غاية ما يمكن أن يثبت لله من التوحيد هو إثبات الوجود، وما يستلزمه من لوازم أخرى عند المتكلمين.

وطائفة أخرى -ومنهم أغلب المتكلمين، وبعض من ينتسب للسنة- قدروا التقدير الثاني، ولم يذكره هنا ولكنه أشار إليه، فقالوا بأن المقصود تقدير الخالق، أي: لا إله خالق وموجد أو رب غير الله.

وهناك تقدير ثالث أيضاً قال به بعض المتكلمين، وهو: (لا إله إلا الله) بلا تقدير، فقالوا: لا داعي للتقدير، فنفوا الإلهية عن غير الله تعالى مطلقاً، وهذا قريب من الحق، لكن لا يتم به المعنى اللغوي؛ لأنه لا يتم المعنى اللغوي إلا بتقدير.

فلذلك الذي عليه جمهور أهل السنة والجماعة أن تقدير الكلام: لا إله بحق، أو لا إله حق، أو معبود بحق، فكلها عبارات متقاربة صحيحة، لا إله معبود بحق، أو لا إله حق، أو لا إله بحق إلا الله؛ لأنه ليس المقصود مجرد نفي الآلهة؛ لأنه يوجد في البشر من يعبد آلهة غير الله، وإن كانت آلهة لا تستحق العبادة، لكنها موجودة، إذاً: فنفي الوجود لآلهة غير الله ينافي الواقع؛ لأن هناك من يعبد غير الله ويزعم أنه إله.

وكذلك نفي الماهية، وهو نفي الإلهية مطلقاً دون أن تقيد لا معنى له ولا يتم به المعنى اللغوي.

وكذلك تقدير المتكلمين بأنه لا إله خالق أو رازق أو مدبر، أو لا إله يستحق الربوبية غير الله، فهذا تقدير ناقص؛ لأنه ليس المقصود نفي الربوبية؛ لأن نفي الربوبية عن غير الله مما يعترف به المشركون، يعترفون بأنه لا رب -أي: لا رزاق ولا خالق- إلا الله، إنما جاء النفي في الرد على المشركين، أي: نفي المعبودين من دون الله سبحانه، وهذا هو الذي نزل من أجله القرآن؛ لأن الله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وأول ركائز الهدى: الدعوة إلى توحيد الله في العبادة، وهو الذي نازع فيه المشركون، بل نازعت فيه جميع الأمم التي خالفت الأنبياء، نازعت في طاعة غير الله وفي عبادة غير الله، وجعلت غير الله معبوداً من دون الله، وجعلت غير الله مطاعاً من دون الله، فلذلك جاء القرآن للرد عليهم، ولتقرير الإلهية بمعنى العبودية لله سبحانه وتعالى.

إذاً: إذا قيل: لا إله غيره. فالمعنى: لا إله يعبد ويستحق العبادة إلا الله سبحانه وتعالى.

وقبل أن نستكمل بقية الشرح يناسب أن نقرأ ما نقل هنا من تعليق الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى.

قال الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز حفظه الله تعليقاً على هذا الكلام من شرح الطحاوية: [ما قاله صاحب المنتخب ليس بجيد، وهكذا ما قاله النحاة وأيده الشيخ أبو عبد الله المرسي من تقدير الخبر بكلمة (في الوجود)، ليس بصحيح؛ لأن الآلهة المعبودة من دون الله كثيرة وموجودة، وتقدير الخبر بلفظ (في الوجود) لا يحصل به المقصود من بيان أحقية ألوهية الله سبحانه وبطلان ما سواها؛ لأن لقائل أن يقول: كيف تقولون: لا إله في الوجود إلا الله، وقد أخبر الله سبحانه عن وجود آلهة كثيرة للمشركين، كما في قوله سبحانه: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [هود:101]، وقوله سبحانه: فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً [الأحقاف:28] الآية؟!

فلا سبيل إلى التخلص من هذا الاعتراض، وبيان عظمة هذه الكلمة، وأنها كلمة التوحيد المبطلة لآلهة المشركين وعبادتهم من دون الله إلا بتقدير الخبر بغير ما ذكره النحاة، وهو كلمة (حق)؛ لأنها هي التي توضح بطلان جميع الآلهة وتبين أن الإله الحق والمعبود الحق هو الله وحده، كما نبه على ذلك جمع من أهل العلم، منهم: أبو العباس ابن تيمية ، وتلميذه العلامة ابن القيم وآخرون رحمهم الله.

ومن أدلة ذلك قوله سبحانه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62]، فأوضح سبحانه في هذه الآية أنه هو الحق، وأن ما دعاه الناس من دونه هو الباطل، فشمل ذلك جميع الآلهة المعبودة من دون الله من البشر والملائكة والجن وسائر المخلوقات.

واتضح بذلك أنه المعبود الحق وحده، ولهذا أنكر المشركون هذه الكلمة وامتنعوا من الإقرار بها؛ لعلمهم بأنها تبطل آلهتهم؛ لأنهم فهموا أن المراد بها نفي الألوهية بحق عن غير الله سبحانه؛ ولهذا قالوا جواباً لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم لما قال لهم: (قولوا لا إله إلا الله): أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، وقالوا أيضاً: أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات:36].

وما في معنى ذلك من الآيات، وبهذا التقرير يزول جميع الإشكال ويتضح الحق المطلوب. والله ولي التوفيق].

قال رحمه الله تعالى: [وليس المراد هنا ذكر الإعراب، بل المراد دفع الإشكال الوارد على النحاة في ذلك، وبيان أنه من جهة المعتزلة، وهو فاسد؛ فإن قولهم: في الوجود ليس تقييداً؛ لأن العدم ليس بشيء، قال تعالى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا [مريم:9]، ولا يقال: ليس قوله: (غيره)، كقوله: (إلا الله)؛ لأن (غير) تعرب بإعراب الاسم الواقع بعد (إلا)، فيكون التقدير للخبر فيهما واحداً، فلهذا ذكرت هذا الإشكال وجوابه هنا].

قال رحمه الله تعالى: [قوله: (قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء):

قال الله تعالى: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ [الحديد:3]، وقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء)، فقول الشيخ رحمه الله: (قديم بلا ابتداء دائم بلا انتهاء) هو معنى اسمه الأول والآخر].

يقصد بذلك أنها شرح للفظتي (الأول) و(الآخر)، لا يقصد أن المعنى يثبت به اسم، إنما هو شرح لمعنى (الأول) ولمعنى (الآخر).

الدليل العقلي على ثبوت اتصاف الله تعالى بالأول والآخر

قال رحمه الله تعالى: [والعلم بثبوت هذين الوصفين مستقر في الفطر، فإن الموجودات لابد أن تنتهي إلى واجب الوجود لذاته قطعاً للتسلسل].

قوله: [واجب الوجود لذاته] مجاراة للمتكلمين في التعبير؛ لأنه يقصد الرد عليهم، وبعض الأئمة يتسامح في مجاراة المتكلمين في ألفاظهم إذا كان المقصود الرد عليهم، أو بيان باطلهم، أو إزالة الشبه التي يثيرونها، وإلا فكلمة (واجب الوجود) كلمة فلسفية، وهي تعني: الإقرار بوجود الله ضرورة، بمعنى: أن العقل السليم والفطرة لابد من أن ينتهيا إلى ضرورة الإقرار بالموجود الأول الذي أوجد غيره، فمعنى الوجوب هنا: الضرورة العقلية التي تستلزم وتلزم بأنه لابد من وجود خالق لا يسبق بوجود آخر قطعاً للتسلسل.

ومعنى التسلسل هنا تسلسل الموجب؛ لأنَّا لو افترضنا أن إنساناً توهم باطلاً فقال: لابد للخالق الأول من خالق، ثم تقرر في وهمه ذلك؛ فإنه ينشأ وهم آخر بناءً على هذه الشبهة، وهو لابد للخالق أيضاً من خالق، ثم لابد للخالق من خالق، وهكذا، وهذا ممنوع عقلاً، أي أن العقل يقضي بضرورة نفيه ومنعه، إذاً: فلابد من الإقرار بأن الله سبحانه وتعالى الخالق الأول الذي ليس قبله شيء، وهذا الإقرار عقلي يقتضيه العقل، أي أن الله تعالى أول لا بداية له ولا نهاية له، ولا يمكن توهم أو تصور أن للخالق خالقاً، وإن توهم فمن باب ما يدخله الشيطان من شبهات على الناس، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سيأتي إلى: أن الإنسان قد يأتيه الشيطان ويقول له: من خلق الله، فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأن هذا أمر تنفيه الفطرة السليمة وينفيه العقل، فإنه لا يمكن أن يرد هذا السؤال؛ لأنه لو ورد لورد مثله في الخالق الأول، ثم هكذا إلى ما لا نهاية، وهذا يمتنع؛ لأنه لا يقطع التصور بهذا.

قال رحمه الله تعالى: [فإنا نشاهد حدوث الحيوان والنبات والمعادن وحوادث الجو كالسحاب والمطر وغير ذلك، وهذه الحوادث وغيرها ليست ممتنعة؛ فإن الممتنع لا يوجد، ولا واجبة الوجود بنفسها؛ فإن واجب الوجود بنفسه لا يقبل العدم، وهذه كانت معدومة ثم وجدت، فعدمها ينفي وجودها، ووجودها ينفي امتناعها، وما كان قابلاً للوجود والعدم لم يكن وجوده بنفسه، كما قال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35]].

هذا السؤال الذي ورد في القرآن الكريم هو سؤال الفطرة والعقل السليم، وجوابه بدهي لا يحتاج إلى تكلف، والقرآن نزل لجميع الناس بجميع أفهامهم ودرجات فهمهم، وهو -أي: كتاب الله- منزه عن التعقيد وعن التطويل وعن الغموض، ففيه كامل الوضوح، فمثل هذا السؤال يغني عن جميع فلسفات المتفلسفة وكلام المتكلمين وتكلف المتكلفين في إثبات وجود الله؛ لأنه يخاطب الفطرة والعقل السليم، فكل إنسان يورد هذه السؤال بجد ويتمعن فيه يجد أن الجواب واضح، حيث يقول تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ [الطور:35] ولابد من أن يكون خلقوا من شيء، ولابد أن يكون هذا الشيء له موجد وهو الله سبحانه وتعالى، فالمخلوق لابد له من خالق.

وفي الشق الثاني يقول تعالى: أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35]، وكل عقل وفطرة سليمين يدركان أنهم ليسوا هم الخالقين، ولا يمكن أن يتأتى ولا أن يتصور أن يكون المخلوق هو الذي خلق نفسه؛ يدرك ذلك المخلوق العاقل، فكيف بغير العاقل؟!

فالمخلوق العاقل يجد ضرورة في نفسه أنه بحاجة إلى غيره، وأن وجوده متوقف على موجد له، وهذا الإنسان قبل أن يعقل نشأ وترعرع بخلق الله ورعايته وقدرته، ثم لما عقل عرف أنه قبل أن يعقل لم يوجد نفسه؛ لأنه لا قدرة له في أمور أقل من الوجود، لا قدرة له في أن يبقى على الحياة، ولا في أن يدفع عن نفسه المرض ولا الفناء، ولا قدرة له في أن يتحكم في أي أمر من الأمور اللاإرادية التي أوجدها الله فيه.

إذاً: فمن باب أولى ألا يتصور أنه خلق نفسه.

فمثل هذه الأسئلة أسئلة مباشرة تمس الفطرة والعقل السليم مباشرة، ولا تحتاج إلى تكلف، لا في الفهم ولا في الجواب.

وجوابها بدهي لا يحتاج إلى كثير تفكير، بخلاف ما يسميه المتكلمون أدلة، أو يسمونه براهين ودلائل على وجود الله، ففيه التكلف كل التكلف، لأنها أدلة تنشأ من شبهات ثم ترد على الشبهات، وفي الغالب أن أي شبهة تنشأ في أمر غيبي لا يمكن أن يكون الجواب عليها إلا بالوحي أو بعقل يسترشد بالوحي، أما بمجرد قوة العقل فيستحيل لعاقل أن يدرك أسرار الغيب.

قال رحمه الله تعالى: [يقول سبحانه: أحدثوا من غير محدث أم هم أحدثوا أنفسهم؟ ومعلوم أن الشيء المحدث لا يوجد نفسه فالممكن الذي ليس له من نفسه وجود ولا عدم لا يكون موجوداً بنفسه، بل إن حصل ما يوجده وإلا كان معدوماً، وكل ما أمكن وجوده بدلاً عن عدمه وعدمه بدلاً عن وجوده؛ فليس له من نفسه وجود ولا عدم لازم له].

بيان حصول الغنية بطريقة القرآن عن طريقة المتكلمين في إثبات انتهاء المخلوقات إلى موجدها جل جلاله

قال رحمه الله تعالى: [وإذا تأمل الفاضل غاية ما يذكره المتكلمون والفلاسفة من الطرق العقلية؛ وجد الصواب منها يعود إلى بعض ما ذكر في القرآن من الطرق العقلية بأفصح عبارة وأوجزها، وفي طرق القرآن من تمام البيان والتحقيق ما لا يوجد عندهم مثله، قال تعالى: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [الفرقان:33].

ولا نقول: لا ينفع الاستدلال بالمقدمات الخفية والأدلة الطويلة؛ فإن الخفاء والظهور من الأمور النسبية، فربما ظهر لبعض الناس ما خفي على غيره، ويظهر للإنسان الواحد في حال ما خفي عليه في حال أخرى].

الملحد الذي ينكر وجود الخالق أو ينكر أمراً من الأمور القطعية التي جاء بها الوحي قد يحتاج إلى المقدمات المنطقية والعقلية من أجل أن يقر إذا أراد الله له الهداية، أما المسلم فلا يتأتى منه أن يحتاج إلى المقدمات؛ لأنه مسلم ابتداء، والإسلام معناه الخضوع والتسليم لله سبحانه وتعالى بالتصديق أولاً، ثم بالالتزام والامتثال ثانياً، فإذا كان كذلك فلا يتأتى لمسلم أن يظن أنه يحتاج إلى مقدمات طويلة منطقية تقوي ثقته بوجود الله، أما في الأمور الأخرى فقد يحتاج المسلم إلى أن يعرف بعض العلل وبعض الحكم ليزيد إيماناً.

أما فيما يتعلق بوجود الله فالمسلم مُسلِّم بفطرته وعقله بوجود الله، ولا يحتاج إلى الأدلة المنطقية المعقدة، وإن لجأ إليها فلا بد من أن يكون في قلبه من الشك بقدر ما لديه مما يسميه أدلة، كل مسلم يلجأ إلى الأدلة العقلية والمنطقية المعقدة في إثبات وجود الله فإنه لا بد من أن يكون في قلبه من الشك بقدر ما لجأ إليه من الأدلة والبراهين، وكلما سَلَّم بفطرته وعقله سلم إيمانه ووقر في قلبه الإيمان.

أما غير المسلم أو الشاك أو المضطرب فقد يحتاج إلى الأدلة المعقدة بقدر مستوى تفكيره، وقد يهتدي وقد لا يهتدي، فإنما الهداية بيد الله؛ فإن البراهين لا تغني عمن ختم الله على قلبه.

قال رحمه الله تعالى: [وأيضاً: فالمقدمات وإن كانت خفية فقد يسلمها بعض الناس وينازع فيما هو أجلى منها، وقد تفرح النفس بما علمته بالبحث والنظر ما لا تفرح بما علمته من الأمور الظاهرة، ولا شك أن العلم بإثبات الصانع ووجوب وجوده أمر ضروري فطري، وإن كان يحصل لبعض الناس من الشبه ما يخرجه إلى الطرق النظرية ].

استعمال كلمة (الصانع) -كما أسلفنا في درس سابق- إنما هو مجاراة المتكلمين من باب الرد عليهم أو إلزامهم بألفاظهم وقواعدهم، وإلا فالأولى أن يقال: الخالق؛ لأن كلمة (الخالق) أصدق وأقرب، فهي من ألفاظ الشرف وهي أقرب إلى الفطرة والعقل السليم، فالخالق هو المبدع الموجد، وأما الصانع فلفظ مشترك بين الخالق والمخلوق، وإن كانت في حق الخالق إذا أطلقت عليه تليق بجلاله سبحانه، لكنها من الألفاظ التي لم ترد في الشرع، بمعنى أن من أسماء الله الصانع، وإن وردت بمعنى فعل الله سبحانه وتعالى، لكنها ليست من أسماء الله، فالأولى أن يقال: الخالق؛ لأنها من الألفاظ الخاصة بالله سبحانه وتعالى.

خطأ المتكلمين في إدخال: (القديم) في أسماء الله جل جلاله

قال رحمه الله تعالى: [وقد أدخل المتكلمون في أسماء الله تعالى: القديم، وليس هو من أسماء الله تعالى الحسنى؛ فإن القديم في لغة العرب التي نزل بها القرآن: هو المتقدم على غيره، فيقال: هذا قديم للعتيق، وهذا حديث للجديد، ولم يستعمل هذا الاسم إلا في المتقدم على غيره، لا فيما لم يسبقه عدم، كما قال تعالى: حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس:39]، والعرجون القديم: الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثاني، فإذا وجد الحديث قيل للأول: قديم، وقال تعالى: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ [الأحقاف:11] أي: متقدم في الزمان، وقال تعالى: قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ [الشعراء:57-56] فالأقدم مبالغة في القديم، ومنه: القول القديم والجديد للشافعي رحمه الله تعالى، وقال تعالى: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود:98] أي: يتقدمهم، ويستعمل منه الفعل لازماً ومتعديا، كما يقال: أخذني ما قدم وما حدث، ويقال: هذا قدم هذا وهو يقدمه. ومنه سميت القدم قدماً؛ لأنها تقدم بقية بدن الإنسان.

وأما إدخال القديم في أسماء الله تعالى فهو مشهور عند أكثر أهل الكلام، وقد أنكر ذلك كثير من السلف والخلف، منهم ابن حزم ، ولا ريب أنه إذا كان مستعملاً في نفس التقدم؛ فإن ما تقدم على الحوادث كلها فهو أحق بالتقدم من غيره، لكن أسماء الله تعالى هي الأسماء الحسنى التي تدل على خصوص ما يمدح به، والتقدم في اللغة مطلق لا يختص بالتقدم على الحوادث كلها، فلا يكون من الأسماء الحسنى.

وجاء الشرع باسمه الأول، وهو أحسن من القديم؛ لأنه يشعر بأن ما بعده آيل إليه وتابع له، بخلاف القديم. والله تعالى له الأسماء الحسنى لا الحسنة.

قوله: (لا يفنى ولا يبيد): إقرار بدوام بقائه سبحانه وتعالى، قال عز من قائل: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].

والفناء والبيد متقاربان في المعنى، والجمع بينهما في الذكر للتأكيد، وهو أيضاً مقرر ومؤكد لقوله: (دائم بلا انتهاء) ].

سنترك الكلام عما ذكره المؤلف في القدر؛ لأن البحث فيه صعب ومتكرر، وسننتقل إلى قوله: (لا تبلغه الأوهام).

قال رحمه الله تعالى: [والعلم بثبوت هذين الوصفين مستقر في الفطر، فإن الموجودات لابد أن تنتهي إلى واجب الوجود لذاته قطعاً للتسلسل].

قوله: [واجب الوجود لذاته] مجاراة للمتكلمين في التعبير؛ لأنه يقصد الرد عليهم، وبعض الأئمة يتسامح في مجاراة المتكلمين في ألفاظهم إذا كان المقصود الرد عليهم، أو بيان باطلهم، أو إزالة الشبه التي يثيرونها، وإلا فكلمة (واجب الوجود) كلمة فلسفية، وهي تعني: الإقرار بوجود الله ضرورة، بمعنى: أن العقل السليم والفطرة لابد من أن ينتهيا إلى ضرورة الإقرار بالموجود الأول الذي أوجد غيره، فمعنى الوجوب هنا: الضرورة العقلية التي تستلزم وتلزم بأنه لابد من وجود خالق لا يسبق بوجود آخر قطعاً للتسلسل.

ومعنى التسلسل هنا تسلسل الموجب؛ لأنَّا لو افترضنا أن إنساناً توهم باطلاً فقال: لابد للخالق الأول من خالق، ثم تقرر في وهمه ذلك؛ فإنه ينشأ وهم آخر بناءً على هذه الشبهة، وهو لابد للخالق أيضاً من خالق، ثم لابد للخالق من خالق، وهكذا، وهذا ممنوع عقلاً، أي أن العقل يقضي بضرورة نفيه ومنعه، إذاً: فلابد من الإقرار بأن الله سبحانه وتعالى الخالق الأول الذي ليس قبله شيء، وهذا الإقرار عقلي يقتضيه العقل، أي أن الله تعالى أول لا بداية له ولا نهاية له، ولا يمكن توهم أو تصور أن للخالق خالقاً، وإن توهم فمن باب ما يدخله الشيطان من شبهات على الناس، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سيأتي إلى: أن الإنسان قد يأتيه الشيطان ويقول له: من خلق الله، فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأن هذا أمر تنفيه الفطرة السليمة وينفيه العقل، فإنه لا يمكن أن يرد هذا السؤال؛ لأنه لو ورد لورد مثله في الخالق الأول، ثم هكذا إلى ما لا نهاية، وهذا يمتنع؛ لأنه لا يقطع التصور بهذا.

قال رحمه الله تعالى: [فإنا نشاهد حدوث الحيوان والنبات والمعادن وحوادث الجو كالسحاب والمطر وغير ذلك، وهذه الحوادث وغيرها ليست ممتنعة؛ فإن الممتنع لا يوجد، ولا واجبة الوجود بنفسها؛ فإن واجب الوجود بنفسه لا يقبل العدم، وهذه كانت معدومة ثم وجدت، فعدمها ينفي وجودها، ووجودها ينفي امتناعها، وما كان قابلاً للوجود والعدم لم يكن وجوده بنفسه، كما قال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35]].

هذا السؤال الذي ورد في القرآن الكريم هو سؤال الفطرة والعقل السليم، وجوابه بدهي لا يحتاج إلى تكلف، والقرآن نزل لجميع الناس بجميع أفهامهم ودرجات فهمهم، وهو -أي: كتاب الله- منزه عن التعقيد وعن التطويل وعن الغموض، ففيه كامل الوضوح، فمثل هذا السؤال يغني عن جميع فلسفات المتفلسفة وكلام المتكلمين وتكلف المتكلفين في إثبات وجود الله؛ لأنه يخاطب الفطرة والعقل السليم، فكل إنسان يورد هذه السؤال بجد ويتمعن فيه يجد أن الجواب واضح، حيث يقول تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ [الطور:35] ولابد من أن يكون خلقوا من شيء، ولابد أن يكون هذا الشيء له موجد وهو الله سبحانه وتعالى، فالمخلوق لابد له من خالق.

وفي الشق الثاني يقول تعالى: أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35]، وكل عقل وفطرة سليمين يدركان أنهم ليسوا هم الخالقين، ولا يمكن أن يتأتى ولا أن يتصور أن يكون المخلوق هو الذي خلق نفسه؛ يدرك ذلك المخلوق العاقل، فكيف بغير العاقل؟!

فالمخلوق العاقل يجد ضرورة في نفسه أنه بحاجة إلى غيره، وأن وجوده متوقف على موجد له، وهذا الإنسان قبل أن يعقل نشأ وترعرع بخلق الله ورعايته وقدرته، ثم لما عقل عرف أنه قبل أن يعقل لم يوجد نفسه؛ لأنه لا قدرة له في أمور أقل من الوجود، لا قدرة له في أن يبقى على الحياة، ولا في أن يدفع عن نفسه المرض ولا الفناء، ولا قدرة له في أن يتحكم في أي أمر من الأمور اللاإرادية التي أوجدها الله فيه.

إذاً: فمن باب أولى ألا يتصور أنه خلق نفسه.

فمثل هذه الأسئلة أسئلة مباشرة تمس الفطرة والعقل السليم مباشرة، ولا تحتاج إلى تكلف، لا في الفهم ولا في الجواب.

وجوابها بدهي لا يحتاج إلى كثير تفكير، بخلاف ما يسميه المتكلمون أدلة، أو يسمونه براهين ودلائل على وجود الله، ففيه التكلف كل التكلف، لأنها أدلة تنشأ من شبهات ثم ترد على الشبهات، وفي الغالب أن أي شبهة تنشأ في أمر غيبي لا يمكن أن يكون الجواب عليها إلا بالوحي أو بعقل يسترشد بالوحي، أما بمجرد قوة العقل فيستحيل لعاقل أن يدرك أسرار الغيب.

قال رحمه الله تعالى: [يقول سبحانه: أحدثوا من غير محدث أم هم أحدثوا أنفسهم؟ ومعلوم أن الشيء المحدث لا يوجد نفسه فالممكن الذي ليس له من نفسه وجود ولا عدم لا يكون موجوداً بنفسه، بل إن حصل ما يوجده وإلا كان معدوماً، وكل ما أمكن وجوده بدلاً عن عدمه وعدمه بدلاً عن وجوده؛ فليس له من نفسه وجود ولا عدم لازم له].