شرح زاد المستقنع كتاب الرضاع [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الرضاع].

شرع -رحمه الله- في كتاب الرضاع، وهذا الكتاب هو أحد الكتب المتعلقة بكتاب النكاح؛ لأن كثيراً من المسائل والأحكام التي تتعلق بالرضاع مرتبطة بأحكام النكاح؛ ولذلك يعتني العلماء -رحمهم الله- بذكر هذا الكتاب في هذا الموضع.

والرضاع في لغة العرب: هو مص الثدي سواءً خرج منه القليل أو الكثير من اللبن.

والمراد به في الشريعة: مص مخصوص من شخص مخصوص، من موضع مخصوص، على صفة مخصوصة. وهذا التعريف المراد به: أن الرضاع لا يمكن أن يحكم بكونه رضاعاً شرعياً إلا إذا كان من شخص مخصوص، وهو مَن دون الحولين. سواءً كان من الذكور أو كان من الإناث، إذاً: لابد أن يكون الرضاع في الحولين، واختلف فيما زاد عن الحولين إلى الستة أشهر إذا لم يفطم الصبي، فمن أهل العلم -رحمهم الله- من قال: الستة الأشهر -أي: بعد- الحولين ليس الرضاع فيها بمؤثر. ومنهم من تسامح في الشهر والشهرين، أي: ما قارب تمام الحولين، ولكن الذي دل عليه القرآن أن الأصل في الرضاعة أن تكون في الحولين؛ لأن الله تعالى يقول: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:233]، وقال تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الأحقاف:15].

فقد يكون للحمل ستة أشهر، وأربعة وعشرون شهراً للرضاع. لكن لا يمنع هذا أن يقع الرضاع من الكبير، وذلك في مسألةٍ مخصوصة، وهي أن يكون الشخص قد تربى ونشأ في بيت من البيوت ولا يكون بينه وبينهم قرابة أرحام، مثل: بيت الجيران، أو بيت عمه، أو بيت خاله، فزوجة العم وزوجة الخال ليست بمحرم. فينشأ بينهم كواحد من أولادهم، ثم يكبر، فإذا كبر فإنهم في الغالب لا يتحرجون منه، بل يعتبرونه كواحد من أولادهم.

وحينئذ يُشْرَع لمثل هذا -دفعاً للحرج- أن ترضعه زوجة العم، أو زوجة الخال، لحديث سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتكت له زوجة أبي حذيفة -وهي سهلة بنت الحارث رضي الله عنها- أن سالماً كان عندها كواحد من أولادها، وأنه لما كبر وجدت في نفس زوجها شيئاً. وكأنه يتحرج ويتضايق من دخوله. فقال عليه الصلاة والسلام: (أرضعيه خمساً تحرمي عليه).

فأثبت عليه الصلاة والسلام الرضاعة للكبير في مسألة مخصوصة.

إذاً: فنعقب على التعريف ونقول: إن الأصل في الرضاع أن يكون في الحولين فما دون، وأما بالنسبة لما زاد عن الحولين فيفتى فيه في المسائل الخاصة كما تقدم، وكذا فيما زاد عن الحولين قريباً كالشهر والشهرين إلى نصف السنة -كما ذكرنا أنه قول لبعض العلماء- فإذا حصل فطام في الحولين فلا إشكال، بمعنى: أنه صار يغتذي بغير اللبن، لكن الإشكال إذا بلغ الحولين وأتمهما، ولكنه لا يزال رضيعاً لم يفطم، فهذا هو الذي وقع فيه الخلاف بين الحنفية والمالكية -رحمة الله عليهم- وغيرهم.

وقولنا: (على صفة مخصوصة) من أهل العلم من يخص الرضاع بمص الثدي كالظاهرية، ولا يرون رضاعاً بغير مص الثدي، حتى أنهم يقولون: لو أن اللبن وضع في إناء أو وضع في زجاجة -كالرضاعة الموجودة في زماننا- وشرب منه الصبي فلا يوجب ثبوت الأحكام المتعلقة بالرضاع، وهذا ضعيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت أن الرضاعة من المجاعة. وإذا شرب من الإناء فإنه يسد به الجوع، وأثبت أن الرضاع يفتق الأمعاء، وأنه ينشز العظم وينبت اللحم، والرضاع إذا كان من الإناء ينشز العظم وينبت اللحم، كالرضاع المباشر.

وبناء على ذلك: لا فرق بين أن يكون الرضاع بالمص، وبين أن يكون بالشرب من الإناء، ثم العبرة في الرضاع بالوصول إلى الجوف، فلو أنه قطر في أنف الصبي وهو كـ(السعوط)، أو أوجر أي: صب في حلقه وهو (الوجور)، فإنه يثبت الرضاع. ويستوي في هذا أن يكون مصاً، أو يكون من الأنف كالسعود، أو يكون وجوراً، أو لدوداً. ثم كذلك أيضاً يتبع هذا ما لو صار لبن المرأة جبناً، أو خلط لبن المرأة بغيره وشربه الصبي، فإنه يؤثر وتحدث المحرمية؛ لأنه يسد الجوع وينبت اللحم وينشز العظم، هذا بالنسبة لقولنا: على صفة مخصوصة.

والعبرة في هذا الرضاع أن يكون بالعدد المؤثر، وهو خمس رضعات، كما سيأتي إن شاء الله. لقوله عليه الصلاة والسلام: (خمس رضعات معلومات يحرمن) ولقوله عليه الصلاة والسلام: (أرضعيه خمساً تحرمي عليه). وقول عائشة رضي الله عنها: (كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن بخمس، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى).

والرضاع الأصل في ثبوته وثبوت أحكامه دليل الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى: وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ [النساء:23]، وهذا في سياق ذكر المحرمات، فأثبت التحريم للأصول والفروع والحواشي فدل على أن الرضاع مؤثر، وكذلك دل على مشروعية وجواز الرضاع قوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ [البقرة:233]، وقوله تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق:6]، إلى غير ذلك من الآيات، وكذلك دلت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها: -كما في الصحيحين من حديث ابن عباس - أنه قال: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وكذلك حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الرضعات الخمس المتقدم. وحديث عقبة بن الحارث رضي الله عنه وأرضاه -في قصته مع زوجته- وفيه: (أن امرأة جاءته وقالت: إنها أرضعته هو وزوجته، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بفراق زوجته فقال: يا رسول الله! كيف؟! فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: كيف، وقد قيل؟!) فأثبت أن للرضاع تأثيراً، وأثبت أنه يحرم، وجاء ذلك صريحاً في الحديث الذي ذكرناه -وهو متفق عليه-: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب). فهذا يدل على أن الرضاع مؤثر، وأنه تترتب عليه الأحكام الشرعية من ثبوت أمرين، أولهما: ثبوت الحرمة، والمراد (بالحرمة) حرمة نكاح المرأة. والثاني: ثبوت المحرمية، وهذا إذا كان على الصفة المعتبرة، فتصبح من ارتضع منها له أماً، وفروعها إخواناً وأخواتٍ للمرتضع، وهكذا بقية الأحكام المتعلقة بالرضاعة.

يقول رحمه الله: (كتاب الرضاع).

أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالرضاع.

قال رحمه الله تعالى: [يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب].

هذه الجملة هي قطعة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتفق على صحته، وهي قاعدة عند العلماء وأصل عند أهل العلم، قاعدة فرعت عليها فروع كثيرة، وأصل رد العلماء إليه كثيراً من المسائل والأحكام المتعلقة بالرضاع، وهذا من بليغ كلامه -بأبي هو وأمي- صلوات الله وسلامه عليه، فقد أوتي جوامع الكلم حتى أن الجملة الواحدة يتفرع عنها ما لا يحصى من المسائل.

وقوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) بيَّن:

أولاً: أن الرضاع يحرم، أي: أنه يوجب التحريم في النكاح، وقد تقدم أن القرآن قد نص على هذا.

ثانياً: أنه أثبت المحرمية، فكما أن النسب يثبت المحرمية، فكذلك الرضاع يوجب ثبوت المحرمية.

ثالثاً: في قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) يدل على المساواة والتشريك في الحكم من جهة التحريم، لا من جهة بقية الأحكام؛ فلا يحصل التوارث في الرضاع، فالأم التي أرضعت لا ترث كما ترث الأم من النسب، وإنما قال: يحرم، وهذا يدل على اختصاص الحكم بالحرمة والمحرمية دون بقية مسائل الأحكام.

ومن هنا قال بعض العلماء: إن الأم من الرضاع، والقرابة من الرضاع، ليس لهم في الحق من الزيارات وصلة الرحم ما للنسب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خص الرضاع بثبوت الحرمة والمحرمية، فدل على أنه لا يشابه النسب من كل وجه، ولكن هذا لا يمنع الإحسان، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخذت هوازن في الأسر، وكان فيهم بنو سعد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع من قسمة الغنيمة -غنيمة حنين- وكان ينبغي قسمتها بعد انتهاء الغزوة، ولكن أخر ذلك إلى أن فتح الطائف، ثم رجع بعد فتح الطائف وكل هذا -كما ذكر بعض أهل العلم رحمة الله عليهم واختاروه-؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قصد أن لا يبادر بأذيتهم لمكان الرضاعة التي في بني سعد، من أجل أن يأتوا إليه عليه الصلاة والسلام قبل أن تقسم الغنائم، فلما تأخر هذا التأخير ولم يكلموه عمد عليه الصلاة والسلام إلى القسم، فلما رجع إلى الجعرانة وقسمه فزعوا إليه عليه الصلاة والسلام بعد الله عز وجل فقال شاعرهم:

امنن علينـا رسول الله في كـرم فإنك المـرء نرجـوه وننتظر

امنن على نسوة قد كنت ترضعها إذ فوك يملؤه من محضها الدرر

فخشع عليه الصلاة والسلام، ولما قام خطيبهم، وقال: (يا رسول الله! والله! إن اللائي في الحظائر، ما هن إلا أمهاتك وأخواتك من الرضاعة وخالاتك من الرضاعة)، فكاد أن يبكي عليه الصلاة والسلام وقال: (ما كان لي ولبني هاشم فهو لكم)، فأحسن عليه الصلاة والسلام ورد الإحسان بأفضل منه، وما كان عليه الصلاة والسلام إلا كذلك، فإنه يقابل الحسنة بأحسن منها. فلا يمنع هذا أن الأم من الرضاعة يكون لها حق الإحسان والتفقد، وإذا احتاجت أن يسد حاجتها وأن لا يقطعها من خير وبر؛ فذلك لا شك أنه من رد المعروف فقد قال عليه الصلاة والسلام: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه).

يقول المصنف رحمه الله: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وهذا أدب مع السنة، وهكذا ينبغي للعالم والفقيه ومن يعلم الناس أن يحرص على الالتزام بالكتاب والسنة، وأنه متى أمكن التعبير بنص القرآن والسنة فذلك أتم وأعظم أجراً، وهو دليل صادق على فقه العالم؛ لأنه إذا قدم كتاب الله وسنة رسوله قدم ما حقه التقديم، دون أن يكون له فضل في ذلك، فقال المصنف: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب). ولذلك هذه المتون الفقهية تساير النصوص، وتمشي مع النصوص الشرعية، وإن كانت لا تأتي بالحديث نصاً، لأنها لم تتخصص في رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما دلت على ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (يحرم من الرضاع) يعني: بسبب الرضاع، فمن: سببية. كقوله: (إنما الماء من الماء)، وقوله تعالى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ [نوح:25]. أي: بسبب خطيئاتهم. وقيل: المراد بها: الجهة أي: (يحرم من جهة الرضاعة ما يحرم من جهة النسب)، والنسب: الإضافة، يقال: نسب الشيء إلى فلان، إذا أضافه إليه. وسمي النسب نسباً؛ لأن الإنسان يضاف إلى ذويه، فيقال: محمد بن علي بن صالح مثلاً، فهذه إضافة، فالنسب لا بد فيه من الإضافة، ويقال: خال فلان. وعم فلان. وكله مبني على الإضافة. والمراد بالنسب: القرابة.

وتفرعت عن هذا الحديث عدة مسائل:

أولاً: التحريم من جهة النسب؛ فتحرم الأم من الرضاعة، والبنت من الرضاعة، والأخت من الرضاعة، وبنت الأخت من الرضاعة، وبنت الأخ من الرضاع، وكذلك العمة من الرضاع، والخالة من الرضاع، هؤلاء كلهن محرمات من جهة الرضاع، كما أنهن محرمات من جهة النسب.

كذلك أيضاً: فيه دليل على أن الرضاع يشابه النسب، فقد يكون الأخ من الرضاع شقيقاً، وقد يكون الأخ من الرضاع لأب، وقد يكون الأخ من الرضاع لأم، وصورة ذلك: أن محمداً لو ارتضع من عائشة وهي زوجة لعلي، فجميع من تنجبه عائشة يكون أخاً لمحمد، كما أنه في النسب أخ له، ولكن إذا كان الذي أنجبته عائشة من علي فهو أخ له شقيق، وإن أنجبت من زوج سابق -قبل الزواج بعلي- أولاداً؛ فهم إخوة -من الرضاع- لأم. ثم إن علياً -الزوج- لو أنجب أولاداً من زوجة أخرى -قبل عائشة أو بعدها-؛ فهم أخوة من الرضاع لأب؛ لأنهم شاركوه من جهة الأب، ولم يشاركوه من جهة الأم، وهذه تفريعات كالنسب سواء بسواء.

وعلى هذا: أثبت العلماء التحريم بالرضاع من جهة مشابهة النسب.

كذلك أيضاً: أخذ منه بعض أهل العلم -وقد وقع عليه الإجماع، لكنهم يستدلون بهذا الحديث- كالحافظ ابن رجب وغيره رحمة الله عليهم، يقولون: إن الجمع بين الأختين من الرضاع محرم كالجمع بين الأختين من النسب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت في الرضاع ما يثبت في النسب، فكما أنه لا يجوز الجمع بين الأختين من النسب كذلك يحرم الجمع بين المرأة وأختها إذا كانت أختاً لها من الرضاع. سواء كانت أختاً شقيقة أو أختاً لأب أو أختاً لأم، لعموم قوله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ [النساء:23]، وكذلك أيضاً: يحرم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها من الرضاعة، كما أنه يحرم في النسب الجمع بين المرأة وعمتها من النسب، والمرأة وخالتها من النسب، لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها)، كذلك في الرضاع يحرم أن يجمع بين المرأة وعمتها من الرضاعة أو خالتها من الرضاعة، وذلك لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).كذلك: أخذوا منه دليلاً على أنه تثبت فيه المحرمية من جهة المصاهرة، فإذا تزوج امرأة فابنتها من الرضاع ربيبة، كما أن ابنتها من النسب ربيبة، وكذلك العكس، فلو تزوج امرأة حرم عليه أن ينكح أمها من الرضاع، كما أنه إذا نكحها حرم عليه أن ينكح أمها من النسب، وهذا كله متفرع من قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).

قال رحمه الله: [والمحرم خمس رضعات في الحولين].

إذاً: يشترط العدد ويشترط فيه الزمان، والتفصيل كما يلي:

أولاً: أن تكون الرضعات خمساً، ومفهوم العدد أنه لو كان الرضاع دون الخمس لم يحرم. فلو ارتضع منها أربع رضعات، فإنه لا يثبت له حكم الرضاع، ويشترط في هذه الخمس رضعات أن تكون مشبعة، فلا يكفي أن يمص الثدي ثم يؤخذ عنوة منه، إنما الشرط أن تكون الرضعة مشبعة، وحقيقة الإشباع: أن يرضع الصبي الثدي باختياره، ثم يتركه باختياره، فعند الترك بالاختيار تحتسب له رضعه، فإن تركه قهراً أو بغير اختياره ثم رجع، فإنها رضعة واحدة، فلو تركها قهراً كأن تكون أمه نزعت ثديها من فمه ثم أرجعته إليه مرة ثانية، أو هو هجم على الثدي ثانية بعد أن أجبر على تركه؛ فهي رضعة واحدة.

وهكذا لو دهمه عطاس فعطس ثم رجع، فهذا بغير اختيار، فحينئذ تحتسب رضعة واحدة. إذا: لا بد أن تكون خمس رضعات مشبعات وضابط الإشباع: أن يدع الثدي باختياره، فإذا ترك الثدي وتركه باختياره ثم عاد مرة ثانية فهي رجعة مستأنفة، وبناء على ذلك: قد تقع الخمس رضعات في مجالس متعددة وقد تقع في مجلس واحد، وعلى هذا لا يشترط الاختلاف في المجالس وتعددها.

قوله: (خمس رضعات) هذه الخمس رضعات تأتي على ثلاث صور:

الصورة الأولى: أن تثبت التحريم للأب والأم معاً -أي: لصاحب اللبن (الزوج) والمرضعة (زوجته)- فيكون صاحب اللبن أباً، وتكون المرضعة واحدة وهي الأم، وتارة يثبت حكم الرضاع لصاحب اللبن دون اللائي أرضعن، وتارة العكس، أي: يثبت للتي أرضعت دون صاحب اللبن.

أما تفسير ذلك: فإن كان هذا الرضيع قد رضع خمس رضعات من امرأة واحدة من لبن زوج واحد؛ فإنه حينئذ ابن لهذه المرأة وابن لذلك الرجل، مثلاً: محمد زوج لعائشة، ارتضع خالد منهما، من لبن عائشة حال قيام الزوجية بينهما خمس رضعات، أو بعد تطليقه إياها وقبل دخول الزوج الثاني عند بعضهم، أو بعد دخوله وقبل الحمل منه، في هذه الصور كلها يكون ابناً للاثنين -للأب وللأم- لأنه استنفد الخمس رضعات من ماء الزوج ومن لبن المرأة؛ لأن اللبن يفور بوطء الزوج.

وبناء على ذلك: يثبت الحكم كما قلنا، فيكون هذا أباه وهذه أمه.

الصورة الثانية: أن يكون الرضاع متعلقاً بالأم دون الأب. مثلاً: عائشة أرضعته -وهي عند محمد قبل أن يطلقها- ثلاث رضعات، ثم أرضعته بعد زواجها من أبي بكر رضعتين، فإنه في هذه الحالة ينتفي تأثير اللبن من جهة الفحل؛ لأنه لم يتمحض عدد خمس رضعات لفحل واحد، وإنما جاء من أكثر من فحل فلا يثبت؛ لأنه لم يتمحض لواحد منهما خمس رضعات، فيثبت الرضاع للأم، وتكون أماً له، ولا يكون له أب من الرضاع. ولذلك يقولون: هل يوجد رضيع له أم، ولا أب له من الرضاع؟ تقول: إذا ارتضع خمس رضعات من امرأة واحدة كانت عند رجل ثم طلقها فتزوجها آخر، والعكس قد يحدث؛ فلو أن محمداً تزوج عائشة، فارتضع هذا الرضيع من عائشة ثلاث رضعات، ثم انتقل إلى ضرتها -زوجة محمد الثانية- وارتضع رضعتين، أكمل خمساً من ماء الفحل الذي اللبن لبنه، ولم يكملها ويتمها من إحدى نسائه، فحينئذ له أب من الرضاعة ولا أم له من الرضاعة، يقولون: هل يوجد رضيع لا أم له من الرضاعة وله أب من الرضاعة؟ تقول: إذا لم يستنفد خمس رضعات من امرأة واحدة، وإنما من نسوة متعددات متزوجات برجل واحد، هذا بالنسبة لمسألة الخمس الرضعات.

واشتراط الرضعات الخمس محل خلاف بين العلماء رحمهم الله. فأصح أقوال العلماء -رحمهم الله- أن العبرة في الرضاع أن يكون خمس رضعات، والدليل على ذلك حديثان قويان صريحان في الدلالة على اعتبار أن هذا العدد مؤثر في الرضاعة:

الأول: حديث سهلة بنت الحارث رضي الله عنها وأرضاها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: أرضعيه خمساً تحرمي عليه)، وهذا الحديث رواه مسلم في الصحيح وغيره. ولفظ: (خمساً) جاء في معرض البيان، ولو كان الحكم يبنى على الأقل من الخمس لذكره لها، وإنما ذكر العدد الذي لا يمكن أن يؤثر ما دونه، فقال: (أرضعيه خمساً تحرمي عليه) ففهمنا أنه لو أرضعته أربعاً لم تحرم، ولو أرضعته ثلاثاً لم تحرم، ولو أرضعته ما دون ذلك لا تحرم.

ثانياً: حديث أم المؤمنين عائشة في الصحيحين أنها قالت: (كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم (عشر رضعات معلومات يحرمن) فنسخن بخمس، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى من القرآن) هذا الحديث بين أنه كان في شرع الله عز وجل -بنص القرآن- أن العبرة في التحريم بالرضاع عشر رضعات، ثم خفف الحكم إلى خمس رضعات.

(عشر رضعات معلومات يحرمن) فهذا يدل على أنه لابد أن تكون معلومة، وأن لا تكون مبنية على الشك، وأن تكون مشبعة، لأن الرضعة المعلومة هي المشبعة، قالت: (فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى من القرآن) فأثبتت أن العشر قد نسخت، وأن الخمس محكمة حكماً لا تلاوة، والقرآن منه ما نسخ تلاوة وحكماً، ومنه ما هو محكم تلاوة وحكماً، ومنه ما هو محكم تلاوة منسوخ حكماً، ومنه ما هو منسوخ تلاوة ومحكم حكماً.

قالت: (توفي الرسول صلى الله عليه وسلم، وهن مما يتلى من القرآن) أي أن هناك أناساً يتلون هذه الآيات، وقد نسخت في العرضة الأخيرة التي عرضها جبريل؛ لأن جبريل عليه السلام كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم. كما في الصحيحين من حديث ابن عباس في الصحيحين: (كان يعرض عليه القرآن كل رمضان). وفي آخر سنة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم عرض عليه القرآن مرتين، وهذه تسمى بالعرضة الأخيرة التي استقر عليها المصحف في زمان أبي بكر رضي الله عنه، ومن بعده من الخلفاء الراشدين.

فهذه العرضة الأخيرة نسخ ما عداها من العرضات السابقة، فهناك من الصحابة من حفظوا شيئاً من العرضات السابقة، ولا زالوا يتلونه، ولم يبلغهم أنه منسوخ؛ لأن كل واحد يعمل بما علم.

والشاهد من الحديث: أنه أثبت أن الخمس توفي صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى من القرآن، وأن الخمس محكمة، ولم يأت نص ينسخ هذه الخمس، وقد اعترض على هذا الحديث باعتراض مشهور وهو قولهم: إن هذا الحديث إن قلتم: إنه من القرآن فالقرآن لا يثبت بالآحاد، وإن قلتم: إنه سنة فعائشة تقول: (إنه توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى من القرآن) فأثبتته قرآناً، وإن قلتم: إنه قرآن، فالقرآن لا يثبت بالآحاد؛ لأنه -بالإجماع- لا يثبت القرآن إلا بالتواتر. وبناء على ذلك: يقع الاعتراض على هذا الحديث فيسقط الاستدلال به؛ لأنك لا تستطيع أن تعتبره سنة؛ لأن أم المؤمنين رضي الله عنها روته قرآناً، وإن أردت أن تثبته قرآناً فلا تستطيع أن تثبته قرآناً؛ لأنه جاء برواية الآحاد، ولم يأت برواية التواتر.

ومن حفظ الله للقرآن لهذه الأمة أنه منقول بالكافة عن الكافة نقلاً متواتراً، وهذا من الحفظ الإلهي الذي حفظ به الكتاب، حتى كيفية النطق ومخارج الحروف، فسبحان من حفظ كتابه وكلامه، فهذا الأصل عند العلماء. فإذاً: الحديث ليس بقرآن -لأنه آحاد- ولا هو بسنة؛ لأنها حكته قرآناً، وأجيب عن هذا الاعتراض بأقوى الأجوبة وهو الذي اختاره شيخ الإسلام الإمام عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي ) رحمه الله، وكذلك اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أئمة الأصول، قالوا: إن هذا الحديث فيه جانبان: جانب التلاوة -أي: إثبات كونه قرآناً، وكونه يتلى كالقرآن- وجانب العمل بما في المروي؛ للحكم وليس للتلاوة.

فأما كونه قرآناً فقد ثبت عندنا بالتواتر أنه منسوخ؛ لأنه ليس في العرضة الأخيرة إجماعاً، فهذا لا نثبته قرآناً وليس لنا فيه كلام، ولكن الذي يعنينا ما بقي، وهو الشرط الثاني: إثبات الحكم، وإثبات الحكم لا يشترط فيه التواتر، ولا يشترط فيه أن يكون قرآناً فالآية قد تنسخ تلاوتها، ولكن تبقى حكماً وهم يسلمون بهذا؛ وبناء على ذلك: يدفع ما ذكروه، وخاصة وأن عندنا حديثاً آخر يغني عنه وهو: (أرضعيه خمساً تحرمي عليه) وهذا يدل دلالة قوية على أن العبرة بالخمس.

أما الذين خالفوا فمنهم من يقول: قليل الرضاع وكثيره يحرم، كالحنفية ومن وافقهم، ومنهم من يقول: الثلاث رضعات محرمة، والرضعتان لا تحرم، ومنهم من يقول: العشر رضعات محرمة. فهذه الثلاثة الأقوال تخالف القول الذي اخترناه.

أما من قال: قليله وكثيره يحرم، فاحتج بقوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ [البقرة:233]، وقال تعالى: وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ [النساء:23]، ولم يشترط عدداً معيناً، وقالوا: لو أن شخصاً ارتضع من امرأة رضعة واحدة فهي أمه التي أرضعته، إذ لا يوجد في القرآن (أرضعنكم خمس رضعات) قالوا: إن القرآن أطلق ولم يقيد -هذا وجه الدلالة- فنقول: هذا الإطلاق قيدته السنة، وبناء على ذلك لا تعارض بين مطلق ومقيد، فالإطلاق الذي ورد من كتاب الله: وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النساء:23]. لم يبين الله عز وجل فيه عدد الرضعات، ثم جاءت السنة تحدد وتبين عدد الرضعات.

ثانياً: كما أنكم تقولون: إن الإطلاق في قوله: وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النساء:23]. مقيد بالحولين، لقوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233]. فأنتم تقيدون الرضاع بالحولين مع أن الله يقول: وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النساء:23] عموماً، فما خص الحولين ولا غيره، وبناء على ذلك: كما أنكم قيدتم بالكتاب فقيدوا -أيضاً- بالسنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما الذين قالوا: إن الثلاث رضعات تحرم، فاستدلوا بحديث: (لا تحرم المصة ولا المصتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان) وهذا الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو حديث عقبة بن الحارث في الصحيحين- وفيه: أن رجلاً شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن زوجتي رضعت من امرأة أرضعتني رضعتين. فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تحرم المصة ولا المصتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان) الإملاج: هو مص الثدي.

قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحرم المصة ولا المصتان) فمعناه: أن الثلاث تحرم، وهذا يسمونه مفهوم العدد، ويقولون: دل على أن الثلاث تحرم؛ لأنه لو كانت الثلاث لا تحرم، لكان يقول: (لا تحرم المصة ولا المصتان ولا الثلاث ولا الأربع) لكنه قال: (المصة والمصتان) وسكت.

وهذا القول ضعيف من وجوه:

الوجه الأول: أنه استدلال بالمفهوم، وحديث: (أرضعيه خمساً) استدلال بالمنطوق، والقاعدة: (أن المنطوق إذا عارض المفهوم قدم المنطوق على المفهوم). ثانياً: أن هذا الاستدلال استدلالٌ بالمفهوم في معرض السؤال، والقاعدة: (أن المفهوم إذا كان في معرض السؤال يضعف اعتباره) أي: أنه حينما يأتي إنسان ويقول مثلاً: الطالب المثالي محمد، نفهم أن من عداه ليس مثالياً، لكن لو أن شخصاً سأل وقال: هل محمد طالب مثالي؟ قال: محمد طالب مثالي. فإنه حال كونه يجيب عن سؤال، لا يفهم أن ما عداه لا ينال هذه الصفة؛ لأنه خص هذه الصفة بهذا الشخص، فما عداه لا يأخذه ولا يشاركه من باب المفهوم؛ لأنه لو أن شخصاً سأل عن هذا الشخص، فمعناه أنه لا يقصد أن ما عداه ليس مثله، إنما سئل: هل هذا الشخص مثالي أم لا؟! وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن رضعتين -كما ورد في الرواية- فقال: (لا تحرم المصة ولا المصتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان) وبناء على ذلك لا يصح الاستدلال بهذا الحديث؛ لأن مفهومه في معرض سؤال، ومثل هذا المفهوم ضعيف، مثل النص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه.

أما قول من قال: إن العشر الرضعات تحرم ولا يحرم ما دونها، أقول: هذا مذهب شاذ، يحكى عن أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها، والصحيح: أن الخمس الرضعات هي المحرمة؛ كما ذكرنا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة.

قوله (في الحولين) يدل على أن ما بعد الحولين لا يحرم، فنستثني حديث سالم مولى أبي حذيفة ، وهذا استثناه بعض أئمة السلف كـأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، وعطاء الخراساني وداود الظاهري وكذلك طائفة من أهل الحديث، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه إذا وجدت حاجة فلا بأس أن يرتضع الرجل الكبير، إذا كان قد تربى في حجر تلك المرأة.

الحولان مثنى الحول، والحول: هو العام. وسمي العام حولاً؛ لأن الإنسان يتحول فيه من حال إلى حال، وفيه الفصول الأربعة، وغالباً أنه يتحول حاله، فإن لم يتحول في الصيف، فإن الشتاء يحوله، وكذلك أيضاً لتحول الناس، فقد يبتدئ الإنسان غنياً ثم يفتقر، وقوياً ثم يضعف، ففي الغالب أنه تتبدل فيه أحوال الناس، ولذلك سمي الحول حولاً من هذا، وهو اثنا عشر شهراً، ودليل هذا الأصل قوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:233]. فبين أن الأمد الذي تقع فيه الرضاعة هو الحولان، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم)، وهذا لا يكون إلا في الحولين. وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام -في حديث الترمذي بسند ثابت-: (لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان في الحولين) . هذا كله يدل على أن الأصل أن الرضاع لا يعتبر إلا إذا كان في الحولين، ثم جاءت السنة بشيء خاص فلا تعارض لدينا، ويبقى ما عداه -على الأصل- يوجب عدم تأثير الرضاعة.

قال رحمه الله: [والسعوط والوجور ولبن الميتة، الموطوءة بشبهة أو بعقد فاسد أو باطل أو زنا؛ مُحَرِّم].

الرضاع بالسعوط

(والسعوط) تقدم معنا في أكثر من مسألة، كما في الصوم، ولا يكون إلا عن طريق الأنف بالتقطير، أسعط الشيء إذا تناوله عن طريق الأنف، واللبن يكون سعوطاً، إذا قطر منه قطرات في الأنف؛ لأنه في بعض الأحيان يمرض الصبي أو يأبى أخذ اللبن بفمه، أو يمرض مدخل حلقه، أو فمه، ولا يمكن إعطاؤه عن طريق الفم، فيضطر إلى تقطير اللبن عن طريق الأنف، فهذا يسمى سعوطاًً.

الرضاع بالوجور

(والوجور) يصب في حلقه صباً، يفتح فمه ثم يصب اللبن داخل حلقه، وغالباً يقهر عليه الصبي قهراً.

فبيَّن رحمهُ الله أنه إذا وصل اللبن عن طريق المص -الذي هو الطريق الطبيعي-، أو عن طريق الصب بالاختيار، أو بدون اختيار أنه مؤثر، كأنه يقول: العبرة بوصول اللبن إلى الجوف، وهذا صحيح؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ما فتق الأمعاء) ، وإذا نزل عن طريق الأنف إلى الأمعاء أثر فينشز عظماً وينبت لحماً، ولا إشكال في كونه عن طريق الأنف أو عن طريق الفم.

أما الدليل على أن الأنف ينفذ إلى الجوف فحديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً). فالصائم يحرم عليه أن يوصل شيئاً إلى جوفه، وإذا أراد الصائم الاستنشاق فقد نهاه الشرع أن يبالغ خشية أن يدخل الماء من الخياشيم إلى الحلق. فدل على أن الأنف متصل بالجوف، وهذا ثابت طبعاً وشرعاً. وبناء على ذلك: فلو أن اللبن وضع في أنفه فقطر ووصل إلى جوفه فإنه مؤثر وموجب للحكم بالتحريم.

(والوجور) وكذلك (الوجور ) إذا صُبَّ في حلقه صباً؛ والظاهرية يقولون: إنه لابد أن يمص الصبي، ويرتضع، ومراد المصنف: أن الرضاعة لا تختص بالمص فقط، فلو أنه صنع منه جبناً فأكله المرتضع، أو وضع لبن المرأة في زجاجة أو إناء ثم خلط به ماء وخفف أو خلط به غيره -مثل العقاقير التي توضع مع لبن المرأة للدواء أو نحو ذلك- فهذا مؤثر؛ لأن مادة اللبن موجودة، ويتغذى بها الجسم ويرتزق، ويفتق أمعاءه وينشز عظمه وينبت لحمه، وبناء على ذلك: سواء كان خالصاً أو مشوباً، وسواء كان عن طريق الفم أو غيره مما يصل إلى الجوف، فإنه مؤثر.

الرضاع من لبن المرأة الميتة

قال رحمه الله: [ولبن الميتة].

(ولبن الميتة) أي: المرأة إذا ماتت وشرب صبي لبنها هل يثبت التحريم؟ نحن قلنا: خمس رضعات تحرم، فلو ارتضع أربع رضعات، ثم جاءت سكتة قلبية للمرأة وماتت، وشرب الرضعة الخامسة بعد موتها -وقد تقع هذه في بعض الحوادث والأحوال- والارتضاع من الميتة وارد، وحتى في زماننا -في مثل حوادث الزلازل التي وقعت- وجد صبي رضيع قد عاش مع أمه ما لا يقل عن أسبوعين، وسخر الله له ثديها مع أنها ميتة. فكان يعيش على لبن هذا الثدي، فالشاهد: إذا ماتت هذه المرضعة وبقي عدد من الرضعات ارتضع منها وهي ميتة فإن حكمها ثابت، خمس رضعات. ولنفرض -مثلاً- أن صبياً احتاج إلى لبن -وما عندنا إلا امرأة ميتة ماتت الآن- فأراد أن يرتضع منها، وأرضعناه منها خمس رضعات، يأخذ الثدي اختياراً ويتركه اختياراً خمس مرات. فهل لبن الميتة يحرم؟!

هناك وجهان للعلماء رحمهم الله، قال بعض أهل العلم -وهم الجمهور-: لبن الميتة مُحَرِّم. وهو الصحيح، وذلك لقول الله تعالى: وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النساء:23]، أي: وقع الإرضاع منهن، وهذا لا شك أنه قد ارتضع لبنها، كذلك اعترض بعض العلماء -رحمهم الله- على الذين قالوا: إن الميتة لا يحرم لبنها باعتراض -وهو من أوجه الاعتراضات وأجملها- فقالوا: أرأيتم لو أن هذه الميتة حلبت لبنها في إناء، ثم ماتت فشربه الصبي، هل يثبت التحريم؟!! قالوا: نعم. قال: إذاً: لا فرق بين كونه يشربه وهو داخل الثدي، أو يشربه وهو خارج الثدي. وفي الحقيقة: أن الخوف عندهم أن يكون اللبن قد استنفد واستهلك، وهذا طبعاً وبلا إشكال أنه إذا تبين أن اللبن مستنفد وفاسد فقد يضر -بل قد يقتل- الصبي. لكن نحن نتكلم عن لبن صحيح، أي: شرب لبناً صحيحاً، أما كيف يعرف أنه صحيح فمعروف بالفطرة أن الصبي إذا عاف اللبن تركه؛ لأنه في بعض الأحيان يكره على رضاع اللبن الطبيعي بقوة، فضلاً عن أن يكون فيه زنخ أو يكون مستنفداً مستهلكاً، إذ ليس من السهولة بمكان أن يقدم الطفل على الرضاع من ثدي خالٍ من اللبن أو متغير اللبن؛ لأن الله يقول: الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50]، هدى: دلَّ، فالنحلة -وبقية الحيوانات- هداها الله عز وجل كيف تحصل أقواتها، وحتى الكلب المسعور -أعاذنا الله وإياكم- يسعر، ثم فجأة ينطلق إلى الحديقة التي فيها مئات الأنواع من الأزهار ومن الأعشاب، ويأتي إلى عشب مخصوص أو إلى وردة معينة فيشمها وينتهي ما به!! من دله وهداه؟! دله اللطيف الخبير وهداه الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50]. فالطفل من حيث هو فيه هداية فطرية، ولا يمكن أن يمتص لبناً فاسداً، والغالب أنه لا يرتضع إلا لبناً صالحاً، فإذا رأيناه يرتضع ثم يترك الثدي، ثم يرتضع، ثم يرجع إليه خمس مرات أمامنا، علمنا ظاهراً أن اللبن صالح، وحكمنا بهذا الظاهر، وهذه من المسائل التي يحكم فيها على الظاهر؛ لأن دلالة الحال تدل على أن اللبن في ظاهره صالح، وبناء على ذلك: يثبت التحريم.

الرضاع من لبن الموطوءة بشبهة

قال رحمه الله: [والموطوءة بشبهة].

(والموطوءة بشبهة) لو أن امرأة بكراً كانت نائمة، فجاء رجل فظن أنها زوجته فوطئها وحصل حمل، وثاب لبن بسبب هذا الحمل، فهذا اللبن لبن مبني على وطء شبهة، كذلك لو تزوج زواجاً فاسداً، وظنه صحيحاً كنكاح الشغار، فحملت المرأة ودرت اللبن، ثم أرضعت هذا اللبن طفلاً، فالوطء شبهةً كالوطء الصحيح، واللبن للمرء الشبهة كاللبن للمرء الصحيح.

التحريم بلبن الموطوءة بعقد فاسد أو باطل

قال رحمه الله: [أو بعقد فاسد أو باطل]

وهكذا إذا كان بعقد فاسد، مثل: أن تتزوج امرأة بدون ولي، فهذا النكاح -عند الجمهور- محكوم بفساده. قال صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل). والفاسد والباطل لا فرق بينهما عند الجمهور في المعاملات، فحكمنا ببطلان النكاح وفساده، فإن حصل من هذا النكاح لبن، فرضعه رضيع، فإن هذا الرضاع يثبت له ما يثبت من الوطء الصحيح في عقد نكاح صحيح.

قال رحمه الله : [أو زنا]

وهكذا -والعياذ بالله- لو زنا رجل بامرأة، فحملت ثم ثاب اللبن من هذا الوطء المحرم، وشربه صبي، فإنه تثبت له أحكام الرضاعة، ولكن في الأم دون الأب، قال صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر) فلم يجعل للزاني شيئاً في الزنا، ومن هنا قال طائفة من أهل العلم -واختاره الجمهور-: إنه لا ينسب الرضيع للأب من الزنا. كالحال في النسب، ولذلك ينسب الولد إلى أمه في الزنا، ولا ينسب إلى أبيه، كذلك في الرضاع ينسب إلى أمه ولا ينسب إلى أبيه الزاني.

قال رحمه الله: (محرم).

أي: لا فرق أن يكون هذا اللبن ثاب بوطء في نكاح صحيح أو بنكاح فاسد، أو وطء شبهة، فكل ذلك الحكم فيه سواء؛ لأنه لبن فتق الأمعاء وأنشز العظم وأنبت اللحم، وأعطاه الشرع هذا الحكم لوجود هذه الخاصية.

(والسعوط) تقدم معنا في أكثر من مسألة، كما في الصوم، ولا يكون إلا عن طريق الأنف بالتقطير، أسعط الشيء إذا تناوله عن طريق الأنف، واللبن يكون سعوطاً، إذا قطر منه قطرات في الأنف؛ لأنه في بعض الأحيان يمرض الصبي أو يأبى أخذ اللبن بفمه، أو يمرض مدخل حلقه، أو فمه، ولا يمكن إعطاؤه عن طريق الفم، فيضطر إلى تقطير اللبن عن طريق الأنف، فهذا يسمى سعوطاًً.

(والوجور) يصب في حلقه صباً، يفتح فمه ثم يصب اللبن داخل حلقه، وغالباً يقهر عليه الصبي قهراً.

فبيَّن رحمهُ الله أنه إذا وصل اللبن عن طريق المص -الذي هو الطريق الطبيعي-، أو عن طريق الصب بالاختيار، أو بدون اختيار أنه مؤثر، كأنه يقول: العبرة بوصول اللبن إلى الجوف، وهذا صحيح؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ما فتق الأمعاء) ، وإذا نزل عن طريق الأنف إلى الأمعاء أثر فينشز عظماً وينبت لحماً، ولا إشكال في كونه عن طريق الأنف أو عن طريق الفم.

أما الدليل على أن الأنف ينفذ إلى الجوف فحديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً). فالصائم يحرم عليه أن يوصل شيئاً إلى جوفه، وإذا أراد الصائم الاستنشاق فقد نهاه الشرع أن يبالغ خشية أن يدخل الماء من الخياشيم إلى الحلق. فدل على أن الأنف متصل بالجوف، وهذا ثابت طبعاً وشرعاً. وبناء على ذلك: فلو أن اللبن وضع في أنفه فقطر ووصل إلى جوفه فإنه مؤثر وموجب للحكم بالتحريم.

(والوجور) وكذلك (الوجور ) إذا صُبَّ في حلقه صباً؛ والظاهرية يقولون: إنه لابد أن يمص الصبي، ويرتضع، ومراد المصنف: أن الرضاعة لا تختص بالمص فقط، فلو أنه صنع منه جبناً فأكله المرتضع، أو وضع لبن المرأة في زجاجة أو إناء ثم خلط به ماء وخفف أو خلط به غيره -مثل العقاقير التي توضع مع لبن المرأة للدواء أو نحو ذلك- فهذا مؤثر؛ لأن مادة اللبن موجودة، ويتغذى بها الجسم ويرتزق، ويفتق أمعاءه وينشز عظمه وينبت لحمه، وبناء على ذلك: سواء كان خالصاً أو مشوباً، وسواء كان عن طريق الفم أو غيره مما يصل إلى الجوف، فإنه مؤثر.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3707 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3623 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3445 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3378 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3345 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3322 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3277 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3232 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3187 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3172 استماع