خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/210"> الشيخ عطية محمد سالم . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/210?sub=33943"> سلسلة دروس الهجرة
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
الهجرة النبوية [3]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
أيها الإخوة! لا زلنا مع أحداث الهجرة النبوية الكريمة، وقد تقدم مجمل القول عن نقاط الهجرة الأربع: دوافع الهجرة، مقدمات الهجرة، المنهج العملي للهجرة، النتائج التي ترتبت على تلك الهجرة النبوية الشريفة.
وانتهى بنا الحديث ونحن في طريق الهجرة من بيت النبي صلى الله عليه وسلم في مكة إلى الغار، إلى أحداث الغار وما كان فيه.
أبو بكر يتحمل مسئولية الهجرة
على أن هناك موقفاً آخر للكليم موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام حينما أمر أن يخرج بقومه ويسير بهم، قال: وإلى أين؟ قال: في ظل السحابة أينما سارت، فخرج وإذا بالسحابة تسير حتى ساقتهم إلى ساحل البحر.
ولما خرج بنو إسرائيل ليلاً وعلم فرعون بخروجهم، بات في المدائن يجمع جنده، فسار على إثرهم، فإذا بموسى ومن معه بين خطرين، البحر أمامهم والعدو وراءهم، فأيقن القوم بالهلاك، فقالوا: إنا لمدركون، لا طريق أمامنا، وهذا العدو وراءنا، ولكن نبي الله موسى الذي خرج بأمر من الله موقن بنصر الله فقال: كلا -ولو نطقت بكلمة كلا أربع أو خمس مرات لأحسست بالآلام؛ لأنها كلمة قوية يزلزل صوتها الفم- كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62] أي: سيدلني، وأشرنا إلى الفارق بين (إن الله معنا)، و(إن معي ربي)، بأن موقف الصديق رضي الله تعالى عنه كان جزءاً من المسئولية في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه أعد الرواحل، وكان يصحبه في عرضه على القبائل، وهيأ له الطريق، وخرج معه رفيق الهجرة.
ولما خرج كان تارة يسير أمامه، وتارة وراءه، فيسأله: ما لي أراك يا أبا بكر هكذا؟ فيقول: أتذكر الرصد فأكون أمامك، وأتذكر الطلب فأكون وراءك، فقال له: أتريد لو كان شيء يكون فيك يا أبا بكر ؟ قال: بأبي أنت وأمي، إن أهلك وحدي فأنا فرد من الناس، أما أنت فمعك الرسالة.
فـأبو بكر يسهم في الحفاظ على رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم، كما أشرنا في قصة سراقة لما لحقهم فكان منهم قاب قوسين، فأنذر أبو بكر رسول الله، قال: (الطلب أدركنا يا رسول الله، وبكى، قال: ما الذي يبكيك يا
من هنا كان قد تحمل جزءاً من مسئولية الهجرة، وكان له شق من تلك المعية إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].
ولم يكن في قوم موسى من يعادل أبا بكر مع رسول الله لما جاء الفرج وخرجوا من البحر فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138] أعوذ بالله من الشيطان! الآن ما خلصكم إلا التوحيد وحده، فهل الأصنام هي التي أنجتكم من فرعون، وجلعت الماء جامداً والطريق يابساً؟ سبحان الله العظيم! إذاً: لم يكن في قوم موسى من يعادل أبا بكر رضي الله تعالى عنه.
تقدير الصحابة لموقف أبي بكر في الهجرة
ولذا عمر رضي الله تعالى عنه كان يقول: (لليلة من أبي بكر في الغار تعدل آل الخطاب جميعاً).
كان الصديق رضي الله عنه خائفاً ويقول: (لو نظر أحدهم أسفل نعليه لأبصرنا) ورسول الله يطمئنه: (ما بالك باثنين الله ثالثهما) بينما في غزوة بدر الرسول صلى الله عليه وسلم يجتهد في الدعاء حتى يسقط رداؤه من طول ما يرفع يديه إلى السماء، وأبو بكر يقول: (حنانيك يا رسول الله، إن الله ناصرك، إن الله منجز وعده)، الرسول مجتهد في الدعاء وأبو بكر يطمئنه، على عكس ما كان في الغار، لماذا؟
لأن اجتهاده صلى الله عليه وسلم لم يكن لنفسه ولا مخافة على شخصه، بل من أجل الأمة التي جاء بها للعير وقابلت النفير، ولذا أعلنها وقال: (إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض)، فكان اجتهاده في الدعاء وضراعته إلى المولى من أجل تلك العصابة والجماعة.
إذاً: خرج صلى الله عليه وسلم وأبو بكر من الغار وقد عرفا ما يقع في مكة لأن عبد الله بن أبي بكر كان يبيت في مكة ويأتيهم بالأخبار، فهو قسم الإعلام في الأمة، وكان راعي غنم أبي بكر يأتي في الصباح الباكر يحلب لهم من الغنم، ويسير بالغنم على آثار عبد الله بن أبي بكر حتى لا يعلم المشركون من جاء ومن ذهب.. خطة، تدبير، سياسة، أمن وأمان، كل ما يمكن أن يفكر فيه الإنسان اجتمع في التحفظ والسرية، وفي مباشرة أمر الهجرة فيما يكون في استطاعة البشر.
وموقف الصديق رضي الله تعالى عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآية الكريمة في وصف الموقف: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، وأشرنا إلى النقطة البلاغية الكريمة في المعية، عند قوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا .
على أن هناك موقفاً آخر للكليم موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام حينما أمر أن يخرج بقومه ويسير بهم، قال: وإلى أين؟ قال: في ظل السحابة أينما سارت، فخرج وإذا بالسحابة تسير حتى ساقتهم إلى ساحل البحر.
ولما خرج بنو إسرائيل ليلاً وعلم فرعون بخروجهم، بات في المدائن يجمع جنده، فسار على إثرهم، فإذا بموسى ومن معه بين خطرين، البحر أمامهم والعدو وراءهم، فأيقن القوم بالهلاك، فقالوا: إنا لمدركون، لا طريق أمامنا، وهذا العدو وراءنا، ولكن نبي الله موسى الذي خرج بأمر من الله موقن بنصر الله فقال: كلا -ولو نطقت بكلمة كلا أربع أو خمس مرات لأحسست بالآلام؛ لأنها كلمة قوية يزلزل صوتها الفم- كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62] أي: سيدلني، وأشرنا إلى الفارق بين (إن الله معنا)، و(إن معي ربي)، بأن موقف الصديق رضي الله تعالى عنه كان جزءاً من المسئولية في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه أعد الرواحل، وكان يصحبه في عرضه على القبائل، وهيأ له الطريق، وخرج معه رفيق الهجرة.
ولما خرج كان تارة يسير أمامه، وتارة وراءه، فيسأله: ما لي أراك يا أبا بكر هكذا؟ فيقول: أتذكر الرصد فأكون أمامك، وأتذكر الطلب فأكون وراءك، فقال له: أتريد لو كان شيء يكون فيك يا أبا بكر ؟ قال: بأبي أنت وأمي، إن أهلك وحدي فأنا فرد من الناس، أما أنت فمعك الرسالة.
فـأبو بكر يسهم في الحفاظ على رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم، كما أشرنا في قصة سراقة لما لحقهم فكان منهم قاب قوسين، فأنذر أبو بكر رسول الله، قال: (الطلب أدركنا يا رسول الله، وبكى، قال: ما الذي يبكيك يا
من هنا كان قد تحمل جزءاً من مسئولية الهجرة، وكان له شق من تلك المعية إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].
ولم يكن في قوم موسى من يعادل أبا بكر مع رسول الله لما جاء الفرج وخرجوا من البحر فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138] أعوذ بالله من الشيطان! الآن ما خلصكم إلا التوحيد وحده، فهل الأصنام هي التي أنجتكم من فرعون، وجلعت الماء جامداً والطريق يابساً؟ سبحان الله العظيم! إذاً: لم يكن في قوم موسى من يعادل أبا بكر رضي الله تعالى عنه.
جاء رجل للحسن بن علي رضي الله تعالى عنه وهو يطعن في خلافة أبي بكر ويشيد بـعلي رضي الله تعالى عنه، قال: على رسلك، أما تقرأ قوله تعالى: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ [التوبة:40] من ثاني رسول الله؟ قال: أبو بكر إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ [التوبة:40] وهما في الغار، من صاحبه؟ قال: أبو بكر ، لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40] مع من؟ مع رسول الله وأبي بكر . قال: أعطني واحدة من هذه لـعلي؟
ولذا عمر رضي الله تعالى عنه كان يقول: (لليلة من أبي بكر في الغار تعدل آل الخطاب جميعاً).
كان الصديق رضي الله عنه خائفاً ويقول: (لو نظر أحدهم أسفل نعليه لأبصرنا) ورسول الله يطمئنه: (ما بالك باثنين الله ثالثهما) بينما في غزوة بدر الرسول صلى الله عليه وسلم يجتهد في الدعاء حتى يسقط رداؤه من طول ما يرفع يديه إلى السماء، وأبو بكر يقول: (حنانيك يا رسول الله، إن الله ناصرك، إن الله منجز وعده)، الرسول مجتهد في الدعاء وأبو بكر يطمئنه، على عكس ما كان في الغار، لماذا؟
لأن اجتهاده صلى الله عليه وسلم لم يكن لنفسه ولا مخافة على شخصه، بل من أجل الأمة التي جاء بها للعير وقابلت النفير، ولذا أعلنها وقال: (إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض)، فكان اجتهاده في الدعاء وضراعته إلى المولى من أجل تلك العصابة والجماعة.
إذاً: خرج صلى الله عليه وسلم وأبو بكر من الغار وقد عرفا ما يقع في مكة لأن عبد الله بن أبي بكر كان يبيت في مكة ويأتيهم بالأخبار، فهو قسم الإعلام في الأمة، وكان راعي غنم أبي بكر يأتي في الصباح الباكر يحلب لهم من الغنم، ويسير بالغنم على آثار عبد الله بن أبي بكر حتى لا يعلم المشركون من جاء ومن ذهب.. خطة، تدبير، سياسة، أمن وأمان، كل ما يمكن أن يفكر فيه الإنسان اجتمع في التحفظ والسرية، وفي مباشرة أمر الهجرة فيما يكون في استطاعة البشر.
خرج صلى الله عليه وسلم يمشي، ثم يدركهم في الطريق سراقة ، وكان سراقة لما علم بأن قريشاً جعلت مائة من الإبل لمن يأتي بهما حيين أو ميتين، وسمع من يقول: رأيت سواداً بذاك الطريق، فكان جالساً مع قومه، فقام على السطح وأمر جاريته أن تدني له فرسه وراء البيت، ونزل من السطح على فرسه حتى لا يعلم به أحد، وأخذ في ذاك الطريق، فلما دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له أبو بكر : (الطلب وارءنا يا رسول الله، قال: لا تخف، قال: الطلب قاب قوسين، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم اكفنيه بما شئت).
هذا الدعاء يذكرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الغلام مع ملك نجران الذي اقترف حادثة الأخدود، وهي: أنه كان الملك له ساحر، فقال له الساحر: قد كبرت سني، فاختر غلاماًً أعلمه السحر ليكون ساحراً عندك، وكان الغلام يمر في الطريق براهب يتعبد، فإذا مر عند الراهب سمع ما يقرأ فأعجبه، فعلم به الراهب فكان يدخله ويعلمه الدين، وكان يذهب عند الساحر أيضاً، فكان يتأخر على الساحر فيضربه، وإذا جاء عند الراهب يغيب على أهله فيضربونه فيصبر، فاشتكى للراهب، فقال له: إذا جئت إلى الساحر وقال لك: لم تأخرت؟ قل: حبسني أهلي، وإذا جئت إلى أهلك وقالوا: لم تأخرت؟ قل: حبسني الساحر، فنجا من الضرب، وبقي الغلام على هذه الحالة -التعليم المزدوج- ثم في يوم قال للراهب: أريد أن تعلمني الاسم الأعظم الذي تسأل الله به فيجيبك؟ قال: لا يصلح لك يا ولدي ولا تقدر عليه.
وسأل رسول الله فقال: (أسألك باسمك الأعظم) الذي هو ذكر ألفاظ، وسأل ربه وأجابه، وجاءت عائشة رضي الله تعالى عنها وقالت: (يا رسول! علمني الاسم الأعظم، قال: لا يصلح لك يا
الذي يهمنا أن الراهب قال للغلام: لا يصلح لك يا ولدي، فقام الغلام وبذكاء، وأخذ الأسماء التي عرفها كلها من الراهب، واحدة واحدة ثم يلقيها في النار مكتوبة فتحترق إلا واحدة لم تحرقها النار، ثم أعاد كتابتها وألقاها في اليم فغرقت كلها إلا واحدة، هي تلك التي لم تحرقها النار، قال: هذا هو الاسم الأعظم.
فجاء في يوم من الأيام يدعو إلى الله في جلساء الملك، وكان من جلساء الملك رجل أعمى، فقال له: أما لك أن يرد الله بصرك؟ قال وكيف ذلك؟ قال: الله! قال: إله غير الملك؟ قال: نعم، الله الذي خلقنا وسوانا، الله الذي يقدر على أن يرد إليك بصرك الذي خلقه فيك أولاً، الله الذي خلق السماوات والأرض، فآمن الأعمى، فدعا له الله بالاسم الأعظم فإذا بالرجل مبصر.
ومن الغد رآه الملك في مجلسه مبصراً، فقال له: من الذي شفى بصرك؟ قال: الغلام، فدعا الغلام وقال: أبلغ بك من السحر أنك تبرئ الأعمى، قال: لا والله ليس سحراً، ولكنه ربي الذي خلقني وخلقك وخلقه هو الذي رد بصره إليه، قال: ألك إله غيري؟ قال: بلى، فهم به أن يقتله وهو صغير، وإذا برجل أبرص، وبرجل كذا..، وكل يدعوه إلى الإسلام ويدعو له بالاسم الأعظم فيشفى.
حينها شعر الملك بمن يخالفه في مجلسه، إن قتله قالوا: قتل صغيراً، ماذا يفعل؟ أمر جماعة من جنده وقال: خذوه واذهبوا به في البحر، فإذا توسطتم اللجة فألقوه في الماء وارجعوا، لا يريد أن يتحمل تبعته، وهذا من الضعف.
فلما توسطوا وأرادوا إلقاءه، قال: اللهم اكفنيهم بما شئت -نفس الدعاء- فاضطرب القارب وتناثروا وسقطوا وبقي هو في القارب، ومن الغد إذا به في مجلس الملك يروي له ما حدث عندما أرادوا قتله، وأن الله أنجاني منهم، وكفانيهم بما شاء، قال: الله أيضاً؟ ثم جاء بجماعة آخرين كي يذهبوا به إلى قمة الجبل، قال لهم: إذا صعدتم الجبل فارجموه من قمة الجبل فلما ذهبوا به ووصلوا إلى القمة وأرادوا رميه قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فاهتز الجبل فتناثروا وبقي جالساً، ومن الغد جاء إلى مجلس الملك، ثم انتهى الأمر إلى ما تعلمون من قتله من كنانة الصبي.
إذاً: اللهم اكفنيهم بما شئت، قالها صلى الله عليه وسلم حينما جاء سراقة ، ثم ماذا حدث لـسراقة ؟
يقول ابن كثير : فغاصت قوائم فرسه الأربع في الأرض، وكانت أرض صلبة وليست رملية، ولا طيناً تلزق، ولا ماء.. بل قاعاً صلبة جامدة، فإذا بها تتفتح لقوائم الفرس، وتنزل قوائم الفرس إلى أسفل، وفي بعض الروايات الأخرى: (فعثرت به فرسه، فسقط عنها، وما كان من خلقها)، وفي بعض الروايات: أخذ الأقداح وعمل القرعة، هل أدركه أو أتركه، فخرج (أتركه)، فلم يقبل لأنه يريد المائة من الإبل، والسهام التي يحملها وأقداحه في الجاهلية تقول له: اتركه، وهو غير قابل بهذا، فلما دنا غاصت قوائم فرسه في الأرض، أو عثرت به وسقط عنها.
المهم نادى: يا محمد! ادع ربك كي ينجيني مما أنا فيه ولن يصيبك مني أذى. هناك عرف بأن لمحمد رباً أحسن من ربه، وعرف الحق، فلما دعا له النبي قام، فتعجب سراقة مما رأى، وقام يعرض عليهم الزاد فقالوا: نحن في غنى عن ذلك. قال: خذ هذا السهم من كنانتي وستمر بغنمي، فاعرضه على الراعي وخذ من غنمي ما شئت. قال: يغنينا الله عن غنمك.
ثم قال له صلى الله عليه وسلم: (أتعجب يا
هذا وقد اختفيت في الغار ثلاثة أيام، وأنت خائف من قومك إلى قوم آخرين يؤوونك، وتبحث عن مأوى جديد لدعوتك، ومع هذا تعدني بسواري كسرى؛ فقال: اكتب لي كتاباً بسواري كسرى، فقال صلى الله عليه وسلم: (اكتب له يا
هذا سراقة الآن يفي الله سبحانه وتعالى له بوعد رسوله، ففي زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، يفتح الله على المسلمين المدائن، ويؤتى بلباس كسرى وله سواران من الذهب، وله تيجان وصولجان وأشياء عجيبة جداً، فنظروا فإذا هو لباس طويل لرجل ضخم، وعمر رضي الله تعالى عنه كان يريد أن يراه كي يعطيه من يرتديه، فأخذوا يستقرئون الحاضرين فلم يجدوا أطول من سراقة ، فلبس والصك في جيبه، وتذكر: (كيف بك إذا أنت لبست سواري كسرى).
فلبس ورآه الناس، ثم قالوا له: انزع، فقال: لا، هذا أعطانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في طريق الهجرة، وأعطاني عليه كتاباً، أما عمر رضي الله تعالى عنه الملهم الذي يفر الشيطان من طريقه، كما في الحديث: (لو كان فيكم ملهمون لكان
يا سراقة! إنما قال: (إذا أنت لبست) فقد لبست، وما قال تملكت، وأخذه منه عمر بالمحاكمة إلى كتابه، وعدك بأن تلبس فقد لبست، وكونك تلبسه لا يملكك، فانتزعه منه.
يهمنا قوله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت لـسراقة : (كيف بك إذا لبست سواري كسرى) وهذه لها نظائر كثيرة في السنة كما حدث في غزوة الخندق عند الكدية، وأشياء أخرى.
بعدما أمن الرسول صلى الله عليه وسلم الطلب وبعد عن مكة، مر على امرأة تسمى أم معبد ، وهي امرأة في طريق المسافرين تكرم الضيوف.
فلما نزلوا عليها قال لها أبو بكر رضي الله تعالى عنه: (هل عندك من لحم شراء أو قرى، إن تبيعي نشتري، وإن تقرينا نقبل) قالت: يا هذا! إن كنت تريد القرى واللحمة فعليك بشيخ القبيلة، أنا امرأة عجوز في الطريق.
فنظر صلى الله عليه وسلم إلى شاة ضعيفة في البيت، وفي بعض الروايات: أنه نزل بجانبها في الظل، فلما وجدتهم جالسين ووجوههم وجوه خيرة، دعت غلامها وقالت: يا غلام! خذ هذه الشاة الكنوز والشفرة، واذهب بها إليهما وقل لهما: اذبحاها وكلا وأطعمانا منها.
هنا تأتي معجزة أخرى ويأتي موقف يحتاج إلى تأمل وتعمق: أنتم طلبتم لحم قرى أو شرى وجاءكم اللحم، فإذا بسيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، إذا بالرحيم والرحمة المهداة حينما يكون في طريقه إلى خطوات الدعوة وارتياد موطن آخر، يأبى أن يريق دماً في طريقه ولو كان لشاة، يقول: يا غلام! رد الشفرة، وائتني بقدح.
فقالت العجوز: قل له: إنها كنوز وليس فيها شيء. قال: قلت له. قالت له: خذ، وأخذ الإناء وذهب إليهما، فأخذ صلى الله عليه وسلم العنز ومسح ضرعها ودعا الله، فدر ضرعها، وحلب وملئ الإناء، وقال: اسقها أولاً، قالت: لا والله أنت أحق بالسقيا أولاً، فشرب صلى الله عليه وسلم، وشرب أبو بكر ، وشربت المرأة، وشرب الغلام، وبقي الإناء ملآن باللبن، ثم دعا الله فانكمش الضرع وعاد كما كان.
فلما جاء أبو معبد ، قال: من أين لكم هذا اللبن؟ قالت: من شاتنا. قال: أليست بكنوز؟ قالت: بلى، فقد مر بنا رجل، لئن كان ساحراً لهو أسحر الناس على وجه الأرض، ولئن كان صالحاً لهو أصلح الناس على وجه الأرض. قال: لعله رجل قريش، قالت: لا أدري، ومضى صلى الله عليه وسلم في طريقه حتى وصل إلى قباء.
من غرائب الصدف أو الترتيبات الإلهية أن أهل قباء تسامعوا بخروج رسول الله إليهم، فكانوا كل يوم ينتظرونه من جهة الجنوب وهي جهة مكة، وإذا اشتد عليهم حر الشمس يرجعون إلى بيوتهم، وهكذا كل يوم ينتظرون المجيء فلم يأت.
وفي يوم من الأيام بعد أن رجعوا إلى بيوتهم ولم يبق أحد، إذا برجل يهودي على أطمة يرى نبينا صلى الله عليه وسلم وأبا بكر فيعرفهما، فيقول: يا بني قيلة! هذا جدكم قد حضر.
الجد بمعنى: الحظ، وبنو قيلة: هم الأوس والخزرج.
وسموا بذلك لأن أمهم الأخيرة كانت تسمى قيلة.
فقاموا إليه سراعاً، وما كانوا رأوا رسول الله، ولا يعرفون رسول الله من صاحبه، فلما ارتفعت الشمس وقام أبو بكر رضي الله تعالى عنه يظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم بردائه، عندها عرفوا رسول الله، فتقدموا إليه، وجاء صلى الله عليه وسلم ونزل بقباء.
الموقف هنا: من الذي كان يقود الركب؟ كان رجلاً مشركاً، ومن الذي أعلن عن وصول رسول الله إلى المدينة؟ يهودي، وهذا من باب الإرهاص بأن الله سبحانه ناصر دينه، ومستخدم المشرك واليهودي لخدمة هذا الدين، وإرادة الله فوق كل شيء.
وصل صلى الله عليه وسلم قباء، ويتفقون بأن وصوله كان في يوم الإثنين، كما أن خروجه من مكة كان يوم الإثنين أيضاً.
ثم صعد من قباء يوم الجمعة التالية أو الجمعة التي بعدها -يختلفون في ذلك- والذي يهمنا أنه في الجمعة الأولى، وفي مدة أربعة أيام بنى مسجد قباء.
عناية الإسلام بالمساجد
بعضهم يقول: وضع للعبادة، ووضع لكذا، نقول: بل وضع للعمران، أول بناء وأول حضارة وأول استقرار إنما هو للبيت الحرام، وهكذا النبي صلى الله عليه وسلم أول ما وصل قباء باشر بناء المسجد؛ لأن المسجد قاعدة تجمع، ومن ثم يكون الانطلاق.
وأمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه كان على هذا المنهج، فلما أراد أن يبني الكوفة قال لقائدها: اختر مكاناً رابياً -أي: مرتفعاً؛ لأنه أنقى للهواء- ثم اختر رجلاً رامياً يقف وسط المكان ويرمي إلى الجهات الأربع، وعليه فخط المسجد حيث وقف، واجعل بناء البيوت حيث وقعت السهام، واجعل ما بين البيوت والمسجد ميداناً عاماً.
أين تخطيط المدن على هذا المنوال؟ نحن عندنا إمكانيات لبناء شوارع متسعة، ولكن بعد خمس عشرة سنة نريد أن نوسعها؛ وذلك بسبب قصر النظر، فهذا التخطيط الذي فعله عمر كان لمئات السنين، أما تخطيطنا فلعصرنا ولوقتنا، شارع عرضه مائة متر، ويخطط على مائة متر، وينفذ على خمسين، والأراضي واسعة، وأنت تأخذها ثم تتركها حتى تقام العمائر، ثم تهدم وتوسع...
عمر اعتبر المسجد قصبة القرية الجديدة والبيوت من حوله.
فعني صلى الله عليه وسلم بمسجد قباء، ويتفق علماء السيرة والتاريخ: أن النبي صلى الله عليه وسلم انتدب الناس وقال: من يركب الناقة؟ قالوا: فلان، وبعضهم يقول: هذا في حلبها، وبعضهم قال: أمر رجلاً أن يركب القصواء وترك لها زمامها، فاستدارت دورة كاملة يخط على أثرها المسجد؛ فخط المسجد، وعند وضع المحراب، وليس هو بمحراب مبني؛ يقولون: إن جبريل عليه السلام أتى رسول الله وأراه المكان حتى رأى الكعبة، وقد وضعت قبلة المسجد على ما رأى.
ثم كانت فضيلة هذا المسجد ( أن من خرج من بيته متطهراً إلى قباء، فصلى في المسجد ركعتين كان له كأجر عمرة ) ولا نناقش في سند هذا الحديث؛ فهذا عند جمهور المحدثين معمول به.
أحداث في الطريق من قباء إلى المدينة
وكان كما يقول ابن كثير وغيره: واستشرف على البيوت أهل المدينة حتى العذارى والنسوة والصبيان والكبار والصغار، يريدون أن يروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما مر بقبيلة من قباء إلى المدينة إلا وخرجوا إليه وأمسكوا بزمام الراحلة، وقالوا: هلم إلينا يا رسول الله، هلم إلى العَدد والعُدد والمنعة.
لمْ يقولوا: على الطعام الطيب والرطب، والمجلس اللين؛ لأنه خرج من مكة على بيعة أهل المدينة من قبل السبعين الذين بايعوه على أن يمنعوه، فدعوه إلى المنعة والعدد ليفوا بما بايعوا عليه: هلم إلى العَدد والعُدد والمنعة، أي: على ما بايعناك عليه، فقال (خلوا سبيلها فإنها مأمورة) أي: أنا ليس لي اختيار في موطن نزولي؛ فإن الناقة مأمورة بأن تنزل في المكان الذي يريده الله.
سبحان الله! إن جئنا من جهة العادة والطبيعة: وأرحم خلق الله، وأفهم خلق الله، وإذا جئنا إلى الناحية الأخرى: رسول يوحى إليه من الله: خلوا سبيلها، اتركوها تمشي، كيف هذا؟ نبي يوحى إليه، آتٍ لكي يبلغ رسالة يقول هذا، ولكن وراء ذلك من الحكم ما لا يعلمه إلا الله.
ومر على أخواله من بني النجار، فقالوا: هلم إلى أخوالك يا رسول الله! وهو يقول: (دعوها فإنها مأمورة) فمرت حتى جاءت إلى هذا الحي ونزلت الناقة وبركت، ثم لم ينزل عنها، بل الناقة بعد أن بركت ودارت واستدارت، وتلفتت ثم رجعت إلى مكانها الأول وبركت فيه، يقول ابن كثير : كالمتحقق من معالم يديه، يعني: مثل مهندس حكيم نبيه عنده خارطة لمنْجَم، أو لأمانة، أو لموقع، وهو ماضٍ على الخارطة من أجل أن يصل إلى الهدف الذي يريده، وهذه المأمورة سارت في طريقها إلى المكان الذي أراده الله لها ثم نزلت، ولما رجعت ونزلت المرة الثانية مدت عنقها، فقال صلى الله عليه وسلم ({هو المنزل إن شاء الله).
نزول النبي صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب الأنصاري
هنا موقفان: الأوس والخزرج استمروا في حرب لمدة مائة سنة، وما انتهت إلا قبل مجيء رسول الله بخمس سنوات، وكانا كفرسي رهان يتسابقان فيما يفعلانه لرسول الله، وجاء رسول الله على بيعة منهما معاً عند العقبة، فعندما يأتي المدينة وهما متنافسان عند من ينزل؟ إن نزل عند هؤلاء قالوا: والله آثرهم علينا، وإن نزل عند هؤلاء قالوا: والله آثرهم من أول الأمر علينا، فيوجد الصدع لأول لحظة، فكان الأفضل أن يترك الاختيار للمأمورة، وإن كان أردوا أن يعتبوا فليعتبوا على الناقة.. وهو يقول: والله أنا تركت أمري لله، والله ساق المأمورة، وهي التي نزلت حيث أمرت، فطابت النفوس بذلك.
ثم المكان الذي نزل فيه به بيوت متجاورة، ينزل عند من منهم؟ لو اختار بيتاً على بيوت الحي لأثار أيضاً تساؤلاً: لماذا اختار بيت فلان؟ لكن عندما تكون من أحدهم بدون أن يشعر رسول الله ولا يشعر الجماعة ويلتفت صلى الله عليه وسلم: (أين رحلي؟ ثم قال: المرء مع رحله) من هو هذا؟ إنه أبو أيوب، وكان اختيار بيت أبي أيوب من عند رسول الله؟ وهل حابى وجامل فيه على حساب الآخرين؟ لا.
وينكشف الغيب عن سر وعن معجزة أخرى، ما هو سر بيت أبي أيوب؟
تاريخ بيت أبي أيوب يرجع إلى زمن ما قبل مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك حين جاء تبع من اليمن واستولى على المدينة في طريقه إلى غزو إفريقيا، وخلف ولده ملكاً عليها، وفي يوم من الأيام ذهب هذا الولد وصعد النخلة ليجني منها، فجاء صاحبها وضربه بالمنجل فقتله، وقال: إنما الثمر لمن أبّر.
فلما رجع الملك وجد ولده قتيلاً، فأراد أن ينتقم لولده، فقاتل أهل المدينة فلم يغلبهم، وحاصرها فاستمر الحصار طويلاً، حتى نفد زاد الملك والجيش، فقال أهل المدينة فيما بينهم: والله ما أنصفنا عدونا! نقاتلهم حتى إذا أتى الليل أوينا إلى بيوتنا وزوجاتنا وطعامنا وفراشنا، وعدونا يبيت طاوياً جائعاً ونصبح نقاتله، أخرجوا إلى الجيش طعامهم، فقال الملك: واعجبا لأهل هذه القرية، نقاتلهم نهاراً ويقروننا ليلاً.
إذاً: الأصالة في المدينة من قبل الهجرة، واستمرت تلك الأصالة حتى قدم إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا بهم: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
فقال الملك: إن أمر هذه البلدة لعجيب، فخرج إليه حبران، وقالوا: ما تريد يا أيها الملك من هذه القرية؟ قال: أريد أن أهدمها، قالا: لن تقدر، ولن تسلط عليها؛ لأنها مهاجر آخر نبي يأتي إليها، قال: وبم تشيران عليّ؟ قالا: أن تبني له بيتاً إذا ما نزل فيه، فبنى البيت وكتب كتاباً، وأعطاه لأحد أبناء الحبرين، وكان من نسلهما أبو أيوب الأنصاري ، فجاء النبي ونزل في البيت الذي بناه الملك لينزل فيه النبي إذا جاء المدينة.
ولعلنا نقف عند بيت أبي أيوب الأنصاري ، ولنا مجلس آخر إن شاء الله نبدأ فيه بنتائج الهجرة، وكيف قابل النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة والهجرة المجتمع المدني -إن صحت هذه التسمية- وبالله تعالى التوفيق
حديث الهجرة حديث عميق، ودروسها دروس عظيمة؛ لأنها كما أسلفنا بمثابة الجسر الذي يربط بين الماضي والحاضر، والذي ينقل من الجاهلية إلى الإسلام ومن الجهل إلى العرفان، والحديث عن الهجرة له جوانب نحددها، وأرجو من كل طالب علم أن يمعن النظر في تلك الجوانب ويتأمل ترابط بعضها ببعض.
أولاً: أن الهجرة سنة الأنبياء، والهجرة هي وسيلة انتشار الدعوة ووصولها إلى الأمم، فالخليل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، هاجر إلى مصر ثم إلى الحجاز، ثم قال: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، ثم هجَّر من ذريته هاجر وإسماعيل، وكان بهذا التهجير ميلاد أمة جديدة نقلت دعوة من أرض النبوات بالشام، وعن أمة بني إسرائيل إلى أرض الحرمين الأمة العربية.
وموسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام هاجر، وخرج مرتين، المرة الأولى حين أتاه الآتي وقال: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص:20]، فخرج خائفاً يترقب، ثم بعد ذلك رجع، وتحمل الرسالة وجاء إلى فرعون ، وخرج مهاجراً ببني إسرائيل.
ولوط عليه السلام أيضاً خرج وهاجر وترك القرية وكان من أمرها ما كان.
فهجرة نبينا صلى الله عليه وسلم ليست بدعاً وليست جديدة، بل هي على سنن الرسل من قبله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
عناية الإسلام قبل كل شيء بالمسجد؛ لأن المسجد هو قصبة البلدة، وبيت الأمة، والمجمع الأكبر، ويكفي فيه قوله سبحانه: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا [آل عمران:96]، فأول شيء وضع هو المسجد، ولكن لم وضع؟
بعضهم يقول: وضع للعبادة، ووضع لكذا، نقول: بل وضع للعمران، أول بناء وأول حضارة وأول استقرار إنما هو للبيت الحرام، وهكذا النبي صلى الله عليه وسلم أول ما وصل قباء باشر بناء المسجد؛ لأن المسجد قاعدة تجمع، ومن ثم يكون الانطلاق.
وأمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه كان على هذا المنهج، فلما أراد أن يبني الكوفة قال لقائدها: اختر مكاناً رابياً -أي: مرتفعاً؛ لأنه أنقى للهواء- ثم اختر رجلاً رامياً يقف وسط المكان ويرمي إلى الجهات الأربع، وعليه فخط المسجد حيث وقف، واجعل بناء البيوت حيث وقعت السهام، واجعل ما بين البيوت والمسجد ميداناً عاماً.
أين تخطيط المدن على هذا المنوال؟ نحن عندنا إمكانيات لبناء شوارع متسعة، ولكن بعد خمس عشرة سنة نريد أن نوسعها؛ وذلك بسبب قصر النظر، فهذا التخطيط الذي فعله عمر كان لمئات السنين، أما تخطيطنا فلعصرنا ولوقتنا، شارع عرضه مائة متر، ويخطط على مائة متر، وينفذ على خمسين، والأراضي واسعة، وأنت تأخذها ثم تتركها حتى تقام العمائر، ثم تهدم وتوسع...
عمر اعتبر المسجد قصبة القرية الجديدة والبيوت من حوله.
فعني صلى الله عليه وسلم بمسجد قباء، ويتفق علماء السيرة والتاريخ: أن النبي صلى الله عليه وسلم انتدب الناس وقال: من يركب الناقة؟ قالوا: فلان، وبعضهم يقول: هذا في حلبها، وبعضهم قال: أمر رجلاً أن يركب القصواء وترك لها زمامها، فاستدارت دورة كاملة يخط على أثرها المسجد؛ فخط المسجد، وعند وضع المحراب، وليس هو بمحراب مبني؛ يقولون: إن جبريل عليه السلام أتى رسول الله وأراه المكان حتى رأى الكعبة، وقد وضعت قبلة المسجد على ما رأى.
ثم كانت فضيلة هذا المسجد ( أن من خرج من بيته متطهراً إلى قباء، فصلى في المسجد ركعتين كان له كأجر عمرة ) ولا نناقش في سند هذا الحديث؛ فهذا عند جمهور المحدثين معمول به.