شرح العقيدة الطحاوية [10]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإذا عرف أن توحيد الإلهية هو التوحيد الذي أرسلت به الرسل وأنزلت به الكتب -كما تقدمت إليه الإشارة- فلا يلتفت إلى قول من قسم التوحيد إلى ثلاثة أنواع، وجعل هذا النوع توحيد العامة، والنوع الثاني: توحيد الخاصة، وهو الذي يثبت بالحقائق، والنوع الثالث: توحيد قائم بالقدم، وهو توحيد خاصة الخاصة].

هذا كله من توهيمات الصوفية وألغازهم ودجلهم وتلبيسهم على الناس، فتقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام على هذا النحو من تلبيس المتصوفة والفلاسفة الذين ورثوا الفلسفات الهندية واليونانية وغيرها وأرادوا أن يلبسوها لباس الإسلام، فلو نظرنا إلى أنواع هذا التوحيد عند الصوفية في كتبهم لوجدناها تؤدي إلى الإلحاد، فتوحيد العوام عندهم وتوحيد السذج الذي لا يأبهون به هو توحيد الأنبياء والصالحين وعباد الله الذين هم في قمة العبودية، فهؤلاء عند الصوفية عوام، وكل ما جاء عن الله تعالى عن طريق الأنبياء من الوحي والشرائع والكتب والأوامر والنواهي والتوحيد يعتبرونه من توحيد العوام، وهذا مسطور في كتبهم، بمعنى أنهم قلبوا المفاهيم تماماً، فجعلوا الإلحاد هو قمة التوحيد وجعلوا التوحيد، هو قمة الشرك.

والتوحيد الثاني عندهم توحيد الخاصة، ويقصدون به توحيد المعرفة والإثبات الذي هو توحيد الربوبية، أي: إثبات توحيد الله تعالى بالحقائق الكونية أو بالحقائق النفسية أو بالأدلة العقلية.

والتوحيد الثالث عندهم -أي: عند الصوفية- توحيد خاصة الخاصة، وهو توحيد الفناء أو الفيض أو الإشراق أو الوحدة أو الحلول أو الاتحاد، وكلها تؤدي إلى الإلحاد؛ لذلك يزعمون أن أئمة الكفر في قمة التوحيد، وهذا موجود في كتب الصوفية، ومن أراد أن نطلعه على ذلك أطلعناه، ولكن العافية له في ترك ذلك، فهم يقولون: إبليس في قمة التوحيد؛ لأنه أبى أن يسجد لغير الله، ويقولون: فرعون في قمة التوحيد، لكنه تهور وأظهر الحقيقة، فأخطأ بتهوره حينما قال: أنا ربكم. لكنه في قمة التوحيد، حتى إن ابن عربي بث هذا في كتبه، وله رسالة موجودة اسمها (إيمان فرعون)، يقول: فرعون في قمة الإيمان، لكنه تهور حينما أظهر هذه الحقيقة للعوام، يعني: موسى وأتباعه، نسأل الله العافية، ولذلك فعند الصوفية من وصل إلى توحيد خاصة الخاصة لابد من أن يهلوس، كـالحلاج مثلاً، لما وصل إلى هذه المنزلة قال: أنا الله، ونوقش، وقام له طائفة من السلف يقنعونه ويقيمون عليه الحجة ويتثبتون من عقله هل هو عاقل أم لا، حتى ثبت أنه عاقل؛ لأنه مصر، فحكموا عليه، وأمهلوه مدة طويلة فأبى إلا أن يقول: أنا الله، إلى أن جاءوا إليه وهو أمام الخشبة ليقتل يقولون: تب إلى ربك، تب إلى الله، فيقول: ما في الجبة إلا الله، كأنه كان لابساً الجبة، وكان أتباعه حوله يظنون أن السيف لن يناله ولن يموت، فلما سال دمه في الأرض وتلطخت ثياب بعضهم به صعقوا، واستغربوا كيف انفكت رقبته عن جسمه؟! إذ ما كانوا يظنون أن هذا يحدث.

إذاً: فالصوفية بلية من البلايا، وهي خط من خطوط الزندقة، بل أصبحت زبالة كل فكرة فاسدة وكل إلحاد؛ لأنها انصبت فيها جميع المذاهب الموروثة عن الأمم الضالة، فنجد مظاهر الديانة الهندوسية موجودة في بعض طرق الصوفية، ونجد مظاهر الديانة المجوسية موجودة في طرق أخرى، ونجد الديانة الباطنية الشيعية الرافضية الموروثة عن المجوس موجودة في بعض الطرق الصوفية، ونجد الفلسفات الإغريقية والفلسفات اليونانية موجودة في الصوفية.

فما من فلسفة وكفر وإلحاد إلا ويوجد له في الصوفية طرق ومذاهب واتجاهات، والصوفية اتجاهات كثيرة.

الحداثة قسيم للصوفية المتزندقة

لما نفقت سوق الصوفية في العصر الحديث ظهر اتجاه جديد قام بدور الصوفية، لكن على شكل آخر وبمؤثرات وأسباب أخرى وتحت شعارات أخرى، وهو اتجاه الحداثة، فالحداثة حينما نتأملها نجدها وجهاً آخر للصوفية وإن لم يكن هذا مقصوداً، لكن هذه أساليب الشيطان في العبث بالأمم.

فالحداثة الآن مصب للزندقة، فلذلك لا نرى مذهباً شاذاً في الغرب الآن أو في الشرق -سواء أكان منهجاً فكرياً شاذاً أم أخلاقياً شاذاً أم عقدياً شاذاً أم إلحادياً- إلا وقد وجد له في مدارس الحداثة من يتبناه، فأصبحت الحداثة معلماً جديداً من معالم الصوفية، فلذلك نجد أن أغلب الحداثيين يشيدون برموز الصوفية ورموز الباطنية أعظم إشادة.

إذاً: فالصوفية وإن قلنا: إنها بدأت تتبين للناس ويتبين أمرها إلا أننا بلينا بعدها ببلية أخرى، وهي الحداثة التي الآن دخلت فينا إلى العظم وتمكنت وتوغلت عندنا في وسائل الإعلام وفي الاتجاهات الأدبية والفكرية حتى صارت الآن شوكة نحتاج في نزعها إلى جهود عظيمة.

لما نفقت سوق الصوفية في العصر الحديث ظهر اتجاه جديد قام بدور الصوفية، لكن على شكل آخر وبمؤثرات وأسباب أخرى وتحت شعارات أخرى، وهو اتجاه الحداثة، فالحداثة حينما نتأملها نجدها وجهاً آخر للصوفية وإن لم يكن هذا مقصوداً، لكن هذه أساليب الشيطان في العبث بالأمم.

فالحداثة الآن مصب للزندقة، فلذلك لا نرى مذهباً شاذاً في الغرب الآن أو في الشرق -سواء أكان منهجاً فكرياً شاذاً أم أخلاقياً شاذاً أم عقدياً شاذاً أم إلحادياً- إلا وقد وجد له في مدارس الحداثة من يتبناه، فأصبحت الحداثة معلماً جديداً من معالم الصوفية، فلذلك نجد أن أغلب الحداثيين يشيدون برموز الصوفية ورموز الباطنية أعظم إشادة.

إذاً: فالصوفية وإن قلنا: إنها بدأت تتبين للناس ويتبين أمرها إلا أننا بلينا بعدها ببلية أخرى، وهي الحداثة التي الآن دخلت فينا إلى العظم وتمكنت وتوغلت عندنا في وسائل الإعلام وفي الاتجاهات الأدبية والفكرية حتى صارت الآن شوكة نحتاج في نزعها إلى جهود عظيمة.

قال رحمه الله تعالى: [فإن أكمل الناس توحيداً الأنبياء صلوات الله عليهم، والمرسلون منهم أكمل في ذلك، وأولو العزم من الرسل أكملهم توحيداً، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله وسلم عليهم أجمعين].

لا شك في أن الرسل يتفاوتون، وإن كانوا في حقوقهم، لا فرق بينهم، فكلهم سواء في الحب والإيمان بأنهم رسل وأنبياء، والإيمان بعصمتهم وأنهم بلغوا رسالة الله.. إلى آخره، لكن من حيث درجتهم عند الله سبحانه وتعالى وفضلهم يتفاوتون.

وكون بعضهم أكمل في التوحيد لا يعني أن بعضهم أكثر توحيداً، لكن في جانب العبودية لله سبحانه وتعالى، ففي عبوديتهم لله تعالى قد يكون بعضهم أفضل من بعض.

قال رحمه الله تعالى: [وأكملهم توحيداً الخليلان محمد وإبراهيم صلوات الله عليهما وسلامه؛ فإنهما قاما من التوحيد بما لم يقم به غيرهما علماً ومعرفة، وحالاً ودعوة للخلق وجهاداً، فلا توحيد أكمل من الذي قامت به الرسول ودعوا إليه وجاهدوا الأمم عليه، ولهذا أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم فيه، كما قال تعالى بعد ذكر مناظرة إبراهيم قومه في بطلان الشرك، وصحة التوحيد وذكر الأنبياء من ذريته: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، فلا أكمل من توحيد من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم، وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا أصبحوا أن يقولوا: (أصبحنا على فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، ودين نبينا محمد، وملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين)، فملة إبراهيم: التوحيد، ودين محمد صلى الله عليه وسلم: ما جاء به من عند الله قولا وعملا واعتقادا، وكلمة الإخلاص: هي شهادة أن لا إله إلا الله، وفطرة الإسلام: هي ما فطر عليه عباده من محبته وعبادته وحده لا شريك له، والاستسلام له عبودية وذلاً وانقياداً وإنابة.

فهذا توحيد خاصة الخاصة، الذي من رغب عنه فهو من أسفه السفهاء، قال تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة:130-131].

وكل من له حس سليم وعقل يميز به لا يحتاج في الاستدلال إلى أوضاع أهل الكلام والجدل واصطلاحهم وطرقهم البتة، بل ربما يقع بسببها في شكوك وشبه يحصل له بها الحيرة والضلال والريبة، فإن التوحيد إنما ينفع إذا سلم قلب صاحبه من ذلك، وهذا هو القلب السليم الذي لا يفلح إلا من أتى الله به.

ولا شك أن النوع الثاني والثالث من التوحيد الذي ادعوا أنه توحيد الخاصة وخاصة الخاصة ينتهي إلى الفناء الذي يشمر إليه غالب الصوفية، وهو درب خطر يفضي إلى الاتحاد، انظر إلى ما أنشده شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري رحمه الله تعالى حيث يقول:

ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد

توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد

توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد ].

هذه الأبيات -في الحقيقة- من الأمور المعضلة؛ لأن ظاهر الأبيات ينزع إلى مقولة الصوفية، فلذلك نحتاج إلى أن نتكلف لنحسن الظن بالقائل، وهو الهروي رحمه الله، وهذه قد تحدث من بعض الأئمة، فيحصل منهم بعض المخالفات في المسائل الاعتقادية، بمعنى أنه قد يشذ إمام له قدره في الدين في مسألة من المسائل عمَّا عليه جمهور السلف، فهذا لا يضيره في صلاحه واستقامته، لكن مع ذلك لا نقر الخطأ حتى ولو كان من عالم كبير إذا لم نجد لكلامه المتأول إلا أن نحسن الظن به هو، أما كلامه وقوله فنعرضه على موازين الشرع، فمن هنا نقول إن هذه الأبيات في ظاهرها هي تأييد لمقالات الصوفية الخطيرة، لكنا إذا نظرنا إلى القائل فإنا نجد أن له في ذلك متأولاً، ونستطيع أن نفسرها بتفسير نحمله محملاً حسناً وإن تكلفنا، وتفسير آخر يؤيد الصوفية، وهو التفسير الظاهر، فلذلك حاول ابن القيم رحمه الله أن يعتذر في هذه الأبيات للهروي وأن يفسرها بالتفسير الحسن، وبعد ذلك سلم ابن القيم بأن فيها معاني إلحادية، فقال كلمته المشهورة في مدارج السالكين: لكن ذكر لفظاً مجملاً محتملاً جذبه إليه الاتحادي، وأشار في المدارج أيضاً إلى أن في هذه الأبيات معنى إلحادياً، لكن الهروي بريء منه.

المحمل الحسن المتكلف لبيان معناها

نرجع إلى تفسير الأبيات، على المحمل الحسن، وسنتكلف وأمرنا إلى الله.

فقوله: (ما وحد الواحد من واحد) على التفسير الحسن يقصد بذلك: أنه لا يوجد أحد من المخلوقات وصل إلى حقيقة توحيد الله تعالى الكاملة، أي: ما وحد الله أحد من خلقه التوحيد الكامل الحقيقي الذي يليق بالله سبحانه وتعالى، فتوحيد البشر مهما بلغ أقل من أن يصل إلى كمال الله تعالى، فلم يوحد الله على الحقيقة سوى الله، أي: التوحيد الكامل الذي لا يمكن أن ترتقي إليه مدارك البشر.

(إذ كل من وحده جاحد) يقصد أن من حاول أن يقول بالتوحيد الكامل؛ فإنه لا يزال يخفى عليه جوانب أخرى من توحيد الله، فهذه الجوانب هو جاحد لها لم يصل إلى حقيقتها.

ثم قال: (توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد)

يقصد بذلك أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أعارهم الوسائل التي عرفوا بها التوحيد، فعرف الإنسان توحيد الله بفطرته وعرف توحيد الله بعقله، وعرف توحيد الله بآياته، وهذه الأمور كلها من مخلوقات الله ومن مواهب الله التي وهبها للخلق، فهو استعارها من الله ليتعرف على الله.

إذاً: فهي عادية موقوتة تزول، وتبقى شهادة الله لنفسه بالتوحيد هي الشهادة العظمى.

وقوله: (توحيده إياه توحيده) يعني: أن التوحيد الحقيقي لله تعالى هو شهادة لله لنفسه، فهي التوحيد الحقيقي الذي يوقف عنده، أما توحيد المخلوقات فهو توحيد لا يمكن أن يبلغ كمال الله تعالى، فكمال الله تعالى لا يتناهي ولا يرتقي إليه ولا إلى إدراكه مخلوق على وجه التفصيل.

وقوله: (ونعت من ينعته لاحد) يعني بذلك أن من تطلع إلى وصف الله تعالى بالنعوت الكاملة؛ فإنه لا يستطيع، ويلحد بذلك، إنما يستطيع البشر أن يصفوا الله تعالى ببعض نعوته، لذلك ذكر الله سبحانه وتعالى لنا أن من أسمائه وصفاته ما لا يخطر على بال بشر.

إذاً: فمن ادعى أنه يستطيع أن ينعت الله بجميع كمالاته؛ فهو بذلك لاحد، أي: خارج ومائل عن الحق.

هذا هو التفسير المتكلف؛ لئلا نتهم إماماً من أئمة المسلمين -وهو الهروي - بالإلحاد، وقد تنطوي بعض المعاني على بعض البشر -وإن كان إماماً في الدين- ليثبت للبشر أنه لا عصمة إلا للأنبياء.

محمل الأبيات على طريقة الصوفية

أما معناها على منطق الصوفية، فإن قوله: (ما وحد الواحد من واحد)، أي: ما وحد الله أحد، (إذ كل من وحده جاحد) أي: إذ كل من سعى إلى توحيده على طريقة الشرع والعبادة فهو عندهم جاحد لله؛ لأنه لا يصل إلى توحيد الله إلا بأن يتحد مع الله أو يحل أو يفنى في الله تعالى أو نحو ذلك من المعاني.

وقوله: (وتوحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد) أي أن من عبد الله تعالى بصفاته، أو تعبد الله بأسمائه وصفاته؛ فإنه بذلك واقف على ألفاظ الشرع، وألفاظ الشرع عندهم هي دين العامة أو توحيد العامة، وهم يزعمون أنهم وصولوا إلى أسماء الله وصفاته باتحادهم مع الله، فلذلك مثلوا أسماء الله وصفاته بصفات بشر من البشر من أوليائهم.

وقوله: (توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد)

هو على نفس ما مر، أي: أنهم يقصدون بذلك أن من حاول أن يوحد الله بصفاته أو بنعته بصفات الكمال على نحو ما جاء به الأنبياء؛ فإنه بذلك لاحد عن توحيد الخاصة، أو خاصة الخاصة، الذي هو الاستغناء عن النص على أن صفات الله وأسمائه غير خلقه، فهم يرون أن الله هو الخلق والخلق هو الله، وعلى الإنسان أن يصف نفسه بصفات الكمال ليوحد التوحيد الكامل، لذلك قال أحدهم كلمة شنيعة، قال: سبحاني ما أجل شأني. يقصد نفسه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

نرجع إلى تفسير الأبيات، على المحمل الحسن، وسنتكلف وأمرنا إلى الله.

فقوله: (ما وحد الواحد من واحد) على التفسير الحسن يقصد بذلك: أنه لا يوجد أحد من المخلوقات وصل إلى حقيقة توحيد الله تعالى الكاملة، أي: ما وحد الله أحد من خلقه التوحيد الكامل الحقيقي الذي يليق بالله سبحانه وتعالى، فتوحيد البشر مهما بلغ أقل من أن يصل إلى كمال الله تعالى، فلم يوحد الله على الحقيقة سوى الله، أي: التوحيد الكامل الذي لا يمكن أن ترتقي إليه مدارك البشر.

(إذ كل من وحده جاحد) يقصد أن من حاول أن يقول بالتوحيد الكامل؛ فإنه لا يزال يخفى عليه جوانب أخرى من توحيد الله، فهذه الجوانب هو جاحد لها لم يصل إلى حقيقتها.

ثم قال: (توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد)

يقصد بذلك أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أعارهم الوسائل التي عرفوا بها التوحيد، فعرف الإنسان توحيد الله بفطرته وعرف توحيد الله بعقله، وعرف توحيد الله بآياته، وهذه الأمور كلها من مخلوقات الله ومن مواهب الله التي وهبها للخلق، فهو استعارها من الله ليتعرف على الله.

إذاً: فهي عادية موقوتة تزول، وتبقى شهادة الله لنفسه بالتوحيد هي الشهادة العظمى.

وقوله: (توحيده إياه توحيده) يعني: أن التوحيد الحقيقي لله تعالى هو شهادة لله لنفسه، فهي التوحيد الحقيقي الذي يوقف عنده، أما توحيد المخلوقات فهو توحيد لا يمكن أن يبلغ كمال الله تعالى، فكمال الله تعالى لا يتناهي ولا يرتقي إليه ولا إلى إدراكه مخلوق على وجه التفصيل.

وقوله: (ونعت من ينعته لاحد) يعني بذلك أن من تطلع إلى وصف الله تعالى بالنعوت الكاملة؛ فإنه لا يستطيع، ويلحد بذلك، إنما يستطيع البشر أن يصفوا الله تعالى ببعض نعوته، لذلك ذكر الله سبحانه وتعالى لنا أن من أسمائه وصفاته ما لا يخطر على بال بشر.

إذاً: فمن ادعى أنه يستطيع أن ينعت الله بجميع كمالاته؛ فهو بذلك لاحد، أي: خارج ومائل عن الحق.

هذا هو التفسير المتكلف؛ لئلا نتهم إماماً من أئمة المسلمين -وهو الهروي - بالإلحاد، وقد تنطوي بعض المعاني على بعض البشر -وإن كان إماماً في الدين- ليثبت للبشر أنه لا عصمة إلا للأنبياء.