شرح زاد المستقنع كتاب الوقف [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهناك وجوه لا يجوز الوقف عليها، وهي الوجوه التي حرمها الله عز وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى نهى عباده المؤمنين عن جملة من الأمور، فلا يجوز لهم أن يستحلوها كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله أحل أشياء فلا تحرموها، وحرم أشياء فلا تحلوها).

فالوقف على هذه الأشياء يُعين على معصية الله عز وجل، ويعزز ويقوي هذا الأمر المحرم، ولذلك حظر الله عز وجل على عباده أن يكونوا سبباً في المعونة على الإثم والعدوان، كما قال سبحانه وتعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].

وأعظم الإثم أن يعين على ما يؤثر في العقيدة والتوحيد، فإن إفساد إيمان الناس بالله، والتحريض على ما يصرفهم عن توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة؛ هو أعظم المنكر الذي حرمه الله عز وجل، فأنزل من أجل تحريمه كتبه، وأرسل رسله سبحانه وتعالى.

الوقف على الحربي

يقول المصنف رحمه الله: [غير حربي]

أي: لأن الحربي المحارب لله ورسوله، محارِب للمسلمين مباح الدم.

مثلاً: إذا وقعت حرب بين المسلمين والكفار؛ فإن هؤلاء من أهل الحرب ليس لهم حق على المسلمين، لمحاربتهم للمسلمين، ولذلك تستباح دماؤهم، وتباح أعراضهم، فتُسبى ذراريهم ونساؤهم، وكذلك لا يجوز ولا يشرع أن يُعاملوا معاملة الحسنى؛ لأنهم حاربوا الإسلام ومنعوا نشره، ففي هذه الحالة لا يجوز أن يُوقِف عليهم؛ لأنه ليس بِبِِِر، بل يعينهم على المسلمين، فلا يُشرع الوقف عليهم.

الوقف على الكنائس ونحوها

يقول رحمه الله: [وكنيسة]

وكذلك الوقف على كنيسة لا يصح ولا يجوز؛ لأن الكنائس جاز استبقاؤها للضرورة، ولذلك فإذا هُدمت لم تُبن، وقد تقدم معنا أحكام الكنائس في أحكام أهل الذمة، وبيّنا الشروط العمرية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتلقي الأمة لها بالقبول.

فلا يجوز الوقف على بناء الكنائس، سواءٌ كانت في ديار المسلمين، أو كانت خارج ديار المسلمين، ولا يجوز المعونة على بنائها، ولا ما يقوي من نشاطها، فكل ذلك محظور؛ لأن الوسائل تأخذ حكم المقاصد، فلما كان دين أهل الكتاب ديناً منسوخاً، فلا يجوز المعونة عليه.

الوقف على نسخ التوراة والإنجيل

يقول رحمه الله: [ونسخ التوراة والإنجيل]

كما أن الوقف يكون على المحسوسات من بناء الكنائس محظوراً كذلك يكون على المعنويات، وهي الأمور الفكرية التي تؤثر في عقائد الناس، من نَسْخ التوراة المنحرفة والإنجيل المحرف، وقد نَسَخ الله عز وجل العمل بالكتابين بكتابه سبحانه وتعالى الذي أنزله مهيمناً وناسخاً للشرائع.

فنسخ التوراة والإنجيل، لا يجوز الوقف عليه، وكانوا في القديم يحتاجون إلى نسخ الكتب، سواءً كانت من الكتب المنزلة، أو كانت كتب علم، فبقاء الدين موقوف على نسْخ هذه الكتب، فنسخ التوراة والإنجيل مثال ضربه المصنف رحمه الله لكي يلحق به غيره.

ومما يدخل في هذا كتب البدع؛ فإن الكتب التي تشتمل على البدع المنكرة من الأذكار والصلوات والأوراد التي لا أصل لها في الشرع، لا يجوز نسخها ولا المعونة عليها، ولا بثها بين الناس؛ لأن هذا يُفسد عليهم دينهم وإخلاصهم لله عز وجل، ويجعلهم يعتقدون ما لم يأذن الله عز وجل باعتقاده، ويعتقدون نسبتها إلى الشرع، والشرع لم يأذن بهذه الأشياء ولم يأمر الله عز وجل بها.

فلا يجوز الوقف على طبع كتب أهل البدع، سواء كانت في الأذكار أو كانت تحمل أفكاراً تصرف الناس عن السنة، ومذهب أهل السنة، أو تشكك في عقائد الناس، أو توهن إيمان الإنسان بالله عز وجل، ككتب الزندقة والإلحاد والفلسفة التي تجعل الباطل حقاً، وتجعل الحق باطلاً، وهكذا مثّل بعض العلماء بكتب السحر -أعاذنا الله وإياكم منه ومن أهله- وغير ذلك من الكتب التي تشتمل على أضرار دينية.

وهكذا لو كانت الكتب تشتمل على أمورٍ إباحية تُفسد أخلاق الناس، أو تثير الغرائز، ونحو ذلك من الأمور المحرمة لا يجوز الوقف عليها؛ لأن ذلك كله يدخل في المعونة على الإثم والعدوان، والله حرم التعاون على الإثم والعدوان.

وقد أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم الوقف على مثل هذا، ويبقى السؤال: إذا أوقف على كتب محرّمة أو على كتب بدع وضلالة أو نحو ذلك، فهل يبطل الوقف من أصله، أو ينظر إلى قريبه وشبهه؟

هذه المسألة من أمثلتها أن يوقف مثلاً على طبع كتب محرّمة، ككتب البدع ونحو ذلك، ثم يعرض الأمر على القاضي بعد أن انتهى من وقفيته وأتمها، فهل نقول: الوقف صحيح، والجهة التي يصرف لها باطلة، فيصرف إلى أقرب شيء منها، أو نقول: الوقف باطل من أصله، ويرجع المال إلى صاحبه.

قال بعض العلماء: إذا أوقف على أمر محرّم، سواء كان بناء ما يحرم بناؤه، أو نَسْخ ما يحرم نسخه، فإن الوقف باطل من أصله، وبناءً على ذلك يرجع المال إلى صاحبه.

وعلى هذا القول لو أن ميتاً أوقف داره على طريقة من طرق المبتدعة، أو على طبع كتب من الكتب المحرمة، من كتب البدع؛ فإن الورثة يستحقون هذا الذي أوقفه ويرجع ميراثاً شرعياً؛ لأن الوقف باطل من أصله، هذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله.

وبعض العلماء يرى أنه لما تلفظ بالوقف أخرج المال عن ملكيته، وحُظِر عليه الصرف في الممنوع، فوجب البذل للمشروع، فلو قال: أوقفت هذه الدار -مثلاً- على الطريقة الفلانية، أو على البدعة الفلانية ولا يراها بدعة، أو على الشيء الفلاني وهو بدعة. فيقولون: نرى أنه قد أوقف، والأصل الإعمال، ولذلك نُعْمِل وقفيته، ثم لما قال: على الطريقة الفلانية أو الأمر المبتدع الفلاني؛ فإنه يُمنع صرف هذا الوقف إليه، ويصرف إلى ما أذن الله به، ثم يصرف بالأشبه والأقرب مما أوقف عليه.

فإن كان أوقف على نَسْخ التوراة والإنجيل صُرف إلى نسخ وطبع القرآن، وإذا كان طبع القرآن متيسراً؛ فإنه يصرف إلى طبع كتب العلم أو كتب التفاسير أو كتب الحديث؛ لأنها أشبه بالذي أوقف عليه، فلما أوقف على الممنوع نفذ وقفه من جهة الإخراج -أنه أخرجه عن ملكه- فنعمل هذا ونبقيه على ما هو عليه، ثم نمنع من صرف المال أو صرف الغلة إذا كان للوقف غلة إلى ذلك الممنوع، ونصرفها إلى أشبه شيء من المشروع.

كذلك لو أوقف على أصحاب طريقة وقال: داري هذه أوقفتها من أجل الأذكار والصلوات والخلَوات وهي أمور غير مشروعة، فنقول: تُصرف لطلاب العلم.

فالمقصود أنه إذا اعتقد أن هذا من المشروع؛ فإنه يُلغى هذا الأمر المحرّم، وننظر إلى ما هو أشبه، وهو الذي يذكر الله عز وجل، فوجدنا طالب العلم ذاكراً لله، وهو أشبه بوقفيته، ويقاس على هذا بقية المسائل.

هذا القول الثاني اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه وطائفة من المحققين، أن من أوقف على الممنوع ينفذ وقفه في الأصل؛ ولكن يُصرف من الممنوع إلى المشروع، وهذا مبنيٌ على أنه قد أخرج من ذمته المال فنبقي إخراجه على ما هو عليه، ثم يُصرف إلى الجهة التي أذن الله بها.

قال رحمه الله: [وكتب زندقة]

وهكذا كتب الزندقة، ومن أعظم ما يكون جرأة على الله سبحانه وتعالى الجرأة على إفساد عقائد الناس، وأعظم منكر على وجه الأرض أن يُصرف الناس من التوحيد والفطرة والإخلاص لله عز وجل، إلى عبادة غير الله وتعظيم غير الله، وتنصَب هذه الكتب أو هذه الأوقاف على إفساد عقائد الناس بتعظيم غير الله، فيُصرف ما لله لغير الله سبحانه وتعالى، وهو أعظم الظلم إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].

(إن) التي تفيد التوكيد الشِّرْكَ لَظُلْمٌ [لقمان:13]، وصفُه بالظلم، وجاء نكرة لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] ثم يقول الله: (عَظِيمٌ)، وليس بعد عظيم الله عظيم، فمثل هذه التصرفات، مثل كتب الزندقة وكتب الإلحاد التي تُدس فيها السموم لصرف الناس من التوحيد الخالص، ومن الفطرة السوية إلى غير ذلك مما فيه المحاربة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ومما يدخل في ذلك كتب الاستهزاء بالدين، أو التشكيك في الدين، أو التشكيك في الحقائق والثوابت الدينية، وكتب الاتجاهات الفكرية في كل زمان ومكان، حتى في الزمان المعاصر حيث تصرف من تعظيم الدين وحب الدين والتعلق بالدين، إلى الاستهزاء والسخرية به، ونحو ذلك من الأمور المنكرة.

كل ذلك لا يجوز الوقف عليه، ومن فعل ذلك فقد أعان على أعظم الإثم واعتدى حدود الله عز وجل، ومن اعتدى حدود الله فقد حارب الله سبحانه وتعالى، ومن ذا الذي يقوى على محاربة الله عز وجل؛ فإن الله سبحانه وتعالى له سنن لا تختلف، وله آيات بينات أنزلها سبحانه وتعالى بمن كفر بدينه وغير شرعه؛ فإنه لا يفلت من عقوبة الله العاجلة والآجلة.

فلا يجوز طبع مثل هذه الكتب، ولا توزيعها، ولا نشرها، ولا الإشادة بها، بل ينبغي الحذر كل الحذر من ذلك الأمر، والعلماء نصوا على أنه لا تجوز الوقفية عليها، فينبغي أن يفهم طالب العلم أن المسألة ليست مسألة وقفية فحسب، لكن المسألة أن هذه وسيلة إلى أمر محرم، فيجمع جميع الأسباب، والوسائل، والأمور التي تعين على هذا المنكر العظيم، سواءً كانت بالأقوال أو كانت بالأفعال، أو بالمادة أو بالمحسوسات أو بالمعنويات، أو بأي سبيل وبأي طريق كان هذا الإفساد، فإنه محاربة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتغيير لدين الله عز وجل.

وكل من طبع هذه الكتب، أو أعان على نشرها وتوزيعها، فمن ضل وأضل بها غيره فعليه إثمه وإثم من يُضِل إلى يوم القيامة والعياذ بالله وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت:13]، فمثل هذه الأمور ينبغي الحذر منها، وعدم التساهل فيها، فكتب الزندقة حذر منها العلماء رحمهم الله في القديم، ولا زال أئمة الإسلام في كل عصر ومصر يحذرون من هذا، وينبغي قفل جميع الأسباب التي تعين على نشر الزندقة.

الزندقة ما دخلت على المسلمين إلا في عصور ترجمة المنطق، ولما أدخلها المأمون على المسلمين حصلت المفاسد العظيمة، والشرور الكبيرة، فصار الباطل حقاً، والحق باطلاً، ولبِّس على الناس دينهم، فدخلت الأمة في النقاشات، وفي الاتجاهات الفكرية حتى أصبحت السنة كالبدعة في أنظار هؤلاء الذين زاغوا وأزاغوا.

فمثل هذا المنكر العظيم لا يجوز المعونة عليه بطبع كتبه أو نشرها، حتى الإشادة بها، بل ينبغي للمسلم دائماً أن يعلم أن الوسائل تأخذ حكم المقاصد، وهذا ما قرره العلماء رحمهم الله، وللإمام العز بن عبد السلام رحمه الله كلام نفيس في كتابه: قواعد الأحكام ومصالح الأنام، بين أن الوسائل إلى المنكرات تختلف آثامها على حسب عظم المنكر، فالوسيلة إلى الشرك أعظم من الوسيلة إلى الزنا، والوسيلة إلى القتل أعظم من الوسيلة إلى السرقة، فأعظم وسيلة ما كان وسيلة إلى الشرك؛ لأنه ليس بعد الشرك ذنب وإثم يُعصى به الله سبحانه وتعالى.

فإذا كان الفعل أو القول أو أي شيء يقدُم عليه الإنسان وسيلة إلى هذا المنكر العظيم؛ فإنه في أسوء منازل الوسائل المحرمة.

يذكر بعض العلماء رحمهم الله أن الزندقة لا تختص بالزندقة المباشرة، فقد تكون زندقة ضمنية مثل من يجرؤ على تفسير القرآن وتفسير السنة بالهوى والرأي، أو ليّ النصوص الواردة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم عن حقيقتها، وعن تفسير السلف الصالح رحمهم الله لها، إلى تفسيرات توقع الناس في البلبلة، وتوقع الناس في ريب من هذا الكتاب الذي أنزله الله عز وجل هدى ونوراً للعباد، كل هذه الأمور من المحرمات العظيمة.

والوسائل التي هي في أعظم درجات الإثم أعظم إثماً، وأعظم جرأة على الله عز وجل، ولكن ينبغي أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى متكفل بدينه، وأن الله سبحانه وتعالى غالب على أمره، فوالله لو اجتمع أهلُ الأرض، جنهم وإنسهم، كبيرهم وصغيرهم، على أن يغيروا كلمة الله عز وجل ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وليختلفن الليل والنهار ولا يمكن أن تتبدل كلمة الله سبحانه وتعالى، مهما رأيت من كتب الزندقة والهوى والجرأة على تغيير الحق والاستهزاء بالحق وأهل الحق، فاعلم أن لله سطوات، وأن الباطل مهما كان حاله، ومهما كان شأنه؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقذف بالحق عليه فيدمغه.

ولكن لهذا الحق رجال يسخِّرهم الله عز وجل لهذه الأمة، كما أخبر صلى الله عليه وسلم أنه يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، هم الذين يذبُّون عن الشريعة، وتغار قلوبهم وألسنتهم على الحق، فيصدعون بالحق، لا يبالون بمن خالفهم، ولا يضرهم من ناوأهم كائناً من كان.

فهذه الكتب،كما أنه يحرم طبعها ينبغي إتلافها وصرف الناس عنها، وبيان عوارها، والعيوب التي فيها، وكشف حقائقها للناس، وإن حاول الأعداء صرف الناس إلى مثل هذه الكتب، فيجب على الداعية أن يكون حكيماً ويصرف عناية الناس إلى التوحيد الخالص الذي به تقمع كل بدعة.

فإذا اعتنيت بالأساس -التوحيد الخالص- لم تنصرف القلوب إلى غيره، ففي بعض الأحيان يشتغل الأعداء بشغل المسلمين بكتب الزندقة عن ترسيخ العقيدة الأساسية، ولذلك إذا نظرت إلى كتاب الله عز وجل وجدته يهذب المؤمنين ويرشدهم ويقيمهم على صراط الله عز وجل المستقيم مع كثرة الشبهات، وكثرة الاعتراضات على كتاب الله عز وجل، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن انصبت الآيات في أكثر الأحيان على ترسيخ التوحيد في قلوب المؤمنين.

ولا يعني هذا السكوت عن رد البدع والشبهات، لكن لا ينبغي أن لا ننصرف كلية إلى رد هذا، بل علينا أن ننصرف أول ما ننصرف إلى تقرير الأصل؛ لأنك إذا قررت الأصل، وأقمت الإنسان على المحجة، وبيّنت له السبيل وأقمت عليه الحجة؛ فإنه في هذه الحالة لن يؤثر فيه شيء بإذن الله عز وجل.

ففي بعض الأحيان يحرص أعداء الإسلام على شغل المسلمين عن ترسيخ هذا الأصل والأساس، فيكثرون عليهم الشبهات، ويجعلونهم في مقام المدافع ونحو ذلك مما يشغل به علماء الأمة أو دعاتها والمخلصون منها، حتى لا يتفرغوا لغرس العقيدة والأساس في الناشئة؛ لأن أهم ما ينبغي في محاربة كتب الزندقة وأفكار الزندقة التركيز على الناشئة.

وليعلم طالب العلم أن فتنة الشهوة والشبهة مهما أثارها أعداء الإسلام، فإن أضر ما تكون هذه الفتنة إذا كانت في الصغير لا في الكبير؛ لأن الصغير إذا نشأ على هذه الأمور؛ فهو غداً الذي يمسك بزمام الأمور، ولذلك يحرص أعداء الإسلام على كتب الزندقة في التأثر على الناشئ، ومن هنا كان ينبغي أن يُعتنى بالنشء قدر المستطاع؛ لأنه إذا نشأ على الفطرة والتوحيد والإخلاص، ورُكِّز على هذه القلوب البريئة؛ فإنه بإذن الله عز وجل لن يضرها من خالفها، وسيكون دين الله قوياً.

كان بعض الحكماء يقول: إذا رأيت الدين في الصغار فارج خيراً، أي: ارج خيراً لهذه الأمة، وأما إذا رأيته في الكبار فإنه شر يُنتظر. يعني: إذا مات الكبار خلفهم الصغار، فحينئذ تعظم الشهوة والشبهة، ونسأل الله العظيم أن يعيذنا من هذه الضلالات ومن أهلها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

عدم جواز الوصية على محرم

قال رحمه الله: [وكذا الوصية]

أي: ولا تجوز الوصية على الكنائس، ولا الوصية لنسخ كتب الأديان السماوية الأخرى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى عمر رضي الله عنه يقرأ في صحف أهل الكتاب غضب عليه الصلاة والسلام فقال كما في الصحيح: (والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي).

وهذا عمر رضي الله عنه الذي تؤمن عليه الفتنة، ومع ذلك صرفه عن شغل وقته، وإضاعة وقته في قراءتها (والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي)، فإذا كانت الوصية لهذه الأمور المحرمة فإنها تكون باطلة، لكن هل تبطل من أصلها أو تصرف إلى ما هو أقرب من وجوه الخير؟ على التفصيل المتقدم.

عدم صحة الوقف على نفسه

قال رحمه الله: [والوقف على نفسه]

أي: لا يصح أن يوقف على نفسه؛ لأن الوقف إخراج للمال المملوك عن ملكيته لله سبحانه وتعالى، خاصة إذا كان على وجوه البر كما تقدم، فإذا أوقف على نفسه فإنه في هذه الحالة لم يصنع شيئاً وليست هذه هي حقيقة الوقف.

ومن هنا قال بعض العلماء: لا يصح وقف الإنسان على نفسه بغير خلاف، يعني لا خلاف بين أهل العلم رحمهم الله في هذه المسألة، لكن لو أنه جعل لنفسه حظاً في حال حياته من الوقف فإنه يصح، كأن يجعل له نصيباً من هذا الوقف مدة حياته.

وهكذا لو اشترط النظارة فقال: هذا البيت يكون وقفاً علي وعلى ذريتي من بعدي، ولكن لي حق النظارة في حال حياتي، ولو أوقف بيته على الفقراء والمساكين واشترط النظارة عليه؛ صح، فإذا اشترط النظارة لنفسه أو نصيباً من الوقف لنفسه، فإنه لا بأس بذلك. وقال بعض العلماء: إن الإمام أحمد رحمه الله قد نص على أنه إذا اشترط لنفسه جزءاً أو شيئاً مخصوصاً مدة حياته أنه لا بأس بذلك ولا حرج عليه.

يقول المصنف رحمه الله: [غير حربي]

أي: لأن الحربي المحارب لله ورسوله، محارِب للمسلمين مباح الدم.

مثلاً: إذا وقعت حرب بين المسلمين والكفار؛ فإن هؤلاء من أهل الحرب ليس لهم حق على المسلمين، لمحاربتهم للمسلمين، ولذلك تستباح دماؤهم، وتباح أعراضهم، فتُسبى ذراريهم ونساؤهم، وكذلك لا يجوز ولا يشرع أن يُعاملوا معاملة الحسنى؛ لأنهم حاربوا الإسلام ومنعوا نشره، ففي هذه الحالة لا يجوز أن يُوقِف عليهم؛ لأنه ليس بِبِِِر، بل يعينهم على المسلمين، فلا يُشرع الوقف عليهم.

يقول رحمه الله: [وكنيسة]

وكذلك الوقف على كنيسة لا يصح ولا يجوز؛ لأن الكنائس جاز استبقاؤها للضرورة، ولذلك فإذا هُدمت لم تُبن، وقد تقدم معنا أحكام الكنائس في أحكام أهل الذمة، وبيّنا الشروط العمرية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتلقي الأمة لها بالقبول.

فلا يجوز الوقف على بناء الكنائس، سواءٌ كانت في ديار المسلمين، أو كانت خارج ديار المسلمين، ولا يجوز المعونة على بنائها، ولا ما يقوي من نشاطها، فكل ذلك محظور؛ لأن الوسائل تأخذ حكم المقاصد، فلما كان دين أهل الكتاب ديناً منسوخاً، فلا يجوز المعونة عليه.


استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3705 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3620 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3441 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3374 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3339 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3320 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3273 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3228 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3186 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3169 استماع