شرح زاد المستقنع باب الإجارة [7]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

قال المصنف رحمه الله: [ولا تصح على عمل يختص أن يكون فاعله من أهل القربة].

شرع المصنف رحمه الله في بيان جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بمحل الإجارة، فبيَّن أن مما يمتنع ولا يصح أن يؤجر عليه: أعمال القربة التي يختص فاعلها بالتعبد، وتوضيح ذلك: أن العبادات منها ما هو فرض عين على المكلف، قصد الشرع أن يقوم المكلف بفعله بنفسه، فهذا النوع من العبادات لا يستقيم أن يقيم غيره مقامه، وبعبارة أخرى كما يقول العلماء رحمهم الله: إن هذا النوع من العبادة لا تدخله النيابة من حيث الأصل، فيشمل ذلك الصلاة، فلا يجوز أن يصلي شخص مكان آخر، ولا أن يقوم بفعلها نيابة عن قريب أو غريب.

فهذا النوع من العبادات والتي يسميها العلماء بفرائض العين، وفرض العين هو الذي قصد الشرع أن يقوم المكلف به بعينه، فحينئذٍ لو دخل بديل عن هذا المكلف فإن مقصود الشرع لا يتحقق، فلو قال رجل لآخر: صل عني الصلوات الخمس أو بعضها وأعطيك عن كل صلاة كذا وكذا؛ لم يصح.

فإذاً: لا يصح أن يستأجره للقيام بفريضة العين؛ لأن الشرع قصد أن يقوم بها المكلف بنفسه عيناً، فلا يستقيم أن يقوم غيره مقامه، لا على سيبل التبرع ولا على سبيل العوض، هذا بالنسبة لفرائض الأعيان.

وهناك قربات أخر دل الشرع على جواز النيابة فيها، وبالإمكان أن يقوم شخص مقام آخر في القيام بهذه العبادات، أو تكون الطاعة نفسها مما يتقرب به إلى الله عز وجل، ويكون قربة للشخص نفسه، فمثلاً: الأذان، وتعليم القرآن، والإمامة في الصلوات، والتعليم والتدريب والفتوى... ونحو ذلك من الأمور المتعلقة بالطاعات والعبادات في تعليمها والقيام بها، فلو أن شخصاً أراد أن يستأجر شخصاً للأذان، أو أراد أن يستأجره للقيام بالفتوى أو الإمامة أو التدريس ونحو ذلك، فهل تجوز الإجارة على هذا النحو من القربات؟

للسلف رحمهم الله في هذه المسألة ثلاثة أقوال، وهي المسألة التي ذكرها المصنف رحمه الله وصدر بها هذه الجملة:

القول الأول: لا يستأجر على هذه الطاعات والقربات، فلا يجوز أن تدفع المال من أجل أن يؤذن، ولا يجوز أن تدفع المال من أجل أن يعلم القرآن، ولا يجوز أن تدفع المال إليه من أجل التعليم والإمامة ونحو ذلك من القربات التي ذكرنا، وهذا القول قال به طائفة من السلف رحمة الله عليهم، وقال به أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي وكذلك قال به ابن المنذر ، وقال به إسحاق بن راهويه ، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، وهو مذهب الحنفية، أي: أنه لا يجوز أن يستأجر الغير للقيام بالطاعات التي ذكرناها، لا أذاناً ولا صلاة ولا إمامة ولا تدريساً ولا نحو ذلك من الطاعات والقربات.

بناءً على هذا القول: لو انعقدت الإجارة بين الطرفين على فعل هذه الأمور فإنه لا يستحق الأجير شيئاً، ولا تكون الإجارة شرعية.

القول الثاني: يجوز أن يستأجر الغير للقيام بهذه الأعمال والطاعات، ولا بأس بذلك، وهذا هو مذهب المالكية والشافعية ورواية عن الإمام أحمد -رحمة الله على الجميع- ولذلك ينسبه بعض أهل العلم إلى الجمهور: أنه يجوز أن تستأجر الشخص للقيام بتعليم القرآن، وتقول له: علم ابني هذا الجزء من القرآن برواية نافع ، أو برواية حفص ، أو برواية ورش عن نافع ، ونحو ذلك من الاتفاق الذي تبينه له، ولا بأس بذلك ولا حرج، ويجوز أن تستأجره للأذان وللإمامة وللتدريس والتعليم ونحو ذلك، وهو مذهب الجمهور كما ذكرنا.

القول الثالث: التفصيل: قال: إن وقع العقد بالشرط فلا يجوز، وإن وقع بدون شرط فهو جائز.

ومرادهم بكونه بشرط أن يقول الشخص: أنا لا أدرس حتى تعطيني المال، أو لا أؤذن حتى تعطيني كذا وكذا، أو لا أؤم الناس حتى تعطيني كذا وكذا. فهذا النوع يسمى المشارطة، أي: أنه جعل العوض والأجرة شرطاً للقيام بالطاعة، وهذا القول هو رواية عن الإمام أحمد ، رحمة الله على الجميع.

تحصل معنا أن في هذه المسألة ثلاثة أقوال: قول بالمنع مطلقاً، وقول بالجواز مطلقاً، وقول بالتفصيل.

حالة التفصيل يجيزون إذا لم يشترط الشخص، ومثال عدم الاشتراط: يأتي الشخص للأذان أو للإمامة، فيعطى الأجرة بدون أن يشترط ذلك، ولو قال له قائل: لا نعطيك الأجرة. لاستمر في أذانه أو في إمامته، فهو إذاً لا يجعل الأجرة قصداً أو هدفاً من إمامته، بل يكون مستعداً أن يقوم بالفعل والطاعة قربة لله عز وجل، فصار أجر الدنيا تبعاً ولا قصداً، هذا بالنسبة للتفريق بين المشارطة وعدمها.

أدلة من يقول بعدم جواز أخذ أجرة على تعليم القرآن وغيره

استدل الذين قالوا بعدم الجواز بدليل الكتاب والسنة والعقل:

أما دليلهم من كتاب الله عز وجل فقالوا: إن القرآن نص على تحريم عقد الأجرة على الوحي، قال تعالى: وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:109].. قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سبأ:47] إلى غير ذلك من الآيات التي نصت على أنه لا أجر ولا حظ لقاء القيام بهذا الوحي، فشمل ذلك القرآن تعليماً وتدريساً وبياناً، وكل ما يتصل بالقرآن من المنافع التي يراد بها التقرب لله سبحانه وتعالى.

ودليل السنة هو: أن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه علم رجلاً من أهل الصفة شيئاً من كتاب الله عز وجل فأهدى إليه قوساً، قال: (فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته، فقال: إن أحببت أن يقلدك الله به قوساً من نار فتقلده) ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم رتب الوعيد على أخذ الأجرة من الطاعة والقربة المتمثلة بتعليم القرآن، فدل على أنه لا يجوز أن يأخذ الشخص أجرة على تعليمهم القرآن، ويتبع ذلك تعليمهم العلم عموماً.

أما الدليل الثالث: فقالوا: حديث أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه، وفيه: (أنه أهدى إليه رجل علمه شيئاً من كتاب الله فأهدى إليه خميصة، فلما أهدى إليه الخميصة قال عليه الصلاة والسلام: لو أنك لبستها لكساك الله بها ثوباً من النار).

وهذان الحديثان في إسنادهما كلام عند أهل العلم رحمة الله عليهم، فهما ضعيفا الإسناد كما سنبينه في الترجيح.

أيضاً هناك دليل فيه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الأكل بالقرآن: (اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به ولا تستكثروا) وفيه كلام أيضاً، وإن كان بعض العلماء قد حسن إسناده، لكن الكلام فيه قوي.

فهذا مجموع دليلهم من الكتاب والسنة، أما دليلهم من العقل فقالوا: لا تجوز الإجارة على هذه القربات -أي: تعليم القرآن والتعليم والإمامة والأذان ونحوها من الطاعات- كما لا تجوز الإجارة على الصلاة والصيام، يقولون:

أنتم تتفقون معنا على أنه لا يجوز أن يستأجر شخص شخصاً من أجل أن يصوم عنه، وتتفقون معنا على أنه لا يجوز أن يستأجر شخص شخصاً من أجل أن يصلي عنه، وإذا كنا متفقين على أنه لا يجوز أن يستأجر شخص آخر للصلاة ولا أن يستأجره للصيام، فنقول: تعليم القرآن والأذان وتعليم العلم كالصلاة، أليس المراد بها أن يتحصل صاحبها على الأجر والمثوبة؟ قلنا: بلى. قالوا: ما دام أنه يريد تحصيل الأجر والمثوبة والكل قربة، وكما حرم أصل الأجرة على هذه القربة يحرم أصل الأجرة على هذه القربة بجامع كون كل منهما طاعة وقربة لله عز وجل.

هذا بالنسبة للدليل العام الذي ورد.

أيضاً قالوا: مسألة الأذان لا يجوز أخذ الأجرة عليها لثبوت الحديث الخاص، وهو حديث السنن، عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه وأرضاه، وكان قد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، قال رضي الله عنه: (وكان آخر ما عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن اتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً) والحديث صحيح، قالوا: فهذا نص، وركبوا منه دليل العقل فقالوا: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نص على عدم أخذ الأجرة على الأذان وهو من القربة والطاعة، كذلك لا يجوز أخذ الأجرة على التعليم، ولا يجوز أخذ الأجرة على الفتوى، ولا غير ذلك من الأمور التي يقصد بها القربة والطاعة.

هذه هي محصل أدلة أصحاب القول الأول من النقل والعقل.

أدلة من يقول بجواز أخذ أجرة على تعليم العلم والقرآن

أما دليل من قال بالجواز، فقد استدلوا بأدلة ثابتة في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدلة من القياس والنظر.

أما دليلهم من السنة الصحيحة فقالوا: عندنا عدة أحاديث وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كلها تدل على أنه يجوز أن يأخذ المسلم أجرة على القيام بهذه الطاعات والقرب:

الدليل الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه -وهو ثابت في الصحيحين- في قصة المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فصعد فيها النظر وصوبه عليه الصلاة والسلام، وقال له رجل: يا رسول الله! إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها. فقال له: (هل معك شيء تصدقها إياه؟.. إلى أن قال: زوجتكها، وفي رواية: أنكحتكها، وفي رواية أخرى: ملكتكها بما معك من القرآن) فالرجل يحفظ عدة سور، فزوجه النبي صلى الله عليه وسلم من هذه المرأة على أن يعلمها هذه السور، حيث قال: (أنكحتكها بما معك من القرآن).

فإذا تأملت هذا الحديث وجدت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل تعليم القرآن عوضاً وصداقاً لنكاح المرأة، فدل ذلك على جواز أن يكون التعليم عوضاً عن شيء دنيوي، وأنه لا بأس أن يأخذ عليه أجراً من الدنيا ما دام أن نيته الأصلية هي ابتغاء الله عز وجل، فقالوا: فلا يضر، لأنه ينوي الطاعة والقربة بتعليمهم القرآن، ولكن كونه يأخذ شيئاً من الدنيا فذلك من تيسير الله عز وجل له حتى يستعين به على المئونة، ويستعين به على طلب العلم، ويستعين به على الخير.

إذاً: حديث أبي هريرة دل على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن.

طبعاً هم يقولون: أليس المرأة إذا أراد الرجل أن يتزوجها يدفع المال من الذهب والفضة؟ قلنا: بلى، يدفع المال من الذهب والفضة.

قالوا: فإذا كان يدفع المال من الذهب والفضة فإن النبي صلى الله عليه وسلم نزل تعليم القرآن عوضاً عن مهر المرأة، فدل على أنه يجوز أن يكون تعليم القرآن معاوضاً عليه، يعني: لقاء عوض وبدل.

أما الدليل الثاني: فقالوا: حديث أبي سعيد في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنهم نزلوا بحي من أحياء العرب، وفيه رجل به ألم، فقيل لهم: إنكم أتيتم من عند هذا الرجل فهل عندكم من راق؟ فأتي بالرجل، قال: فكنت أقرأ عليه بفاتحة القرآن، فأجمع رقيقي ثم أتفل عليه (ثلاثة أيام) فكأنما نشط من عقال)، أي: فشفاه الله عز وجل بما جعل الله في هذا القرآن من البركة، كما قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29] فجعل الله عز وجل فيه البركة؛ فشفي سيد القوم، فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم، وفي بعض الروايات أن أبا سعيد اشترط وقال: (لا نرقي حتى تجعلوا لنا جعلاً). فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم، فلما جعلوا لهم الجعل قرأ ورقى فشفي سيد القوم.

ومثله قضية اللديغ حينما لدغ وقرءوا عليه بفاتحة الكتاب؛ فشفاه الله عز وجل.

قال أبو سعيد : (فلما رجعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم سألناه -أي: سألناه عن أخذ العوض عن القرآن والرقية- فقال عليه الصلاة والسلام: إنكم أكلتم برقية حق، وإن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله، كلوا واضربوا لي معكم متاعاً) وفي رواية: (خذوا واضربوا لي معكم بسهم) فأحل لهم العوض، والعوض وقع لقاء الرقية، والرقية نوع من الطاعة والقربة؛ لأنها لا تقع القربة إلا إذا تلا القرآن معتقداً فيه التقرب لله عز وجل، كما لو أذن معتقداً وكما لو علم معتقداً، وهكذا.

فقال أصحاب هذا القول رحمة الله عليهم: إنه يجوز أخذ العوض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز لهؤلاء الصحابة أخذ الجعل، وعده غير قادح في كون العمل قربة، وقال: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله).

كذلك أيضاً لهم دليل ثالث، وهو: النظر والعقل، قالوا: يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن وعلى الأذان والإمامة والفتوى ونحو ذلك من القربات، كما يجوز أخذ الأجرة على بناء المسجد وكتابة العلم، والكل متفق على أنه لو استأجر شخص ليبني مسجداً فإنه يجوز بالإجماع، وبناء المسجد يقع قربة ويقع عادة من العادات، ولذلك قالوا: ممكن أن ينوي به القربة ويحصل أجر الدنيا وأجر الآخرة، قالوا: فيجوز أن يأخذ العوض عليه من هذا الوجه.

أدلة من يفصل في مسألة أخذ أجرة على تعليم القرآن

وأما القول الثالث: الذي قال بالفرق بين المشارطة وعدمها فإنهم يجمعون بين الأدلة، ويقولون: إن الآية التي حرمت نص فيها الله عز وجل على أن التحريم للمشارطة قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ [سبأ:47] ، قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الفرقان:57] ، وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الشعراء:109] ، وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [يوسف:104] فالسؤال مشارطة، فجعل المشارطة مؤثرة في الحل، فالمنع جاء بصورة خاصة وهي أن يسأل، والمشترط سائل، فكأنه يقول: لا أصلي حتى تعطوني ألفاً. يقولون له: صل بنا إماماً. يقول: أقبل أن أصلي بكم الشهر بخمسمائة.

قيل للإمام أحمد رحمة الله عليه: إن رجلاً يقول: لا أصلي بكم التراويح حتى تعطوني كذا وكذا. قال: أعوذ بالله! من يصلي وراء هذا؟! فما دام أنه يقول: لا أصلي بكم حتى تعطوني كذلك. معناه: أنه لا يريد الصلاة ولا يريد العبادة إلا من أجل المال.

فإذاً قالوا: إنه إذا شارط كان سائلاً، والله نهى ومنع وحرم، وجعل السؤال للأجر لقاء الوحي محظوراً على المرء، وكما أنه محظور على نبي الأمة صلى الله عليه وسلم فمن بعده قائم مقامه في كونه ممنوعاً من هذا الأمر؛ لما فيه من الإخلال بحق الدعوة والتعليم.

وكذلك أيضاً قالوا: إن الجواز دلت عليه الأدلة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتحريم دلت عليه أدلة أخرى، فنجمع بين الدليلين ونقول: من اشترط منع، ومن لم يشترط لا يمنع.

واعترض على هذا المذهب باعتراض، قيل لهم: أنتم تقولون: إننا نجمع بين أدلة الجواز والتحريم، فما رأيكم بحديث أبي سعيد والرقية، فإن حديث الرقية فيه: (لا نرقي حتى تجعلوا لنا جعلاً) فجعلوا الشرط موجوداً.

فقالوا: نعم، حديث أبي سعيد نقره ولا ننكره، ونقبله ولا نرده، ولكنه بين مسلم وكافر؛ لأن هؤلاء كفار وليسوا مسلمين، وإنما حظر إذا كان بين مسلم ومسلم.

وأجابوا من وجه آخر فقالوا: إن حديث أبي سعيد رضي الله عنه خرج مخرج المداواة؛ لأن الرقية نوع من العلاج والتداوي، والعلاج والتداوي فيه شبهة الدنيا مع وجود القربة والطاعة، فصار مثل: داء المس، فيمكن أن يقع طاعة ويمكن أن يقع غير طاعة، فوسع فيه أكثر من غيره، فخففوا من حديث أبي سعيد رضي الله عنه من هذا الوجه.

الراجح في مسألة أخذ الأجرة على تعليم القرآن ونحوه

وفي الحقيقة: إذا تأمل المتأمل فإنه سيجد أن دليل من قال بالجواز أصح وأقوى من حيث الإسناد والثبوت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك فالأشبه والأقوى القول بالجواز، وخاصة إذا كان من بيت المال.

وأما مسألة الأذان فيشكل على حديث الأذان حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم : (واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً) فإن هذا الحديث يعارض بحديث أبي محذورة رضي الله عنه وأرضاه، وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قفل من الطائف بعد قسمه لغنائم حنين بالجعرانة، وجاء أبو محذورة رضي الله عنه وأذن الأذان، قال: فألقى إلي صرة من فضة).

فألقى النبي صلى الله عليه وسلم له صرة من فضة، فأخذ على أذانه الأجر، فنقول: الأشبه في قوله (واتخذ مؤذناً لا يتخذ على أذانه أجراً) أي: لا يطلب على أذانه الأجر، أي: أنه يدخل تحت ما قلناه: عند المشارطة يقع الحظر والمنع، ولذلك القول بأنه يجوز هو الأصل، وفي النفس شيء إن كان الرجل يشارط، أعني إذا كان يقول: لا أفعل حتى تعطوني. فهذا في النفس منه شيء.

وبناءً على ذلك: فالأشبه الجواز، وخاصة إذا كان من بيت مال المسلمين.

وقوى بعض العلماء في هذه المسألة جوانب، قالوا: الأقوى والأشبه الجواز، كأن يكون طالب العلم لا دخل له إلا هذا الذي يأخذه من بيت المال، أو يغلب على ظنه أنه إذا لم يتفرغ للتعليم على هذا الوجه فإنه سيتعرض لذل المسألة، أو يتعرض لأمانات الناس ويضيعها، ولذلك كان الإمام أحمد يفضل التعليم بالمال على نحوه من التكسب الذي فيه تحمل لأمانات الناس وحقوقهم، فلعله ألا يتمكن من ذلك فيضيع حقوقهم.

وقال بعض العلماء: ينبغي للإنسان أن يوطن نفسه إذا كان مؤذناً أو إماماً وأخذ الأجر، أن يحرص في الابتداء ألا يأخذ، ويحاول قدر استطاعته ألا يتقبل العطاء، فإذا فرض عليه نوى في قرارة قلبه أنه لو قطع عنه لاستمر في عمله وطاعته، وأن ذلك لا يقطعه عن الخير.

قالوا: فلو قيل له: نقطع عنك راتبك الذي تأخذه. فينقطع؛ فحينئذٍ تكون الشبهة فيه قوية؛ لأنه يريد حظ الدنيا، نسأل الله السلامة والعافية.

وبناء على ذلك نقول: إن الآيات التي منعت قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الفرقان:57] قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سبأ:47] إلى غير ذلك من الآيات محمولة على من اشترط وقصد المال وقدم الدنيا على الآخرة.

وأما حديث أبي وحديث عبادة بن الصامت فنقول: إنها أحاديث فيها ما فيها من حيث السند، وهي أضعف إسناداً، والقاعدة: أن الضعيف لا يقوى على معارضة ما هو أصح منه.

وهناك جواب يختاره بعض مشايخنا رحمة الله عليهم، فيقول: إن أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه ابتدأ تعليم الرجل لوجه الله، ثم جاءه بعد ذلك بقوس هدية، فحينئذٍ من ابتدأ التعليم قاصداً به وجه الله، فجاءته هدية أو جاءه شيء من الدنيا كأنه رغب عن ثواب الله إلى مثوبة العباد، وقال له: (إن أحببت أن يقلدك الله به قوساً من نار) بالانخراط فصرفه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأكمل والأحظ، وهو: إرادة ما عند الله عز وجل، فيفرق بين من ابتدأ وهو ينوي الآخرة، ونشأت عليه الدنيا، وبين من يكون في الأصل له حظ الدنيا.

وقالوا: النبي صلى الله عليه وسلم رغب في الجهاد مع كونه قربة وطاعة بحظ من الدنيا، وقال: (من قتل قتيلاً فله سلبه) فرغب في الطاعة، فقويت الحمية وقويت الشوكة في ذات الله بحظ من الدنيا، وهذا يدل على أنه إذا أراد حظ الدنيا لم يؤثر.

استدل الذين قالوا بعدم الجواز بدليل الكتاب والسنة والعقل:

أما دليلهم من كتاب الله عز وجل فقالوا: إن القرآن نص على تحريم عقد الأجرة على الوحي، قال تعالى: وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:109].. قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سبأ:47] إلى غير ذلك من الآيات التي نصت على أنه لا أجر ولا حظ لقاء القيام بهذا الوحي، فشمل ذلك القرآن تعليماً وتدريساً وبياناً، وكل ما يتصل بالقرآن من المنافع التي يراد بها التقرب لله سبحانه وتعالى.

ودليل السنة هو: أن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه علم رجلاً من أهل الصفة شيئاً من كتاب الله عز وجل فأهدى إليه قوساً، قال: (فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته، فقال: إن أحببت أن يقلدك الله به قوساً من نار فتقلده) ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم رتب الوعيد على أخذ الأجرة من الطاعة والقربة المتمثلة بتعليم القرآن، فدل على أنه لا يجوز أن يأخذ الشخص أجرة على تعليمهم القرآن، ويتبع ذلك تعليمهم العلم عموماً.

أما الدليل الثالث: فقالوا: حديث أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه، وفيه: (أنه أهدى إليه رجل علمه شيئاً من كتاب الله فأهدى إليه خميصة، فلما أهدى إليه الخميصة قال عليه الصلاة والسلام: لو أنك لبستها لكساك الله بها ثوباً من النار).

وهذان الحديثان في إسنادهما كلام عند أهل العلم رحمة الله عليهم، فهما ضعيفا الإسناد كما سنبينه في الترجيح.

أيضاً هناك دليل فيه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الأكل بالقرآن: (اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به ولا تستكثروا) وفيه كلام أيضاً، وإن كان بعض العلماء قد حسن إسناده، لكن الكلام فيه قوي.

فهذا مجموع دليلهم من الكتاب والسنة، أما دليلهم من العقل فقالوا: لا تجوز الإجارة على هذه القربات -أي: تعليم القرآن والتعليم والإمامة والأذان ونحوها من الطاعات- كما لا تجوز الإجارة على الصلاة والصيام، يقولون:

أنتم تتفقون معنا على أنه لا يجوز أن يستأجر شخص شخصاً من أجل أن يصوم عنه، وتتفقون معنا على أنه لا يجوز أن يستأجر شخص شخصاً من أجل أن يصلي عنه، وإذا كنا متفقين على أنه لا يجوز أن يستأجر شخص آخر للصلاة ولا أن يستأجره للصيام، فنقول: تعليم القرآن والأذان وتعليم العلم كالصلاة، أليس المراد بها أن يتحصل صاحبها على الأجر والمثوبة؟ قلنا: بلى. قالوا: ما دام أنه يريد تحصيل الأجر والمثوبة والكل قربة، وكما حرم أصل الأجرة على هذه القربة يحرم أصل الأجرة على هذه القربة بجامع كون كل منهما طاعة وقربة لله عز وجل.

هذا بالنسبة للدليل العام الذي ورد.

أيضاً قالوا: مسألة الأذان لا يجوز أخذ الأجرة عليها لثبوت الحديث الخاص، وهو حديث السنن، عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه وأرضاه، وكان قد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، قال رضي الله عنه: (وكان آخر ما عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن اتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً) والحديث صحيح، قالوا: فهذا نص، وركبوا منه دليل العقل فقالوا: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نص على عدم أخذ الأجرة على الأذان وهو من القربة والطاعة، كذلك لا يجوز أخذ الأجرة على التعليم، ولا يجوز أخذ الأجرة على الفتوى، ولا غير ذلك من الأمور التي يقصد بها القربة والطاعة.

هذه هي محصل أدلة أصحاب القول الأول من النقل والعقل.

أما دليل من قال بالجواز، فقد استدلوا بأدلة ثابتة في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدلة من القياس والنظر.

أما دليلهم من السنة الصحيحة فقالوا: عندنا عدة أحاديث وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كلها تدل على أنه يجوز أن يأخذ المسلم أجرة على القيام بهذه الطاعات والقرب:

الدليل الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه -وهو ثابت في الصحيحين- في قصة المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فصعد فيها النظر وصوبه عليه الصلاة والسلام، وقال له رجل: يا رسول الله! إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها. فقال له: (هل معك شيء تصدقها إياه؟.. إلى أن قال: زوجتكها، وفي رواية: أنكحتكها، وفي رواية أخرى: ملكتكها بما معك من القرآن) فالرجل يحفظ عدة سور، فزوجه النبي صلى الله عليه وسلم من هذه المرأة على أن يعلمها هذه السور، حيث قال: (أنكحتكها بما معك من القرآن).

فإذا تأملت هذا الحديث وجدت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل تعليم القرآن عوضاً وصداقاً لنكاح المرأة، فدل ذلك على جواز أن يكون التعليم عوضاً عن شيء دنيوي، وأنه لا بأس أن يأخذ عليه أجراً من الدنيا ما دام أن نيته الأصلية هي ابتغاء الله عز وجل، فقالوا: فلا يضر، لأنه ينوي الطاعة والقربة بتعليمهم القرآن، ولكن كونه يأخذ شيئاً من الدنيا فذلك من تيسير الله عز وجل له حتى يستعين به على المئونة، ويستعين به على طلب العلم، ويستعين به على الخير.

إذاً: حديث أبي هريرة دل على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن.

طبعاً هم يقولون: أليس المرأة إذا أراد الرجل أن يتزوجها يدفع المال من الذهب والفضة؟ قلنا: بلى، يدفع المال من الذهب والفضة.

قالوا: فإذا كان يدفع المال من الذهب والفضة فإن النبي صلى الله عليه وسلم نزل تعليم القرآن عوضاً عن مهر المرأة، فدل على أنه يجوز أن يكون تعليم القرآن معاوضاً عليه، يعني: لقاء عوض وبدل.

أما الدليل الثاني: فقالوا: حديث أبي سعيد في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنهم نزلوا بحي من أحياء العرب، وفيه رجل به ألم، فقيل لهم: إنكم أتيتم من عند هذا الرجل فهل عندكم من راق؟ فأتي بالرجل، قال: فكنت أقرأ عليه بفاتحة القرآن، فأجمع رقيقي ثم أتفل عليه (ثلاثة أيام) فكأنما نشط من عقال)، أي: فشفاه الله عز وجل بما جعل الله في هذا القرآن من البركة، كما قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29] فجعل الله عز وجل فيه البركة؛ فشفي سيد القوم، فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم، وفي بعض الروايات أن أبا سعيد اشترط وقال: (لا نرقي حتى تجعلوا لنا جعلاً). فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم، فلما جعلوا لهم الجعل قرأ ورقى فشفي سيد القوم.

ومثله قضية اللديغ حينما لدغ وقرءوا عليه بفاتحة الكتاب؛ فشفاه الله عز وجل.

قال أبو سعيد : (فلما رجعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم سألناه -أي: سألناه عن أخذ العوض عن القرآن والرقية- فقال عليه الصلاة والسلام: إنكم أكلتم برقية حق، وإن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله، كلوا واضربوا لي معكم متاعاً) وفي رواية: (خذوا واضربوا لي معكم بسهم) فأحل لهم العوض، والعوض وقع لقاء الرقية، والرقية نوع من الطاعة والقربة؛ لأنها لا تقع القربة إلا إذا تلا القرآن معتقداً فيه التقرب لله عز وجل، كما لو أذن معتقداً وكما لو علم معتقداً، وهكذا.

فقال أصحاب هذا القول رحمة الله عليهم: إنه يجوز أخذ العوض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز لهؤلاء الصحابة أخذ الجعل، وعده غير قادح في كون العمل قربة، وقال: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله).

كذلك أيضاً لهم دليل ثالث، وهو: النظر والعقل، قالوا: يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن وعلى الأذان والإمامة والفتوى ونحو ذلك من القربات، كما يجوز أخذ الأجرة على بناء المسجد وكتابة العلم، والكل متفق على أنه لو استأجر شخص ليبني مسجداً فإنه يجوز بالإجماع، وبناء المسجد يقع قربة ويقع عادة من العادات، ولذلك قالوا: ممكن أن ينوي به القربة ويحصل أجر الدنيا وأجر الآخرة، قالوا: فيجوز أن يأخذ العوض عليه من هذا الوجه.

وأما القول الثالث: الذي قال بالفرق بين المشارطة وعدمها فإنهم يجمعون بين الأدلة، ويقولون: إن الآية التي حرمت نص فيها الله عز وجل على أن التحريم للمشارطة قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ [سبأ:47] ، قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الفرقان:57] ، وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الشعراء:109] ، وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [يوسف:104] فالسؤال مشارطة، فجعل المشارطة مؤثرة في الحل، فالمنع جاء بصورة خاصة وهي أن يسأل، والمشترط سائل، فكأنه يقول: لا أصلي حتى تعطوني ألفاً. يقولون له: صل بنا إماماً. يقول: أقبل أن أصلي بكم الشهر بخمسمائة.

قيل للإمام أحمد رحمة الله عليه: إن رجلاً يقول: لا أصلي بكم التراويح حتى تعطوني كذا وكذا. قال: أعوذ بالله! من يصلي وراء هذا؟! فما دام أنه يقول: لا أصلي بكم حتى تعطوني كذلك. معناه: أنه لا يريد الصلاة ولا يريد العبادة إلا من أجل المال.

فإذاً قالوا: إنه إذا شارط كان سائلاً، والله نهى ومنع وحرم، وجعل السؤال للأجر لقاء الوحي محظوراً على المرء، وكما أنه محظور على نبي الأمة صلى الله عليه وسلم فمن بعده قائم مقامه في كونه ممنوعاً من هذا الأمر؛ لما فيه من الإخلال بحق الدعوة والتعليم.

وكذلك أيضاً قالوا: إن الجواز دلت عليه الأدلة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتحريم دلت عليه أدلة أخرى، فنجمع بين الدليلين ونقول: من اشترط منع، ومن لم يشترط لا يمنع.

واعترض على هذا المذهب باعتراض، قيل لهم: أنتم تقولون: إننا نجمع بين أدلة الجواز والتحريم، فما رأيكم بحديث أبي سعيد والرقية، فإن حديث الرقية فيه: (لا نرقي حتى تجعلوا لنا جعلاً) فجعلوا الشرط موجوداً.

فقالوا: نعم، حديث أبي سعيد نقره ولا ننكره، ونقبله ولا نرده، ولكنه بين مسلم وكافر؛ لأن هؤلاء كفار وليسوا مسلمين، وإنما حظر إذا كان بين مسلم ومسلم.

وأجابوا من وجه آخر فقالوا: إن حديث أبي سعيد رضي الله عنه خرج مخرج المداواة؛ لأن الرقية نوع من العلاج والتداوي، والعلاج والتداوي فيه شبهة الدنيا مع وجود القربة والطاعة، فصار مثل: داء المس، فيمكن أن يقع طاعة ويمكن أن يقع غير طاعة، فوسع فيه أكثر من غيره، فخففوا من حديث أبي سعيد رضي الله عنه من هذا الوجه.

وفي الحقيقة: إذا تأمل المتأمل فإنه سيجد أن دليل من قال بالجواز أصح وأقوى من حيث الإسناد والثبوت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك فالأشبه والأقوى القول بالجواز، وخاصة إذا كان من بيت المال.

وأما مسألة الأذان فيشكل على حديث الأذان حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم : (واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً) فإن هذا الحديث يعارض بحديث أبي محذورة رضي الله عنه وأرضاه، وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قفل من الطائف بعد قسمه لغنائم حنين بالجعرانة، وجاء أبو محذورة رضي الله عنه وأذن الأذان، قال: فألقى إلي صرة من فضة).

فألقى النبي صلى الله عليه وسلم له صرة من فضة، فأخذ على أذانه الأجر، فنقول: الأشبه في قوله (واتخذ مؤذناً لا يتخذ على أذانه أجراً) أي: لا يطلب على أذانه الأجر، أي: أنه يدخل تحت ما قلناه: عند المشارطة يقع الحظر والمنع، ولذلك القول بأنه يجوز هو الأصل، وفي النفس شيء إن كان الرجل يشارط، أعني إذا كان يقول: لا أفعل حتى تعطوني. فهذا في النفس منه شيء.

وبناءً على ذلك: فالأشبه الجواز، وخاصة إذا كان من بيت مال المسلمين.

وقوى بعض العلماء في هذه المسألة جوانب، قالوا: الأقوى والأشبه الجواز، كأن يكون طالب العلم لا دخل له إلا هذا الذي يأخذه من بيت المال، أو يغلب على ظنه أنه إذا لم يتفرغ للتعليم على هذا الوجه فإنه سيتعرض لذل المسألة، أو يتعرض لأمانات الناس ويضيعها، ولذلك كان الإمام أحمد يفضل التعليم بالمال على نحوه من التكسب الذي فيه تحمل لأمانات الناس وحقوقهم، فلعله ألا يتمكن من ذلك فيضيع حقوقهم.

وقال بعض العلماء: ينبغي للإنسان أن يوطن نفسه إذا كان مؤذناً أو إماماً وأخذ الأجر، أن يحرص في الابتداء ألا يأخذ، ويحاول قدر استطاعته ألا يتقبل العطاء، فإذا فرض عليه نوى في قرارة قلبه أنه لو قطع عنه لاستمر في عمله وطاعته، وأن ذلك لا يقطعه عن الخير.

قالوا: فلو قيل له: نقطع عنك راتبك الذي تأخذه. فينقطع؛ فحينئذٍ تكون الشبهة فيه قوية؛ لأنه يريد حظ الدنيا، نسأل الله السلامة والعافية.

وبناء على ذلك نقول: إن الآيات التي منعت قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الفرقان:57] قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سبأ:47] إلى غير ذلك من الآيات محمولة على من اشترط وقصد المال وقدم الدنيا على الآخرة.

وأما حديث أبي وحديث عبادة بن الصامت فنقول: إنها أحاديث فيها ما فيها من حيث السند، وهي أضعف إسناداً، والقاعدة: أن الضعيف لا يقوى على معارضة ما هو أصح منه.

وهناك جواب يختاره بعض مشايخنا رحمة الله عليهم، فيقول: إن أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه ابتدأ تعليم الرجل لوجه الله، ثم جاءه بعد ذلك بقوس هدية، فحينئذٍ من ابتدأ التعليم قاصداً به وجه الله، فجاءته هدية أو جاءه شيء من الدنيا كأنه رغب عن ثواب الله إلى مثوبة العباد، وقال له: (إن أحببت أن يقلدك الله به قوساً من نار) بالانخراط فصرفه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأكمل والأحظ، وهو: إرادة ما عند الله عز وجل، فيفرق بين من ابتدأ وهو ينوي الآخرة، ونشأت عليه الدنيا، وبين من يكون في الأصل له حظ الدنيا.

وقالوا: النبي صلى الله عليه وسلم رغب في الجهاد مع كونه قربة وطاعة بحظ من الدنيا، وقال: (من قتل قتيلاً فله سلبه) فرغب في الطاعة، فقويت الحمية وقويت الشوكة في ذات الله بحظ من الدنيا، وهذا يدل على أنه إذا أراد حظ الدنيا لم يؤثر.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3616 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3336 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3267 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3223 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3183 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع