مسالك الأبصار
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
ومؤلفه الشهاب العمري
للأستاذ محمد عبد الله عنان
في سنة 1924 أخرجت دار الكتب المصرية الجزء الأول من أثر ضخم، هو كتاب (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) لشهاب الدين أحمد بن فضل الله العمري، وذلك بإشارة المغفور له العلامة الأستاذ أحمد زكي باشا وبتحقيقه. ثم وقف مشروع إخراج الكتاب في مستهله لأسباب نجهلها حتى اليوم، ولكنا علمنا أخيراً أن دار الكتب قررت استئناف العمل في (مسالك الأبصار) وإخراجه تباعاً إلى جانب الآثار القديمة الأخرى التي تعنى بنشرها. وهو نبأ يستقبله الباحثون والأدباء بمنتهى الغبطة.
ذلك أن (مسالك الأبصار) من الآثار الإسلامية الضخمة التي تمتاز بغزارة مادتها وتنوع موضوعاتها ونفاسة معلوماتها؛ وهو ثالث ثلاثة من الموسوعات العربية المصرية الضخمة، التي كتبت في عصور متقاربة، وامتازت على جميع الآثار الإسلامية بضخامتها وتنوعها وطرافتها؛ وهي: مسالك الأبصار، ونهاية الأرب للنويري، وصبح الأعشى للقلقشندي.
وقد أخرجت لنا دار الكتب (صبح الأعشى) كاملاً في أربعة عشر مجلداً، وأنجزت لنا من نهاية الأرب نحو ثلثه في أحد عشر مجلداً، وما زالت ماضية في إخراجه، وبقي عليها أن تستأنف العمل في ثالثة هذه الموسوعات الكبرى، ونعني (مسالك الأبصار). كان القرن الثامن الهجري في مصر عصر الموسوعات الأدبية والتاريخية العامة؛ وإذا لم تكن فكرة الموسوعات الجامعة في الأدب العربي مصرية محضة، فقد بلغت ذروتها على الأقل في مصر، وأخرج الكتاب المصريون أعظم وأبدع نماذجها.
وكان شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري هو أول كتاب الموسوعات ورأس هذه المدرسة الغزيرة الباهرة (660 - 732هـ) وقد وضع لنا موسوعته الفريدة (نهاية الأرب في فنون الأدب) في أوائل القرن الثامن الهجري في أكثر من ثلاثين مجلداً كبيراً، فجاءت أثراً ضخماً لم تشهد مثله الآداب العربية من قبل في غزارة المادة وتنوع الموضوعات وطرافة الأوضاع؛ ثم تلاه العمري الذي نريد أن نتحدث اليوم عنه وعن مجهوده، بوضع موسوعته ( الأبصار)؛ وجاء القلقشندي ليختم هذا الثبت في أوائل القرن التاسع بوضع موسوعته (صبح الأعشى). كان العمري دمشقي المولد؛ ولكن مصري التربية والموطن والتكوين؛ وهو شهاب الدين أبو العباس بن فضل الله أحمد بن يحيى؛ وينتهي نسبه إلى عمر بن الخطاب، ومن ثم كان تلقيبه بالعمري.
ولد في ثالث شوال سنة سبعمائة (1300م)، وتلقى تربيته الأولى في دمشق؛ ثم وفد على القاهرة حدثاً ودرس بها واتخذها وطناً وموئلاً، ومال إلى التخصص في علوم الفقه واللغة، وبرع بالأخص في الكتابة والإنشاء، وتقلد في البلاط القاهري عدة مناصب هامة أيام السلطان الناصر محمد بن قلاوون في ولايته الثالثة (709 - 741هـ) وانتهى إلى تقلد ديوان الإنشاء والرسائل، فاستحدث فيه كثيراً من الأساليب والأوضاع البديعة، ووضع له دستوراً لبث عمدة الكتاب والسلاطين مدى عصور. ولبث العمري إلى جانب اضطلاعه بأعباء المناصب العامة رجل البحث والدرس؛ وعني عناية خاصة بدرس الجغرافية الطبيعية والسياسية أو الممالك والمسالك وطبائعها وخواصها؛ ودرس تواريخ الأمم وأحوالها وعجائبها، ولا سيما أمم الشرق النائية مثل أمم التتار والهند والصين، ودرس الفلك أيضاً، ولم يكتف في درسه بقراءة المصادر والمصنفات القديمة، فتجول في أنحاء الشام والأناضول والحجاز وبعض الممالك الإسلامية الأخرى، حسبما يبدو ذلك في أكثر من موضع من سياق موسوعته، وحسبما يشير إجمالاً في مقدمته، واستعان في تعرف أحوال الأمم والممالك التي لم تتح له زيارتها بأقوال العارفين والثقاة ممن زاروها أو درسوا أحوالها دراسة خاصة، حتى اجتمعت له من ذلك مادة غزيرة تمتاز في كثير من الأحيان بدقتها وطرافتها. وقد تبوأ العمري إمامة البلاغة والبيان والترسل في عصره حتى أن الصفدي معاصره وصديقه يفضله في هذا الفن على القاضي الفاضل، وبصف خلاله ومواهبه الأدبية في تلك العبارات البليغة: (يتدفق بحره بالجواهر كلاماً، ويتألق إنشاؤه بالبوارق المستعرة نظاماً، ويقطر كلامه فصاحة وبلاغة، وتندى عباراته انسجاماً وصياغة، وينظر إلى غيب المعاني من ستر رقيق، ويغوص في لجة البيان فيظفر بكبار اللؤلؤ من البحر العميق، قد استوت بديهته وارتجاله، وتأخر عن فروسيته من هذا الفن رجاله، يكتب من رأس قلمه بديها ما يعجز القاضي الفاضل أن يدانيه تشبيهاً، وينظم من المقطوع والقصيدة جوهراً يخجل الروض الذي باكره الحيا مزهراً، صرف الزمان أمراً ونهياً، ودبر الممالك تنفيذاً ورأباً، ووصل الأرزاق بقلمه، ورويت تواقيعه وهي سجلات لحكمه وحكمه، لا أرى أن اسم الكاتب يصدق على غيره ولا يطلق على سواه).
ثم يصفه الصفدي بعد ذلك بالأديب (الكامل) وينوه بقوة ذاكرته، وحسن ذوقه، ويقول لنا إنه، أي العمري، كان آية في النثر والنظم والترسل البارع عن الملوك، وأنه (لم ير من يعرف تواريخ الملوك المغل من لدن جنكيزخان معرفته، وكذلك ملوك الهند والأتراك.
وأما معرفته الممالك والمسالك، وخطوط الأقاليم والبلدان وخواصها، فأنه فيها إمام وقته). ولأقوال الصفدي، وهو إمام النقد في عصره، قيمتها في التنويه بخلال العمري الأدبية، والعلمية الفائقة.
بيد أن تراث العمري نفسه ما زال خير شاهد بعبقريته ولا سيما في فن الإنشاء والترسل، وقد كان العمري فوق ذلك شاعراً مجيداً؛ ومن رقيق شعره قوله: أأحبابنا والعذر منا اليكمو ...
إذا ماشغلنا بالنوى أن نودعا أبثَّكموا شوقاً أباري ببعضه ...
حمام العشايا رنة وتوجعا أبيت سمير البرق قلبي مثله ...
أقضى به الليل التمام مروعاً وما هو شوق مدة ثم ينقضي ...
ولا أنه يلقي محباً مفجعا ولكنه شوق على القرب والنوى ...
أغص الأماقى مدمعاً ثم مدمعا ومن فارق الأحباب في العمر ساعة ...
كمن فارق الأحباب في العمر أجمعا وقطع العمري حياة قصيرة ولكن باهرة؛ وتبوأ ذروة المناصب العامة، كما تبوأ إمامة التفكير والأدب، واستمرت حظوته لدى الملك الناصر طوال عهده؛ ثم توفى سنة 749 هـ (1348م) دون أن يبلغ الخمسين. - 2 - ترك لنا العمري تراثاً حافلاً ينم عن غزارة مادته ورفيع مواهبه، منه موسوعته الكبرى (مسالك الابصار في ممالك الأمطار) و (الدعوة المستجابة) و (صبابة المشتاق) وهو في المدائح النبوية و (سفرة السفرة) و (دمعة الباكي) و (يقظة الساهر) و (نفحة الروض) وكلها من كتب الأدب والبيان، وكتاب (فواصل السمر في فضائل آل عمر) وكتاب (الشتويات) وهو رسائل في الشتاء و (النبذة الكافية في معرفة الكتاب والقافية) وكتاب (التعريف بالمصطلح الشريف) وهو مجموعة نماذج من الرسائل الملوكية والأميرية، وسنعود إليه؛ وطائفة كبيرة من القصائد والموشحات والتقاليد والمناشير. وقد انتهى إلينا من هذا التراث أهمه وأنفسه؛ فلدينا أولاً كتاب (مسالك الأبصار) وهو أهم آثار العمري وأضخمها؛ وهو في الواقع موسوعة كبرى تملأ عشرين مجلداً كبيراً، ويقول لنا العمري إنه أثر الحياة وإنه (قطع فيه عمر الأيام والليالي) وإنه شرع فيه أيام التحاقه بخدمة الملك الناصر؛ وقد يكون ذلك حوالي سنة 730 هـ؛ ويبدو من مقدمته أيضاً ومن دعائه للملك الناصر بدوام أيامه، أنه أنجز نسخته الأولى قبل سنة 741هـ أعني قبل وفاة الناصر، بيد أنه يبدو من جهة أخرى أنه زاد فيه بعد ذلك لأنه يصل في رواية الحوادث إلى سنة 743 هـ. ومن المحقق أن العمري تأثر في وضع موسوعته بمثل سلفه العظيم النويري صاحب موسوعة (نهاية الأرب) وهي أول موسوعة من نوعها.
غير أنه ينحو في تقسيمها ومحتوياتها نوعاً آخر؛ وبينما يسبغ النويري على موسوعته صبغة علمية أدبية ناريخية، إذا بالعمري يسبغ على موسوعته صبغة جغرافية تاريخية، وهو يقسمها إلى قسمين كبيرين: الأول: (في الأرض) والثاني (في سكان الأرض)، ويشمل القسم الأول ذكر الأرض وما استملت عليه براً وبحراً، وهو نوعان كبيران: المسالك والممالك، ويدخل في النوع الأول الكلام على أحوال الأرض وصفاتها وعناصرها وما تحتويه من أنهار وجبال ثم الكلام على الأقاليم السبعة وهي أساس الجغرافية القديمة وما فيها من المدن والجزائر وما يؤثر عنها من العجائب، ثم الكلام عن الرياح والكواكب والأعراض الطبيعية؛ ويدخل في القسم الثاني الكلام عن ممالك العالم المعروف يومئذ مبتدئاً بممالك الهند والسند والتتار ثم الترك ومصر والشام والحجاز واليمن، ثم ممالك السودان والحبش وإفريقية والأندلس، وفيه بيانات ضافية عن أحوال هذه البلاد ونظمها وخواصها ومحصولها وحيوانها؛ ويبدي العمري هنا دقة البحث والتحري، ويقدم إلينا أسانيده ومصادره كلما شعر بمبالغة أو غرابة فيما يروي.
ويختم هذا القسم بالكلام عن العرب الموجودين في عصره وأماكن وجودهم ولا سيما في مصر، وهو فصل له قيمته في تعرف الأصول والأنساب.
ويشغل هذا القسم الأول من الكتاب نحو عشرة مجلدات. ويتناول القسم الثاني الكلام على سكان الأرض من طوائف الأمم وفيه حديث مستفيض عن طوائف العلماء في الشرق والغرب، ثم الكلام على الأديان والنحل المختلفة؛ وبعدئذ يجيء الكلام على التاريخ، وهو قسمان، تاريخ الدول التي كانت قبل الإسلام، ثم تاريخ الدول التي قامت بعد الإسلام حتى عصر المؤلف، ويستطرد فيه إلى ذكر الحوادث حتى سنة 743هـ أعني قبل وفاته بنحو خمسة أعوام. ولم ينشر إلى يومنا من كتاب (مسالك الأبصار) سوى الجزء الأول كما قدمنا؛ غير أنه قد نشرت منه بعض فصول ونبذ متفرقة منها فصل من فصول القسم الأول عنوانه (كلام إجمالي في أمر مشاهير ممالك عباد الصليب في البر دون البحر) نشره المستشرق أماري (سنة 1883) مقروناً بترجمة إيطالية، وهو فصل يمتاز بدقته وطرافته ويتناول الحديث عن أحوال الممالك النصرانية والجمهوريات الإيطالية في النصف الأول من القرن الرابع عشر الميلادي، وينسب العمري ما أورده فيه من المعلومات إلى رجل إيطالي يدعى (بلبان الجنوي) عرفه في بعض رحلاته واستقى منه معلوماته وهي معلومات في منتهى الدقة ولا سيما ما تعلق منها بنظم الجمهوريات الإيطالية في ذلك العصر.
وعني صديقنا العلامة السيد حسن حسني عبد الوهاب بنشر الفصل الخاص بوصف أفريقية والأندلس؛ ونشر أحد المستشرقين الألمان أخيراً الفصل الخاص بوصف بلاد الأناضول. - 3 - على أنه قد انتهى إلينا من تراث العمري اثر ذو أهمية خاصة هو كتاب (التعريف بالمصطلح الشريف) وقد كان العمري كما رأينا مدى أعوام طويلة ناظراً لديوان الإنشاء والرسائل، وقد استحدث في هذا الديوان الكثر من الأساليب والأوضاع الجديدة سواء في توجيه الرسائل والمخاطبات أو صيغها؛ ويجب أن نعلم أن ديوان الإنشاء كان في تلك العصور مجمع المراسلات الداخلية والخارجية، فمنه تصدر الرسائل والمناشير والأوامر والتواقيع إلى الأمراء والحكام وكبار الموظفين؛ ومنه توجه الرسائل الخارجية إلى مختلف الملوك والدول التي ترتبط بمصر بعلائق سياسية أو تجارية؛ وإذا فقد كان اختصاصه يتناول ما يسمى اليوم في لغة السياسة الحديثة بنظم (البروتوكول) وهي عبارة عن الرسوم والإجراءات التي تجري عليها الدولة في تنظيم علائقها الخارجية، سواء في إجراء المفاوضات السياسية أم في عهد المعاهدات أو مخاطبة الدول الأخرى أو استقبال ممثليها ومعاملتهم أو في تحرير المكاتبات الدبلوماسية.
وتسمى هذه الرسوم والنظم في الدولة الإسلامية 0بالمصطلح الشريف) وقد كان للعمري اكبر الفضل في تجديد هذه النظم، وعلى يده بلغت ذروتها من الافتنان والتناسق في الدقة؛ وللتعريف بهذه النظم وشروحها وضع العمري كتابه (التعريف بالمصطلح الشريف) وفيه يشرح رتب المكاتبات السلطانية وإجراءاتها، ويعرض نماذج من العهود والتقاليد والتفاويض والمراسيم والمناشير وكذلك نماذج عديدة من الوثائق والمكاتبات الدبلوماسية؛ ثم يتحدث عن أوضاع الممالك وتقاسيمها الإدارية، وعن مراكز البريد ووسائل المواصلة البحرية.
ويعتبر كتاب العمري دستور المصطلح الشريف في مصر الإسلامية؛ ويعتبره القلقشندي صاحب صبح الأعشى أنفس الكتب المصنفة في هذا الباب.
وقد انتفع به القلقشندي في موسوعته أعظم انتفاع، ونقل إلينا فوق ذلك طائفة كبيرة من الرسائل والمكاتبات السلطانية التي دبجت بقلم العمري في ظروف ومناسبات مختلفة، وكلها دليل على ما كان يتمتع به العمري من المواهب الإنشائية السامية. وللعمري آثار ورسائل أخرى كما قدمنا، ولكن معظمها لم يصل إلينا، وما يزال بعضها بعيداً عن التداول في بعض المكاتب الأوربية.
على أن (مسالك الأبصار) يبقى دائماً أعظم آثاره؛ ورجاؤنا أن تعمل دار الكتب لمصرية لإخراجه بهمة مضاعفة فلا تمضي أعوام قلائل حتى تضعه كاملاً بين أيدي الباحثين. النقل ممنوع محمد عبد الله عنان