شرح زاد المستقنع باب الوكالة [5]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فقد تقدم أن الوكيل ينبغي عليه أن يتقيد في تصرفاته بما أذن له وكيله، ولا يجوز له أن يفعل شيئاً لم يأمره به وكيله، ولم يجر العرف به إذا أطلق له الوكيل، وبينا أن هذا هو الأصل الذي تقتضيه النصيحة للمسلم، وأنه إذا وُكّل الإنسان في الشيء فعليه أن ينظر إلى العرف وما يقتضيه من المصالح فيسعى في تحصيلها، وما يقتضيه من درء المفاسد فيسعى باجتنابها وتركها.

السؤال هنا: إذا وكل شخصاً أن يشتري له أو يبيع عنه، فإنك إذا أمرت شخصاً أن يشتري لك أو يبيع عنك فإنك تقصد أن يبيع بيعاً صحيحاً، وأن يشتري بالوجه الصحيح المعتبر شرعاً، وكذلك أيضاً حينما وكلته بالشراء فإنك إنما عنيت أن يشتري شيئاً سليماً خالياً من العيوب، فلو أن رجلاً قال لرجل: اشتر لي أرضاً بالمدينة، وأعطاه أوصافها من طولها وعرضها .. إلخ، فالواجب على المشتري والوكيل أن يتحرى في هذه الأرض، وأن يتقي العيب المؤثر، كذلك لو قال له: اشتر لي عمارةً، فإن الأصل يقتضي أن يشتري عمارةً سالمةً من العيوب، وأن لا يتساهل في عقده بحيث يقبل كل مبيع دون أن يتحرى سلامته من العيوب.

وبناءً على ذلك: لو قلت للوكيل اشتر لي أرضاً أو سيارةً أو مزرعةً.. إلى آخر ما يشترى، فإنه لا يخلو من أحوال:

الحكم إذا اشترى الوكيل شيئاً سالماً من العيوب

الحالة الأولى: أن يشتري شيئاً سالماً من العيوب متفقاً مع الشروط التي اشترطتها، فالبيع لازم والشراء لازم، وحينئذٍ يلزمك أن تتم الصفقة، ولا وجه لأن تمتنع منها، مثال ذلك: لو قلت له: اشتر لي سيارةً من نوع كذا وكذا بعشرة آلاف، فذهب واشترى السيارة بهذه الصفات سالمةً من العيوب، فإنك تلزم بها.

الحكم إذا اشترى الوكيل شيئاً معيباً لا يعلم بعيبه

الحالة الثانية: أن يشتري السيارة التي أمرته بها ويكون فيها عيب، فالعيب إما أن يكون مؤثراً، وإما أن يكون غير مؤثر، وبينا فيما تقدم من مسائل البيوع العيب المؤثر والعيب غير المؤثر، لكن محل الكلام هنا أن يشتري شيئاً معيباً عيباً مؤثراً، يعني: عيباً يوجب الرد، فلو قلت له: اشتر لي سيارةً، فاشترى سيارةً فيها عيبٌ في محركها مثلاً، وهذا العيب مؤثر، فحينئذٍ إذا اشترى على هذا الوجه فله صورتان:

الصورة الأولى: أن يشتري هذه السيارة المعيبة وهو لا يعلم بالعيب الموجود فيها.

الصورة الثانية: أن يشتري هذه السيارة المعيبة وهو يعلم بوجود العيب فيها.

إذاً: في الحالة الثانية إذا وكلته أن يشتري شيئاً واشتراه وبه عيب فلا يخلو هذا الوكيل من صورتين:

إما أن يشتري هذا الشيء المعيب وليس عنده علمٌ بالعيب، حيث خدعه البائع وباعه سلعةً معيبة، وإما أن يكون العكس، فيعلم بوجود العيب، ويشتري لك السلعة وبها العيب، ثم يأتي ويقول: هذه السيارة التي طلبت مني شراءها، ثم يتبين أن بها عيباً، ما الحكم في الصورة الأولى والصورة الثانية؟

إذا اشترى لك سيارة لا يعلم بعيبها فإن الأصل الشرعي يقتضي أن المشتري إذا اشترى شيئاً معيباً فله حق الرد، وقد ذكرنا دليل ذلك من الكتاب والسنة والإجماع لقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188]، وبيع المعيب من أكل المال بالباطل، فإنه إذا دفع عشرة آلاف في شيء يستحق ثمانية آلاف فقد أُكلت الألفان بدون وجه حق وبالباطل، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تصرّوا الإبل ولا الغنم، فمن اشتراها فهو بخير النظرين: إن شاء أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر)، وذكرنا الإجماع على هذين النصين من حيث المعنى والجملة، لكن إذا ثبت أن العيب يوجب الرد فاشترى لك أرضاً وتبين أن هذه الأرض بها عيب تستحق به الرد قضاءً، ولم يعلم وكيلك بهذا العيب فحينئذٍ تطالب الوكيل أن يرد هذه الأرض، ويجري في المسألة ما سبق بيانه في باب البيوع في المبيعات.

الصورة الثانية: وهي التي تهمنا هنا: أن يشتري لك سلعةً وهو يعلم بعيبها، فالوكيل خان الأمانة وتجاوز الحدود التي ينبغي أن يتقيد بها، فلو أنه علم أن السيارة بها عيب، أو أن الكتاب معيب، أو أن المسجل معيب، أو أن أي شيء طلبت منه أن يشتري به عيب، واشترى مع علمه بالعيب، وقد قال له البائع: يا فلان! إن هذه السيارة بها عيب كذا وكذا، قال: قبلت، فالسؤال الآن إذا قبل وكيلك بالشراء واشترى المعيب، أولاً: هل البيع صحيح؟

ثانياً: إذا صححنا البيع هل يكون البيع لازماً لك أم لازماً للوكيل؟

فمن حيث الأصل أن الوكيل حينما اشترى السيارة بعشرة آلاف وهو يعلم أن بها هذا العيب، فقد وقع الإيجاب والقبول مع بائع ومشترٍ والثمن والمثمن، كلٌ منهما مباح من حيث الأصل الشرعي، فأركان البيع وشروط صحته متوفرة، فالبيع صحيح، فالبائع الذي باع السيارة باعها لشخص يعلم بعيبها، وباعها لشخص مستوفٍ لشروط صحة البيع، فالبيع من حيث الأصل صحيح، والقاعدة الشرعية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، لكنه صحيح للوكيل وليس لمن وكله؛ لأن الوكيل حينما اشترى هذا الشيء اشتراه معيباً، وإن قال في نفسه: هذا لموكله، فموكله لم يوكله بشراء هذا الشيء، فيكون اشتراه لنفسه؛ لأنه رضي بالبيع وقبل البيع فيصبح على ملكه ومسئوليته.

وبناءً على ذلك تأتي عندنا القاعدة: أن من اشترى المعيبات وقد وكّل بالشراء دون أن يأذن له موكله بشراء المعيب فإنه يصح البيع على ذمته لا على ذمة من وكله، لكن يصح البيع على ذمته دون ذمة الموكل إذا لم يرض الموكل.

تبقى مسألة ثانية وهي: أنه في نيته وعقيدته اشترى لموكله، وقد يصرح بذلك في عقده، فحينئذٍ من حيث الأصل لما وكله موكله أن يشتري أرضاً بمائة ألف أو بنصف مليون أذن له أن يشتري فاشتراها معيبة، فمعنى ذلك أن العقد تام، نقول للموكل: انظر في هذه الأرض وانظر في هذه السيارة وهذا الكتاب، فإن أعجبك ورضيته مع وجود العيب كان البيع صحيحاً على ذمتك؛ لأنه يكون من باب بيع الفضول، وقد ذكرنا أن أصح أقوال العلماء رحمهم الله في بيع الفضول: أنه يصح إذا أذن المالك الحقيقي، وذكرنا دليل ذلك من حديث عروة بن أبي الجعد البارقي رضي الله عنه وأرضاه.

الخلاصة:

إذا وكل الموكل وكيله أن يشتري السلعة واشتراها دون أن يوجد بها عيب فالبيع صحيح والوكالة تامة ولا إشكال.

وإذا وكله فاشترى شيئاً معيباً فإما أن يكون الوكيل عالماً بالعيب أو غير عالم، فإن كان غير عالم بالعيب استحق أن يرد السلعة واستحق أن يأخذ أرش العيب وحينئذٍ لا إشكال، وإن كان عالماً بالعيب فحينئذٍ نقول للموكل: هل ترضى هذا الشيء؟ فإن قال: لا أرضى، نصحح البيع على ذمة الوكيل ونوجب رد المال إلى الموكل أو شراء أرض أخرى أو سيارةٍ أخرى، وتصحيح الوكالة يكون على الوجه المعتبر شرعاً.

الحكم إذا اشترى الوكيل شيئاً معيباً يعلم بعيبه

قال رحمه الله: [وإن اشترى ما يعلم عيبه لزمه إن لم يرض موكله فإن جهل ردّه].

إذاً: عندنا الصورة الأخيرة هي التي ذكرها المصنف: (من اشترى ما يعلم عيبه)، لكن ينبغي أن نعلم أن الحكم لا يختص بالشراء، ولا يختص بالبيع؛ فإنه يشمل الإجارات ويشمل بقية المعاملات التي ذكرنا فيها الوكالة، فمن وكّل وكيلاً لكي يقوم بمهمة أو عقدٍ فينبغي على الوكيل أن يلتزم بالعرف، وهذا مراد المصنف من هذا المثال أن يقول لك: إن العقود إذا أطلقت فإنها تنصرف إلى الصحيح، ولا تنصرف إلى الفاسد، وتنصرف إلى السليم ولا تنصرف إلى المعيب، مثال ذلك:

لو قلت لوكيلٍ: استأجر لي شقةً بمكة، وتكون هذه الشقة بجوار الحرم أو على شارع كذا، وحددت له الوكالة، استأجر لي شقة بمكة، استأجرها لي مدة العشر الأواخر، استأجرها لي شهراً، استأجرها لي سنةً، فذهب واستأجر لك شقةً، ولكن في سقفها عيب يخر منه الماء، أو أن الماء الموجود فيها ملوث، فهذه عيوب كلها تؤثر في الإجارة، وتعيق المنفعة التي من أجلها استأجرت، أو استأجر لك في موضعٍ لا يمكن أن ترتاح فيه، كجوار شيء مزعجٍ أو نحو ذلك مما لا تستطيع أن تنام فيه، وأنت أخذت هذه الشقة للراحة أو نحو ذلك، المهم وجد العيب، فنقول: إذا استأجرها عالماً بالعيب لزمه أن يدفع المال لك ويبقى وجهه لمن أجره، ولا تلزم بالوكالة بدفع الأجرة، وإن استأجر وهو لا يعلم بالعيب فإنك ترد هذه الإجارة وتفسخها وتأخذ حقك كاملاً.

إذاً: الأمر لا يتوقف على البيع ولا على الشراء، بل يشمل العقود التي تتعلق بالمعاملات مما هو محلٌ للوكالة.

(فإن جهل ردّه).

أي: الوكيل، فإن جهل رد المبيع، وذلك للقاعدة والأصل الذي ذكرنا: أن العيب يوجب الرد.

تذكرون في آخر الفصل الماضي أنه ذكر المصنف مسائل قال فيها: (ومن وكله أن يبيع حالاً فباع مؤجلاً، أو وكله أن يبيع مؤجلاً فباع حالاً، أو يبيع بنقد البلد، فباع بغيره)، ذكرنا هذه المسائل، وهذه المسائل كلها تدور حول مخالفة الوكيل للوكالة، ومخالفة الوكيل للوكالة: إما أن يخالف لفظ موكله، وإما أن يخالف عرفاً جرى بالوكالة، ومن هنا تأخذ هذا المثال في قوله رحمه الله: (ومن اشترى معيباً) وتخرج منه قاعدة وهي: (أن إطلاقات الوكالة في العقود مصروفةٌ إلى الصحيح، وأن إطلاق الوكالة في المحل مصروف إلى السليم).

(إطلاقات الوكالة في العقود) يعني: إذا وكلته ليشتري فينبغي أن يشتري شراءً صحيحاً خالياً من موجبات الفساد، فإطلاقات الوكالة في المحل والثمن والمثمن والصيغة في العقد ينبغي أن يكون سليماً.

فممكن أن يأتي شخص ويقول: قال لي شخصٍ خذ هذه العشرة واشتر لي نسخةً من صحيح البخاري، فذهب واشترى نسخةً معيبة وجاء بها لصاحبه، فقال له الوكيل: لا أريد هذه النسخة، فإن الوكيل سيقول له: أنت وكلتني أن أشتري وقد اشتريت لك -لاحظ: أنت وكلتني أن أشتري وقد اشتريت- ما قلت سليمة أو غير سليمة، فتقول: هذا الإطلاق وإن كان باللفظ، لكنه مقيدٌ بالعرف أي: أن يكون سليما؛ لأن العرف أن هذا لا يكون إلا بشراء السليم السالم من العيوب، والصحيح الذي لا عيب فيه، وعلى هذا تعتبر هذه المسألة مفرعة على القاعدة التي سبق التنبيه عليها والتي تقول: (المعروف عرفاً كالمشروط لفظاً)، وبعض الفقهاء يقول: (المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً)، وبناءً على ذلك: (المعروف عرفاً) حينما أقول له: اشتر لي نسخةً من صحيح البخاري، فإن هذا الإطلاق يقتضي أن يكون سليماً، والعرف ينصرف إلى بيع السليم لا بيع الفاسد، وعلى هذا: فإنه لا وجه له أن يستدل بمطلق الوكالة على شراء المعيبات ونحوها.

الحالة الأولى: أن يشتري شيئاً سالماً من العيوب متفقاً مع الشروط التي اشترطتها، فالبيع لازم والشراء لازم، وحينئذٍ يلزمك أن تتم الصفقة، ولا وجه لأن تمتنع منها، مثال ذلك: لو قلت له: اشتر لي سيارةً من نوع كذا وكذا بعشرة آلاف، فذهب واشترى السيارة بهذه الصفات سالمةً من العيوب، فإنك تلزم بها.

الحالة الثانية: أن يشتري السيارة التي أمرته بها ويكون فيها عيب، فالعيب إما أن يكون مؤثراً، وإما أن يكون غير مؤثر، وبينا فيما تقدم من مسائل البيوع العيب المؤثر والعيب غير المؤثر، لكن محل الكلام هنا أن يشتري شيئاً معيباً عيباً مؤثراً، يعني: عيباً يوجب الرد، فلو قلت له: اشتر لي سيارةً، فاشترى سيارةً فيها عيبٌ في محركها مثلاً، وهذا العيب مؤثر، فحينئذٍ إذا اشترى على هذا الوجه فله صورتان:

الصورة الأولى: أن يشتري هذه السيارة المعيبة وهو لا يعلم بالعيب الموجود فيها.

الصورة الثانية: أن يشتري هذه السيارة المعيبة وهو يعلم بوجود العيب فيها.

إذاً: في الحالة الثانية إذا وكلته أن يشتري شيئاً واشتراه وبه عيب فلا يخلو هذا الوكيل من صورتين:

إما أن يشتري هذا الشيء المعيب وليس عنده علمٌ بالعيب، حيث خدعه البائع وباعه سلعةً معيبة، وإما أن يكون العكس، فيعلم بوجود العيب، ويشتري لك السلعة وبها العيب، ثم يأتي ويقول: هذه السيارة التي طلبت مني شراءها، ثم يتبين أن بها عيباً، ما الحكم في الصورة الأولى والصورة الثانية؟

إذا اشترى لك سيارة لا يعلم بعيبها فإن الأصل الشرعي يقتضي أن المشتري إذا اشترى شيئاً معيباً فله حق الرد، وقد ذكرنا دليل ذلك من الكتاب والسنة والإجماع لقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188]، وبيع المعيب من أكل المال بالباطل، فإنه إذا دفع عشرة آلاف في شيء يستحق ثمانية آلاف فقد أُكلت الألفان بدون وجه حق وبالباطل، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تصرّوا الإبل ولا الغنم، فمن اشتراها فهو بخير النظرين: إن شاء أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر)، وذكرنا الإجماع على هذين النصين من حيث المعنى والجملة، لكن إذا ثبت أن العيب يوجب الرد فاشترى لك أرضاً وتبين أن هذه الأرض بها عيب تستحق به الرد قضاءً، ولم يعلم وكيلك بهذا العيب فحينئذٍ تطالب الوكيل أن يرد هذه الأرض، ويجري في المسألة ما سبق بيانه في باب البيوع في المبيعات.

الصورة الثانية: وهي التي تهمنا هنا: أن يشتري لك سلعةً وهو يعلم بعيبها، فالوكيل خان الأمانة وتجاوز الحدود التي ينبغي أن يتقيد بها، فلو أنه علم أن السيارة بها عيب، أو أن الكتاب معيب، أو أن المسجل معيب، أو أن أي شيء طلبت منه أن يشتري به عيب، واشترى مع علمه بالعيب، وقد قال له البائع: يا فلان! إن هذه السيارة بها عيب كذا وكذا، قال: قبلت، فالسؤال الآن إذا قبل وكيلك بالشراء واشترى المعيب، أولاً: هل البيع صحيح؟

ثانياً: إذا صححنا البيع هل يكون البيع لازماً لك أم لازماً للوكيل؟

فمن حيث الأصل أن الوكيل حينما اشترى السيارة بعشرة آلاف وهو يعلم أن بها هذا العيب، فقد وقع الإيجاب والقبول مع بائع ومشترٍ والثمن والمثمن، كلٌ منهما مباح من حيث الأصل الشرعي، فأركان البيع وشروط صحته متوفرة، فالبيع صحيح، فالبائع الذي باع السيارة باعها لشخص يعلم بعيبها، وباعها لشخص مستوفٍ لشروط صحة البيع، فالبيع من حيث الأصل صحيح، والقاعدة الشرعية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، لكنه صحيح للوكيل وليس لمن وكله؛ لأن الوكيل حينما اشترى هذا الشيء اشتراه معيباً، وإن قال في نفسه: هذا لموكله، فموكله لم يوكله بشراء هذا الشيء، فيكون اشتراه لنفسه؛ لأنه رضي بالبيع وقبل البيع فيصبح على ملكه ومسئوليته.

وبناءً على ذلك تأتي عندنا القاعدة: أن من اشترى المعيبات وقد وكّل بالشراء دون أن يأذن له موكله بشراء المعيب فإنه يصح البيع على ذمته لا على ذمة من وكله، لكن يصح البيع على ذمته دون ذمة الموكل إذا لم يرض الموكل.

تبقى مسألة ثانية وهي: أنه في نيته وعقيدته اشترى لموكله، وقد يصرح بذلك في عقده، فحينئذٍ من حيث الأصل لما وكله موكله أن يشتري أرضاً بمائة ألف أو بنصف مليون أذن له أن يشتري فاشتراها معيبة، فمعنى ذلك أن العقد تام، نقول للموكل: انظر في هذه الأرض وانظر في هذه السيارة وهذا الكتاب، فإن أعجبك ورضيته مع وجود العيب كان البيع صحيحاً على ذمتك؛ لأنه يكون من باب بيع الفضول، وقد ذكرنا أن أصح أقوال العلماء رحمهم الله في بيع الفضول: أنه يصح إذا أذن المالك الحقيقي، وذكرنا دليل ذلك من حديث عروة بن أبي الجعد البارقي رضي الله عنه وأرضاه.

الخلاصة:

إذا وكل الموكل وكيله أن يشتري السلعة واشتراها دون أن يوجد بها عيب فالبيع صحيح والوكالة تامة ولا إشكال.

وإذا وكله فاشترى شيئاً معيباً فإما أن يكون الوكيل عالماً بالعيب أو غير عالم، فإن كان غير عالم بالعيب استحق أن يرد السلعة واستحق أن يأخذ أرش العيب وحينئذٍ لا إشكال، وإن كان عالماً بالعيب فحينئذٍ نقول للموكل: هل ترضى هذا الشيء؟ فإن قال: لا أرضى، نصحح البيع على ذمة الوكيل ونوجب رد المال إلى الموكل أو شراء أرض أخرى أو سيارةٍ أخرى، وتصحيح الوكالة يكون على الوجه المعتبر شرعاً.

قال رحمه الله: [وإن اشترى ما يعلم عيبه لزمه إن لم يرض موكله فإن جهل ردّه].

إذاً: عندنا الصورة الأخيرة هي التي ذكرها المصنف: (من اشترى ما يعلم عيبه)، لكن ينبغي أن نعلم أن الحكم لا يختص بالشراء، ولا يختص بالبيع؛ فإنه يشمل الإجارات ويشمل بقية المعاملات التي ذكرنا فيها الوكالة، فمن وكّل وكيلاً لكي يقوم بمهمة أو عقدٍ فينبغي على الوكيل أن يلتزم بالعرف، وهذا مراد المصنف من هذا المثال أن يقول لك: إن العقود إذا أطلقت فإنها تنصرف إلى الصحيح، ولا تنصرف إلى الفاسد، وتنصرف إلى السليم ولا تنصرف إلى المعيب، مثال ذلك:

لو قلت لوكيلٍ: استأجر لي شقةً بمكة، وتكون هذه الشقة بجوار الحرم أو على شارع كذا، وحددت له الوكالة، استأجر لي شقة بمكة، استأجرها لي مدة العشر الأواخر، استأجرها لي شهراً، استأجرها لي سنةً، فذهب واستأجر لك شقةً، ولكن في سقفها عيب يخر منه الماء، أو أن الماء الموجود فيها ملوث، فهذه عيوب كلها تؤثر في الإجارة، وتعيق المنفعة التي من أجلها استأجرت، أو استأجر لك في موضعٍ لا يمكن أن ترتاح فيه، كجوار شيء مزعجٍ أو نحو ذلك مما لا تستطيع أن تنام فيه، وأنت أخذت هذه الشقة للراحة أو نحو ذلك، المهم وجد العيب، فنقول: إذا استأجرها عالماً بالعيب لزمه أن يدفع المال لك ويبقى وجهه لمن أجره، ولا تلزم بالوكالة بدفع الأجرة، وإن استأجر وهو لا يعلم بالعيب فإنك ترد هذه الإجارة وتفسخها وتأخذ حقك كاملاً.

إذاً: الأمر لا يتوقف على البيع ولا على الشراء، بل يشمل العقود التي تتعلق بالمعاملات مما هو محلٌ للوكالة.

(فإن جهل ردّه).

أي: الوكيل، فإن جهل رد المبيع، وذلك للقاعدة والأصل الذي ذكرنا: أن العيب يوجب الرد.

تذكرون في آخر الفصل الماضي أنه ذكر المصنف مسائل قال فيها: (ومن وكله أن يبيع حالاً فباع مؤجلاً، أو وكله أن يبيع مؤجلاً فباع حالاً، أو يبيع بنقد البلد، فباع بغيره)، ذكرنا هذه المسائل، وهذه المسائل كلها تدور حول مخالفة الوكيل للوكالة، ومخالفة الوكيل للوكالة: إما أن يخالف لفظ موكله، وإما أن يخالف عرفاً جرى بالوكالة، ومن هنا تأخذ هذا المثال في قوله رحمه الله: (ومن اشترى معيباً) وتخرج منه قاعدة وهي: (أن إطلاقات الوكالة في العقود مصروفةٌ إلى الصحيح، وأن إطلاق الوكالة في المحل مصروف إلى السليم).

(إطلاقات الوكالة في العقود) يعني: إذا وكلته ليشتري فينبغي أن يشتري شراءً صحيحاً خالياً من موجبات الفساد، فإطلاقات الوكالة في المحل والثمن والمثمن والصيغة في العقد ينبغي أن يكون سليماً.

فممكن أن يأتي شخص ويقول: قال لي شخصٍ خذ هذه العشرة واشتر لي نسخةً من صحيح البخاري، فذهب واشترى نسخةً معيبة وجاء بها لصاحبه، فقال له الوكيل: لا أريد هذه النسخة، فإن الوكيل سيقول له: أنت وكلتني أن أشتري وقد اشتريت لك -لاحظ: أنت وكلتني أن أشتري وقد اشتريت- ما قلت سليمة أو غير سليمة، فتقول: هذا الإطلاق وإن كان باللفظ، لكنه مقيدٌ بالعرف أي: أن يكون سليما؛ لأن العرف أن هذا لا يكون إلا بشراء السليم السالم من العيوب، والصحيح الذي لا عيب فيه، وعلى هذا تعتبر هذه المسألة مفرعة على القاعدة التي سبق التنبيه عليها والتي تقول: (المعروف عرفاً كالمشروط لفظاً)، وبعض الفقهاء يقول: (المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً)، وبناءً على ذلك: (المعروف عرفاً) حينما أقول له: اشتر لي نسخةً من صحيح البخاري، فإن هذا الإطلاق يقتضي أن يكون سليماً، والعرف ينصرف إلى بيع السليم لا بيع الفاسد، وعلى هذا: فإنه لا وجه له أن يستدل بمطلق الوكالة على شراء المعيبات ونحوها.

قال رحمه الله: [ووكيل البيع يسلمه ولا يقبض الثمن بغير قرينة].

هنا مسألة من مسائل التصرفات: إذا وكلت شخصاً أن يبيع أو وكلت شخصاً أن يشتري، فعندنا في البيع سبق التنبيه على أن هناك مراحل:

المرحلة الأولى: صفقة البيع، وهي التي تثمر الإيجاب والقبول، وما يسميه العلماء بالعقد، وإتمام الصفقة بصيغتها.

المرحلة الثانية: تسليم المبيع ثمناً ومثمناً، فمثلاً: اشتريت أرضاً بنصف مليون فعندنا أول شيء أن يقول لك: بعتك هذه الأرض بنصف مليون، تقول: قبلت شراءها، فإذا وقع الإيجاب والقبول وقع الأصل الأول وهو: عقد البيع بعد الإيجاب والقبول، ثم هناك مرحلة التسليم والاستلام، فلأجل أن تتم صفقة البيع وهي الإيجاب والقبول يفرغ لك الأرض، وتعطيه الثمن بعد ذلك، فالصفقة -وهي الإيجاب والقبول والرضا بالعقد وإتمام العقد- مرحلة وقد تقع بغير مجلس القضاء، وقد تقع قبل الإفراغ، ثم بعد ذلك تنتقل إلى مرحلة التسليم والاستلام.

فعندنا في البيع تسليم، وعندنا استلام فتسلمه الأرض بمعنى: أن تفرغها له، وتمكنه منها، وتوقفه عليها وتقول له: هذه الأرض وهذا الجار الشرقي وهذا الغربي، فيقع الاستلام على وجه خالٍ من الشبهة لا إشكال فيه، فاستلم الأرض، هذه المرحلة الثانية وهي: مرحلة التسليم.

فالسؤال الآن: لو أن شخصاً قال لآخر: بع أرضي التي بمكة في حي كذا أو مخطط كذا بمائتي ألف، فهل إذا أذن له بالبيع يقبض الثمن؟

فإن البيع إذن بالعقد، لكن مسألة استلام الثمن هذه مسألة أخرى، فقد تأذن لشخصٍ أن يتم صفقة البيع ولا تأمنه على مالك، وتوكل شخصاً آخر أن يستلم المال فهل الوكالة أو التوكيل بالبيع توكيلٌ بقبض الثمن؟

هذا بالنسبة للبائع، وهل التوكيل بالشراء توكيل بالاستلام؟

مثلاً: شخص قلت له: هناك أرض بجدة سافر أبرم صفقتها مع زيد من الناس الذي يملكها، فهل معنى ذلك أن هذا التوكيل يبيح للوكيل أن يستلم الأرض، أو يكون إفراغ الأرض أو تسليمها لشخصٍ آخر؟

هذه هي المسألة، فبعد أن فرغ رحمه الله من الأصل الذي ذكرناه في إطلاقات الوكالات وتقييدها شرع رحمه الله في بيان تصرفات الوكيل، فإذا كان هناك وكالة فما هي الحدود التي ينبغي أن يتصرف فيها الوكيل ولا يجاوزها؟ وإذا وكّل بالبيع هل هو توكيل بتسليم المبيع، وإذا وكل بالشراء هل هو توكيل باستلام المبيع؟ ونحو ذلك من المسائل.

فقال رحمه الله: (ووكيل البيع يسلمه ولا يقبض الثمن بغير قرينة).

فلو أن رجلاً قال لآخر: بع لي أرضي بمكة، فانطلق الوكيل وباع الأرض بمائة ألف كما طلب موكله، وأفرغها، فإذا حصل البيع والإفراغ وهو التسليم بقي استلام الثمن، هل من حقه أن يطالب بالثمن؟ وبعبارة أخرى: هل الذي اشترى منه الأرض يدفع المال لهذا الوكيل أو يدفع المال للأصيل؟

هذه هي المسألة، فقال رحمه الله: الوكيل بالبيع يتم الصفقة، وهذا بالإجماع، ويسلم المبيع، وهذا قول الجماهير، لكن الثمن لا يستلمه، فهذه ثلاثة أشياء: يتم الصفقة، يعني: القاضي يقبله إذا جلس في مجلس القضاء، ويتم صفقة البيع بالإيجاب والقبول، وأيضاً: يمكن شرعاً من تسليم الأرض للمشتري، فأصبحت المرحلة الأولى وهي العقد من حقه؛ لأنه قال: وكلتك أن تبيع، والتوكيل بالبيع يقتضي التوكيل بصيغة البيع، لكن السؤال: كيف دخلت مسألة التسليم والإفراغ؟ دخلت؛ لأن البيع يتوقف على التسليم، وتمام البيع ولزومه يتوقف على التسليم، وبناءً على ذلك فتسليم المثمن يتم صفقة البيع، فكأنه حينما أذن له بالبيع أذن له بأن يسلم المبيع، وهذا يتفرع على القاعدة الشرعية التي تقول: (الإذن بالشيء إذنٌ بلازمه)، فالإذن بالوكالة لعقد ما هو في الحقيقة إذن لكل شيء يصحح هذا العقد ويتمه ويجعله نافذا، فلما كان تسليم المبيع يمضي صفقة البيع التي من أجلها كانت الوكالة كان التسليم معتبراً من هذا الوجه، وهذه قاعدة عمل بها جماهير أهل العلم رحمهم الله: (أن الإذن بالشيء إذن بلازمه) فليس من حق المشتري أن يمتنع، وليس من حق القاضي أن يقول: لا أقبله أن يسلم المبيع، وإنما يقول له: أتم الصفقة وسلم له المثمن، ولو امتنع الوكيل من التسليم كان من حق القاضي أن يجبره؛ لأن العقد قد تم، فإذا قلت: إن الوكيل يتم الصفقة ويسلم؛ فإن من حق القاضي أن يجبر الوكيل؛ لأنه أمر بالإفراغ وتسليم المثمَن، فوجب عليه أن يتم الصفقة والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، والوفاء بالعقد يفتقر إلى هذا الأمر فوجب عليه أن يتم.