شرح زاد المستقنع باب التعزير [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [ باب التعزير ].

تعريف التعزير

التعزير في لغة العرب: مأخوذ من عزّر فلان فلاناً إذا منعه، ويقال للنصرة، فالمعزر هو الناصر، والأصل في هذه المادة أنها للمنع والحيلولة بين الشيء والشيء الآخر، ونظراً لاشتمالها على معنى المنع استعملت في التأديب؛ لأن التأديب يمنع الإنسان من العود إلى ما فعله من الأمور الممنوعة والمحظورة، ولذلك عرّفه المصنف رحمه الله: بالتأديب، وهذا أحد التعاريف التي ذكرها العلماء رحمهم الله، وبهذا التعريف -وهو التأديب- تكون المناسبة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي: وجود المنع، وذلك أن المعنى اللغوي يدور حول الحيلولة بين الشيء والشيء، والتأديب يمنع الإنسان من الأمور التي لا تليق به والأمور التي حظرت عليه ومنع منها.

يقول رحمه الله: (باب التعزير) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالعقوبة التي لا حد لها ولا تقدير في الشرع. وهذه العقوبة -عقوبة التعزير- تشرع في غير الحدود المقدرة، سواء كانت الجناية من الجنايات القولية أو الجنايات الفعلية، ولكن السؤال: لماذا ذكر المصنف رحمه الله باب التعزير في هذا الموضع بعد الجلد؟ فهو قد ذكر عقوبة الزنا، وأعقبها بعقوبة القذف، وأعقبها بعقوبة شرب المسكر، والسؤال: لماذا ذكر التعزير بعد هذه الحدود؟

والحقيقة أنه كان ينبغي أن يؤخر باب التعزير إلى نهاية كتاب الحدود؛ لأن التعزير عقوبة غير مقدّرة شرعاً، فكان المنبغي أن ينتهي من العقوبات المقدّرة شرعاً ثم بعد ذلك يبين ما لا حد فيه ولا عقوبة معينة شرعاً، وهذا مسلكٌ درج عليه بعض الأئمة رحمهم الله؛ أنهم ذكروا أبواب وكتاب الحدود ثم أعقبوها بباب التعزير.

والمصنف رحمه الله لعله لاحظ وجود التعزير في أغلب الصور أنه يقوم على الجلد، ولذلك بعدما فرغ من بيان العقوبات الشرعية المقدرة في الجلد بالأعداد المحددة شرعاً -كما ذكرنا في حد الزنا والقذف- أتبعه بحد الخمر، ثم أتبع ذلك بالتعزيرات لأنها في الغالب بالجلد.

ومن هنا تكون المناسبة وجود اتفاق أو شبه مقاربة بين عقوبة الجلد بالحد وعقوبة الجلد بالتعزير، ومن هنا جاء في باب التعزير أنه لا يجلد فوق عشرة أسواط، وهذا نوع مناسبة، وإلا فالحقيقة أن الأليق به ذكره بعد كتاب الحدود، ومن العلماء والأئمة رحمهم الله من أخّر باب التعزير، وهذا أدق.

مشروعية التعزير

يقول رحمه الله: [ باب التعزير ].

التعزير مشروع في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمع السلف والخلف رحمهم الله من الخلفاء الراشدين وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وكذلك أئمة السلف والتابعين لهم بإحسان رحمة الله عليهم أجمعين على مشروعية التعزير.

ففي كتاب الله عز وجل شرع الله تعزير المرأة الزانية قبل نزول عقوبة الزنا، فأمر سبحانه وتعالى بحبس الزانية ومنعها من الخروج حتى يتوفاها الموت أو يجعل الله لها سبيلاً، ثم جاء الحديث ببيان عقوبة الزنا، ونزلت الآيات التي تبين الجلد في الزنا، فقال عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) ، فقبل نزول هذه العقوبة كانت المرأة الزانية تحبس في البيت، والرجل إذا زنى فإنه يؤذى، والأذية تكون بتوبيخه وأذيته، حتى نزلت العقوبة المقدرة شرعاً، فهذا من نص الله على التعزير.

كذلك شرع الله التعزير في الحق الخاص، كما في تعزير الرجل لامرأته: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا [النساء:34] ، فالمرأة إذا نشزت على زوجها فإنها قد ضيعت حق الزوج؛ لأن الله جعل الرجال قوامين على النساء، وجعل المرأة تحت الرجل تقوم على أمره وترعى شأنه، فإذا استرجلت ونشزت وخرجت عن طاعته خرجت عن فطرتها، فلا بد من تأديبها وإيقافها عند حدها، فشرع الله عز وجل التعزير على هذا الوجه، وهذا يدل على مشروعية التعزير بالكتاب.

كذلك أيضاً: شرع الله عز وجل التعزير على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وبسنته الصحيحة، فقد عزر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعزر الخلفاء الراشدون من بعده، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا يُجلد فوق عشرة أسواط إلا في حدٍ من حدود الله)، فلما قال: (لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله)، بيّن مشروعية الجلد، وأنه يكون في غير الحدود؛ لأنه استثنى الحد في الزيادة، وأجاز العقوبة دون العشرة في غير الحدود، فدلّ على أنه يشرع التعزير بالجلد.

العقوبة بالتعزير

والتعزير في الحقيقة لا يتوقف على الجلد، فكما أنه يكون بالجلد؛ يكون أيضاً بالتوبيخ، ويكون بالنفي، ويكون بالتغريب، ويكون بإتلاف المعصية التي يعصى الله عز وجل بها، وكل هذا ثبتت به النصوص.

فالتعزير بالضرب: قال صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر)، فشرع أن يضرب الصبي، وهو نوع عقوبة تهيئة له لحكم الله عز وجل والقيام بأمره وما أوجب.

كذلك أيضاً: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قتل وأمر بالقتل عقوبةً وتعزيراً، فثبت عنه عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم وغيره أنه قال: (من أتاكم وأمركم على رجل واحد منكم يريد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه)، فشرع قتله تعزيراً، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية أنه نوع من التعزير بالقتل.

ومن هنا صارت عقوبة التعزير لا تتوقف على شيء معين، وإنما تكون إلى نظر القاضي والإمام، فينظر الأصلح في زجر الناس وردعهم، وحفظ حقوق الخاصة والعامة.

وكذلك أيضاً يكون التعزير بالتوبيخ والتقريع والتأنيب، وقد ثبت بذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أبا ذر رضي الله عنه لما قال لـبلال : يا ابن السوداء، غضب عليه الصلاة والسلام وقال له: (إنك امرؤٌ فيك جاهلية)، فهذا توبيخ وتأنيب لـأبي ذر حينما قال هذه الكلمة، رضي الله عنه وأرضاه، فدلّ على مشروعية التوبيخ لمن أساء.

وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه شرع العقوبة بالقول لمن أساء في قوله، فقال: (من سمعتموه يدعو بدعوى الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا)، أي: بمعنى أن يوبخ، ويقال له: امصص ذكر أبيك البعيد، إهانةً له وذلة؛ لأنه يفتح على المسلمين باب الاحتقار بالعصبيات والنعرات، وهذا باب شر، فكما أنه يستعلي على الناس؛ أذله الإسلام، وأذله رب الجِنة والناس، فجعله بهذه المثابة، فيقال له: امصص ذكر أبيك، ويذكر تصريحاً بما يعرف بالعرف توبيخاً له وزجراً، وهذا من العقوبة.

أيضا يكون التعزير بالكف عن الخير ومنع الخير عن الإنسان، كما جاء : (أن رجلاً عطس فحمد الله فشمته النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عطس الآخر فلم يحمد الله عز وجل فلم يشمته النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! عطس فلان فشمته، وعطست فلم تشمتني، قال: إن هذا حمد الله فشمته، وأنت لم تحمد الله فلم أشمتك)، فهذا من العقوبة بالمنع من الخير.

ويكون التعزير بالهجر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (لا يحل لامرئ مسلمٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال)، فشرع الهجر فيما دون ثلاث ليال إذا أخطأ الرجل على الرجل، أو أساء الرجل إلى الرجل، أو أساءت المرأة إلى المرأة، وأرادت أن تؤدبها في إساءتها، ورأت أن من المصلحة ذلك؛ فإنها تعرض عنها وتمتنع من بداءتها بالكلام، فلا تتبسم في وجهها، ولا يتبسم الرجل في وجه الرجل، ولا يبدأه بالكلام، وهذا في حدود ثلاثة أيام، فإذا مضت الثلاثة أيام فلا يجوز الهجر بعدها، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه العقوبة في الثلاثة الذين خلفوا، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب الله عليهم سبحانه وتعالى.

فهذه كلها عقوبات تعزيرية، وهذا يدل على كمال الشريعة الإسلامية وسمو منهجها، أنها عاقبت المسيء في إساءته، ولكن جاءت العقوبة بما يتفق مع الجريمة.

الفروق بين التعزير والحد

وهناك سؤال بالنسبة للتعزير والحد: فالحد عقوبة مقدرة شرعاً، والتعزير عقوبة غير مقدرة؛ ولذلك ذكر العلماء جملة من الفوارق بين الحد والتعزير.

فالحدود تقدم معنا أنها مقدرة لا تجوز الزيادة عليها ولا النقص منها؛ لأن حق الله فيها في ذلك الحق المقدر الواجب على الحاكم وعلى القاضي أن ينفذه شرعاً، فلا يزيد عليه ولا ينقص منه على الأصل في الحدود المقدرة، فلا يزيد في جلد الزاني فوق مائة جلدة؛ لأن الله أمر بجلده مائة جلدة، فهذا حد، ولا يجوز أن ينقص من المائة، لكن التعزير قد يزيد وقد ينقص، ويختلف باختلاف الأشخاص، وباختلاف الأزمنة والأمكنة، وباختلاف الأحوال والظروف، فمثلاً: لو أن شخصاً سب شخصاً وأساء إليه، فإننا ننظر إلى الشخص الذي سَب والشخص الذي سُب ولعن، ثم ننظر هل هذا الشخص الذي وقع عليه السب استفز الذي سبه، أم أن الذي سب سَب مباشرة تهكماً واستهزاءً، فينظر إلى الظروف والأحوال والقرائن؛ ولذلك نجد أن التعزير يرتبط بنظر القاضي ونظر الوالي، ولا يتقيد بشيء معين، فالقاضي هو الذي ينظر وهو الذي يقدر وينزل الناس منازلها، سواءٌ كانوا جناةً أو مجنياً عليهم.

وكذلك أيضاً من الفوارق: أن الحد لا تجوز فيه الشفاعة إذا بلغ القاضي، والتعزيرات يجوز فيها الشفاعة، وتدخل تحت عموم قوله عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء)، فلما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا بلغت الحدود السلطان فلعنة الله على الشافع والمشفِّع)، فمفهوم قوله: (الحدود)، أن غير الحدود تشرع فيه الشفاعة، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا)، فالأصل هو الشفاعة ومحاولة درء الضرر عن المسلم ما أمكن؛ لعله أن يتوب ويرجع ويصلح من بعد فساد، ولكن الحدود لا مجال للشفاعة فيها، وكذلك أيضاً يجب على القاضي إذا استبان له الحد أن ينفذه، ولا مدخل للاجتهاد فيه، فهو إذا ثبتت عنده الجريمة توجه إليه خطاب الشرع أن يأمر بتنفيذ الحكم وإيقاع العقوبة والحد، وأن لا تأخذه في ذلك لومة لائم، كائناً من كان، إنما يخاف الله ويراقب الله، وينصح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم عامها وخاصها، عالماً أنه لا يصلحهم إلا شرع الله سبحانه وتعالى.

وأما بالنسبة للتعزيرات فإنه يسع القاضي والإمام أن ينظرا، فمثلاً: لو أنهما أرادا تعزير شخص، فوجداه قد انكسر وخاف وانزجر، فإنه ربما مجرد التهديد يكون تعزيراً، ومجرد التخويف قد يكتفي به القاضي، وقد يرى أن من المصلحة أن يكتفي به، بخلاف الحدود، فلو بكى الزاني أو الزانية، ولو أقسم الأيمان المغلظة أنه لا يعود، فتنفذ العقوبة عليه، فلا هوادة في ذلك ولا مجال للاجتهاد في رده.

وكذلك أيضاً: التعزير يكون بمختلف العقوبات، فيكون بالأقوال والتوبيخ -كما ذكرنا- ويكون بالضرب -كما ذكرنا في الجلد- ويكون بالقتل، ويكون بالتغريم بالمال، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه غرّم في ضياع حق الله، وكذلك غرم في ضياع حق المخلوق، فقد غرم في ضياع حق الله حينما امتنع رجل عن أداء الزكاة التي فرض الله عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنا آخذوها وشطر ماله عزمةٌ من عزمات ربنا)، وقد تقدم معنا هذا في باب الزكاة، فهذا تعزير بالمال.

كذلك أيضاً: ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه عزر بالمال في حق المخلوق، فحكم عليه الصلاة والسلام أن من دخل الحائط فأكل من الثمر دون استئذان صاحبه، ولم يحمل في جيبه ولم يختلس ولم يأخذ من الثمر؛ فلا شيء عليه، فله أن يأكل من الثمر شريطة أن لا يفسد، ولكن إذا أخذ وانتهب من البستان فوضع في جيبه شيئاً زائداً عن حاجته نُظر: فإن كان الذي أخذه من الثمر من غير الحرز، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من قبل أن يؤويه الجرين)، فإذا أخذه بهذا القدر دون أن يؤويه إلى الجرين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فعليه مثليه والعقوبة) فقوله: (مثليه): أي: نغرمه ضعف ما أخذ، فلو أخذ مثلاً صاعاً ألزمناه أن يرد صاعين، وليس صاعاً واحداً وهذا من التعزير بالمال.

والعقوبة بتعزير زائد على ذلك، فهذا كله مما يختلف فيه التعزير عن الحدود.

أيضاً: التعزير يمكن أن يسقطه القاضي ويمكن أن يسقطه الإمام إلا إذا كان حقاً لمخلوق يطالب به، وهذه المسألة فيها خلاف عند العلماء، لكن من حيث الأصل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه غض الطرف عن بعض الإساءات وعن بعض الأخطاء ولم يعزر فيها، مع أنه يسع فيها التعزير، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه اختصم رجل من الأنصار والزبير رضي الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض شراج الحرة -وكان الوالد رحمه الله يقول: الأشبه أنه في شراج مهزور ومذينيب، ومهزور ومذينيب مما كان يسيح من الماء من شرقي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في الجهة التي تعرف اليوم في زماننا بالحرّة الشرقية، وكان فيها عيون وفيها بعض الأنهار تجري- فكان بستان الزبير فوق بستان الأنصاري، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسقي الزبير ثم يرسل الماء إلى الأنصاري، فقال الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه: أن كان ابن عمتك؟! وهذه كلمة عظيمة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم غض الطرف عن ذلك.

فمن أهل العلم من قال: إن هذا راجع إلى أصل قررته الشريعة في العفو عن الأنصار؛ لأنهم نصروا الإسلام نصراً مؤزراً، وفدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ودين الله وشرع الله بكل ما يملكون حتى بالنفس، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأنصار: (إنهم أدوا ما عليهم)، يعني: أدوا الذي عليهم، وهذه كلمة ليست بالهينة أن يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم أدوا ما عليهم من نصرة الإسلام ونصرة الدين، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنهم أدوا ما عليهم، فمن وجد منهم مسيئاً فليتجاوز عنه)، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم تجاوز عنهم لعظيم بلائهم في الإسلام، وغفر هذه الكلمة في مقابل ما كان منهم من الخير تأليفاً لقلوبهم.

وعلى كل حال: فالتعزير يسع فيه العفو في بعض المسائل، وقد استدلوا لذلك بأدلة سيأتي -إن شاء الله- الكلام عليها في حكم التعزير.

حقيقة التعزير الشرعية

قال رحمه الله تعالى: [ وهو التأديب ].

قوله: (وهو التأديب) الضمير عائد إلى التعزير، والمراد بقوله: هو التأديب، بيان حقيقته الشرعية، فاستفتح المصنف رحمه الله باب التعزير بالتعريف بالتعزير، وهذا أصل تقدم معنا في مقدمات الفقه: أن العلماء رحمهم الله يعتنون بالحقائق والتعريفات اللغوية والاصطلاحية من أجل تصور الشيء قبل الحكم عليه، ومن هنا القاعدة: الحكم على الشيء فرع عن تصوره.

وقد ابتدأ رحمه الله بالتعريف، فقال: وهو التأديب، وقال بعض العلماء: عقوبةٌ غير مقدرة شرعاً ثابتة في حق لله أو حق لآدمي أو هما معاً، ومنهم من يقول: تجب في حق الله أو حق الآدمي، ومنهم من يقول: تثبت في حق الله أو في حق الآدمي، والتعبير بالوجوب راجح عند من يقول بوجوب التعزير، فمن عبر بالوجوب يرى أن التعزير لازم ولابد منه، ولا يسع فيه العفو، وهذا على القول بأن حكم التعزير واجب، وسيأتي إن شاء الله تعالى.

من يحق له التعزير

قوله رحمه الله: (وهو التأديب) هذا التأديب يكون من الوالي والسلطان، ويكون من الشخص من أفراد الأمة، فقد يعزر الإمام العام، مثل أن يعزر الموظفين والعمال الذين يقومون بمصالح الأمة إذا قصّروا، وقد يعزر الإمام العام القضاة إذا قصروا في حقوق الناس، أو ماطلوا في الحكم عليهم، أو أخروا الشهود أو ظلموهم واشتكي إليه، وكذلك من حقه أن يعزر العمال عند أخذهم للرشوة أو تزويرهم، أو نحو ذلك من تضييع حقوق العامة والخاصة، فهذا التعزير للإمام.

وقد يعزر القاضي فيما ذكرنا، كما إذا اشتكى إليه المظلوم أنه ضاع حقه، واعتدي عليه بإساءة لا تصل إلى حد من حدود الله، كأن يسبه سباً لا يوجب حد القذف، فحينئذٍ يعزره القاضي.

ويعزر أيضاً الوالد ولده، فإن للأب أن يعزر ولده، وللزوج أن يعزر زوجته، وللعالم والشيخ أن يمتنع من إجابة السائل -تعزيراً له- إذا لاحظ عليه أن أسئلته مريبة، أو أنه يتعنت في أسئلته، أو أنه يختار الأغلوطات، فمن حقه أن يمتنع في مثل هذا، أو رأى أن من المصلحة أن يعزر الطالب الذي يشوش على إخوانه ويزعجهم، فيمنعه من الحضور إذا علم أنه لا مصلحة في حضور مثله، وغيره يغني عنه، فمن حقه أن يعزر طالبه إذا أساء فتجاوز حدود الأدب.

تعزير من أساء الأدب في مجالس العلماء والقضاة

بعض العلماء يرى أن مجالس القضاة ومجالس العلماء لها حرمة، وأن الغلط فيها لا يسع العفو فيه، ولذلك قال بعض العلماء: لو أساء أحد في مجلس القاضي فإنه يجب على القاضي أن يعزره، ومن هنا قال صاحب التحفة:

ومن جفا القاضي فالتأديب أولى وذا لشاهد مطلوب

فقول: (من جفا القاضي) مثل أن يقول له: أنت ظلمتني في حكمك، أو أنت ظالم في حكمك، أو قال له: لا أقبل حكمك، أو حكمك لا يقبل.. أو نحو ذلك من التهكم والسخرية بأحكامه، وكذلك إذا أساء إلى الشهود فقال لهم: أنتم كذابون ومزورون، أنتم تأخذون المال لتشهدوا عليّ.. فاتهمهم، وحينئذٍ إذا كان في مجلس القاضي فإنه لا يسع أن يعفو عنه، وقد يعترض معترض بقضية الصحابي حينما قال: (أن كان ابن عمتك؟!) وقد ذكرنا أن من الأجوبة عن ذلك: أن هذا خاص مراعاةً من النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار، وما كان منهم من سابقة ونصرة، ولما علم من صدق إيمانهم به عليه الصلاة والسلام، ولكن المال فتنة، فغفر للرجل هذه الكلمة لعله لما يعلم منه من سابقته في الإسلام أو حرصه على الإسلام فغفر له ذلك، ولم يجد ما يوجب العقوبة.

ومن هنا قالوا: من أساء الأدب في مجلس القاضي أو العالم فليعزره، والسبب في تخصيص العلماء رحمهم الله لهذين المجلسين: مجلس القاضي -مجلس الحكم- ومجلس العالم: أنه لا يسع فيهما العفو.

ومنهم من يلحق الأئمة والخطباء في مساجدهم، كأن يكون شخص يرد على الخطيب في أمر فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله، ويسع الخطيب أن يختار قولاً، فيقوم ويتهجم على الخطيب ويتكلم عليه، فيعزر مثله؛ لأنه ليس من حقه، وإذا أراد أن يتبنى رأياً آخر فيفتح له مسجداً آخر ويخطب فيه بما يرى من الصواب والحق، أما في مجلس العالم ومسجد الإمام فهو أحق أن يبين ما ترجح له من الحق.

قالوا: فإذا أساء الأدب في مجالس هؤلاء فإنه لا يُعفا عنه، وقد ذكر بعض الأئمة أنه لا يسلم من عقوبة الله العاجلة أو الآجلة من أساء الأدب في مجالس العلماء، وأراد التضييق عليهم، أو أساء الأدب مع الخطباء، أو مع الأئمة، فيأتي وراء الإمام من أجل أن يخطئه، وكلما انتهى من الصلاة يضيق عليه فيقول له: ألاحظ عليك كذا.. ألاحظ عليك كذا.. فيضيق عليه في إمامته.

فهؤلاء الذين تقدموا للإمامة، وتقدموا لأمور شرعية ومناصب شرعية، في حال الاعتداء عليهم والتضييق عليهم في أداء أمانتهم، والتضييق عليهم في أداء رسالتهم؛ قالوا: لا يسع العفو فيه؛ بل يعزر، وإذا عفا العالم أو الإمام فلا يأمن مثل هؤلاء من بلاء الله عز وجل، وقد ذكروا عن الإمام أبي طالب رحمه الله وكان من أئمة القرآن المبرزين في القراءات، أنه كان لا يخطب خطبة إلا قام له رجلٌ يقاطعه أثناء الخطبة ويعقب عليه ويؤذيه ويشوش عليه، فأكثر الناس عليه، وقالوا: إلى متى تسكت عنه؟! وكان رحمه الله عالماً صبوراً -والعلماء منهم الصابر، ومنهم من لا يصبر- فصبر رحمه الله حتى أكثر الرجل عليه، وفي ذات يوم قام فأساء إليه إساءة بليغة في علمه، فما كان منه إلا أن قال: اللهم اكفنيه بما شئت؛ فسقط الرجل مشلولاً، ولم يعد إلى المسجد بعدها أبداً!

فلا يأمن أمثال هؤلاء؛ لأن أهل الدنيا لا يرضى أحد منهم بمثل هذا، فمثلاً: لو أن تاجراً أقام رجلاً في دكانه فأسيء إليه، فهذا التاجر يحس أن الإساءة إلى العامل إساءة إليه، وهكذا المناصب العامة إذا أُسيء إلى أهلها كأنه أُسيء إلى من وضعهم، فكيف بمن وضعهم رب العالمين! وكيف بمن قدمهم الدين والشرع خلفاء للرسل وارثين للنبوة، يبلغون رسالات الله عز وجل! فمن هنا قالوا: لا يسع العفو؛ لأنه لو عفا عنه لتجرأ على حق الله عز وجل؛ لأن الانتقاص هنا ليس للقاضي ولا للعالم، وليس لشخصه، وإنما هو انتقاص للعلم والدين، ومن هنا قالوا: إنه لا يسع العفو لحرمة المجلس، ولو أن الإمام في ذاته والقاضي عفا في نفسه فإنه لا يسع العفو حرمة للمجلس.

الأداب وأنواعها

وقوله رحمه الله: (وهو التأديب).

الأدب: رعاية الحرمة، فمن راعى حرمة الأشياء في قوله وعمله وفعله وسمته ودله فهو المؤدب، ويكون الأدب أدب المخلوق مع المخلوق، وأدب المخلوق مع الخالق، وأدب الخالق مع المخلوق، فهذه ثلاث أحوال ذكرها العلماء للأدب.

فالله عز وجل يعلمنا الأدب -مع أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام- في خطابه للرسل فيقول: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة:41]، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال:64]، ولم يقل: (يا محمد) بالاسم المجرد؛ تشريفاً له وتكريماً، فناداه بالرسالة، وناداه بالنبوة؛ تشريفاً له وتكريماً، حتى يعلم الأمة الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان العلماء والأئمة لا يقولون: هذا قول محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم يقولون: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول نبي الله صلى الله عليه وسلم؛ رعايةً للأدب، وهذا هو خطاب الله عز وجل لعبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه.

ومن ذلك قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ [التوبة:43]، وهذا من أجمل ما يكون من الخطاب، أن الله قدّم العفو على التعنيف على الفعل، فقال له: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ [التوبة:43]، فلم يقل له: لِمَ أذنت لهم؟! عفا الله عنك، ولكن قال: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ [التوبة:43]، وهذا تعليم للأمة أن يراعوا حقوق من له حق، وحرمة من له حرمة.

قالوا: ومن أدب الخالق مع المخلوق أيضاً قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس:1] * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى [عبس:2]، فإن الله لم يقل له: عبست، وإنما قال: عَبَسَ وَتَوَلَّى ، حتى إن من قرأ السورة لا يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي نزلت فيه هذه السورة.

وقوله: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى [عبس:1-2]، لا يعلم من الذي عبس، وهذا من أكمل ما يكون حينما يُحكى الأمر للشخص دون أن يباشر بالخطاب، فهذا من الأدب، وكذلك تأتي إلى الشخص وتقول له: من الناس من يقول فيّ كذا وكذا، والمخاطب هو الذي قال هذا الكلام، ففرقٌ بين أن تقول: من الناس من يقول فيّ كذا وكذا، وبين أن تقول له: أنت تقول فيّ كذا وكذا.

وأما أدب المخلوق مع الخالق فهو، وهو حال الأنبياء خاصة، بل وعباد الله وأوليائه الصلحاء الأتقياء السعداء، وهؤلاء هم الذين يراعون الأدب مع الله.

ومن ذلك قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80]، ولم يقل: وإذا أمرضني فهو يشفيني، ولا شك أن الله هو الذي يمرضه، ولكنه تأدب: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:78-80]، فنسب المرض إلى نفسه تأدباً مع الله سبحانه وتعالى.

وهناك أدب المخلوق مع المخلوق: وأحوال الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم تدل على ذلك، ومن أراد أن ينظر إلى الأدب في أبهى صوره وأجمل حلله فليقرأ قصص الأنبياء، وليقرأ التفاسير الدقيقة التي تبرز الجوانب الجميلة الجليلة لرسل الله صلوات الله وسلامه عليه، فالله أعلم حيث يجعل رسالته، فهذه الصفوة التي اصطفاها الله من خلقه والخيرة التي اختارها الله من خليقته، هم الذين كانوا يراعون الأدب على أتم أحواله، فمن أدب المخلوق مع المخلوق قول يوسف عليه السلام: قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي [يوسف:26]، فجاء بضمير الغائب، ولم يقل للمرأة: أنت راودتيني عن نفسي، بل قال: قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ، وهذا من أدب المخلوق مع المخلوق.

فالأدب: هو رعاية الحرمة، والتأديب: حمل الإنسان على أن يراعي هذه الحرمة، وهو تفعيلٌ من الأدب بمعنى: أن الإنسان يحمل على رعاية هذه الحرمة في أقواله وفي أفعاله وفي تصرفاته وشئونه.

ولا شك أن الحدود كلها فيها معنى التأديب، ولكن هذا النوع من العقوبات يقصد منه أن يحمل الشخص على رعاية الحرمات؛ لأنه لا يقع التعزير إلا عند الإخلال بالحرمات، سواء كانت عامة أو كانت خاصة، فيكون التعزير في الإخلال بالحرمات العامة وبالحرمات الخاصة، فسواءٌ كان في درء المفاسد أو جلب المصالح.

وقوله رحمه الله: (وهو التأديب) تعريف مختصر راعى فيه رحمه الله الاختصار، والمقصود من التعزير أن يحصل التأديب، وإلا فالأصل أن التعزير عقوبة غير مقدرة شرعاً، تثبت أو تجب لحق الله عز وجل، مثل أن يمتنع من الزكاة فيعزر ويؤخذ منه ضعف الزكاة، أو نصف ماله، ويعزر بحق المخلوق مثلما ذكرنا.

حكم التعزير

قال رحمه الله: [ وهو واجب ].

مذهب الجمهور أن التعزير واجب، وفي الحقيقة ينبغي النظر في التعزير: فإذا كان التعزير لحق مخلوق واشتكى المخلوق، فيجب أن يعزر الجاني، فمثلاً: شخص استهزأ بشخص، أو شهّر به فتكلم في مجامع الناس وقال: فلان لا يفهم شيئاً، أو فلان ما هو أهل لكذا وكذا، فشهر به، أو كتب في صحيفة أو وسيلة إعلامية ما ينتقص به أهل الحق ويزري بهم ويشهر بهم أمام الناس، أو اتهمهم بالباطل، فاشتكى أصحاب الحقوق إلى القضاة، فإذا اشتكى إلى القاضي فيجب على القاضي أن يعزر مثل هذا؛ لأن صاحب الحق طالب بحقه، والقضاة في الأصل ما أقيموا إلا لأجل ردع الناس بعضهم عن بعض، والقيام بالحقوق الواجبة.

وكذلك بعض العلماء يرى وجوبه فيقول: في بعض الأحوال التي يكون فيها تقصير ومماطلة فيجب حينئذ على القاضي أن يعزر، وهو واجب، أي: أنه يرى أن التعزير يجب لكن في حالة ما.

وإذا كان متعلقاً بحق الله عز وجل فإنه يسع فيه العفو، ولذلك جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إني أصبت من امرأةٍ -وذكر أنه أصاب دون الحد، من قبلة أو نحوها- فأنزل الله عز وجل: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114]، فقال الرجل: أهي لي خاصة يا رسول الله؟ قال: بل هي عامة)، فهذا يدل على العفو والمجاوزة في التعزير في حق الله عز وجل متى وسع ذلك، والسبب: أن الرجل جاء شاكياً تائباً يسأل عما يكفر ذنبه، وهذا نوع من التوبة والرجوع، ومن هنا لاحظ عليه الصلاة والسلام أن رجوعه كاف؛ لأنه أدرك ما قام به، والتعزير نوع من التأديب لرعاية الحرمة، وهذا قد جاء نادماً على إسقاط الحرمة، وحاله يدل على أنه لن يعود بإذن الله عز وجل إلى ذلك.

فمن هنا يسع العفو إذا غلب على ظن القاضي المصلحة في عفوه، ولا بأس بذلك ولا حرج، فيكون التعزير في حالة العفو غير واجب، لكن لا يستطيع القاضي أن يعفو في حقوق المخلوقين بعضهم على بعض، ولا يستطيع القاضي أن يتدخل في شخص سبه شخص فآذاه أو اتهمه بما لا يوجب القذف، ورفع هذا الرجل يتظلم إلى القاضي، فلا يأتي القاضي ويقول: اعف عنه، أو يحاول تعطيل تأديبه؛ لأنه يجب على القاضي في هذه الحالة أن ينصف المظلوم ممن ظلمه، فحينئذٍ لا يتدخل القاضي؛ لأنه يجب على القاضي أن يكون محايداً، وفي حالة تدخله بالصلح قد يسقط حق ذي الحق، ولا يجوز إسقاط هذا الحق بدون موجب.

ومن هنا لا يسع العفو ولا يسع الإسقاط في التعزيرات في الحقوق التي يطالب بها أصحابها، وإنما في حق الله عز وجل، والأمر فيه إلى نظر القاضي، ويحق له في بعض الأحوال أن يعفو ولا يعزر.

المعصية الموجبة للتعزير

قال رحمه الله: [ في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة ].

قوله: (في كل معصية) المعصية تكون بترك واجب أو فعل محرم، فنعزر في ترك الواجبات، كما لو امتنع من أداء الزكاة، أو امتنع من الصلاة مع الجماعة على القول بوجوب الصلاة مع الجماعة؛ فإنه يعزر، وكذلك أيضاً في حق المخلوق، وحقوق المخلوقين بعضهم مع بعض، فمثلاً: لو أن شخصاً جاء الناس ووضعوا عنده أماناتهم، ثم امتنع من إعطاء الأمانات، وشهد الشهود عند القاضي على أنه أخذ هذه الأمانات وماطل وأخّر في دفعها لأهلها، فإذا اشتكاه أصحاب الأمانات إلى القاضي فإنه يعاقبه لظلمه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لي الواجد)يعني: تأخيره ومماطلته، و(الواجد) أي: الغني الذي يقدر على السداد (ظلم يبيح عرضه وعقوبته)، فأباح النبي صلى الله عليه وسلم أن يعاقب؛ لأنه عطّل حقوق الناس الواجبة.

وكذلك لو أنه اقترض من الناس أموالهم ثم لم يسددهم، أو هناك عمال يشتغلون عنده، فإذا انتهى الشهر لا يعطيهم حقوقهم ورواتبهم؛ فإنه يجب على القاضي أن يعزر أمثال هؤلاء؛ لأنه امتنع من القيام وأداء الواجب.

فقد تكون المعصية بترك واجب، مثل: عدم أداء الزكاة، أو عدم أداء الأمانات، أو عدم القيام بالحقوق الواجبة كالشهادة، فلو أن شخصاً -مثلاً- عنده شهادة، فهو يشهد أن فلاناً أعطى فلاناً عشرة آلاف ريال، فأنكر الشخص، ولما قيل له: تعال واشهد معي، امتنع، ولا يوجد شاهد غيره، فاحتاج صاحب الحق أن يأتي ويشهد، ففي هذه الحالة يأثم عند العلماء رحمهم الله بالإجماع؛ لأن الشهادة تتعين إذا لم يوجد غيره، فإذا امتنع -وليس من حقه أن يمنع الشهادة لقوله تعالى: وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا [البقرة:282]- فقد امتنع من واجب عليه، فإذا اشتكي إلى القاضي ألزمه بالحضور وسأله القاضي: هل تشهد أن فلاناً فعل كذا وكذا؟ فإن قال: نعم أشهد، فحينئذٍ يقبل شهادته، ثم يعزره ويؤدبه للتأخير والمماطلة، وهذه صورة من التأخير في أداء الواجب.

وكذلك يكون التعزير لارتكاب المعصية بفعل الحرام، فمثلاً: لو أخذ أموال الناس عن طريق التزوير، أو الرشوة، ولا يؤدي واجباً، ويأكل الرشوة والربا، أو رجل اختلى بامرأة فأصاب منها ما دون الحد، فهذا لا يجب إقامة حد الزنا عليه؛ لأنه لم يصب الزنا، فحينئذٍ يعرز، وهذه كلها من فعل المحرمات.

فيكون التعزير بترك الواجبات والوقوع في المحرمات، ما لم تبلغ الحدود، فهذه لها أحكامها الخاصة.

وبقي الإشكال عند العلماء في المندوبات والمكروهات، فهل المندوب مأمور به، وهل المكروه منهي عنه، بحيث يذم التارك للمندوب أو الواقع في المكروه على سبيل يقتضي التعزير؟

فيه خلاف معروف عند أئمة الأصول رحمهم الله، وهذه المسألة تبين عليها مسألة التعزير في الإخلالات العامة في الآداب، فمثلاً: لو أن شخصاً جاء إلى مجالس العلم أو مجالس السكينة والوقار ورفع صوته وشوش على طلاب العلم، ففي هذه الحالة لو رفع أمره إلى القاضي فإنه يعزر، مع أنه ليس بالأمر الذي يصل إلى فعل المحرمات، ولكن فيه نوع من الأذية التي تصل غالباً إلى الكراهة الشديدة، ولو أنه جاء بالجوال وفتحه في مجلس العلم فهل يستحق التعزير أو لا؟ خاصة إذا انبعثت منه الأصوات الموسيقية، فآذى وشوّش في بيت الله عز وجل وحرمته، أو أثناء الصلاة، وهذا أعظم، وهذا ليس بالأمر الهين: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15] ، أن يأتي إلى طلاب العلم وهم في مجلس العلم في تركيزهم وحفظهم ويفتح هذه الجولات، مع أنه بإمكانه أن يجعلها على الصامت، وبإمكانه أن يقفله، وهذا من الإهمال واللامبالاة، أو يأتي في المسجد أثناء الصلاة ويفتحه على الأصوات العالية، فمثل هذا لا شك أنه من المكروه كراهةً شديدة، لكن إذا اشتمل على أصوات موسيقية فلا شك أنه في هذه الحالة يقارب الحرمة.

فالمقصود من هذا: أن قوله: (في كل معصية) عموم، والمعاصي تشمل ما كان لحق الله عز وجل أو كان لحق المخلوق.

وقوله: (لا حد فيها) مثل عقوبة من استمتع بامرأة بما دون الزنا.

وقوله: (ولا كفارة) مثل الجماع في نهار رمضان، فإذا جامع في نهار رمضان فلا يعزر؛ لأن الشرع أوجب لهذا الجماع كفارة، ومن هنا على هذا التعريف -في أحد الأوجه عند الحنابلة، وهو مذهب المالكية- أنه يشرع التعزير فيما تقدم معنا من الجنايات التي لا قصاص فيها وفيها الدية، فلو أنه ضربه ضربة متعمداً فهشم عظامه، فإن هذه الجناية تسمى: الهاشمة، ويجب فيها خمسة عشر من الإبل.

ولكن في هذه الحالة إذا كانت هاشمة لا قصاص فيها، وأخذ خمسة عشر من الإبل، فهل يكفي هذا؟ قال طائفة من السلف وهو مذهب المالكية وأيضاً عند الحنابلة وجه: أنه يعزر، أي: يعاقبه القاضي بما يمنعه من الاعتداء على الناس؛ لأن من الناس من عنده المال ولا يبالي، فيهشم عظام الناس، ثم يهشم عظم هذا وعظم هذا ولا يبالي ويسترسل؛ لأن عقوبة المال -الأرش- لا تضره، ومن هنا قال رحمه الله: (لا حد فيها ولا كفارة)، فيدخل في هذا على هذا الأصل ما ذكرناه من الجنايات التي لا قصاص فيها وفيها الديات.

لكن إذا كانت خطأً فلا يعزر إلا إذا كان فيه نوع إهمال، فمثلاً: لو أن مهندساً أشرف على عمارة وأهمل وقصر، وجب عليه الضمان، وأمر بدفع المال، ويضمن الإتلافات الموجودة، وهل يقف الأمر عند هذا؟ لأنه غني وعنده المال، فيذهب ويدفع المال المفروض عليه ولا يبالي، لكن إذا رأى القاضي أن من المصلحة أن يسجنه، أو يشهر به، فيعرف الناس أنه مهمل في عمله، وأنه يعرض أموال الناس وممتلكاتهم إلى الضرر؛ فله ذلك.

فهذه أحوال وأشباهها تدخل تحت قوله: (لا حد فيها ولا كفارة) وعلى هذا فما فيه الكفارات قالوا: إنه لا يشرع فيه التعزير.

معاصٍ توجب التعزير

قال رحمه الله: [ كاستمتاع لا حد فيه ].

فلو أن رجلاً استمتع بامرأة بما دون الفرج، فقبلها أو فاخذها ولم يولج -أي: لم يوجب حد الزنا على الصفة المعتبرة- فإنه في هذه الحالة يعزر.

مثلاً: لو أن رجلاً وجد مختلياً بامرأة أجنبية، أو وجدا في لحاف واحد، أو وجدا متجردين، ونحو ذلك من الاستمتاع الذي هو دون الزنا ودون الحد؛ شرع تعزيره.

قال رحمه الله: [ وسرقة لا قطع فيها ].

فلو أنه سرق وأخذ مالاً على وجه السرقة، ولكن المال لا يبلغ النصاب، أو أخذ مالاً من غير حرز، كما لو جاء إلى شخص وأمامه مال، فاستغفله فسحب المال من طاولته أو من جيبه، بشرط ألا يشق الجيب؛ فيعزر.

أما الطراق الذي يشق الجيوب فسيأتي الخلاف فيه.

وكذلك نباش القبور هل يوجب نبشه القطع أو لا؟ الذين يقولون: لا يوجب القطع في النباش يقولون: يعزر؛ لأنه عندهم لا يصل إلى حد القطع، فكل سرقة لا توجب القطع ففيها التعزير.

قال رحمه الله: [ وجناية لا قود فيها ].

وهكذا الجناية التي لا قود فيها -كما ذكرنا (الهاشمة) ونحوها- وقد اختار المصنف هذا القول، وأنا أميل إليه: أنه إذا اعتدى عليه بجناية لا قصاص فيها متعمداً؛ فإنه يشرع أن يعزر، واختاره الإمام مالك إمام دار الهجرة رحمه الله وغيره.

قال رحمه الله: [ وإتيان المرأة المرأة ].

أي: السحاق، قالوا: إن المرأة إذا أتت المرأة واستمتعت بها؛ فإن هذا لا يوجب الحد؛ لأنه ليس فيه إيلاج، وحينئذٍ تعزر المرأتان.

قال رحمه الله: [ والقذف بغير الزنا ].

القذف بغير الزنا كسب الناس وشتمهم، ووصفهم بالكلمات المنتقصة لحقهم، كأن يقول عن عالم: إنه لا يفهم شيئاً، أو لا يعرف كيف يُعلِّم؛ يتهكم به، فهذا السب والشتم والانتقاص والعيب على غير حق وبدون حق يوجب التعزير، وحينئذ ننظر إلى الشخص الذي سُب وشُتم وأوذي، والشخص الذي تكلم بذلك فيعزر بما يناسبه.

قال رحمه الله: [ ونحوه ].

أي: ونحو ذلك من الجنايات في ضياع حق الله أو انتهاك حرمته مما لا يصل إلى الحد ولا كفارة فيه.

التعزير في لغة العرب: مأخوذ من عزّر فلان فلاناً إذا منعه، ويقال للنصرة، فالمعزر هو الناصر، والأصل في هذه المادة أنها للمنع والحيلولة بين الشيء والشيء الآخر، ونظراً لاشتمالها على معنى المنع استعملت في التأديب؛ لأن التأديب يمنع الإنسان من العود إلى ما فعله من الأمور الممنوعة والمحظورة، ولذلك عرّفه المصنف رحمه الله: بالتأديب، وهذا أحد التعاريف التي ذكرها العلماء رحمهم الله، وبهذا التعريف -وهو التأديب- تكون المناسبة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي: وجود المنع، وذلك أن المعنى اللغوي يدور حول الحيلولة بين الشيء والشيء، والتأديب يمنع الإنسان من الأمور التي لا تليق به والأمور التي حظرت عليه ومنع منها.

يقول رحمه الله: (باب التعزير) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالعقوبة التي لا حد لها ولا تقدير في الشرع. وهذه العقوبة -عقوبة التعزير- تشرع في غير الحدود المقدرة، سواء كانت الجناية من الجنايات القولية أو الجنايات الفعلية، ولكن السؤال: لماذا ذكر المصنف رحمه الله باب التعزير في هذا الموضع بعد الجلد؟ فهو قد ذكر عقوبة الزنا، وأعقبها بعقوبة القذف، وأعقبها بعقوبة شرب المسكر، والسؤال: لماذا ذكر التعزير بعد هذه الحدود؟

والحقيقة أنه كان ينبغي أن يؤخر باب التعزير إلى نهاية كتاب الحدود؛ لأن التعزير عقوبة غير مقدّرة شرعاً، فكان المنبغي أن ينتهي من العقوبات المقدّرة شرعاً ثم بعد ذلك يبين ما لا حد فيه ولا عقوبة معينة شرعاً، وهذا مسلكٌ درج عليه بعض الأئمة رحمهم الله؛ أنهم ذكروا أبواب وكتاب الحدود ثم أعقبوها بباب التعزير.

والمصنف رحمه الله لعله لاحظ وجود التعزير في أغلب الصور أنه يقوم على الجلد، ولذلك بعدما فرغ من بيان العقوبات الشرعية المقدرة في الجلد بالأعداد المحددة شرعاً -كما ذكرنا في حد الزنا والقذف- أتبعه بحد الخمر، ثم أتبع ذلك بالتعزيرات لأنها في الغالب بالجلد.

ومن هنا تكون المناسبة وجود اتفاق أو شبه مقاربة بين عقوبة الجلد بالحد وعقوبة الجلد بالتعزير، ومن هنا جاء في باب التعزير أنه لا يجلد فوق عشرة أسواط، وهذا نوع مناسبة، وإلا فالحقيقة أن الأليق به ذكره بعد كتاب الحدود، ومن العلماء والأئمة رحمهم الله من أخّر باب التعزير، وهذا أدق.