خطب ومحاضرات
فوائد جامع الأصول
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
هاهنا أسئلة منوعة؛ لكن أحببت أن أجيب عليها أو على بعضها، وإن كنت لا أفضل الإجابة على الأسئلة الفقهية، لأن الدرس نفسه يتعلق بالفقه:
السبيل لتحسين الخلق الجِبِلِّي
الجواب: السبيل لتحسين الخلق الذي طبع عليه الإنسان كالتالي:
أما إن كان الخلق الذي طبع عليه الإنسان حسناً، فهذا من توفيق الله للعبد أن طبعه على الخِلال التي يحبها الله تعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم لـأشج عبد القيس: {إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة} وفي بعض الطرق أنه قال: {هل هما مما جبلت عليه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم، إنهما مما جبلت عليه، فقال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحبه الله ورسوله} فمن توفيق الله للعبد أن يجبله على الخلال التي يحب، فإذا وجدت في نفسك خصالاً حميدة -وكل إنسانٍ لا بد أن يكون قد جُبل على بعض الخصال الحميدة- فعليك أن تحرص على تنمية هذه الخصال الحميدة، وتعاهدها بالسقي والرعاية حتى تكبر ويزداد انتفاعك بها، فقد تجد في نفسك أن الله جبلك على الإحسان إلى الخلق، وحب الإحسان، فوسّع وعمّق هذا الخُلق بأن تكثر من الإحسان، وأكثر من قراءة الأحاديث والآثار الواردة في ذلك، واسْع في سبُل الإحسان إلى الخلق، حتى يتعاظم هذا الخُلق الحسن عندك ويكبر، ويكون فعله بنيةٍ واحتساب، وتؤجر عليه أشد الأجر، وحتى يغطي هذا الخلق الحسن على ما قد يوجد في نفسك من بعض الأخلاق الذميمة التي ربما تكون قد جبلت عليها.
ولذلك أنتقل إلى النقطة الثانية: وهي ما إذا جبل الإنسان على خِلالٍ مذمومة، كالبخل، أو الجبن وغير ذلك، فما هو السبيل إلى تحسين هذه الخلال المذمومة، أو إزالتها؟ نقول:
أولاً: السبيل هو ما سبق، فعليك أن تنظر إلى الخلال الطيبة التي طبعت وجبلت عليها فاعمل على تنميتها، لأن الإنسان مثل الإناء إذا وضع فيه مادة طيبة، طردت المادة السيئة، ولو أن عندك أناءً فيه خمرٌ، فوضعت في هذا الإناء مادة أخرى، فإنها تزاحم هذا الخمر حتى تزيلَه إما إزالةً كلية أو إزالةً جزئية، وبقدر قوة المادة الطيبة تزول المادة السيئة، فكذلك الأخلاق في النفس؛ إذا ربى الإنسان في نفسه مكارم الأخلاق قضت وغطَّت على الأخلاق السيئة، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: [[إن الإنسان قد يوجد فيه خلقٌ واحدٌ سيئ، وتسعة أخلاقٍ حميدة، فيغلب الخلق السيئ الأخلاق الحميدة]] كما رواه مالك والبيهقي وغيرهما وسنده صحيح.
إذاً يغلبها إذا تهاون الإنسان في تنميتها؛ لكن إذا نمى الإنسان الأخلاق الحميدة غلبت على الأخلاق السيئة.
الوسيلة الثانية: هي المجاهدة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد المتفق عليه: {من يتصبر يصبره الله، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله} إذاً الصبر خلقٌ حسن، وقد يكون الإنسان طبع على العجلة، وعدم الصبر، فبالتصبر وتكلف الصبر يعتاد الإنسان هذا الأمر حتى يصبح سجيةً وخلقاً وديدناً له، وكذلك العفَّة: فالتعفف عن المال الحرام وعن المال المشتبه، وعن المكاسب الرديئة، فقد يكون عند الإنسان رغبة في المال ونهم؛ لكن إذا عود نفسه على ألا يأكل إلا الحلال، وعلى الانكفاف عن هذه الأشياء والتعفف عنها رزقه الله تعالى العفة.
وكذلك الحِلْمُ: فالحِلَمُ بالتحلم، والعِلْمُ بالتعلم، فإذا عود الإنسان نفسه وجاهدها على الحِلْمُ، فإنه يرزق ذلك، فلا بد من مجاهدةِ النفس، وتكلف هذه الأخلاق حتى تصبح سجية.
ومن الوسائل المفيدة في ذلك: مراقبة النفس ومحاسبتها، وأعرف بعض الشباب جبلوا على أخلاقٍ ذميمة، واستطاعوا بعون الله وتوفيقه أن يتخلصوا من كثيرٍ منها ويهذبوها وإن لم تزل بالكلية، وذلك عن طريق كثرة المراقبة والمحاسبة، وإذا خلوت بنفسك تذَّكر المواقف السيئة التي حصلت لك، ثم تذكر الموقف السليم الذي كان يجب أن تفعله، وصبِّر نفسك على هذا الموقف، وبطبيعة الحال الخلق لا يزول في يومٍ وليلة، أو بمرةٍ أو مرتين، فالإنسان الذي عنده عجلة وجزع وعدم صبر لا يحظى من ذلك بشيءٍ كثير، حتى يعود نفسه على الصبر وطول النفس.
ومن الوسائل المفيدة في ذلك: أن تطلب من بعض جلسائك وخاصتك أن ينبهوك باستمرار على ما يلاحظون عليك من الأخلاق الذميمة، وعلى الأقل اجعل لك صفياً تشارطه على أن ينصح لك وتنصح له، فإذا وجدت عليه عيباً بيَّنته له، وإذا وجد عليك عيباً بينه لك، وهذا ينفعك كثيراً، حيث يكون لك كالمرآة، قال الشاعر:
شاور سواك إذا نابتك نائبة يوماً وإن كنت من أهل المشورات |
فالعين تبصر فيها ما دنا ونأى ولا ترى نفسها إلا بمرآة |
فأنت بحاجةٍ إلى مرآة، ترى فيها عيوبك، وهذه المرآة هي أخوك الذي تصافيه الود والمحبة في الله جل وعلا.
ومن الوسائل المفيدة: دعاء الله جل وعلا، فإن من دعا الله أن يرزقه حسن الخلق رزقه الله ذلك.
العمل على الإخلاص ودفع الشك
الجواب: ينبغي للإنسان أن يعمل بإخلاص، وقصد لوجه الله جل وعلا فيما يأخذ وما يدع من أفعاله، ثم إذا حدث في نفسه شك أثناء العمل، بأنه قد يكون مرائياً؛ فإن عليه أن يدفع هذا الشك وهذا الريا، لئلا يستقر في قلبه، وينبغي للشاب وغير الشاب أن يحذر من ترك العمل خوف الرياء، فإن هذا من مزالق الشيطان، فكثيرٌ من الناس تركوا أعمالاً صالحة: من التبكير إلى المساجد، وقراءة القرآن، وطلب العلم، والدعوة إلى الله، والوعظ، والأمر والنهي، بحجة الخوف من الرياء، فالشيطان يأتيهم، ويقول: أنتم ما أردتم إلا الرياء، فأقول: كونك تركت العمل خوف الرياء دليلٌ على أنك مخلصٌ إن شاء الله، وإلا فالمرائي لا يمنعه مانعٌ من الاستمرار في عمله، فادفع الرياء واستمر على العمل.
ومن أعظم مزالق ومداخل الشيطان على الإنسان لترك العمل الصالح؛ أن يوسوس له:
أولاً: بأنك قد تكون مرائياً.
ثم يقول له ثانياً: اترك هذا العمل، لأنه يُخشى أن تكون مرائياً، وكم من إنسانِ ترك الإمامة في المسجد، بل أعرف شاباً ترك التقدم إلى المسجد، وترك قراءة القرآن وطلب العلم، ويقول: أخشى أن أكون مرائياً، فعليك أن تتقدم إلى المسجد ولا تلتفت إلى هذا الهاجس أو الخاطر أو الوسواس، وهذا يدل على ضعفٍ في نفس الإنسان، وخورٍ في قلبه وعزيمته، وإلا فالمؤمن لا ينصاع ولا يتأثر بهذه الوساوس التي يلقيها الشيطان وجنوده في قلبه، ثم كون الإنسان بعدما يشرع في العمل لوجه الله يخطر له ذلك ويدفعه، هذا لا يضره شيء، وكونه يفرح بثناء الناس عليه، فهذا أيضاً لا يضره شيء، فقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي ذر في صحيح مسلم عن الثناء الحسن يحصل للإنسان، قال عليه الصلاة والسلام: {تلك عاجلُ بشرى المؤمن} وكلنا نحب الثناء الحسن ونكره الثناء السيئ، وكل إنسانٍ جبل على ذلك، وما من أحدٍ إلا ويفرح بالثناء الحسن، ويكره الثناء السيئ؛ لكن لا يعمل من أجل الناس، ولا يترك من أجل الناس.
حكم استقبال القبلة أثناء النوم
الجواب: الذي يظهر لي أنه كون الإنسان ينام على جنبه الأيمن مستقبل القبلة أمرٌ حسن؛ لكن القول بشرعية ذلك، لا يمكن أن يقال بالاستحباب اعتماداً على مثلما ذكر الأخ من قياس الموتة الصغرى على الكبرى مثلاً، وهذا قياسٌ مع الفارق، وكذلك قبلتكم أحياءً وأمواتاً إذا صح فالمقصود به قبلتكم أي تصلون إليه أحياءً، وليس المعنى أنكم تتجهون إليه في منامكم وفي مجالسكم، فالذي يظهر لي أنه لم يرد في استقبال القبلة حديثٌ صحيح، إلا أنه ورد عند أبي يعلى فيما أذكر حديثٌ فيه السري بن إسماعيل وهو متروك الحديث، وهذا الحديث ذكره ابن كثير في أول سورة الحديد فيما أذكر إن لم تخني الذاكرة.
سجود السهو قبل السلام سهواً
الجواب: لا يسجد مرةً ثانيةً للسهو مادام أنه سجد للسهو قبل السلام، فإنه يكفيه ويجزئه، ولا يسجد للسهو بعد السلام:
أولاً: لأنه سجد غافلاً أن محل السجود بعد السلام.
وثانياً: لأن جماهير أهل العلم على أن السجود الذي بعد السلام يجوز أن يسجده الإنسان قبل السلام، فلا يعيده إذاً بعد السلام.
ثقل النوم وحكم تأخير الصلاة عن وقتها
الجواب: قضيةُ تأخير صلاة الفجر إلى ما بعد طلوع الشمس، تحصل لكثيرٍ من الناس، ولها أسبابٌ عديدة:
فبعضهم يؤخر صلاة الفجر إلى ما بعد طلوع الشمس تكاسلاً وتهاوناً، وذلك لأن منهم من يسهر إلى الهزيع الأخير من الليل، وربما يكون سهره في جلسةِ لهوٍ ولعبٍ وضحكٍ مع زملائه، أو على لعبِ الورقة أو البلوت، أو على مشاهدة التلفاز، أو حتى على قراءة ثم يتأخر، فإذا نام كان جثةً هامدةً لا حراك به، فلا يستطيع أن يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس، فهذا لا شكَّ أنه مقصر ومخطئ؛ لأنه لم يفعل السبب حيث خالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، في التبكير في النوم، فكان صلى الله عليه وسلم: {يكره النوم قبلها والحديث بعدها} أي العشاء، ويقول صلى الله عليه وسلم: {لا سمر إلا لمصَلٍ أو ذاكرٍ أو مسافر} وسيأتي تفصيل هذا.
فالتأخر في النوم إذا ترتب عليه تأخير صلاة الفجر عن وقتها، وترك الجماعة، وربما تأخيرها إلى ما بعد طلوع الشمس، يرتكب به الإنسان خطأ كبيراً، وبعض الناس قد يؤخر صلاة الفجر لأنه لا يحتاط لها، فلا يضع المنبه أو الساعة، أو التلفون، أو لا يطلب من أهله أو جيرانه أن يوقظوه، بل ينام، ومتى ما استيقظ صلىَّ وهذا أيضاً مفرِّطٌ وآثم بذلك، وبعضهم قد يجمع هذا وذاك فيتأخر ولا يضع منبهاً فلا يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس.
وآخرون من الناس وهم قلة، يكون تأخر أحدهم عن صلاة الفجر مع اتخاذ كافة الأسباب، وذلك لأنه ثقيل النوم، كما في الحالة التي وصفها السائل، ومثل هؤلاء ربما يصبُّ الماء على أحدهم ويجر ويضرب ويسحب، ويُصاح في وجهه فلا يشعر بشيءٍ مما حوله، فهذا استنفذ جميع الوسائل والأسباب الشرعية الممكنة، فلا إثم ولا حرج عليه، بل متى استيقظ صلَّى ولو لم يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس، وقد حدث هذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كما في سنن أبي داود {أن
ومعنى الحديث أن صفوان بن المعطل رضي الله عنه، قد ورث عن أهله ثِقَل النوم، وهذا موجودٌ الآن، فبعض الأسر والعوائل يكون ثِقَل النوم متوارثاً بينهم، يأخذه الأحفاد عن الأجداد، والعكس بالعكس، فمن كان فيه ثقل نومٍ لا يستطيع معه أن يستيقظ، ولو صب عليه الماء، ولو نام مبكراً، ولو وضع المنبه، ولو أيقظه أهله، فإن هذا لا يكلف ما لا يستطيع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، بل متى استيقظ صلى؛ لكن إذا كان منه تفريطٌ فإن الله تبارك وتعالى يحاسبه عليه، ولا ينبغي أن يكون هذا الكلام حجة للكسالى الذين يفرطون، ثم يقول أحدهم: أنا ثقيلُ النوم.
فإننا نجد أن بعض من يتعللون بثقل النوم إذا ركَّب أحدهم المنبه على الدوام المدرسي، أو دوام العمل، أو كان عنده موعد في الطائرة ويحتاج أن يستيقظ، فبمجرد أن يسمع جرس المنبه يفزع كأنه ملدوغٌ وهذا ملاحظ، فإن بعض الناس يكون استيقاظه بسبب الاهتمام، فقلة الهم من أسباب ثقل النوم، وشدة الهم تجعل أعصاب الإنسان منتبهة، والمثل الذي ضربته لكم يوضح القضية، فلو كان إنسانٌ عنده موعدٌ مهم جداً، وكان سفره في الطائرة الساعة الثامنة صباحاً -مثلاً- وهو موعدٌ أساسي يترتب عليه نتائج كبيرة، يحس الإنسان بقيمتها، فإنك تجد بعض الذين يعتذرون بثقل النوم، عندما يؤقت الساعة على السابعة حتى يدرك الطائرة، بمجرد أن يسمع جرس الساعة يفزع ويقوم بسرعة، فكذلك ما يتعلق بالاستيقاظ للصلاة ينبغي أن يكون عند الإنسان من الاهتمام والحرص على الصلاة ما يجعله هكذا، فينتبه الإنسان لذلك، وفرقٌ بين من يكون تأخره لثقل النوم حقيقة، وبين من يكون تأخره لتأخره في النوم، أو لعدم الاهتمام بالصلاة، أو لعدم وجود منبه، أو ما أشبه ذلك.
الحفظ ووسائل تنميته
الجواب: الحفظ لا شك في أهميته، بل إن الحفظ إذا أردنا أن نعرِّفه من حيث الأصل؛ فلا يمكن التعلم إلا بحفظ، ولا أعني بالضرورة حفظ المتونِ فقط، بل المهم أن يحتفظ الإنسان بالمعلومات، فالذي لا يحتفظ بالمعلومات لا يمكن أن يتعلم لأنه يسمع المعلومات ثم تطير منه، سواءً حفظها بحروفها وألفاظها، أو حفظ معانيها، فأصل الحفظ أساسي للتعلم، لكن الحفظ المتعارف عليه -وهو حفظ المتون والنصوص- هل له أهمية كبيرة؟
نعم الحفظ له أهميةً كبيرة، ومازال أهل العلم منذ القدم يوصون بتحفظ العلم وحفظه، ولذلك فإن على طالب العلم أن يحفظ بعض المتون المهمة في مجاله، وقبل ذلك ينبغي له أن يحفظ كتاب الله عز وجل، ثم يحفظ متناً مختصراً في السنة، ومتناً مختصراً في العلم الذي يبدأ به فقهاً كان، أو أصولاً، أو فرائض، أو نحواً، أو غير ذلك.
فالحفظُ مهم، لكن بعض الناس يقول: أنا ضعيف الحفظ، فهل يعني ذلك أنني لا أتعلم؟ فأقول: هذا من الأخطاء الشائعة، لأسباب:
أولاً: مع اعترافي بأهمية الحفظ -كما ذكرت لكم قبل قيل- فإن أهمية الحفظ في هذا العصر قلَّتْ عنها في أي عصرٍ مضى، لأن وسائل الوصول إلى النصوص، أصبحت ميسورة، فكل واحدٍ لديه مكتبة عامرة بألوان الكتب، فهذه نقطة.
ثانياً: هناك فهارس دقيقة: فهارس في الأحاديث، وفي الأعلام، وفي الموضوعات دقيقة ومنوعة، ويستطيع الإنسان بواسطتها أن يصل إلى النص الذي يريد خلال مدةٍ وجيزةٍ جداً.
ثالثاً: الناس الآن ينتظرون الانتفاع بما يسمى بجهاز الكمبيوتر في العلوم الشرعية وعلى رأسها السنة النبوية، وهذا الجهاز إذا وجد واستخدم، يتيسر ويتسنى للإنسان من خلاله الحصول على ما يريد من أسماء الرواة أو تراجمهم، أو الأسانيد، أو الأحاديث، أو الشواهد، أو المتون أو غيرها خلال لحظاتٍ وجيزة، كلها مبسوطةٌ أمامه، فبذلك أصبح الحفظ على أهميته الكبيرة ليس بالدرجة التي كان عليها من قبل، والتي كانت الكتب فيه قليلة، والوصول إليها متعسر إن لم يكن متعذراً في بعض الأحوال، فهذه الأشياء تجعل الإنسان وإن كان ضعيف الحفظ إلا أنه ينبغي أن يهتم بالعلم، بشكلٍ عام.
وهناك أمرٌ آخر: وهو أنك قد تجد إنساناً لديه حافظة قوية، فيصرف هذه الحافظة في أمورٍ قد تكون أقلَّ جدوى، فهذا إنسان مثلاً يحفظ كتاب تقريب التهذيب للحافظ ابن حجر وتقريب التهذيب -كما تعرفون- كتابٌ في تراجم الرواة، يذكر اسم الراوي مميزاً وطبقته، ودرجته من حيث الجرح والتعديل، ومن روى له من الأئمة الستة، فحفظ الإنسان كتاب تقريب التهذيب هذا جيد، وليس هناك إشكال في حفظ تقريب التهذيب لكن المشكلة إن كان حفظ تقريب التهذيب على حساب غيره، فلا يصلح أن يحفظ الإنسانُ تقريب التهذيب وهو لم يحفظ بعد كتاب الله تعالى، أو لم يحفظ أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وبلا شك أن حفظ مختصر صحيح البخاري أو مختصر صحيح مسلم أو بلوغ المرام أو عمدة الأحكام أو الأربعين النووية أو نحوها أفضل وأهم بكثيرٍ جداً من حفظ تقريب التهذيب لأن تقريب التهذيب مطبوعٌ وفي كل بيت، وبإمكان الإنسان أن يصل إلى ترجمة -في تقريب التهذيب- أيَّ راوي في دقيقة واحدة، أو أقل من ذلك، ويعرف ماذا قال فيه ابن حجر، مع أن الحافظ قد لا يعتمد على حفظه في تقريب التهذيب لأنه ربما يشك في حفظه أحياناً، فيحتاج إلى مراجعة المطبوع، إذاً ما استفدنا شيئاً في الحالة هذه.
ثم إن الأمة الإسلامية -أيها الإخوان- اليوم بحاجةٍ ماسة ماسة ماسة إلى فقهاء وعلماء يفقهون النصوص والقواعد والأصول، ويجيدون الاستنباط ليحلوا المشكلات الكبيرة التي تواجه الأمة.
و عامَّةُ الناس اليوم يحتاجون إلى الفقهاء، فلن تجد عامياً يسألك ماذا قال ابن حجر في فلان؟ وماذا قال ابن حجر في فلان؟ وفلانٌ من أي طبقة؟ وفلانٌ من أي مرتبة؟ لن تجد عامياً يسألك، بل لو سمعك تتكلم في هؤلاء قال: هؤلاء جالسون في المسجد يغتابون الناس، وربما تكلموا في أناسٍ قد حطوا رحالهم في الجنة منذ مئات السنين، لأنه لا يصدر هذه الأمور ولا يوردها، فعامة الناس لن يسألوا عن هذا الأمر، وخاصةُ الناس أيضاً لن يسألوا عنه، لأن الخاصة يسألون عن حكم الله ورسوله في الوقائع والنوازل التي ألمت بالمسلمين، فإذا التقيت بطبيبٍ سألك عن حكم -مثلاً- ما يسمى بطفل الأنبوب، وحكم بعض القضايا والمشاكل الطبية التي تقع، وعن أخطاء ومعاص توجد في كثيرٍ من المستشفيات كيف يتعامل معها الإنسان، كمسألة نقل الكلى، ومسألة نقل الأعضاء، والجنين المشوه، وحكم إسقاط الجنين، وحكم الإجهاض، وأحكامٌ كثيرة يسألك عنها، فإذا التقيت بمهندسٍ سألك عن مشاكل المهندسين، وإذا التقيت بتاجرٍ سألك عن القضايا التجارية والاقتصادية الحادثة، والمعاملات البنكية التي لم تكن موجودة في الماضي من حيثُ المصطلح، ومن حيث طبيعة المعاملة، وكثيراً ما يتساءل عنها الناس.
وإذا التقيت بشابٍ يعمل في الدعوة إلى الله سألك عن بعض القضايا الواقعة التي يواجهها في حياته، وما حكم الله ورسوله فيها، فالناس يسألون غالباً عن الحكم الشرعي، وهذا هو الذي يعنيهم، فاشتغال طالب العلم بمعرفة المتون والأحكام والقواعد والأصول أولى من اشتغاله بحفظ أشياء قد يحتاجها أو لا يحتاجها، ولو احتاجها لسهل عليه الوصول إليها في مصادرها بسهولة، فينتبه إلى هذا الأمر.
أما فيما يتعلق بالنقطة الأخيرة وهي مسألة وسائل تنمية الحفظ فكثيرة:
أولاً: اختيار الوقت المناسب للحفظ، وقد ذكر أهل العلم أن أفضل أوقات للحفظ هي الأسحار.
ثانياً: صفاء الذهن أثناء الحفظ.
ثالثاً: تكرار ما يريد الإنسان حفظه مرات حتى نُقل عن أبي إسحاق الشيرازي وهو من فقهاء الشافعية: أنه كان إذا أراد أن يلقي الدرس كرره مائتي مرة، وهو إمامٌ عالم أصوليٍ فقيه مشهورٌ عند الشافعية.
رابعاً: أن يربط الإنسان حفظه بعضه ببعض، فإذا أشكل عليه أمرٌ أو تشابه عليه شيءٌ حاول أن يوجد علاقات يتذكرها، مثلاً إذا أراد أن يحفظ مجموعةَ أشياء، أخذ أوائل هذه الكلمات وكون منها جملةً حفظها، وهذا مثلٌ، أو ربطها بأي أمرِ يسهّل عليه حفظ هذه الأشياء واستذكارها.
خامساً: كذلك من وسائل الحفظ كثرة الحفظ، كما أن كثرة الأخذ والعطاء باليد تقوي العضو، كذلك كثرة حفظ الإنسان للأشياء تقوي الذاكرة عنده، والعكس بالعكس، إهمال الإنسان للذاكرة، وعدم اعتياده على الحفظ يقلل من قوة حافظته.
سادساً: كما أن استغلال الإنسان لأول عمره؛ طفولته ثم شبابه، من أهم الأمور التي ينبغي التنبيه إليها، فالإنسان إذا كبر شاخت الذاكرة وهرُمت، وبعد الزواج والمشاكل والوظيفة والعمل يصبح الإنسان مشتت الذهن، ويقل تركيزه، لذلك من توفيق الله للشاب، بل للطفل أن يوفق بمن يوجه لاستغلال الطفولة في الحفظ، وهذا أمرٌ إن فاتنا نحن -أيها الإخوة- فلا ينبغي أن يفوت أولادنا.
وأوصيكم أيها الإخوة أن تحرصوا على تحفيظ أولادكم الأشياء المهمة منذ الطفولة، فالطفل من السهل عليه أن يحفظ، وإذا حفظ شيئاً فإنه لا ينساه، وكلنا نعلم أن ما حفظناه في الطفولة حتى لو تركناه وقتاً طويلاً دون مراجعة إذا عدنا إليه وجدناه كأنما حفظناه الساعة، فإن فاتنا ذلك فينبغي ألا يفوت أطفالنا وصغارنا، فعلينا أن نحفظهم ما يحتاجون إليه في كبرهم، وأذكر أنني رأيت في الحرم المكي يوماً صبياً ربما عمره تسع سنوات أو دون ذلك وهو يحفظ القرآن الكريم ويحفظ بعض كتب السنة كـموطأ مالك وغيره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
السؤال: علمنا من بعض محاضراتك أن الأخلاق منها جِبِلَّية، ومنها مُكَتَسبة، فما هو السبيل لتحسين الخلق المطبوع عليه أو الجبلي؟
الجواب: السبيل لتحسين الخلق الذي طبع عليه الإنسان كالتالي:
أما إن كان الخلق الذي طبع عليه الإنسان حسناً، فهذا من توفيق الله للعبد أن طبعه على الخِلال التي يحبها الله تعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم لـأشج عبد القيس: {إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة} وفي بعض الطرق أنه قال: {هل هما مما جبلت عليه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم، إنهما مما جبلت عليه، فقال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحبه الله ورسوله} فمن توفيق الله للعبد أن يجبله على الخلال التي يحب، فإذا وجدت في نفسك خصالاً حميدة -وكل إنسانٍ لا بد أن يكون قد جُبل على بعض الخصال الحميدة- فعليك أن تحرص على تنمية هذه الخصال الحميدة، وتعاهدها بالسقي والرعاية حتى تكبر ويزداد انتفاعك بها، فقد تجد في نفسك أن الله جبلك على الإحسان إلى الخلق، وحب الإحسان، فوسّع وعمّق هذا الخُلق بأن تكثر من الإحسان، وأكثر من قراءة الأحاديث والآثار الواردة في ذلك، واسْع في سبُل الإحسان إلى الخلق، حتى يتعاظم هذا الخُلق الحسن عندك ويكبر، ويكون فعله بنيةٍ واحتساب، وتؤجر عليه أشد الأجر، وحتى يغطي هذا الخلق الحسن على ما قد يوجد في نفسك من بعض الأخلاق الذميمة التي ربما تكون قد جبلت عليها.
ولذلك أنتقل إلى النقطة الثانية: وهي ما إذا جبل الإنسان على خِلالٍ مذمومة، كالبخل، أو الجبن وغير ذلك، فما هو السبيل إلى تحسين هذه الخلال المذمومة، أو إزالتها؟ نقول:
أولاً: السبيل هو ما سبق، فعليك أن تنظر إلى الخلال الطيبة التي طبعت وجبلت عليها فاعمل على تنميتها، لأن الإنسان مثل الإناء إذا وضع فيه مادة طيبة، طردت المادة السيئة، ولو أن عندك أناءً فيه خمرٌ، فوضعت في هذا الإناء مادة أخرى، فإنها تزاحم هذا الخمر حتى تزيلَه إما إزالةً كلية أو إزالةً جزئية، وبقدر قوة المادة الطيبة تزول المادة السيئة، فكذلك الأخلاق في النفس؛ إذا ربى الإنسان في نفسه مكارم الأخلاق قضت وغطَّت على الأخلاق السيئة، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: [[إن الإنسان قد يوجد فيه خلقٌ واحدٌ سيئ، وتسعة أخلاقٍ حميدة، فيغلب الخلق السيئ الأخلاق الحميدة]] كما رواه مالك والبيهقي وغيرهما وسنده صحيح.
إذاً يغلبها إذا تهاون الإنسان في تنميتها؛ لكن إذا نمى الإنسان الأخلاق الحميدة غلبت على الأخلاق السيئة.
الوسيلة الثانية: هي المجاهدة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد المتفق عليه: {من يتصبر يصبره الله، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله} إذاً الصبر خلقٌ حسن، وقد يكون الإنسان طبع على العجلة، وعدم الصبر، فبالتصبر وتكلف الصبر يعتاد الإنسان هذا الأمر حتى يصبح سجيةً وخلقاً وديدناً له، وكذلك العفَّة: فالتعفف عن المال الحرام وعن المال المشتبه، وعن المكاسب الرديئة، فقد يكون عند الإنسان رغبة في المال ونهم؛ لكن إذا عود نفسه على ألا يأكل إلا الحلال، وعلى الانكفاف عن هذه الأشياء والتعفف عنها رزقه الله تعالى العفة.
وكذلك الحِلْمُ: فالحِلَمُ بالتحلم، والعِلْمُ بالتعلم، فإذا عود الإنسان نفسه وجاهدها على الحِلْمُ، فإنه يرزق ذلك، فلا بد من مجاهدةِ النفس، وتكلف هذه الأخلاق حتى تصبح سجية.
ومن الوسائل المفيدة في ذلك: مراقبة النفس ومحاسبتها، وأعرف بعض الشباب جبلوا على أخلاقٍ ذميمة، واستطاعوا بعون الله وتوفيقه أن يتخلصوا من كثيرٍ منها ويهذبوها وإن لم تزل بالكلية، وذلك عن طريق كثرة المراقبة والمحاسبة، وإذا خلوت بنفسك تذَّكر المواقف السيئة التي حصلت لك، ثم تذكر الموقف السليم الذي كان يجب أن تفعله، وصبِّر نفسك على هذا الموقف، وبطبيعة الحال الخلق لا يزول في يومٍ وليلة، أو بمرةٍ أو مرتين، فالإنسان الذي عنده عجلة وجزع وعدم صبر لا يحظى من ذلك بشيءٍ كثير، حتى يعود نفسه على الصبر وطول النفس.
ومن الوسائل المفيدة في ذلك: أن تطلب من بعض جلسائك وخاصتك أن ينبهوك باستمرار على ما يلاحظون عليك من الأخلاق الذميمة، وعلى الأقل اجعل لك صفياً تشارطه على أن ينصح لك وتنصح له، فإذا وجدت عليه عيباً بيَّنته له، وإذا وجد عليك عيباً بينه لك، وهذا ينفعك كثيراً، حيث يكون لك كالمرآة، قال الشاعر:
شاور سواك إذا نابتك نائبة يوماً وإن كنت من أهل المشورات |
فالعين تبصر فيها ما دنا ونأى ولا ترى نفسها إلا بمرآة |
فأنت بحاجةٍ إلى مرآة، ترى فيها عيوبك، وهذه المرآة هي أخوك الذي تصافيه الود والمحبة في الله جل وعلا.
ومن الوسائل المفيدة: دعاء الله جل وعلا، فإن من دعا الله أن يرزقه حسن الخلق رزقه الله ذلك.
السؤال: هناك بعض الناس يشك في نفسه، فإذا نَصَح أو أَمَر أو نَهى يخشى أنه يرائي، وكذلك إذا قرأ القرآن، فكيف يخلص نفسه ويمنعها من هذا الشك؟
الجواب: ينبغي للإنسان أن يعمل بإخلاص، وقصد لوجه الله جل وعلا فيما يأخذ وما يدع من أفعاله، ثم إذا حدث في نفسه شك أثناء العمل، بأنه قد يكون مرائياً؛ فإن عليه أن يدفع هذا الشك وهذا الريا، لئلا يستقر في قلبه، وينبغي للشاب وغير الشاب أن يحذر من ترك العمل خوف الرياء، فإن هذا من مزالق الشيطان، فكثيرٌ من الناس تركوا أعمالاً صالحة: من التبكير إلى المساجد، وقراءة القرآن، وطلب العلم، والدعوة إلى الله، والوعظ، والأمر والنهي، بحجة الخوف من الرياء، فالشيطان يأتيهم، ويقول: أنتم ما أردتم إلا الرياء، فأقول: كونك تركت العمل خوف الرياء دليلٌ على أنك مخلصٌ إن شاء الله، وإلا فالمرائي لا يمنعه مانعٌ من الاستمرار في عمله، فادفع الرياء واستمر على العمل.
ومن أعظم مزالق ومداخل الشيطان على الإنسان لترك العمل الصالح؛ أن يوسوس له:
أولاً: بأنك قد تكون مرائياً.
ثم يقول له ثانياً: اترك هذا العمل، لأنه يُخشى أن تكون مرائياً، وكم من إنسانِ ترك الإمامة في المسجد، بل أعرف شاباً ترك التقدم إلى المسجد، وترك قراءة القرآن وطلب العلم، ويقول: أخشى أن أكون مرائياً، فعليك أن تتقدم إلى المسجد ولا تلتفت إلى هذا الهاجس أو الخاطر أو الوسواس، وهذا يدل على ضعفٍ في نفس الإنسان، وخورٍ في قلبه وعزيمته، وإلا فالمؤمن لا ينصاع ولا يتأثر بهذه الوساوس التي يلقيها الشيطان وجنوده في قلبه، ثم كون الإنسان بعدما يشرع في العمل لوجه الله يخطر له ذلك ويدفعه، هذا لا يضره شيء، وكونه يفرح بثناء الناس عليه، فهذا أيضاً لا يضره شيء، فقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي ذر في صحيح مسلم عن الثناء الحسن يحصل للإنسان، قال عليه الصلاة والسلام: {تلك عاجلُ بشرى المؤمن} وكلنا نحب الثناء الحسن ونكره الثناء السيئ، وكل إنسانٍ جبل على ذلك، وما من أحدٍ إلا ويفرح بالثناء الحسن، ويكره الثناء السيئ؛ لكن لا يعمل من أجل الناس، ولا يترك من أجل الناس.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أحاديث موضوعة متداولة | 5155 استماع |
حديث الهجرة | 5026 استماع |
تلك الرسل | 4157 استماع |
الصومال الجريح | 4148 استماع |
مصير المترفين | 4126 استماع |
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة | 4054 استماع |
وقفات مع سورة ق | 3979 استماع |
مقياس الربح والخسارة | 3932 استماع |
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية | 3874 استماع |
العالم الشرعي بين الواقع والمثال | 3836 استماع |