شرح العقيدة الطحاوية [6]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له).

ش: اعلم أن التوحيد أول دعوة الرسل، وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله عز وجل، قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]وقال هود عليه السلام لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [هود:50]، وقال شعيب عليه السلام لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:85]، وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].

وقال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله) ].

هنا يقرر ابن أبي العز تبعاً للطحاوي رحمه الله ولسائر السلف أصلاً عظيماً أجمع عليه أئمة الدين المقتدى بهم قديماً وحديثاً من أئمة أهل السنة والجماعة، وهو أن أول الأمور التي يجب أن يعتقدها كل مسلم والتي ينبغي أن يعنى بها المسلمون جميعاً جماعات وأفراداً قضية توحيد الله، وهذا الأصل -كما أشار الشارح- لم يستنبط باجتهاد، بل هو قطعي من خلال استقراء نصوص الكتاب والسنة؛ فإنا نجد أن الله تعالى ذكر أن جميع الأنبياء أول ما يبدءون بدعوة أقوامهم إلى توحيد الله تعالى ونبذ الشرك، وليس بالمقصود بالتوحيد -كما يزعم المتكلمون، وكما يزعم بعض المُحدَثِين الذين لا فقه لهم في الدين- معرفة الله وإثبات وجوده؛ لأن هذا أمر فطري بدهي -كما سيأتي- لا يحتاج إلى تقرير عند عامة البشر، وإن وجد من البشر شذاذ يعمون عن الحقيقة، فلا ينبغي أن تخضع لهم أصول العلم وأصول الاعتقاد، بل من أصول الاعتقاد وأصول الدعوة الضرورية الأساسية القطعية المعلومة بالضرورة أن أول ما ينبغي أن يدعى إليه -كما هو منهج الرسل- هو توحيد الله تعالى بالعبادة، وليس هو توحيد المعرفة؛ لأنه لا يعرف على الإطلاق في تاريخ البشر أن أمة من الأمم التي بعث فيها أنبياء أنكرت وجود الله أو أنكرت توحيد الربوبية، لا يعرف هذا، وما حدث من فرعون فإنه من باب الجحود لا من باب الإنكار، والجحود لا يعد إنكاراً، ثم إن جحود فرعون لا يعني أن جميع الأمم في وقته -حتى الكفار المشركين- كانوا ينكرون وجود الله أو ينكرون توحيد الربوبية.

فلا يصح القول بأن التوحيد إنما المقصود به إثبات وجود الله فقط أو توحيد الربوبية فقط، بل التوحيد إذا ورد في الكتاب والسنة هو توحيد الإلهية.

فأول ما يدعو إليه الداعية تبعاً للمرسلين هو توحيد الله تعالى، وهذه المسألة حتمية قطعية، ولم يحدث الجهل بها إلا بعدما قل الفقه في الدين.

خطر التساهل في الدعوة إلى التوحيد

ولعلي بهذه المناسبة أشير إلى بعض الأخطاء التي وقع فيها كثير من الجماعات الإسلامية المعاصرة، ومن أخطر هذه الأخطاء التساهل في الدعوة إلى التوحيد، والتساهل في النهي عن الشرك والبدع، حتى صار هذا التساهل أصلاً من أصول بعض الدعوات، وهذا خطر عظيم، بل هو بوادر انحراف، وسببه قلة الفقه في الدين عند هؤلاء الدعاة، وسببه -أيضاً- اللبس عندهم فيما ينبغي أن يبدأ به وما هو أجل شأناً في الدعوة إلى الله وما هو دون ذلك.

وكثير من الدعوات المعاصرة تأخذ الواجبات في الدعوة بالعكس، فأخذت ما هو أدنى درجة مما ينبغي أن تعنى به الدعوات وجعلته هو الأول، وجعلت الهدف الأول هو الهدف الأدنى، حتى قالوا: لا ندعو إلى التوحيد وإلى نبذ الشرك، حتى نؤلف قلوب الناس ونجمعهم على الشعارات السياسية وعلى أمور أخرى. وهذا خطأ وخطر عظيم، بل هو انحراف في مفهوم الدعوة وفي غاياتها وفي مناهجها، فينبغي أن يسدى لمثل هؤلاء النصح؛ فإن أي دعوة لا ترتكز على الدعوة إلى التوحيد فإنها إما فاشلة أو ضالة، وأي دعوة لا يكون أهم أهدافها وأول أهدافها الدعوة إلى التوحيد فإن مصيرها إلى الفشل أو الضلال، ودعوى أن المسلمين ليس فيهم شرك وانحرافات وبدع دعوى ساذجة أو مغرضة، فإما أنها دعوى تدل على عدم الفقه في الدين وعدم التمييز بين الشرك والتوحيد وعدم التمييز بين البدعة والسنة وهو الغالب، وإما أنها مغرضة، وهذا قليل، فدعوى أن المسلمين ليسوا بحاجة إلى أن تصحح عقائدهم ولا أن ينهوا عن البدع التي هم فيها، وأن هذا يؤجل إلى حين فيها خطورة عظيمة، بل هي انحراف في مسالك الدعوة، وقد يقول قائل: إن دعوة الناس إلى التوحيد وترك الأمور الأخرى تعني أن الداعي سيهمل أمور المسلمين والمشكلات الكبرى التي يعانون منها، وأقول: العكس هو الصحيح؛ فإنه ينبغي للمسلم أن يدعو وأن يهتم بكل أمور المسلمين، لكن أول ما يهتم به ويدعو إليه هو ما يتعلق بتوحيد الله تعالى ونبذ الشرك ونبذ المبتدعات، وبعد ذلك يهتم بالأمور الأخرى، ويهتم بالأصول حتى بترتيبها، يهتم بأصول الإيمان وأركان الإسلام، وإقامة الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر شعائر الإسلام الظاهرة، كما يهتم في نفس الوقت بأصول الأخلاق، ويهتم بقضايا المسلمين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والإعلامية، وهذا كله حق، لكن لن تصلح أحوال المسلمين ولن تستطيع الدعوات المعاصرة أن تصحح أمور المسلمين على نهج قويم إلا إذا جعلت أول أهدافها عملياً ونظرياً الدعوة إلى توحيد الله ونبذ الشرك والبدع، وما لم تفعل ذلك فإنها محكوم عليها إما بالفشل وإما بالانحراف، وأنا أظن أن من أعظم أسباب فشل كثير من الدعوات التي قامت منذ عشرات السنين وتخبطها في تيه التجارب الفاشلة أنها تساهلت في التوحيد وجعلته بدرجة أدنى، وإن ادعت نظرياً أنها تدعو إلى التوحيد، لكنها عملياً لا تتساهل فيه فقط، بل إنها تلمز الدعاة إلى التوحيد، تلمزهم وتجعل من أخطائهم ومما تنتقدهم به أنهم يدعون إلى توحيد الله وينبذون القبوريات والشركيات.

وبناءً على هذا نعرف أن القاعدة القطعية عند سلف الأمة وعند أئمة الهدى إلى يومنا هذا وإلى أن تقوم الساعة أن أول ما ينبغي أن تعنى به كل دعوة شاملة في المسلمين هو توحيد الله تعالى ونبذ الشرك والبدع، ثم بعد ذلك تهتم بالأولويات بحسب درجتها في الشرف، ولتساهل بعض هذه الدعوات في التوحيد نجدها تتساهل حتى في أركان الإسلام وحتى في أصول الإسلام الأخرى كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسبب هذا التساهل هو الإخلال بالأصل الأول.

ثم إنا نعلم قطعاً أنه إذا صحت عقائد المسلمين بتوحيد الله تعالى، وإذا تخلصوا من البدع والشركيات صلحت أحوالهم الأخلاقية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والإعلامية، وهذا لا شك فيه ولا ريب، فإذا صلحت أحوال المسلمين وصلحت قلوبهم وعباداتهم واستقامت على التوحيد الخالص ونبذ الشركيات والبدع والقبورية وغيرها، فإنه لا بد بالضرورة أن تصلح أحوالهم الأخرى، والله يهيئ لهم من أمرهم رشدا، وهذا أمر قطعي يجب أن يعلمه كل طالب علم وأن يفقه غيره فيه.

بيان مذهب السلف في أول واجب على المكلف وزلل أهل الكلام في ذلك

قال رحمه الله تعالى: [ ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله، لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشك، كما هي أقوال لأرباب الكلام المذموم ].

في هذه الكلمات يشير الشارح إلى مذاهب الناس في أول واجب على المكلف، مع أن هذه المسألة محسومة شرعاً عند أهل السنة والجماعة، لكن مع ذلك تنازعت فيها الفرق، ولا شك في أن أول واجب على المكلف هو أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، هذا أمر بدهي، وإنما النزاع: هل يلزمه إذا بلغ أن ينطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أم يكفيه إذا كان في بيئة مسلمة أن يكون مع المسلمين ويظهر الإسلام ويصلي ويصوم ويقيم الأركان؟ وهذا الثاني هو الصحيح؛ لأنه لا يلزم الإنسان في الدقيقة التي يبلغ بها سن الرشد أن ينطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إذا كان بين ظهراني المسلمين، هذا لا يلزم؛ لأنه مسلم في الأصل، ونشأ في المسلمين، فإذا صلى وصام وأقام شعائر الإسلام فهو مسلم، ولو لم يسمع نطقه بالشهادتين؛ لأنه عمل بالمقتضى الذي هو أقوى من النطق، عمل بمقتضى الشهادتين الذي هو أقوى من النطق، ومع ذلك قد يقال من باب التكلف: لو نطق لكان أفضل وإنما يلزم النطق بالشهادتين من دخل في الإسلام بعد الكفر، فهذا يلزمه النطق بهما؛ لأنهما مفتاح الدخول في الإسلام.

فكون الشهادة بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله أول واجب على المكلف أصل لا يختلف فيه أهل العلم المحققين من أئمة الدين، إنما النزاع جاء بعدما ظهر علم الكلام وظهرت القدرية والمتكلمة من الجهمية والمعتزلة ثم الأشاعرة والماتريدية وغيرهم، فهؤلاء أتوا ببدع عظيمة في هذا الأمر، فقالوا: أول واجب على المكلف أن ينظر، فما معنى ينظر؟ يعني: يشك: من ربك؟ وما أدلة التوحيد؟ ثم كيف يعبد الله؟ ثم يشهد الشهادتين، وهذا إخراج للناس عن الفطرة وإدخال لهم في التيه والضلال والشك، بل هو دعوة إلى الإلحاد والانحراف؛ لأن الإنسان إذا شكك فقيل له: أين رأسك؟ فذهب ليلمسه؛ فإن تشكيكه في الله يؤدي لإثبات وجوده إلى طلبه بالحس!

فلا ينبغي أن يكون النظر هو طريق الوصول إلى معرفة الله ووجوده وتوحيده ثم إلى عبادته ثم الخضوع والتسليم له، لا يجوز هذا؛ لأن مقتضى الفطرة أن الإنسان على التوحيد، ومقتضى الفطرة أنه مسلم لله تعالى، فإذا نشأ مسلماً بين المسلمين فهو -بالضرورة- عارف للإسلام وعارف لوجود الله ووحدانيته.

ثم إن الدخول في إثبات الوحدانية والتوحيد بالأدلة العقلية لا يستوعبه كل الناس؛ لأنهم ينشئون على الفطرة التي هي الإيمان بالله، ومن حاول أن يزداد يقيناً عن طريق الشبهات العقلية فإنه لن يزداد إلا شكاً، إلا قلة من المتمكنين الذين يريدون أن يثبتوا لبعض الملاحدة أو من في قلوبهم شبهات هذه الأمور؛ أما أن يكون ذلك مسلكاً لكل مسلم يسلك فيه إلى الإسلام أو الإيمان؛ فهذا من الباطل قطعاً، بل يؤدي إلى الشك؛ ولذلك وردت قصة صحيحة رواها كثير من الكتاب في الملل والنحل وغيرهم للرازي المتكلم، وذكرتها أكثر من مرة، لكن لها في هذا الموطن مناسبة.

يقولون: إن الرازي مر ذات مرة بعجوز كانت تتشمس أمام بابها ومعه حشد من طلاب علم الكلام وراءه يكتبون ما يقول، فعجبت من هذا الرجل فسألت سؤال الساذج، فقالت: من هذا؟! قالوا: أما تعرفينه يرحمك الله؟! قالت: لا، أهو الملك؟ أهو السلطان؟ قالوا: لا، قالت: أهو الوالي؟ أهو القائد؟ أهو فلان؟ قالوا: لا. ثم قالوا: هذا من يملك على وجود الله ألف دليل، قالت: تباً له، والله تعس، إن كان ذلك ففي قلبه ألف شك، أفي الله شك؟!

وهذا نداء الفطرة، فهذه ما عندها شك في وجود الله، وكذلك غيرها من عامة المسلمين، بل إن المتعلمين وطلاب العلم إذا بقوا على فطرتهم فما جاءتهم الشبهات والأهواء فالأصل فيهم التسليم لله تعالى بالجملة، ويحتاجون إلى تفصيل الشرائع فقط وتفصل العقائد التي وردت، وهي غيب لا يعلمه إلا الله.

أما مسألة وجود الله فالباحث عنها كمن يجلس في الشمس ثم يقول: اثبتوا لي أن الشمس طالعة، فماذا يقال عنه؟ أهو عاقل؟! بل غير عاقل، ففي عقله خلل.

بطلان اعتماد الشك قبل اليقين في التوحيد

وهناك نظرية خطيرة عند الفلاسفة، وإن كانت قليلة في المتكلمين الذين يدعون الإسلام، لكنها توجد عند فلاسفة ممن يسمون بالفلاسفة الإسلاميين، ووجدت أيضاً في العصر الحديث، جاءتنا عن طريق النظريات الغربية، وقال بها بعض الكتاب المحدثين من المسلمين، وهي قضية الشك قبل اليقين، فهذا مبدأ هدام، ويرتكز على القول بأنه لا ينبغي للمسلم أن يسلم بكل شيء، فإن قيل له: محمد رسول الله فينبغي أن يتثبت من كون محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن قيل له: لا إله إلا الله؛ فينبغي أن يتثبت، وإن قيل له: هناك شيء اسمه بعث فينبغي أن يتثبت، فيخضع القضية أولاً للبراهين العقلية والعلمية، فإن وصل إلى يقين آمن وإن لم يصل إلى يقين فهو في حل من الإيمان، وهذا هو الإلحاد بعينه وهو الزيغ والزندقة، وقد تبناها بعض الكتاب المحدثين حتى كتبوا كتباً مثل (الشك قبل اليقين) وغيرها من الكتب الهدامة التي دخلت على شباب المسلمين وأوجدت عندهم زعزعة في العقيدة وعدم الثقة بالإسلام.

فالحاصل أن هؤلاء المتكلمين بعضهم يقول: يجب النظر على كل إنسان، سواء تمكن أو لم يتمكن، فلا بد من أن ينظر، بمعنى: أن يفكر في خالقه، فيفكر في توحيد الله، ولا بد من أن يصل إلى النتيجة بعقله، وبعضهم قال: لا يلزم ذلك كل الناس، وهذا المذهب الثاني هو مذهب القصد إلى النظر، وعليه من يسمون بمعتزلة المتكلمين، وليس بمتكلمي المعتزلة، فالمعتدلون من المتكلمين يقولون: لا يلزم أن نقول: يجب النظر، إنما يجب القصد إلى النظر، فما معنى القصد؟ معناه: محاولة النظر، يعني: أن العاقل إذا بلغ يختلف ذكاؤه، فإن كان ذكياً فعنده القدرة على النظر، فينبغي أن يقصد النظر، فإن توصل إليه فبها ونعمت، وإن لم يكن ذكياً فقد لا يستطيع، فالمهم أن يحاول، هذا معنى القصد، أن يحاول النظر، فيتفكر في أدلة وجود الله وفي وحدانيته، فإن تمكن وإلا كفاه ذلك، فالمهم أن يشرع ويقصد النظر، ويتعمد الشك، وهذا مؤدى الكلام، وهم ما قالوا كذا، لكن قالوا: لا بد من أن يقصد البحث عن أدلة وجود الله وتوحيده، فإن استطاع فبها ونعمت، وإن لم يستطع فهو معذور، والسلف يقولون: لا يجب عليه النظر، فإن كان عاقلاً ذكياً ملماً بدين الله وفقيهاً فله النظر في ذلك بعد اعتقاده توحيد الله ومعرفة ما جاء في الكتاب والسنة.

وإن لم يملك هذه الأصول فلا نكلفه ما لا يستطيع، أما إذا أراد ذلك بعقله دون اهتداء بشرع الله فسيهلك؛ لأنه لن يصل إنسان إلى الغيب، ولا سبيل للعقل إلى الغيب أبداً، ولو كان العقل يستطيع أن يعلم الغيب ويصل إليه ما صار غيباً، لو استطاعت العقول أن تتمكن من معرفة الغيب على وجوهه التفصيلية ما سمي غيباً، بل يصير شهادة، حيث صار مدركاً، والمدرك ليس بغيب.

بيان محمل قول إبراهيم الخليل في النجم والقمر والشمس: هذا ربي

وأما قصة إبراهيم عليه السلام حين نظر في ملكوت الله فلا تحمل على أنه كان يبحث عن وجود الله، وليس عنده شك في أن الله واحد وأنه وحده المعبود؛ إذ ربما كان في ذلك الوقت لم ينزل إليه الشرع، وقد كان موجوداً في بيئة وثنية، فهو رفض الأصنام، وكان يبحث عن طريق صحيح إلى عبادة الله، فبعقله بحث عن هذا الطريق فوصل إلى أن الله لا يعبد من خلال مظاهر ناقصة، إنما يعبد من خلال الكمال، ولا يعبد من خلال الوسائط، إنما يعبد سبحانه وتعالى بدون وسيط، بطريقة شرعية، فتوصل بفطرته إلى أن تلك الأشياء نظراً لنقصها -حيث أفل النجم والقمر والشمس- لا يمكن أن تكون هي الله أو الموصلة إلى الله، فعرف أن الله يعبد دون هذه الأشياء؛ لأنها ناقصة والناقص لا يستحق العبادة، فلم يكن عنده شك في توحيد الله تعالى ولا في وجوده، وإنما لم يكن عنده الشرع، والله أعلم بالذي به يعبد، فكانت هذه تهيئة له ليتنزل عليه شرع قويم، وهو دين الحنيفية، وقد ورد أيضاً أن ذلك كان من باب إقامة الحجة على الآخرين، لكن هذا تأويل قد يصح وقد لا يصح، والحاصل أن إبراهيم عليه السلام توصل إلى أن هذه مخلوقات ناقصة، وتوصل إلى توحيد الله الخالص، وهذا لا يقاس عليه؛ لأن إبراهيم في ذلك الوقت لم يكن عنده شرع منزل ولا رسالة، فلا يقاس عليه المسلمون الآن، فقد قامت عليهم الحجة بالقرآن والسنة وإقامة البراهين، بل جميع البشر قامت عليهم الحجة بالإسلام وبأدلة الإسلام المتمثلة في الكتاب والسنة والحجج العقلية التي رسمها القرآن.

مذهب أئمة السلف فيما يؤمر به الصبي حال البلوغ

قال رحمه الله تعالى: [بل أئمة السلف كلهم متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان، ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقيب بلوغه، بل يؤمر بالطهارة والصلاة إذا بلغ أو ميز عند من يرى ذلك، ولم يوجب أحد منهم على وليه أن يخاطبه حينئذ بتجديد الشهادتين، وإن كان الإقرار بالشهادتين واجباً باتفاق المسلمين، ووجوبه يسبق وجوب الصلاة لكن هو أدى هذا الواجب قبل ذلك].

حكم من أتى بخصائص الإسلام دون النطق بالشهادتين

قال رحمه الله تعالى: [وهنا مسائل تكلم فيها الفقهاء: فمن صلى ولم يتكلم بالشهادتين، أو أتى بغير ذلك من خصائص الإسلام ولم يتكلم بهما هل يصير مسلماً أم لا؟ والصحيح أنه يصير مسلماً بكل ما هو من خصائص الإسلام، فالتوحيد أول ما يدخل به في الإسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة) ، فهو أول واجب وآخر واجب].