دعاوى الاتجاهات العقلانية المعاصرة حول عقيدة السلف


الحلقة مفرغة

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم

مشاهدينا الكرام! أهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من برنامجكم: حراسة العقيدة.

إن دعاوى المناوئين لعقيدة السلف تحتاج منا وقفة جادة، نرى العقلانيين يلقون التهم جزافاً على عقيدة السلف مثلاً، وفي هذا اللقاء بإذن الله تعالى نحاول أن نجيب على عدد من دعاوى العقلانيين لعقيدة السلف أهل السنة والجماعة.

فهل عقيدة السلف عبارة عن ردود أفعال ونتيجة صراعات تاريخية؟ هل السلف يتساهلون في تكفير المخالفين؟ وهل تراث السلف ظلامياً كما يدّعون ويكرسون ثقافة الكراهية والعدائية؟ ما موقف السلف من أهل البيت؟ وما حقيقة وصفهم بالناصبة والجبرية مثلاً؟

(دعاوى الاتجاهات العقلانية المعاصرة حول عقيدة السلف الصالح) هو موضوعنا لهذه الليلة مع فضيلة الشيخ الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

مرحباً بكم شيخ ناصر .

الشيخ: أهلاً بك أستاذ تركي وبالمشاهدين.

المقدم: كما أرحب بكم مشاهدينا الكرام مرة أخرى، وأسعد بتواصلكم وأسئلتكم على أرقام البرنامج.

شيخ ناصر كما ذكرنا في مقدمة الموضوع أن هناك دعاوى، وفي الحلقات السابقة تحدثنا أيضاً عن دعاوى أخرى اتهم بها المناوئون وبالأخص العقلانيون عقيدة السلف أهل السنة والجماعة.

فهناك أحداث تاريخية مرت على الأمة منذ عهد النبي عليه الصلاة والسلام إلى هذا العصر، وهذه الأحداث التاريخية منهم من قال: إن عقيدة السلف تأثرت بهذه الأحداث التاريخية التي تتابعت على الأمة، هل هذه الدعوى صحيحة؟

الشيخ: على أي حال هذه دعوى ليست جديدة، بل هي امتداد لدعاوى المنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يشكون في مصادر الدين، وفي مصداقية الدين، بل كانوا يشكون أيضاً في عز الإسلام ونصره، وكانوا يشككون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويسخرون منه وبالمؤمنين، لكن تختلف المصطلحات وتختلف الشعارات من عصر إلى عصر، فكثير من أصحاب الاتجاهات العقلانية والنزعات العلمانية والليبرالية وغيرهم في هذا العصر يثيرون قضايا كبرى على عقيدة السلف، ومنها ما تفضلت به: من أن كثيراً من عقيدة السلف كانت نتيجة صراعات وردود أفعال وانطباعات عن أحداث تاريخية.. ونحو ذلك، وهذه كلها دعاوى عارية من الصحة، ولا تصمد أمام البحث العلمي الصحيح لعدة اعتبارات:

أولاً: عقيدة السلف ليست من صنع أحد منهم ولا من غيرهم، عقيدة السلف إنما هي امتداد للوحي المعصوم من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وسبيل المؤمنين الذين ضمن الله لهم بقاء الإجماع: (لا تجتمع أُمتي على ضلالة) ولعل مثل هذا يتضح بالأمثلة على وجه سريع.

فمثلاً: اعتبر العقلانيون ما قرره السلف من حقوق الصحابة ومراتبهم وآل البيت وحقوقهم من الإضافات، ثم اعتبروا اعتقاد شرعية خلافة معاوية رضي الله عنه من الإضافات، وهذا نوع من الخنوع والخضوع والعمالة للسلاطين، ثم اعتبروا أيضاً شرعية خلافة بني أمية، وأيضاً بني العباس بعدهم من جهة السمع والطاعة لهم بالمعروف اعتبروا هذه الأمور من الإضافات، واعتبروها أيضاً نوعاً من الخنوع وما يسمى بالمجاملة أو المداهنة أحياناً للسلاطين، ثم أضافوا أيضاً أشياء في صميم العقيدة، فزعموا مثلاً: أن ما وقفه السلف في منهجهم تجاه المخالف وتجاه البدع والأهواء أنه نوع من ردود أفعال، وأنهم أضافوه إلى الدين وليس من الدين، في حين أنه من ثوابت الدين، كذلك على سبيل التمثيل في المسائل العقدية: زعموا أن القول بأن القرآن كلام الله منزّل غير مخلوق من الإضافات، وزعموا أيضاً أن ما نسميه بالتزام منهج السلف واحترام سبيل المؤمنين أنه نوع من الإضافات، والسنة والجماعة التي هي مسمى أهل الحق الذين بقوا على أصل الدين، زعموا أن هذه من الإضافات.. وهكذا.

المقدم: يبدو أن هناك إشكالاً عندهم ما بين التفصيل في هذه المسائل والتعمق فيها، ورد الشبهات على المخالفين، وبين أصل المسألة، وأن هذه المسألة أصلاً نابعة من قول الله تعالى أو من قول النبي عليه الصلاة والسلام؟

الشيخ: على أي حال هي إشكالات متعددة، قد يكون ما ذكرته، وقد تكون هذه الأمور نوعاً من الهروب من التزام الحق الذي لا محيد عنه، وأيضاً هو أسلوب الانتقائية الذي يزعمون أنهم يعيبون خصومهم عليه، فالانتقائية في اختيار الجوانب ملبسة على اعتبار أنها منهج السلف، مع أن هذه الجوانب في حقيقتها ليست ملبسة، لكن هم يجهلون أصول تقرير الحق، فلعل المنزع الأساسي عندهم يأتي من جهتين:

النزعة الأولى: من جهة الجهل وهو الغالب، فهم عندما يقرءون يجدون مثلاً: أن السلف ما تكلموا بأن القرآن كلام الله منزّل غير مخلوق إلا في القرن الثاني والثالث، وظنوا أن هذه إضافة وهي ليست إضافة، بل هي تقرير لحق موجود في الكتاب والسنة (قواطع النصوص)، وإنما جاء الكلام فيه وظهر عندما ظهر المعارض.

وأيضاً عندما تكلموا في شرعية خلافة معاوية بعد الخلافة الراشدة ظن هؤلاء أن هذا مبني على تعويد الأمة على أن تُجبر على الطاعة لجمع شملها على وال واحد، وأن السلف اخترعوا قضية خلافة معاوية بناء على حب جمع الشمل.. إلى آخره، بينما هو أصل شرعي في طاعة من ولاه الله أمر المسلمين، ولذلك اعتبروا هم مبدأ السمع والطاعة لولاة الأمر من الإضافات، وعدم جواز الخروج على ولاة الأمر من الإضافات، والمناصحة لولاة الأمور من الإضافات، كل هذا مبني على النزعة الأولى -كما قلت- وهي الجهل.

النزعة الثانية: مبنية على أن مصادرهم ليست المصادر النقلية، مصادر هؤلاء غالباً هي كتب التاريخ، أو كتابات المستشرقين، أو الانطباعات الشخصية حول أحداث معينة، فتجد الواحد منهم يقف عند حدث ويسيطر عليه الحدث حتى يفسّر التاريخ به، فمن هنا أقول: إن نزعة هذا التوجه مختلفة المشارب، لكنهم يجتمعون؛ لأن هذه وسائل لتحطيم العقيدة في قلوب الأجيال.

المقدم: لكن قد يقولون: إن هناك مسائل فقهية ليس لها اتصال بالعقيدة، أدخلت في العقيدة وتُدرس في كتب العقيدة، والمؤلفون يتحدثون عنها، مثلاً: مسألة المسح على الخفين مسألة فقهية، ومع ذلك أُدرجت في مسائل العقيدة، هل هذا يُعتبر من الإضافات في العقيدة؟

الشيخ: هذا أيضاً يُعتبر من جهلهم في التأصيل، والسلف عندما يدرجون قضية من قضايا الفقه في العقيدة إنما هو نتيجة ضرورة حماية الأدلة والأحكام الضرورية، وإلا فباب المسح على الخفين هو كتب الأحكام، لكن لما وجدت فرق تمسح على الرجلين دون الجوربين وتُنكر المسح على الجوربين، في حين أنها ثبتت في أحاديث صحيحة، فمن هنا هؤلاء أنكروا أمراً قطعياً من الدين، وأي قطعي من الدين فهو من العقيدة، فلما كابرت بعض الفرق وأنكرت المسح على الخفين أدرجه السلف كنموذج لإثبات الثوابت من الأحكام التي خالفها المخالفون في كتب العقائد.

المقدم: وهل يختلف عرض الفقهاء عن أهل العقيدة في هذه المسألة؟

الشيخ: قد يختلف، فالفقهاء يتكلمون عن الدليل واستنتاج الأحكام من الدليل، وصفة المسح ووقته وشروطه إلى آخره، لكن علماء العقيدة وهم أيضاً فقهاء أدرجوه في أبواب العقيدة؛ لإثبات أن هذا أصل من الأصول القطعية في الدين، بغض النظر عن تفاصيل أحكامه.

المقدم: ألا يمكن أن تمر فترة على الأمة من حدث أو موقف أو مصيبة أو مشكلة عامة على الأمة، فيحتاج فيها الناس إلى تأصيل مسألة بعينها، حتى إنها تبرز على أن القول فيها هو قول أهل السنة، فمثلاً: مسألة خلق القرآن وقول الإمام أحمد فيها؟

الشيخ: على أي حال كلما جدد أهل الباطل أصلاً في باطلهم على نمط وعلى منهج لم يكن قد سبق الكلام فيه كان من الضروري تأصيل الحق في هذا الأمر، ورد الباطل على ضوء الكتاب والسنة، فمن هنا قد يحدث للناس مصطلح لم يكن شائعاً ولا مشهوراً، فكما تفضلت حين تطاول أهل الكلام والفلسفة على كلام الله عز وجل وأنكروه، ثم أنكروا أن يكون القرآن هو كلام الله، وهذا من الأصول القطعية في الدين، ولم يكن يتحدث عنه الناس في عهد الصحابة والتابعين إلا على جهة الإجمال، فلما تكلم فيه أهل البدع من المتكلمين وغيرهم والفلاسفة على النحو البدعي الذي ذكروه، وهو زعمهم أن القرآن مخلوق فهذه بدعة جديدة، حين حدثت اضطر السلف الذين جعلهم الله عز وجل حماة الدين أن يقرروا الحق الذي يرد هذا الباطل بمصطلح يتناسب مع دعواهم وطرحهم في الساحة، وهكذا وإلى يومنا هذا نحتاج في رد بعض الباطل الذي يقوله أهل الباطل إلى تأصيل وتقرير على ضوء قواعد الشرع، على ضوء العقيدة وأصولها وثوابتها، وعلى ضوء منهج السلف.

المقدم: إذاً: قد تكون هناك فترة من الفترات أولوية أن تبرز عقيدة معينة وتؤصّل وتناقش دون غيرها من العقائد التي لا تثار عند المخالفين، مثلاً: ألا يكون هذا دليلاً على أن عقيدة السلف في أصلها لا تتأثر، إنما قد يكون هناك في فترة من الفترات تركيز على قضية معينة؛ لأجل إبرازها وتوضيح العقيدة الصحيحة للناس، ودرء قول المخالفين؟

الشيخ: هذا دليل على شمولية الدين وكماله، وأنه كلما أحدث الناس باطلاً أو بدعة أو شبهة وجدنا في مقتضى قطعيات النصوص وثوابت السلف ما ينفي هذا الباطل، فمثلاً: الكلام عن العلمانية كاتجاه معارض للدين كلام جديد، لكنه مبني على أصل من الكتاب والسنة، وعلى الحكم بما أنزل الله.

فإذاً: كلما استجدت عند الناس مصطلحات ومفاهيم خاطئة لابد من رد هذه المصطلحات والمفاهيم على ضوء القواعد والقطعيات والمسلمات والثوابت، تبقى في هذه الأمور مسائل خلافية بجزئيتها، لكن نحن نتكلم عن الأصول والثوابت، فكلما أحدث الناس أمراً من الأمور يعارض أصلاً من الأصول والثوابت في الدين، فلا بد أن ينبري من أهل الحق، من يدافع عن الحق ويقرر الحق في هذه المسألة على ضوء ما قاله السلف إلى قيام الساعة.

المقدم: أيضاً هناك دعوى أخرى نسمعها بين الحين والآخر، والتي تُنسب لمذهب أهل السنة والجماعة ومنهج السلف بصفة عامة، يقولون: إن السلف يتساهلون في تكفير المخالفين. يعني: أي مخالف يخرج عن قولهم برأي معين يُخرجونه من الملة، هل هذه الدعوى صحيحة؟

الشيخ: على أي حال هذه دعوى عريضة وكبيرة، وتثار اليوم على نحو غريب ومريب، وقد أثيرت تقريباً في العصور المتأخرة مع نشأة دعوة الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، فقد اتهمت هذه الدعوة وإلى يومنا هذا بأنها تقوم على التكفير، وهذا باطل، وهذه مسألة كبيرة جداً، لكن لعلي أُذكّر ببعض أصولها لنعرّي هذه الدعوى الكاذبة والبهتان على السلف من أنهم يكفّرون، فالسلف لا يكفّرون بمعنى التكفير المذموم، لكنهم يقولون حكم الله عز وجل.

فمن هنا أُذكّر ببعض الأصول بإيجاز:

أولاً: التكفير حكم من أحكام الله عز وجل، ليس إلى البشر، وأحكام الله عز وجل منها القطعي ومنها الاجتهادي الذي يرجع إلى اجتهادات العلماء، ومن القطعيات في التكفير: أن الله عز وجل كفّر أهل الكفر الخالص، أهل الكتاب حينما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وغيّروا وبدّلوا، ثم المشركين من باب أولى، وأهل النفاق الخالص، وأهل الردة، والملاحدة، وكل من لم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فهو كافر بحكم الله، ولم يكن هذا نتيجة صراعات أو ردود أفعال إنما هو حكم الله الثابت، فمن كفّره الله وكفّره رسوله صلى الله عليه وسلم نكفّره إما بعينه وإما بنوعه، العين مثل: تكفير الله لفرعون وأبي جهل وصناديد قريش الذين ورد ذكرهم بأسمائهم، فهؤلاء لا بد أن نكفّرهم بأعيانهم؛ لأن الله كفّرهم، كذلك الأنواع التي كُفّرت: أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، والمشركين، والملاحدة.. إلى غير ذلك.

إذاً: التكفير حكم قطعي لا خيار لنا فيه، ولم يأت به السلف من عند أنفسهم.

المقدم: من يأتي ويقول: لا يُحكم على النصراني إذا مات أنه كافر من أهل النار؟

الشيخ: هذا في الحقيقة فيه تلبيس وخلط، فنحن لم نُتعبد بالكلام عن المعين مُطلقاً، لكن حكم الله نقوله، فأي إنسان يموت على غير شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أو يموت على ناقض للشهادتين، بما في ذلك اليهودي والنصراني فالأصل فيه أنه كافر خالص من أهل النار مخلّد، نقول: هذا الأصل، لكن عندما نتحدث عن المعين لا نتألى على الله، ولا ندري عن فرد ما من الأفراد على أي حال مات، يبدّل الله من الأحوال ما يشاء، فمن هنا الكلام على المعيّن بعينه بالجزم سواء من أهل القبلة وهو الأخص -يعني من المسلمين- بكفره وبجنة أو نار، أو الجزم على معين حتى لو لم يكن مسلماً، يكون الحديث في هذه المسألة نوعاً من الإثم والبدعة؛ لأننا لم نُتعبد به، لكن بالإجمال نُطلق ما أطلقه الله، ونحكم بما حكم الله به.

إذاً: الأصل فيمن لم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله أنه كافر، وهذا حكم الله وليس من عندنا، والسلف حينما أطلقوا هذه الإطلاقات إنما حكموا بحكم الله، لكن الإشكال في أهل القبلة، فيمن الأصل فيه أنه مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهذا هو الذي تكفيره بعينه يحتاط فيه السلف، ولم أر أكثر احتياطاً من سلف الأمة وعلمائها من تكفير المعين، سواء كان فئة أو جماعة أو فرقة أو شخصاً إلى يومنا هذا، إنما الذين يجازفون في التكفير هم بعض أهل الغلو والجهلة من المسلمين، ومن الذين أحياناً قد ينتسبون للسنة والجماعة، وهذه تجاوزات ليست على المنهج.

أيضاً هناك مسألة مهمة: فرق بين الحكم بالكفر والردة على عمل معين وقول واعتقاد، وبين من يفعل ويقول ويعتقد.

أعني: أن كثيراً من الأحكام قال فيها السلف: إنها كفر، مثل: سب الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل: سب المؤمنين والاستهزاء بالمؤمنين وبالدين، ومثل: ترك الصلاة، وإن كان ترك الصلاة فيه نصوص قطعية، قد يكون لا يصلح مثالاً للخلاف عليه، مثل أيضاً: الكلام في بعض المعاصي التي هي كفريات، أو حتى ارتكاب كفريات خالصة مثل: مظاهرة المشركين، فمثل هذه الأمور يجب أن نفرِّق بين الفعل وبين الفاعل، فالسلف كانوا في الأمور التي يظهر أنها كفر بوضوح سواء كانت اعتقادات أو أقوالاً أو أفعالاً أو أحوالاً يقولون: إنها كفر إذا تثبّتوا منها وتبين لهم الحال، لكنهم لا يكفّرون المعيّن الفاعل، حتى وإن فعل كفراً صريحاً بواحاً لا يتسرعون بتكفيره حتى تنطبق عليه الشروط وتنتفي الموانع، وهذه معضلة، فبعض الشباب الغيور المتدين اليوم جنحوا إلى التكفير، ووقعوا في مسالك الغلو ومسالك استباحة الدماء والإخلال بالأمن، فهؤلاء أُتوا من حيث أنهم لم يفرقوا بين الحكم على فعل معين أو قول وبين المُعيّن، ولم يتركوا الأمر لأهله كما أمر الله عز وجل وهم العلماء، أولاً: العلماء لا بد أن يتثبتوا من كل قول أو فعل.

الأمر الثاني: لو ثبت كما هو حال كثير من المسلمين اليوم من فئة أو دولة أو جماعة أو فرقة أو شخص أنه وقع في أمر كفري خالص، فإنه لا يُكفّر حتى تنتفي الموانع وتتوافر الشروط.

المقدم: من يحق له التكفير؟

الشيخ: العالم الراسخ الذي يستطيع أن يتبين ويتثبت، فالتكفير ليس في ذمة جميع الناس ولا أكثرهم، ولا حتى طلاب العلم ولا كثير من العلماء، فالتكفير أمر خطير هو حكم الله يجب ألا يقال حتى يثبت.

وكثير من الأحوال الكفرية التي يقع فيها المسلمون لا يُكفّرون بأعيانهم؛ لأن الإكراه وارد، والتأول وارد، والاشتباه وارد، والجهل وارد، لا سيما في هذا العصر، فبعض المُكفّرة هداهم الله الذين يلومون العلماء في عدم الاستعجال في التكفير يقولون: الأمر بيّن ظاهر هذا كفر، نقول: حتى ولو كان كفراً، يقولون: هذا إنسان مجاهر نراه فعل وفعل، أو هذه الفرقة الفلانية تعمل الكفر الظاهر، نقول: ولو كانوا، فالحكم على المعين والأعيان يحتاج إلى شيء من التثبت؛ لأنه حكم الله، ثم يترتب على الحكم بالتكفير إجراء وحدود ليست إلى عامة الناس.

فمن هنا ما دمت ذكرت وصف السلف بأنهم مُكفِّرة، وفي الحقيقة هذه جناية وبهتان، بل العجيب -وأنا أشرت إلى هذا في حلقة ماضية- أنه إذا تأملنا إلى كبار أئمة السلف وكبار العلماء إلى يومنا هذا نجدهم أشد تهيباً في التكفير ممن دونهم من العلماء وطلاب العلم.

المقدم: نجد أن مسألة التكفير قد يكون فيها شيء من النسبية، فهناك غلاة يكفّرون المعين بالشبهة أحياناً، يتساهلون في هذا الأمر، وهناك أهل إرجاء لا يرون التكفير أصلاً، خاصة تكفير أهل القبلة ونحو ذلك لا جملة ولا تفصيلاً، لذلك السلف حين يقررون هذه المسألة ويقولون: يُكفَّر المعين إذا توافرت فيه الشروط وانتفت الموانع.

والتكفير هو خاص لأهل العلم، تجد أن أولئك الذين لا يكفرون يقولون: أنتم تكفرون بهذا الاعتبار، هل هذا الاعتبار مبني على أصول شرعية، أم أن هذا الاعتبار الذي اتهموا به السلف هو من اجتهادات السلف المحض؟

الشيخ: على أي حال بهذه التوجهات المتضادة يتبين الحق والاعتدال، وما أرجفت به الاتجاهات العقلانية وبعض العلمانيين وبعض الليبراليين من اتهام المشايخ والعلماء والمتدينين بأنهم أصل التكفير، وأن منهج السلف وأئمة الدعوة المعاصرة أو دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي يسمونها الوهابية أنها هي أصل التكفير هذا بهتان، وعري عن أي دليل ولا حتى شبهة؛ لأنهم حينما يرون تكفير الكافر الذي كفّره الله يزعمون أن هذا ينسحب على بقية الخلق، وهذا جهل منهم أو تجاهل.

وحقيقة أن منهج أهل السنة والجماعة هو المنهج الحق الذي به يُعالج التكفير في مثل هذا العصر، فلو أن أصحاب هذه الاتجاهات بدل ما يضربون الأمة بعضها ببعض، ويلصقون التهم على العلماء في أنهم يكفّرون، لو أنهم انتزعوا الأحكام من عند العلماء في هذا التكفير ونشروها لقاموا بجهد عظيم، وأراحوا الأمة من مثل هذه الدوامة التي بها يكون الاتهام الجزاف.

أكرر مرة أخرى لخطورة الأمر: إن اتهام منهج السلف وعلماء السلف، وعلمائنا اليوم، ومناهجنا، وما نقوم عليه من أصول الحق التي ندرسها وندرّسها أجيالنا بأنها هي أصل التكفير هذا بهتان عظيم، والواقع خلاف ذلك، ولو أخذ الأمر بالتجرد والموضوعية والتقصي بالأرقام والإحصائيات لوجدوا أنهم بعيدون عن الحقيقة، وأن المنهج المعتدل هو منهج السلف التي تقوم عليه بلادنا بحمد الله، وتقوم عليه مناهجنا، وأنها هي العلاج للتكفير في العالم لو طُّبقت على الوجه الصحيح.

المقدم: أيضاً من الدعاوى التي تُسمع أحياناً وصف السلف بالناصبة، لذلك نود أن نتعرف على الموقف الصحيح للسلف من أهل البيت رضوان الله عليهم، بالمقابل نريد أن نعرف أصل هذه الدعوى: هل أهل السنة والجماعة والسلف الصالح يُناصبون العداء لأهل البيت؟

الشيخ: على أي حال هذه الدعوى قديمة وجديدة إلى الآن تقال، ولما ظهرت طائفة من الأمة وفارقت الجماعة تغلو في آل البيت وتنزع إلى تقديسهم، وهي سمة موروثة من بعض الأمم القديمة، فالإسلام قام على أمم تحمل كثيراً من الاعتقادات والتقاليد الموروثة، ومن ضمنها بعض الدول الشرقية، مثل: دولة فارس وما حولها، كانت تحمل من ضمن عقائدها تقديس الملوك وتقديس علماء الدين، وتقديس أسر معينة، ويرون أنها تجري فيهم دماء القداسة والإلهية ووراثة النور والنبوة.. هكذا زعموا فلما انتقلت هذه الأمم إلى الإسلام عن جهل، وُجِدَ من صُنّاع الافتراق مثل: ابن سبأ من بذر بذرة تقديس طائفة من المسلمين؛ لتكون مناسبة للموروث الفارسي المجوسي، فبذر نزعة تقديس آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فمن هنا ظهرت طائفة تغلو في آل البيت بدرجات، منهم من يصل إلى حد الغلو الخفيف الذي هو تفضيل آل البيت على بقية الصحابة، وأعني: أئمة آل البيت على أبي بكر وعمر ، مع أن لهم شيئاً من الفضل، لكن ليس فضلاً مطلقاً.

وطائفة أخرى صارت تسب بعض الصحابة من أجل ترسيخ تقديس آل البيت.

وطائفة ثالثة صارت تقدسهم إلى حد أنها تعتقد لهم بعض خصائص الربوبية أو كل خصائص الربوبية، فقد زعموا أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلههم وربهم في ذلك الوقت، وحرّقهم بالنار، لكن بقيت لهم أسلاف، ولكل قوم وارث، ولذلك لما حرقهم بالنار قالوا: لا يحرق بالنار إلا رب النار.

فالمهم هنا نشأت نزعة القديس، وجعلت من لم يسلك مسلك التقديس لآل البيت عدواً لهم، وهذه النزعة متطرفة أحدثت أقوالاً متطرفة كما هو معلوم، فالسلف رحمهم الله ابتداء من الصحابة حفظوا حقوق آل البيت التي أمر الله بها وأمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يزالون يحفظون لهم حقوقهم ويقدرونهم، وإن كان قد يوجد شيء من التقصير في الممارسات هذا أمر آخر؛ لأن بعض أهل الأهواء يستغل وجود بعض الجفاء ممن ينتسبون إلى السنة والجماعة مع آل البيت وعدم اعتبار قدرهم، وهذا الجفاء قد يكون أيضاً نتيجة رد فعل غير مباشر، لكن ليس منهجاً ولا ديناً، فالدين الذي ندين الله به أن لآل البيت حقاً خاصاً؛ ولذلك نصلي عليهم مع النبي صلى الله عليه وسلم دون بقية الصحابة، ونقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وهذه من واجبات الصلاة عندنا، ونكررها خمس مرات في اليوم وأكثر، والسلف حفظوا لآل البيت حقوقهم، ويقررون هذا في كتبهم، فلو جاء مدع وقال: أنتم لا تفعلون، فتشهد لنا كتبنا -كتب السلف- إلى يومنا هذا، فما من كتاب شامل في العقيدة إلا ويؤسس حقوق آل البيت.