تلكم السكينة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعــد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذه ليلة الخميس من هذا الشهر المبارك الكريم، نسأل الله أن يجعله شهر خير ورحمة لنا ولكم وللمسلمين أجمعين.

أيها الإخوة الكرام: هذا العصر الذي نعيش فيه يتميز بأنه عصر القلق والاضطراب والأمراض النفسية التي عبثت بالناس أيما عبث، فأصبحت تجد في كل مدينة وقرية ومستشفى قسماً خاصاً للأمراض النفسية، وعيادات مخصصة للأطباء النفسانيين، يتردد عليها مئات بل ألوف من الناس، لا أقول من الفقراء والمعدمين، بل منْ علية القوم، من أهل الجاه والثراء والنفوذ والقوة، ممن يملكون بأيديهم الدنيا ولكنهم لم يجدوا للسكينة والسعادة في قلوبهم موضعاً، فهو عصر القلق والاضطراب والحيرة والتردد.

وكان من ثمرات ذلك أن نسبة المنتحرين في العالم تزداد يوماً بعد يوم، وكلما تقدم الناس في المادة والثراء، وارتفع دخل الفرد، ازدادت نسبة المنتحرين، ففي أكثر دول العالم ومناطقه ثراءً يكون أكثر معدل للانتحار، هذا فضلاً عن غيره من مظاهر القلق الموجودة في العالم، فهو بحق عصر القلق.

ثمرة من ثمرات عدم الإيمان بالله تعالى

من المؤسف جداً أن هذا القلق الذي يعيشه الناس، إنما يعالجه أطباء هم في كثير من الأحيان في أمس الحاجة إلى من يعالجهم أيضاً، لماذا؟

لأن القلق هو ثمرة من ثمرات عدم الإيمان بالله عز وجل، والبعد عن طريقه وهدايته وأنوار الوحي التي أنـزلها الله تعالى على رسله وأنبيائه، فمن قال أن طبيباً نصرانياً أو ملحداً أو كافراً يفلح في علاج حالات القلق هذه؟! بل إن المريض يخرج من عنده وقد ازداد قلقاً وحيرةً وتردداً.

وقد بلغني أن من يسمون بالأطباء النفسانيين يدخل عليهم المريض أو تدخل عليهم المريضة، فيبدءون يحادثونهم في قضايا الدين، ويشككونهم في دينهم وفي عقائدهم وفي أخلاقهم وفي سلوكهم، حتى يخرج المريض وهو مصاب بمرض -فضلاً عن مرضه الأول- الشك.

فهؤلاء المرضى الذين يسمون بالأطباء هم بحاجة إلى من يعالجهم وكما قيل:

يا أيها الرجل المعلم غيره     هلا لنفسك كان ذا التعليم

تصف الدواء لذي السقام وذي     الضنا كيما يصح به وأنت سقيم

ابدأ بنفسك فانهها عن غيها     فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

كما أننا نجد كثيراً من الناس يذهبون إلى من يعالجونهم بقراءة القرآن والأدعية والأذكار والرقية الشرعية، وهذا لا شك علاج حسن متى كان مقتبساً من نور النبوة والسنة الصحيحة، فضلاً عن أعداد كثيرة من المرضى الذين يذهبون إلى المشعوذين والدجالين والمرتزقة، الذين يمدون أيديهم بالباطل إلى جيوب الناس بحجة العلاج، ويذهب أعداد كبيرة من الناس إلى من يدَّعون أنهم كهان، أو إلى من يدَّعون أنهم عرافون، يزعمون علم شيء من الغيب، وهؤلاء وأولئك كلهم همهم أن يأخذوا أموال الناس بالباطل، فهذه ميزة من ميزات هذا العصر.

هذا العصر هو عصر السرعة

كما أن الميزة الأخرى المرادفة لهذه الميزة هي كما يقولون: بأنه عصر السرعة، فالناس فيه يركضون كأن وراءهم شيئاً يلاحقهم أو يطاردهم، وهم يبحثون عن لا شيء، أو يبحثون عن شيء لا يستطيعون أن يحددوه بالضبط.

فتجد كثيراً من الناس يركضون ويلهثون، ولكن الواقع أنهم لا يعرفون طريقهم، ولا يدرون إلى أين يتجهون، ولأجل علاج كل الأمراض التي يعانيها كل الناس؛ شرع الله تعالى العبادات، سواء كان ذلك في الصيام أو الصلاة أو الحج أو الذكر، أو غيرها من العبادات، من أجل أن تكون السكينة مستقرة في قلوب الناس، فيكون الإنسان ليس في حال الغنى والأمن والثرى والجاه والنفوذ سعيداً، لا، بل حتى في حال الفقر والمرض والخوف والقلق مطمئناً هادئ القلب؛ لأنه يتلمس السكينة في قلبه.

من المؤسف جداً أن هذا القلق الذي يعيشه الناس، إنما يعالجه أطباء هم في كثير من الأحيان في أمس الحاجة إلى من يعالجهم أيضاً، لماذا؟

لأن القلق هو ثمرة من ثمرات عدم الإيمان بالله عز وجل، والبعد عن طريقه وهدايته وأنوار الوحي التي أنـزلها الله تعالى على رسله وأنبيائه، فمن قال أن طبيباً نصرانياً أو ملحداً أو كافراً يفلح في علاج حالات القلق هذه؟! بل إن المريض يخرج من عنده وقد ازداد قلقاً وحيرةً وتردداً.

وقد بلغني أن من يسمون بالأطباء النفسانيين يدخل عليهم المريض أو تدخل عليهم المريضة، فيبدءون يحادثونهم في قضايا الدين، ويشككونهم في دينهم وفي عقائدهم وفي أخلاقهم وفي سلوكهم، حتى يخرج المريض وهو مصاب بمرض -فضلاً عن مرضه الأول- الشك.

فهؤلاء المرضى الذين يسمون بالأطباء هم بحاجة إلى من يعالجهم وكما قيل:

يا أيها الرجل المعلم غيره     هلا لنفسك كان ذا التعليم

تصف الدواء لذي السقام وذي     الضنا كيما يصح به وأنت سقيم

ابدأ بنفسك فانهها عن غيها     فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

كما أننا نجد كثيراً من الناس يذهبون إلى من يعالجونهم بقراءة القرآن والأدعية والأذكار والرقية الشرعية، وهذا لا شك علاج حسن متى كان مقتبساً من نور النبوة والسنة الصحيحة، فضلاً عن أعداد كثيرة من المرضى الذين يذهبون إلى المشعوذين والدجالين والمرتزقة، الذين يمدون أيديهم بالباطل إلى جيوب الناس بحجة العلاج، ويذهب أعداد كبيرة من الناس إلى من يدَّعون أنهم كهان، أو إلى من يدَّعون أنهم عرافون، يزعمون علم شيء من الغيب، وهؤلاء وأولئك كلهم همهم أن يأخذوا أموال الناس بالباطل، فهذه ميزة من ميزات هذا العصر.

كما أن الميزة الأخرى المرادفة لهذه الميزة هي كما يقولون: بأنه عصر السرعة، فالناس فيه يركضون كأن وراءهم شيئاً يلاحقهم أو يطاردهم، وهم يبحثون عن لا شيء، أو يبحثون عن شيء لا يستطيعون أن يحددوه بالضبط.

فتجد كثيراً من الناس يركضون ويلهثون، ولكن الواقع أنهم لا يعرفون طريقهم، ولا يدرون إلى أين يتجهون، ولأجل علاج كل الأمراض التي يعانيها كل الناس؛ شرع الله تعالى العبادات، سواء كان ذلك في الصيام أو الصلاة أو الحج أو الذكر، أو غيرها من العبادات، من أجل أن تكون السكينة مستقرة في قلوب الناس، فيكون الإنسان ليس في حال الغنى والأمن والثرى والجاه والنفوذ سعيداً، لا، بل حتى في حال الفقر والمرض والخوف والقلق مطمئناً هادئ القلب؛ لأنه يتلمس السكينة في قلبه.

فيا ترى ما هي السكينة؟!

السكينة هي: طمأنينة القلب واستقراره.

وأصلها في القلب ثم تفيض بعد ذلك على الجوارح، فترى على جوارح الإنسان المطمئن بذكر الله تعالى وعبادته أثر السكينة والهدوء والخشوع، وهي أنواع:

سكينة الأنبياء

منها: سكينة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام:

1- موسى عليه السلام:

كالسكينة التي ألقاها الله على موسى عليه الصلاة والسلام في مواقف الشدّة، حينما لحق به فرعون وجنوده بغياً وعدواً، فقال بنو إسرائيل لموسى: يا موسى إنا لمدركون، البحر من أمامنا، والعدو من ورائنا، فإلى أين المفر؟

قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62] وألقى الله تعالى في قلبه وفي قلوب المؤمنين معه السكينة، فازدادوا إيماناً مع إيمانهم.

ووجدها موسى عليه الصلاة السلام حينما خاطبه الله عز وجل، فلما أتى إلى تلك الشجرة التي وجد عندها النار، وقد تاه في الصحراء البعيدة، الظلماء المتسعة الأرجاء قال له الله تعالى: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى [طه:11-16] فلما سمع كلام الرب عز وجل -وهو كلام عظيم، لا يقدر أحد قدره إلا الله عز وجل- ألقي الله في قلبه السكينة، مع أن الله إذا تكلم بالوحي أخذت السماوات رجفة لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، حتى إذا زال عن الملائكة ما وجدوا، وفُزِّعَ عن قلوبهم، قال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم؟

قالوا: الحق، فسمع موسى كلام الله عز وجل بطمأنينة قلب، وثبات جأشٍ، وسكينة نفس، ألقاها الله عليه في مثل هذا الموضع.

كما ألقى الله عز وجل عليه السكينة حينما جاء إلى يوم الزينة وحشر السحرة، قال تعالى: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى [طه:66-67] فألقى الله في قلبه السكينة حينئذٍ وقال له: قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:68-69].

2- إبراهيم عليه السلام:

سكينة الأنبياء وجدها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، حينما وُضع في فوهة المنجنيق، وقُذف به إلى تلك النار التي جلسوا يضرمونها أياماً وليالي، فوجد في قلبه السكينة والطمأنينة، وألقى الله في نفسه الهدوء والراحة حتى اكتفى بقوله: حسبنا الله ونعم الوكيل، قال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه: [[حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ[آل عمران:173]]] فما عادوا يهتمون بأحد يجمع، أو يكيد، أو يحشد أو يستعد لهم، أو يحاربهم، حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال الله: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69].

3- محمد صلى الله عليه وسلم:

هذه السكينة سكينة الأنبياء وجدها محمد صلى الله عليه وسلم حينما خرج من مكة مستخفياً فاراً بدينه إلى المدينة، ما معه إلا أبو بكر الصديق، فأووا إلى الغار هاربين مستخفين، فبحثت عنهم قريش حتى وصلوا إلى فم الغار، فقال أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {والله يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى نعله لرآنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما} وقال الله تعالى: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا [التوبة:40] فهذه السكينة التي وجدها النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وهما في الغار، وهما فريدان أعزلان مستخفيان، وجدا بردها في صدورهما، فرضيا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وآمنا أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وأنه من حفظه الله فلا خوف عليه.

ووجدها صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر وأحد والخندق، وفتح مكة وحنين، حينما كان الأعداء يكيدون له ويجمعون قوتهم، فكان صلى الله عليه وسلم يجد السكينة في قلبه، فيأتي إليه أصحابه وهم في حالة من القلق والفزع والخوف، فيطمئنهم ويصدرون عنه وهم في غاية السرور والرضا، فهذه سكينة الأنبياء.

سكينة أتباع الأنبياء

سكينة الأنبياء يأتي دونها سكينة أتباع الأنبياء، التي يجعلها الله تعالى في قلوب الصديقين والمهتدين والمؤمنين، فيورثهم بدلاً من خوفهم أمنا، وبدلاً من فقرهم غنى، وبدلاً من ذلهم قوة وعزة، فهذه السكينة -سكينة أتباع الرسل- ينـزلها الله عليهم في المواقف العصيبة، والشدة، والخوف، فيحفظهم بها من الشك والرَّيب، ولهذا أنـزلها الله تعالى على صحاب نبيه صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة:

السكينة التي تنزل عليهم في الجهاد في سبيل الله

منها أنه أنـزلها عليهم في أصعب المواطن وأحرجها، وذلك في يوم الحديبية حينما رَدَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن دخول مكة وأصابهم من الهم والقلق ما أصابهم، حتى إن عمر رضي الله عنه وهو القوي المؤمن الصابر الجلد أصابه ما أصابه، ففزع وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {يا رسول الله! أولسنا بالمؤمنين؟

قال: بلى قال: أوليسوا بمشركين؟

قال: بلى. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟!

قال: أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره ولن يضيعني. فلم يصبر فجاء إلى أبي بكر وقال: يا أبا بكر أولسنا بالمؤمنين؟

قال: بلى قال: وأليسوا بالمشركين؟

قال: بلى. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟!

قال يا رجل: الزم غرزه؛ فإنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الله ناصره وحافظه}.

فحينئذٍ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنـزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى [الفتح:26] هُوَ الَّذِي أَنـزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح:4] فأنـزل الله السكينة في قلوب المؤمنين أتباع رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في مثل هذا الموقف القلق العصيب، ولهذا كانت السكينة تنـزل على المؤمنين في مواقف الجهاد والقتال كما روى أبو داود عن سمرة بن جندب رضي الله عنه وأرضاه قال: {سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلنا في الجهاد خيل الله} لماذا؟

لأنها الخيل التي أوقفت في القتال في سبيل الله، وحملت المجاهدين الصابرين الذابين عن حوزة الإسلام، وأعراض المؤمنين، وبلاد الإسلام، فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم خيل الله {سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلنا خيل الله، وكان يأمرنا إذا فزعنا بالجماعة والصبر والسكينة} فإذا أصابهم الفزع والقلق والخوف، أوصاهم صلى الله عليه وسلم بالسكينة، وبالهدوء، وبالاطمئنان، وبالذكر الذي يحفظهم به الله تعالى، وكذلك إذا قاتلوا كان يأمرهم بالسكينة.

ولهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا كانوا في حال المعارك وكانوا يرتجزون بالشعر، يسألون الله تعالى أن ينـزل عليهم السكينة، فكان من حدائهم:

والله لولا الله ما اهتدينا      ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنـزلن سكينة علينا     وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الذين قد بغوا علينا     إذا أرادوا فتنة أبينا

فيسألون الله تعالى أن ينـزل السكينة في قلوبهم.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يردد وراءهم، يقول: {أبينا أبينا} والحديث في الصحيح. فهذه السكينة التي تنـزل عند أتباع الأنبياء في حال القتال والشدة والخوف من عدوهم، وهي لا تعارض القوة في الحق، فإن عمر رضي الله عنه -كان مشهوراً بالقوة والشدة- في يوم الحديبية كان يلحق ببعض المؤمنين، كـأبي جندل -الذي خرج من المشركين- ويعطيه السيف ويقول له: يا أبا جندل، إنما هؤلاء مشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب! ويعطيه السيف، يعني: خذ السيف واقتل والدك؛ فإنه من المشركين، فكان عمر قد غضب غضباً شديداً في ذات الله عز وجل في ذلك الموقف، ومع ذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يرون أن السكينة تنطق على لسان عمر.

روى أحمد في مسنده، عن وهب السوائي قال: خطبنا علي رضي الله عنه، فقال لنا: [[من خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم؟ قال: فقيل له: أنت يا أمير المؤمنين قال: لا، خير هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر رضي الله عنه، وإن كنا لنقول: إن السكينة تنطق على لسان عمر.]]

إذاً: عمر، القوي في الحق الذي يَفْرَق الشيطان من ظله، وإذا رآه قد سلك طريقاً سلك الشيطان طريقاً آخر، كانت السكينة تنطق على لسانه رضي الله عنه. فليست السكينة ذلاً ولا تماوتاً ولا خضوعاً، وإنما السكينة طمأنينة في القلب، وإيمان بالرب جل وعلا، وثقة به وتوكل عليه مع القوة والجراءة في الحق.

السكينة التي تنزل عليهم عند القيام بالعبودية

ومن السكينة التي تنـزل على أتباع الأنبياء، السكينة التي تنـزل عليهم عند القيام بوظائف العبودية لله عز وجل، من ذكر وصلاة وصوم وحج وعبادة ونسك وغير ذلك.

وهذه السكينة تكون في حال أداء العبادات كالصلاة والصيام والحج، كما أنها تكون بعد ذلك أثراً من آثار العبادة في قلب المتعبد وجوارحه، ولذلك كانت العبادات تورث العابد الذل والخشوع لله عز وجل، وغض الطرف، واجتماع القلب على الله تبارك وتعالى، ومحبته والإخبات بين يديه، فمثلاً: السكينة حال الذكر جاء فيها قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة، أنه عليه الصلاة والسلام قال: {وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نـزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله تعالى فيمن عنده}.

فإذا تجمع القوم على قراءة القرآن؛ نـزلت السكينة من السماء على هؤلاء وغشيتهم رحمة الله عز وجل، ونـزلت الملائكة فحفت بهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم، تأنس بالقرآن وتستمع إليه من أفواه المؤمنين غضاً طرياً رطبا، كأنما أنـزل الآن.

السكينة التي تنزل حال نزول القرآن

ومنها السكينة التي تنـزل حال نـزول القرآن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نـزل عليه الوحي تغشته السكينة، ولهذا روى أبو داود عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: {بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم وكنت إلى جنبه فغشيته السكينة، فوقعت فخذه على فخذي، قال: فما وجدت شيئاً أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كادت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ترض فخذي -كما في بعض الروايات- من شدة ثقلها}.

إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:5] فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغشاه من شدة الوحي شيء عظيم حتى يتفصد من جبهته عرقاً في اليوم الشاتي من ثقل الوحي عليه، فوقعت فخذه صلى الله عليه وسلم على فخذ زيد، قال: {فما رأيت شيئاً أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، ثم سريَّ عنه فأملى عليَّ وقال: اكتب. قال: فكتبت في كتف كان معه قول الله عز وجل: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله [النساء:95] قال: وكان في المجلس عبد الله بن أم مكتوم، وكان رجلاً أعمى، فلما سمع فضل الجهاد والمجاهدين قام وقال: يا رسول الله! فكيف بمن لا يستطيع الجهاد كالأعمى والأعرج والمريض وغيرهم، قال: فنـزلت السكينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وغشيته مرة أخرى، ووقعت فخذه على فخذي، فما وجدت شيئاً أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، ثم سريَّ عنه فقال: اكتب. قال: فكتبت لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله [النساء:95] فاستثنى الله تعالى أولي الضرر، كالأعمى والأعرج والمريض، كما قال الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [الفتح:17]}.

المهم: أن السكينة كانت تنـزل برسول الله صلى الله عليه وسلم، عند نـزول الْمَلَك عليه بالقرآن، وكذلك كانت السكينة تنـزل عند قراءة القرآن، كما في الصحيحين، في قصة أُسيد بن حضير رضي الله عنه -وهو من كبار الأنصار- أنه كان ذات ليلة يصلي صلاة الليل في مربد، فقرأ سورة البقرة -وفي رواية في الصحيحين أنه قرأ سورة الكهف- وكانت الخيل مربوطة قريباً منه، فقرأ ورفع صوته بالقرآن -وكان حسناً جميل الصوت- فجالت الفرس وبدأت تذهب وتقبل وتدبر، حتى خشي أن تفك رباطها، وكان ولده يحيى إلى جنبه -وهو طفل صغير- فخشي عليه من الخيل، فسكت عن قراءة القرآن فسكنت الخيل، فعاود القراءة بعد ذلك، فجالت الفرس وبدأت تقبل وتدبر، حتى خشي على ولده فسكنت، فرفع صوته بالقرآن مرة أخرى، فتحركت الخيل وجالت حتى خشي على ولده فسكت، ثم صلى فرفع رأسه إلى السماء، فإذا مثل الظلة فوق رأسه، وإذا فيها أمثال المصابيح.

فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا رسول الله! إنه حصل البارحة كذا وكذا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {اقرأ يـابن حضير اقرأ، قال: فقرأت يا رسول الله، فجالت الخيل حتى خشيت على ولدي يحيى فسكت، قال: اقرأ أبا يحيى قال: فقرأت يا رسول الله، حتى جالت الفرس، فخشيت على ولدي فسكت، قال: اقرأ أبا يحيى، قال: قرأت يا رسول الله حتى خشيت على ولدي فسكت، قال صلى الله عليه وسلم: تلك السكينة -وفي رواية: تلك الملائكة- تنـزلت لقراءة القرآن ولو قرأت؛ لأصبحت ينظر الناس إليها، لا تتوارى عنهم}

فنـزلت السكينة، ونـزلت الملائكة لقراءة أسيد بن حضير رضي الله عنه القرآن الكريم.

1- أسباب نـزول الملائكة:

وإنما كان نـزول الملائكة لأسباب:

السبب الأول: هو عَظَمَةُ ما قرأه أسيد سواء كان قد قرأ سورة البقرة أم سورة الكهف، فأما سورة البقرة فهي الزهراء التي لا تستطيعها البَطَلَة ولا يدخل الشيطان بيتاً قرأت فيه، وأما سورة الكهف فهي السورة العظيمة، التي بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من قرأها في جمعة أضاءت له ما بينه وبين الجمعة الأخرى.

السبب الثاني: أن القارئ كان يفهم معنى ما يقرأ ويتأثر به ويخشع له، فكان هذا سبباً وجيهاً لنـزول الملائكة ونـزول السكينة.

السبب الثالث: أنه كان يرفع صوته بقراءة القرآن، وكأنه -والله أعلم- كان حسن الصوت بالقرآن، كما كان أبو موسى واستمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة إلى قراءته، فأنصت وأُعجب بقراءته أيما إعجاب وقال له: {يا أبا موسى، كيف لو رأيتني وأنا أستمع إلى قراءتك البارحة؟!

لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود -صوتك بالقرآن جميل جدُّ جميل- فقال: يا رسول الله، والله لو علمت أنك تسمعني؛ لحبَّرته لك تحبيراً} أي: لزينته وحسنته أكثر مما زينته.

السكينة التي تنزل حال الصلاة

وكذلك السكينة تنـزل حال الصلاة، وينبغي للعبد أن يحرص عليها، ولهذا جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا أقيمت الصلاة، فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا} فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يركض الإنسان إلى الصلاة، وأمر أن يأتي للصلاة وعليه السكينة؛ لأن العبادة ينبغي أن يقبل عليها العبد بهدوء وبسكينة وبطمأنينة نفس، أما الإنسان الذي يلهث من شدة الركض والعناء؛ فإنه لا يقبل على صلاته كما ينبغي.

ولهذا جاء في البخاري، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه: {أنه جاء والرسول صلى الله عليه وسلم راكع، فأسرع وقد حفزه النفس، ثم ركع ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم سأل من الذي أتى وهو راكع؟ فقال: أنا يا رسول الله، وذكر له الحال. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: زادك الله حرصاً ولا تعد} لا تعد لمثل هذا وائت إلى الصلاة وعليك السكينة والوقار، فما أدركت فصل وما فاتك فاقض.

السكينة التي تكون حال الحج

وكذلك تكون السكينة في حال الحج أيضاً، ولذلك أفاض النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة، وعليه السكينة، ومعه ما يزيد على مائة ألف حاج، فكان يقول: {أيها الناس عليكم بالسكينة، عليكم بالسكينة، عليكم بالسكينة} كما في الصحيحين. فأفاض النبي عليه الصلاة والسلام وعليه السكينة وأمر أصحابه بالسكينة وبالهدوء الذي يتناسب مع حرمة الحج وحرمة العبادة.

إذاً: هذه السكينة مطلوبة من العبد في كل حال وينبغي للإنسان أن يحرص عليها في حال العبادة كما يحرص عليها في جميع الأحوال.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5122 استماع
حديث الهجرة 5016 استماع
تلك الرسل 4169 استماع
الصومال الجريح 4146 استماع
مصير المترفين 4124 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4052 استماع
وقفات مع سورة ق 3979 استماع
مقياس الربح والخسارة 3929 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3874 استماع
التخريج بواسطة المعجم المفهرس 3837 استماع