شرح العقيدة الطحاوية [4]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن المحال أن تستقل العقول بمعرفة ذلك وإدراكه على التفصيل، فاقتضت رحمة العزيز الرحيم أن بعث الرسل به معرفين وإليه داعين، ولمن أجابهم مبشرين، ولمن خالفهم منذرين، وجعل مفتاح دعوتهم وزبدة رسالتهم معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله؛ إذ على هذه المعرفة تبنى مطالب الرسالة كلها من أولها إلى آخرها].

تكلم الشارح عن استحالة استقلال العقول بمعرفة أصول الدين على التفصيل، فالعقول لا تستقل بمعرفة العقيدة ولا بإدراكها على وجه التفصيل، وكأنه بذلك يشير إلى أن من أصول العقيدة ما تدركه العقول على وجه الإجمال، وهذا صحيح في الجملة، ومع ذلك لا تستغني العقول عمَّا يرد من الهداية ومن البيان ومن الأخبار في أمور الغيب عن الله سبحانه وتعالى كما بعث بذلك رسله؛ لأن العقول وإن أدركت بعض الإجماليات إلا أن هذا الإدراك لا ينفع، بمعنى أن تكليف البشر وحسابهم مبني على ما جاء به المرسلون في توحيد الله تعالى، وفي شرعه وأمره وخبره ووعده ووعيده.

وإدراك العقول للأمور الإجمالية هو إدراك فطري يدركه الإنسان بفطرته وعقله السليم، لكن مع ذلك لا يمكن أن يدركه كل البشر، بمعنى أنه لو ترك البشر بلا رسالات ولا أنبياء لأدركت طائفة قليلة منهم قضايا إجمالية عامة من أمور الدين، وهذه القضايا الإجمالية لا ينتفع بها البشر، مثلاً: الفطرة والعقل السليم لا بد لهما من أن يدركا ضرورة وجود الخالق لهذا الخلق، ومع ذلك قد تعمى عقول كثير من البشر عن هذا الإدراك، والعقل السليم والفطرة قد يدركان ضرورة البعث، لكن أكثر البشر لا يدركون هذا؛ لأن هذا أمر خفي لا يدرك إلا بتأمل قوي وبعقول راجحة كبيرة وبذكاء، وهكذا، فالأمور الإجمالية التي تدرك بالعقول والفطرة لا تفيد البشر؛ لأن البشر يحتاجون إلى أمور تفصيلية، سواء ما يتعلق بتوحيد الله سبحانه وتعالى وبأسمائه وصفاته وحقوقه، وما يتعلق بتفصيلات الشرع، فمن المحال أن تستقل العقول بمعرفة حقوق الله تعالى وشرعه وما يرضيه على وجه التفصيل.

قوله: (وجعل مفتاح دعوتهم وزبدة رسالتهم معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله).

هذا -في الحقيقة- جزء من عمل المرسلين، وليس هو أول دعوتهم، وليس هو المفتاح وإن كان جزءاً من مفتاح الدعوة؛ لأنا إذا تأملنا آيات الله -كما قال أئمة السلف الذين قرروا التوحيد- وتأملنا الأحاديث وتأملنا سير المرسلين وما جاء به الرسل مما ذكره الله عنهم فسنجد أن أول ما يدعون إليه هو عبادة الله، وهي مفتاح الرسالات، ويتبع ذلك بالضرورة توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، لكن لم يكن أول ما جاءوا به هو التعريف بالله فقط؛ لأن معرفة الله يدركها أكثر الأمم حتى الأمم الكافرة والمشركة والأمم الضالة، والله سبحانه وتعالى أرسل المرسلين إلى أمم تعرف الله ولا تنكره، إلا أمماً شذت كفرعون وقومه فقط، فهم الذين ورد في القرآن أنهم جحدوا الله سبحانه وتعالى، وهؤلاء يستثنون، أما بقية الأمم فلم يرد دليل قاطع ولا دليل ظني على أنها كانت لا تعرف الله، إنما كانت تعرف الله وتعبد غيره، فالتعريف بالله دخل ضمن الدعوة إلى توحيده، وإلا فالهدف والغاية الأولى ومفتاح الدعوة للمرسلين هي الدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى ونبذ الشرك.

قال رحمه الله تعالى: [ ثم يتبع ذلك أصلان عظيمان:

أحدهما: تعريف الطريق الموصل إليه، وهي شريعته المتضمنة لأمره ونهيه.

والثاني: تعريف السالكين ما لهم بعد الوصول إليه من النعيم المقيم] .

عندنا ثلاثة أصول جاء بها المرسلون، وهذه الأصول تندرج فيها أمور الدين كلها، فالأصل الأول -كما أشار إليه ولم يذكره نصاً- هو عبادة الله تعالى، وهو الاعتقاد؛ لأن قمة الاعتقاد هي عبادة الله بتوحيد الإلهية، أما توحيد الربوبية والأسماء والصفات فإنه من مستلزمات العبادة لله تعالى بحق، فأول الأصول التي جاء بها المرسلون وأعظمها، والذي ينبغي أن يكون أصلاً لكل دعوة ولكل داعية: عبادة الله تعالى وحده ونبذ الشرك، وما يتبع ذلك من ضرورة معرفة الله تعالى بذاته وأسمائه وصفاته، وما يتبع ذلك من ضرورة الاعتراف بالربوبية لله وحده، ونتيجة ذلك وأوله وخاتمه هو عبادة الله وحده بما شرعه الله، هذا هو الأصل الأول.

الأصل الثاني: الشرائع التي تبين للناس ما يريده الله منهم على وجه التفصيل، فكل الأنبياء أتوا بشرائع، سواء منهم من أنزل عليه كتاب وشريعة مستقلة ومن كان تابعاً لشرع من سبقه كالكثير من النبيين، فالرسل أتوا بشرائع وكتب منزلة، والنبيون إنما جددوا شرائع من سبقهم من المرسلين وعملوا بها، وربما يكون بعض الأنبياء قد أنزلت عليهم شرائع، والله أعلم، وهذه مسألة خلافية كما هو معروف، والمهم أن الأصل الثاني الذي جاء به جميع المرسلين هو الشرائع الهادية للناس لأن يعبدوا الله على شرعه، وأن يطيعوا أمره ويجتنبوا نهيه، والأوامر والنواهي التي جاءت عن الله تعالى في الشرائع تفصيلية وليست إجمالية.

الأصل الثالث: البشارة والنذارة، فكل النبيين جاءوا بهذا الأصل، كل نبي بشر قومه المطيعين بوعد الله تعالى لهم بالنصر والتمكين في الدنيا وبالجنة في الآخرة، وكل نبي توعد قومه الذين كفروا بما توعدهم الله به في الدنيا وبما توعدهم الله به في الآخرة.

إذاً: فجميع الأنبياء جاءوا بهذه الأصول الثلاثة: بالتوحيد أولاً، وبالشرائع ثانياً، وبالوعد والوعيد ثالثاً.

قال رحمه الله تعالى: [ فأعرف الناس بالله عز وجل أتبعهم للطريق الموصل إليه وأعرفهم بحال السالكين عند القدوم عليه؛ ولهذا سمى الله ما أنزله على رسوله روحاً لتوقف الحياة الحقيقية عليه، ونوراً لتوقف الهداية عليه، فقال تعالى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [غافر:15]، وقال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى:52-53].

فلا روح إلا فيما جاء به الرسول، ولا نور إلا في الاستضاءة به، وهو الشفاء كما قال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44] فهو -وإن كان هدى وشفاءً مطلقاً- لكن لما كان المنتفع بذلك هم المؤمنون خصوا بالذكر، والله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق فلا هدى إلا فيما جاء به].

قال رحمه الله تعالى: [ولا ريب أنه يجب على كل أحد أن يؤمن بما جاء به الرسول إيماناً عاماً مجملاً، ولا ريب أن معرفة ما جاء به الرسول على التفصيل فرض على الكفاية؛ فإن ذلك داخل في تبليغ ما بعث الله به رسوله، وداخل في تدبر القرآن وعقله وفهمه، وعلم الكتاب والحكمة، وحفظ الذكر، والدعاء إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعاء إلى سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ونحو ذلك مما أوجبه الله على المؤمنين، فهو واجب على الكفاية منهم].

يقول المحقق في الهامش مقتبساً من كلام شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم : [للإنسان ثلاثة أحوال: إما أن يعرف الحق ويعمل به، وإما أن يعرفه ولا يعمل به، وإما أن يجحده.

فصاحب الحال الأول هو الذي يدعى بالحكمة، فإن الحكمة هي العلم بالحق والعمل به.

والنوع الثاني: من يعرف الحق لكن يخالف نفسه، فهذا يوعظ بالموعظة الحسنة، وعامة الناس يحتاجون إلى هذا وهذا؛ فإن النفس لها أهواء تدعوها إلى خلاف الحق وإن عرفته، وأما الجدل فلا يدعى به، بل هو من باب دفع المعارض، فإذا عارض الحق معارض جودل بالتي هي أحسن، وقال تعالى: بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] ولم يقل: بالحسنة كما قال في الموعظة؛ لأن الجدال فيه مدافعة ومغاضبة، فيحتاج أن يكون بالتي هي أحسن حتى يصلح ما فيه من المخالفة والمدافعة، والمجادلة بعلم كما أن الحكمة بعلم، وقد ذم الله تعالى من يجادل بغير علم في غير موضع من كتابه ] .

قال رحمه الله تعالى: [وأما ما يجب على أعيانهم فهذا يتنوع بتنوع قدرهم وحاجاتهم ومعرفتهم، وما أمر به أعيانهم، ولا يجب على العاجز عن سماع بعض العلم أو عن فهم دقيقه ما يجب على القادر على ذلك، ويجب على من سمع النصوص وفهمها من علم التفصيل ما لا يجب على من لم يسمعها، ويجب على المفتي والمحدث والحاكم ما لا يجب على من ليس كذلك].

ضوابط في الفرق بين الإيمان الإجمالي والإيمان التفصيلي

قد يرد تساؤل: ما الفارق بين الإيمان الإجمالي والإيمان التفصيلي؟

وقد ذكر ابن أبي العز شيئاً من الفروق جيداً، وكذلك المحقق، لكن يحسن أن نذكر ضوابط كبرى للفارق بين الإيمان الإجمالي ومتى يجب وعلى من يجب، وبين الإيمان التفصيلي ومتى يجب وعلى من يجب؟

الضابط الأول في التفريق بين الإجمال والتفصيل: أن هناك من إجماليات الدين ما لا يعذر فيه أحد، كأركان الإيمان، وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره.

فهذه الأصول بإجمال دون دخول في تفصيلاتها لا يعذر أحد في جهلها، وكل يستطيع الإدراك لها ما دام عاقلاً مميزاً، فلا بد من أن يدرك هذه الأمور على وجه الإجمال.

وفي الجوانب العملية هناك من الدين ما لا يسع جهله، كأركان الإسلام الخمسة، نعم بعضها مبني على الاستطاعة كالحج، لكن إدراكها والإيمان بأنها واجبة، وكذلك القيام بها حال الاستطاعة أمر لا يعذر فيه أحد.

فهذا القدر من الإيمان الإجمالي لا يمكن أن يتخلف عند عاقل إدراكه والعمل بما يستطيع منه.

الضابط الثاني: أن هناك ما تستطيع طائفة من المسلمين العلم به ويبلغهم علمه.

فكل من استطاع أن يأخذ علماً من العلوم الشرعية الضرورية وجب عليه أن يحصله، وعلى هذا فإن طلب العلم على وجه الإجمال واجب، يعني: يجب على المسلم أن يتعلم ضروريات دينه حتى ما يزيد على الإجماليات التي ذكرتها؛ لأن هناك أموراً تفصيلية يجب على من يستطيع تحصيلها علماً أن يحصلها.

إذاً: القاعدة الثانية: أنه يجب تحصيل العلم الشرعي على من يستطيعه بقدر استطاعته.

فالعلم علمان: علم يتعلق بالتبحر في العلم لأجل استنباط الأحكام وتعليم العلم للمسلمين ونشره والدعوة إليه، فهذا ينبغي أن تنبري له طائفة من المسلمين، ولا يجب على الجميع، فمن قامت به الكفاية كفى عن البقية.

وعلم يجب تحصيله على الجميع، وهو تحصيل الأمور الضرورية في العقيدة والأمور الضرورية في الشريعة.

الضابط الثالث: الإدراك بقدر الاستطاعة، بمعنى أنه لا يجب على كل إنسان أن يفهم أو أن يستوعب كل ما بلغه، إنما استيعابه بقدر إدراكه، فبعض الناس قد يبلغه الدليل من الآية أو الحديث لكن لا يدرك فقهه، فمن هنا لا ينبغي له أن يخبط فيه أو يتكلم بغير علم، فالإدراك العلمي والتبحر فيه لا يمكن إلا لطائفة من البشر وهبهم الله مواهب زائدة، وهم أهل الذكر، وهم الذين يستطيعون الاستنباط، أهل الفقه في الدين الذين يملكون إدراك معاني النصوص واستنباط ما يفهم منها على ضوء قواعد الاستنباط الشرعي، وكل درجة لها طائفة من الناس، فالإيمان الإجمالي الذي ذكرته لا يعذر فيه أحد، والعلم بما يمكن تحصيله من ضرورات الدين لا يعذر فيه من يستطيع التحصيل.

أما العلم التفصيلي؛ فهو الذي قد يعذر فيه بعض الناس إذا حصلت الكفاية بالآخرين، وهو التبحر في العلم بالدين.

قد يرد تساؤل: ما الفارق بين الإيمان الإجمالي والإيمان التفصيلي؟

وقد ذكر ابن أبي العز شيئاً من الفروق جيداً، وكذلك المحقق، لكن يحسن أن نذكر ضوابط كبرى للفارق بين الإيمان الإجمالي ومتى يجب وعلى من يجب، وبين الإيمان التفصيلي ومتى يجب وعلى من يجب؟

الضابط الأول في التفريق بين الإجمال والتفصيل: أن هناك من إجماليات الدين ما لا يعذر فيه أحد، كأركان الإيمان، وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره.

فهذه الأصول بإجمال دون دخول في تفصيلاتها لا يعذر أحد في جهلها، وكل يستطيع الإدراك لها ما دام عاقلاً مميزاً، فلا بد من أن يدرك هذه الأمور على وجه الإجمال.

وفي الجوانب العملية هناك من الدين ما لا يسع جهله، كأركان الإسلام الخمسة، نعم بعضها مبني على الاستطاعة كالحج، لكن إدراكها والإيمان بأنها واجبة، وكذلك القيام بها حال الاستطاعة أمر لا يعذر فيه أحد.

فهذا القدر من الإيمان الإجمالي لا يمكن أن يتخلف عند عاقل إدراكه والعمل بما يستطيع منه.

الضابط الثاني: أن هناك ما تستطيع طائفة من المسلمين العلم به ويبلغهم علمه.

فكل من استطاع أن يأخذ علماً من العلوم الشرعية الضرورية وجب عليه أن يحصله، وعلى هذا فإن طلب العلم على وجه الإجمال واجب، يعني: يجب على المسلم أن يتعلم ضروريات دينه حتى ما يزيد على الإجماليات التي ذكرتها؛ لأن هناك أموراً تفصيلية يجب على من يستطيع تحصيلها علماً أن يحصلها.

إذاً: القاعدة الثانية: أنه يجب تحصيل العلم الشرعي على من يستطيعه بقدر استطاعته.

فالعلم علمان: علم يتعلق بالتبحر في العلم لأجل استنباط الأحكام وتعليم العلم للمسلمين ونشره والدعوة إليه، فهذا ينبغي أن تنبري له طائفة من المسلمين، ولا يجب على الجميع، فمن قامت به الكفاية كفى عن البقية.

وعلم يجب تحصيله على الجميع، وهو تحصيل الأمور الضرورية في العقيدة والأمور الضرورية في الشريعة.

الضابط الثالث: الإدراك بقدر الاستطاعة، بمعنى أنه لا يجب على كل إنسان أن يفهم أو أن يستوعب كل ما بلغه، إنما استيعابه بقدر إدراكه، فبعض الناس قد يبلغه الدليل من الآية أو الحديث لكن لا يدرك فقهه، فمن هنا لا ينبغي له أن يخبط فيه أو يتكلم بغير علم، فالإدراك العلمي والتبحر فيه لا يمكن إلا لطائفة من البشر وهبهم الله مواهب زائدة، وهم أهل الذكر، وهم الذين يستطيعون الاستنباط، أهل الفقه في الدين الذين يملكون إدراك معاني النصوص واستنباط ما يفهم منها على ضوء قواعد الاستنباط الشرعي، وكل درجة لها طائفة من الناس، فالإيمان الإجمالي الذي ذكرته لا يعذر فيه أحد، والعلم بما يمكن تحصيله من ضرورات الدين لا يعذر فيه من يستطيع التحصيل.

أما العلم التفصيلي؛ فهو الذي قد يعذر فيه بعض الناس إذا حصلت الكفاية بالآخرين، وهو التبحر في العلم بالدين.

قال رحمه الله تعالى: [ وينبغي أن يعرف أن عامة من ضل في هذا الباب أو عجز فيه عن معرفة الحق فإنما هو لتفريطه في اتباع ما جاء به الرسول وترك النظر والاستدلال الموصل إلى معرفته، فلما أعرضوا عن كتاب الله ضلوا كما قال تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:123-126] ].

الجهل

مسألة التفريط مسألة جامعة لأسباب ترك ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الكلمة الجامعة يدخل تحتها في نظري أمور، أعني: التفريط في اتباع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه يدخل فيها أمور يمكن أن نعرفها باستقراء ما حدث للفرق من تفريط في الدين جملة، فمن هذه الأمور: الجهل، فالجهل هو تفريط، بل هو أول وأكثر وأعظم أبواب التفريط في الدين.

والجهل منشؤه تقصير الإنسان في طلب العلم؛ لأن الجهل جهلان: جهل القادر على التعلم، وهذا عليه أغلب الجاهلين، يعني: كل إنسان -مهما كان عنده من ضعف القدرة- لا بد له من أن يستطيع أن يعرف شيئاً من الفقه في الدين تسلم به عقيدته وتستقيم به أموره ويكون على السنة، فغالب الناس عندهم القدرة على أن يحصلوا شيئاً من الفقه في الدين ولو لم يكونوا من أهل العلم المتمكنين أو من أهل الذكر.

إذاً: الجهل هو العلة الأولى للتفريط، وهو أعظم أبواب التفريط في دين الله سبحانه وتعالى، وأول ما أتي منه المسلمون وآخر ما أتوا منه باب الجهل، والجهل مصيبة.

الإعراض المتعمد

الثاني: الإعراض المتعمد، وهو سمة من سمات الفرق، وهو من أعظم أبواب التفريط بعد الجهل، بمعنى أن كثيراً من المسلمين الذين فرطوا في الدين كان سبب تفريطهم هو الإعراض عن دين الله، الإعراض الكائن عن هوى، وهذا الإعراض يشمل إعراض القلوب وإعراض الأعمال.

أما إعراض القلوب فهو النفاق، نسأل الله العافية، وأما إعراض الأعمال فهو الفسق والفجور، فكثير من الناس يكره مظاهر الدين ويكره السنة؛ لأنه يحب الفجور والفسق، فيعرض عن دين الله إعراضاً مقصوداً متعمداً.

والإعراض أيضاً كثير، سواء في الفرق وأهل الأهواء والابتداع أو في أهل الفسق والفجور، خاصة أولئك الذين يؤثر فسقهم في الأمة، فهؤلاء الغالب فيهم النزعة إلى الإعراض المتعمد عن دين الله، كما يحصل من بعض الولاة على مدار التاريخ؛ لأن هؤلاء فسقهم يؤثر في الغالب في الأمة، وقد يشرعون له، وقد يبثون فسقهم بوسائلهم التي يملكونها، وهؤلاء قد تكون منهم طائفة إعراضها عن دين الله تعالى -أي: عن العمل بالسنن- وإعراضها عن الهدى إعراض مقصود، بل الإعراض كله مقصود، ولا يسمى إعراضاً إلا إذا كان مقصوداً.

الابتداع

الثالث من وجوه التفريط: الابتداع؛ لأن الابتداع لا يحدث إلا بتفريط في سنة، وهذه قاعدة قررها أهل العلم، بل هي مبنية على أحاديث صحيحة؛ لأن الناس لا يعملون بدعة إلا ويتركون سنة، ولا يتركون سنة إلا ويعملون بدعة، وهذه قاعدة مطردة؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل الشرع يناسب أحوال البشر، يناسب قلوبهم ويناسب جوارحهم ويناسب أوقاتهم ويناسب حياتهم كلها، بمعنى أن الشرع فصل لحياة البشر جميعاً بمختلف أشكالها وأنماطها، فإذا ترك الناس سنة احتاجوا إلى بدعة، وإذا ابتدعوا بدعة استغنوا عن سنة، وهذه قاعدة مطردة ولا بد؛ لأن هذه البدعة إما أن تشغل قلب الإنسان أو تشغل جوارحه أو تشغل القلب والجوارح، والله سبحانه وتعالى وضع من الهدى ما يشغل القلب بالخير ويسعده، ووضع من الهدى ما يشغل الجوارح بالخير ويسعدها، فإذا ابتدع الناس بدعة نزعت منهم سنة؛ لأن هدي الإسلام كالنسيج المحكم تماماً إذا رفعت منه خيطاً اختل بعض النسيج، وإذا أضفت له خيطاً زائداً اختل النسيج، فكذا البدع تفعل بالسنة وتفعل بالناس، فالناس إذا ابتدعوا بدعة فلا بد من أن تنتزع منهم سنة من وجه آخر، سواء أكانت البدعة قلبية أم كانت عملية، وكذلك إذا تركوا سنة فلا بد من أن ينشغلوا ببدعة بمجموعهم وليس بأفرادهم، فقد لا ينطبق ذلك على بعض الأفراد، أما المجموع فلا بد من أن يكون هذا هو حالهم.

الأهواء وعدم التسليم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم

الرابع من وجوه التفريط: الأهواء.

ومن وجوهه أيضاً: عدم التسليم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم التسليم أحياناً يكون نظرياً وأحياناً يكون عملياً وأحياناً يجمع بين الأمرين، بمعنى أن عدم التسليم أحياناً يكون في القلب، فيفرط الإنسان فيما جاء عن الله؛ لأنه لم يسلم بذلك اعتقاداً، فيفرط الإنسان ببعض السنة لعدم تسليمه بذلك، كما نجد من الناس من يشكك في بعض السنن الثابتة، فهذا يختل تسليمه ولو كانت سنناً يسيرة، كالسواك مثلاً، حيث يأتي الإنسان يجادل في أن السواك لم يثبت في السنة، أو يتعلل بأي تعليلات فينفي سنة السواك، فمن فعل هذا فقد اختل تسليمه للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يصدق.

فاختلال التسليم قد يكون في القلب بعدم التصديق، وقد يكون في العمل، وقد يشمل الأمرين وكذلك من آمن بسنة ولم يعمل بها وهو قادر عليها اختل تسليمه، مثل إنسان قال: أنا مقر للرسول صلى الله عليه وسلم ومصدق له بأن الصلاة مفروضة. ولكنَّه لا يصلي ولا يؤدي الصلاة، فهل يصح تسليمه؟! هذا تسليمه نظري ولا ينفعه تسليمه هذا، فهذا مفرط؛ لأنه أخل بالتسليم، إذاً: الإخلال بالتسليم يشمل أمرين: يشمل الإخلال بالتلقي والاستدلال، ويشمل الإخلال بالعمل والاعتقاد، ومعنى الإخلال بالتلقي والاستدلال أن يتلقى الإنسان دينه من غير مصادره الشرعية، من غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه السلف، يتلقى الدين بمشربه هو، فقد يكون -مثلاً- متصوفاً فيفرط في الدين بأن يتلقى الدين عن المنامات أو عن أقوال الرجال، أو عما يسمى بالكشف أو الذوق، فهذا فرط في دين الله.

وقد يكون من خلل التلقي التعويل على العقل وعلى الأهواء، وهذا -مع الأسف- كثر في هذا الزمن بشكل مزعج، حيث نجد أناساً قد يكون بعضهم محسوباً من أهل الخير ومحسوباً من الدعاة والمثقفين والمفكرين، فإذا بدأ يتكلم في أمور الدين وأصوله وقضاياه بدأ يتكلم بنزعته هو، ولا يعول على النصوص ولا على أقوال السلف، بل ربما يتنكب لأقوال السلف، فهذا يعتبر مفرطاً في دين الله؛ لأنه اختل منهج التلقي عنده، حيث تلقى دينه من مزاجه.

مسألة التفريط مسألة جامعة لأسباب ترك ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الكلمة الجامعة يدخل تحتها في نظري أمور، أعني: التفريط في اتباع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه يدخل فيها أمور يمكن أن نعرفها باستقراء ما حدث للفرق من تفريط في الدين جملة، فمن هذه الأمور: الجهل، فالجهل هو تفريط، بل هو أول وأكثر وأعظم أبواب التفريط في الدين.

والجهل منشؤه تقصير الإنسان في طلب العلم؛ لأن الجهل جهلان: جهل القادر على التعلم، وهذا عليه أغلب الجاهلين، يعني: كل إنسان -مهما كان عنده من ضعف القدرة- لا بد له من أن يستطيع أن يعرف شيئاً من الفقه في الدين تسلم به عقيدته وتستقيم به أموره ويكون على السنة، فغالب الناس عندهم القدرة على أن يحصلوا شيئاً من الفقه في الدين ولو لم يكونوا من أهل العلم المتمكنين أو من أهل الذكر.

إذاً: الجهل هو العلة الأولى للتفريط، وهو أعظم أبواب التفريط في دين الله سبحانه وتعالى، وأول ما أتي منه المسلمون وآخر ما أتوا منه باب الجهل، والجهل مصيبة.

الثاني: الإعراض المتعمد، وهو سمة من سمات الفرق، وهو من أعظم أبواب التفريط بعد الجهل، بمعنى أن كثيراً من المسلمين الذين فرطوا في الدين كان سبب تفريطهم هو الإعراض عن دين الله، الإعراض الكائن عن هوى، وهذا الإعراض يشمل إعراض القلوب وإعراض الأعمال.

أما إعراض القلوب فهو النفاق، نسأل الله العافية، وأما إعراض الأعمال فهو الفسق والفجور، فكثير من الناس يكره مظاهر الدين ويكره السنة؛ لأنه يحب الفجور والفسق، فيعرض عن دين الله إعراضاً مقصوداً متعمداً.

والإعراض أيضاً كثير، سواء في الفرق وأهل الأهواء والابتداع أو في أهل الفسق والفجور، خاصة أولئك الذين يؤثر فسقهم في الأمة، فهؤلاء الغالب فيهم النزعة إلى الإعراض المتعمد عن دين الله، كما يحصل من بعض الولاة على مدار التاريخ؛ لأن هؤلاء فسقهم يؤثر في الغالب في الأمة، وقد يشرعون له، وقد يبثون فسقهم بوسائلهم التي يملكونها، وهؤلاء قد تكون منهم طائفة إعراضها عن دين الله تعالى -أي: عن العمل بالسنن- وإعراضها عن الهدى إعراض مقصود، بل الإعراض كله مقصود، ولا يسمى إعراضاً إلا إذا كان مقصوداً.




استمع المزيد من الشيخ ناصر العقل - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العقيدة الطحاوية [68] 3359 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [43] 3123 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [64] 3033 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [19] 2992 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [31] 2857 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [23] 2849 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [45] 2832 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [80] 2793 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [92] 2785 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [95] 2758 استماع