خطب ومحاضرات
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [3]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ويشترط التراضي منهما، فلا يصح من مكره بلا حق].
شرع المصنف رحمه الله في بيان الشروط التي ينبغي توفرها لكي يحكم بصحة البيع، ولا يمكن أن يحكم بجواز البيع ونفوذه إلا إذا توفرت هذه الشروط الشرعية، وذلك لأن الأصل في مال المسلم أنه محرم إلا أن يدل الدليل على استباحته، وعقد البيع عقد مبادلة ومعاوضة، وهذه المبادلة والمعاوضة لها أمارات معينة في الشرع يحكم بوجودها في صحة البيع واعتباره، ويسمي العلماء رحمهم الله هذه الأمارات والعلامات: شروط صحة البيع، فشرع المصنف رحمه الله في بيان الشروط التي ينبغي توافرها لكي يُحكم بكون البيع صحيحاً.
التراضي
أي: يشترط لصحة عقد البيع أن يكون البائع راضياً، وأن يكون المشتري راضياً، فلابد أن يكون كل منهما راضياً على عقد المبادلة والمعاوضة، فلو قال رجل لرجل: بعتك بيتي بمائة ألف، فيشترط أن يكون هناك الرضا من البائع وهو صاحب البيت، بحيث يرضى بالمائة ألف عوضاً عن بيته، ويشترط الرضا في المشتري، بحيث يرضى بدفع المائة ألف في مقابل هذه العين، أعني: البيت. والأصل في اشتراط هذا الشرط قول الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، فبيّن سبحانه وتعالى حرمة أكل مال المسلم بالباطل، والباطل هو الذي ليس فيه وجه حق، وعلى هذا فإنه يستحق مال المسلم في التجارة إذا وجد الرضا، ومفهوم ذلك: أنه لا يستحق مال المسلم إذا فقد الرضا، والله تعالى يقول: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، فاشتملت هذه الآية على اشتراط الرضا في الطرفين: في البائع وفي المشتري، ومفهوم ذلك: أنه لا يصح البيع إذا فقد الرضا. وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن من شروط صحة البيع وجود الرضا من حيث الجملة؛ لنص الله عز وجل عليه، ولذلك نجد فقهاء الحنفية رحمهم الله لما وصفوا البيع الشرعي قالوا: مبادلة المال بالمال بالتراضي، وقولهم: (بالتراضي)، الباء للمصاحبة، أي: مصحوباً بالتراضي من الطرفين، أعني: البائع والمشتري.
وعلى هذا: فلو أن إنساناً هدد غيره أن يبيع فباع تحت هذا التهديد، أو أضر به أو قهره على البيع، فإذا توفرت شروط الإكراه لم يصح البيع؛ وذلك لأن الله عز وجل اشترط للحكم بجواز البيع وصحته أن يوجد الرضا، ومفهوم ذلك: أنه لا يحكم بصحة البيع واعتباره إذا لم يوجد الرضا، وقد جاء في حديث ابن عمر عند ابن حبان وغيره وحسن بعض العلماء إسناده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما البيع عن تراض)، فقوله: (إنما البيع) أسلوب حصر وقصر، كأنه يقول: البيع الشرعي هو البيع الذي وجد فيه التراضي، ومفهوم ذلك -وهو مفهوم الحصر كما يسميه الأصوليون-: أنه إذا لم يوجد الرضا فليس ثمّ بيع شرعي.
وقوله: (فلا يصح من مكره بلا حق) الفاء في قوله: (فلا يصح) للتفريع، فرّع على اشتراط الرضا في البائع والمشتري أنه لا يحكم بصحة البيع إذا أكره البائع على البيع أو أكره المشتري على الشراء، فإذا أكره أحدهما أو أكرها معاً لم يصح البيع.
وقوله: (من مكره) المكره: مأخوذ من الكره، وأصل الكره الشيء الذي انتفى فيه الرضا، والأصل في كون الإكراه مسقطاً للأحكام الشرعية قول الله سبحانه وتعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]، فهذه الآية الكريمة قال علماء التفسير فيها: إنها أصل في إسقاط حكم الإكراه، ووجه ذلك: أن الله سبحانه وتعالى بيّن أن المسلم إذا قال ما يوجب الردة -وهي كلمة الكفر- بالإكراه وقلبه مطمئن بالإيمان، فإن هذا القول لا عبرة به، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعمار عندما أكره: (وإن عادوا فعد) ، فأسقط بالإكراه الحكم بالمؤاخذة.
وعلى هذا: فلو قال المكره: بعت، وقال المكره: اشتريت، فإن هذا اللفظ من البائع والمشتري وجوده وعدمه على حد سواء؛ لكن يبقى النظر: متى نحكم بكون الإنسان مكرهاً؟
هذه المسألة تكلم عنها العلماء رحمهم الله، ولكن فيها تفصيل وكلام طويل، وسيكون الحديث عنها إن شاء الله في طلاق المكره، وسنتكلم عن الشروط المعتبرة للحكم بكون الإنسان مكرهاً، فمثلاً: لو قال رجل لرجل: بع بستانك هذا بمليون وإلا ضربتك على يدك، فإن الضرب على اليد أهون من بيع البستان بهذا المبلغ، فلا نقول: إنه مكره بهذا القول، وإنما يحكم بكونه مكرهاً، إذا هُدِّد بأمر هو أعظم من الأمر الذي طلب منه. وهناك موازين وأمور معينة لا بد من وجودها للحكم بالإكراه.
فالشاهد: أن من باع مكرهاً على بيعه لم يصح بيعه، ومن اشترى مكرها على الشراء لم يصح شراؤه، ولكن يبقى النظر إذا أكره بحق، ومثال ذلك: المفلس، فلو أن رجلاً استدان من الناس حتى أفلس، ووجدت أمتعة الناس عنده -ومعلوم أنه لا يحكم بكون الإنسان مفلساً إلا إذا كانت ديونه أكثر من تجارته، وغلب على الظن عدم نمائها، وعدم استطاعته أو قدرته على رد الحقوق إلى أهلها -فإذا كان الإنسان مفلساً، وعليه دين مثلاً مليون، وهناك أرض أخذها من شخص بمائة ألف، وهناك أرض ثانية بمائتين، وهناك سيارة بمائة، فإن أصحاب الأرض وصاحب السيارة إذا وجدوا عين السيارة وعين الأرض فمن حقهم أن يأخذوها، فيقول صاحب الأرض: أنا آخذ أرضي وأسقط حقي في الدين، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن: (من وجد متاعه عند من أفلس فهو أحق به) ، قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبناءً على هذا: لو أن المفلس -مثلاً- كان عنده من السيارات والعقارات ما يساوي المائة ألف، والديون التي عليه ثلاثمائة ألف، فقرر القاضي بيع ما عنده من الأملاك وتسديد الديون، فإنه ستخرج منه هذه الأملاك دون طواعية ودون رضاً، وسيبيع بدون اختياره وبدون رضاه، ولكنه إكراه بحق، ولذلك يصح البيع وينفذ.
فاحتاط المصنف رحمه الله وقال: (بلا حق)، فمن أكره بالحق فإن إكراهه شرعي، وهكذا لو احتيج إلى توسعة مسجد، أو توسعة طريق تضرر الناس بضيقه، وقيل لرجل: بع دارك لتوسعة الأرض أو توسعة المسجد، فأبى، فمن حق ولي الأمر أن يأخذه منه بالكره ويعوضه عليه بقدر ما للعين من قيمة، والأصل في ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هدم دار العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وذلك حينما ضاق المطاف واحتاج أن يوسعه، فهدم دوراً، ومنها دار العباس رضي الله عنه وأرضاه، وكانت قريبة تطل على المسجد، فأكرهه على بيعها، وأكرهه على المناقلة فيها، فدل على مشروعية هذا النوع من البيع لوجود الحق، والقاعدة الشرعية تقول: (يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام)، ومن فروعها هذه المسألة، وكذلك الحجر على المريض بمرض معْدٍ ونحوها، كلها أضرار خاصة قصد منها دفع الضرر العام. فالبيع في مثل هذا بيع معتبر عند العلماء رحمهم الله.
أهلية التصرف
وهذا هو الشرط الثاني: أن يكون العاقد جائز التصرف، والجائز التصرف: هو الذي ينفذ تصرفه، فهنا بيع وشراء، فيشترط لصحة البيع وصحة الشراء أن يكون تصرف البائع تصرفاً صحيحاً ونافذاً، أي: عنده أهلية التصرف -كما يقول الفقهاء- وهذه الأهلية تستلزم ألاَّ يكون صبياً، ولا محجوراً عليه؛ والسبب في ذلك: أن الصبي والمجنون والسفيه يحجر عليهم، فإذا تصرفوا في أموالهم فإن تصرفهم غير صحيح.
إذاً: يسمي العلماء هذا الشرط بشرط نفاذ التصرف، أو يصفونه: بأهلية التصرف، بمعنى: أن يكون البائع والمشتري عنده أهلية تبيح له أن يأخذ وأن يعطي، فإذا فقد هذه الأهلية لوجود مانع يمنع من نفوذ تصرفه، فإننا لا نصحح البيع، فلو أن صبياً توفي عنه أبوه وترك له عمارة إرثاً، فجاء رجل إلى الصبي وقال له: بعني عمارتك التي ورثتها عن أبيك بمائة ألف، فقال: قبلت، فإنه مالك للعمارة وراض ببيعها، ولكنه غير أهل للتصرف في ماله؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5]، وأمر سبحانه وتعالى بالحجر على الأيتام؛ والسبب في هذا: أن الصبي والسفيه والمجنون كل منهم لا يحسن النظر لحظ نفسه، وهذا يسميه العلماء: بالحجر على الإنسان لمصلحة نفسه، وإذا أردت أن تضبط هذا الشرط فتقول: نافذ التصرف هو غير المحجور عليه، والحجر إنما شرعه الله لأمرين: إما لمصلحة الإنسان نفسه، أو لمصلحة تتعلق بالغير.
فأما الحجر على الإنسان لمصلحة نفسه فكالمجنون، فإن المجنون لو أعطيناه ماله فيوشك أن يتلف المال، ولا يحسن التصرف فيه، وهكذا الصبي لو أعطيناه المال فإنه يوشك أن يتلفه، ولا يحسن النظر فيه، ومن هنا يحجر على كل من الصبي والمجنون والسفيه ونحوهم لمكان المصلحة، أو لحظوظ أنفسهم.
وأما النوع الثاني من الحجر: فهو أن تحجر على الإنسان وتمنعه من التصرف في ماله لمصلحة الغير لا لمصلحته هو، ومن أمثلة ذلك: المفلس، فإننا ذكرنا أن المديون يحجر عليه، فالذي عليه ديون -مثلاً- تعادل المائتي ألف، وأمواله تعادل خمسين ألفاً، فإن هذا يمنع من التصرف في أمواله وتباع سداداً للدين.
ومن أمثلة من يحجر عليه لمصلحة الغير: المريض مرض الموت، فإن المريض مرض الموت يتصدق بأمواله؛ ولكن في حدود الثلث، أي: لا يستطيع أن يهب، ولا أن يتصدق، ولا أن يتنازل عن شيء من ماله إلا في حدود الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير)، وقال: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم) ، فدل هذا على أن الثلثين ليس من حقه أن يتصرف فيهما، ومن هنا قالوا: إن الحجر على المريض في حدود الثلث يعتبر من باب مصلحة الغير؛ والسبب في هذا: أنه إذا مرض مرض الموت صار المال في حكم الإرث، وحينئذٍ كأن يده قد نقلت عن هذا المال، وأصبح له حظ النظر لمصلحة نفسه بالصدقات والهبات ونحوها من المجاملات التي يريد بها الإحسان إلى الناس. وقد قال بعض العلماء في هذه المسألة:
وَزَوْجَةٌ فِيْ غَيْرِ ثُلْثٍ تُعْتَرَضْ كَذَاَ مَرِيْضٌ مَاْتَ فِيْ ذَاْكَ الْمَرَضْ
فالمريض يحجر عليه فيما فوق الثلث، وقوله: (وزوجة في غير ثلث تعترض) هذا على مذهب المالكية رحمهم الله، فإنهم يرون أنها تتصرف في حدود الثلث، وسيأتي بيان هذه المسألة في باب الحجر.
الشاهد: أن البيع لا يصح إذا كان البائع أو المشتري محجوراً عليه، فلو أن صبياً اشترى من رجل داره بمائة ألف، فإننا لا نصحح البيع؛ وإنما نقول: ليس للصبي أن يبيع ويشتري؛ وإنما النظر لوليه، فيأتي وليه وينظر في شراء الصبي؛ فإن كان شراء حكيماً، ومن المصلحة إمضاؤه أمضاه، وإن كان غير ذلك أبطله ورده.
إذاً: معناه: أن البيع لا يصح إلا إذا كان الشخص الذي يبيع ويشتري أهلاً لأن يتصرف في ماله، ومن هنا قال بعض العلماء في تعريف الحجر: هو منع نفوذ تصرف قولي لا فعلي في المال.
ومن هنا اشترط المصنف في العاقد: أن يكون جائز التصرف.
وقوله: (العاقد) يشمل الاثنين: (البائع والمشتري)؛ لأن كلاً منهما عاقد، لكن لو جئت إلى دكان فوجدت صبياً يبيع في الدكان، وهذا الصبي هو الذي يتولى الأخذ منك والإعطاء لك، فهل يصح بيعه؟ وهل تعتبر مالكاً للسلعة بالإيجاب والقبول الذي بينك وبينه؟
نقول: إذا كان الصبي مميزاً ومأذوناً له بالتصرف؛ فإنه حينئذ يصح بيعه، أما الصبي غير المميز؛ فإنه لا يصح بيعه، وعلى هذا قال العلماء: إذا وكّل الصبي ببيع السلع ووجدته في دكان ونحوه، فإنه يصح أن تشتري منه، ولا بأس بذلك.
يبقى السؤال: إذا كان الصبي والمجنون والسفيه لا يصح بيعهم ولا شراؤهم إلا بإذن أوليائهم، فما هي الحكمة؟
الجواب: الحكمة أن الشرع منع من إعطاء هؤلاء الأموال رحمة بهم -كما ذكرنا- وحفاظاً على الأموال؛ لأنه لو أذن لهؤلاء أن يتصرفوا فإنه سيتضرر الناس بتصرفاتهم؛ لأنهم لا يحسنون النظر، لا للأخذ ولا للإعطاء، فلا يحسنون الأخذ لأنفسهم، فلربما اشتروا ما قيمته المائة بألف، وهذا لا شك أن فيه ظلماً، والشريعة جاءت بقفل أبواب الظلم والإضرار، كذلك أيضاً قد يبذلون للغير ما قيمته غالية بقيمة رخيصة؛ لأنهم لا يحسنون النظر في مصالح أنفسهم.
عدم صحة تصرف الصبي والسفيه
قوله: (فلا يصح تصرف صبي) أي: في بيع وشراء، ولذلك قال: (تصرف) حتى يشمل البيع والشراء، فلو أن رجلاً جاء واشترى من صبي أرضه، والصبي مالك لها، فجاء وليه وقال: البيع باطل، فقال المشتري: قد اشتريت، وهذا هو المالك، فنقول: لا يصح البيع إلا بإذن الولي.
وقوله: (وسفيه) أصل السفه: الخفة، والثوب السفساف: الخفيف الذي يشف ما وراءه، ويطلق السفساف على الريح ونحوها، وهي تحمل الرذاذ والشيء الخفيف، فالسفيه: خفيف العقل؛ والسبب في هذا: أن الله جعل العقل في الإنسان لكي يعقله ويحجره عما لا يليق من التصرفات، فإذا جاء الإنسان يتصرف في ماله تصرفاً غير حميد، فمعنى ذلك أن عقله غير رشيد، ولا يحسن النظر، ومن هنا يقولون: إنه سفيه، أي: أن في عقله خفة.
والسفيه له عدة ضوابط:
الضابط الأول: هو الذي لا يحسن الأخذ لنفسه، ولا يحسن الإعطاء لغيره، ومعنى قولهم: (لا يحسن الأخذ لنفسه، ولا يحسن الإعطاء لغيره): أنه إذا أراد أن يشتري غُبِن في الشراء، وإذا أراد أن يبيع غُبِن في البيع، مثال ذلك: إذا كانت عنده سيارة قيمتها عشرة آلاف ريال، وأراد أن يبيعها فربما ماكسه المشتري، أو تلطف معه في العبارات، فيشتريها منه بستة أو بسبعة أو بثمانية آلاف ولا يبالي، ويقول له: أنت رجل طيب، وفيك خير، فهل تبيع هذه السيارة بثمانية آلاف أو بسبعة آلاف؟ فيقول: خذها، فمعنى ذلك أنه ليس عنده عقل، ولا عنده من الرشد ما يحجره ويمنعه لكي ينظر لمصلحة نفسه، فإذا نزل الإنسان إلى هذا المستوى ولم يكن قصده الآخرة، أما لو كان قصده الآخرة، وقصده أن يكون بينه وبين أخيه تآلف، فآثر ما عند الله عز وجل، وفضّل أخوة الإسلام على أن يكسب أخاه، فإن الله يجمع له بين ثواب الدنيا والآخرة؛ لكن نحن نتكلم على رجل أَخْرَق لا يحسن النظر لنفسه.
وبناءً على هذا: لو أن رجلاً عنده أموال (عمائر) أو سيارات فاشترى (العمائر) بقيمة، ثم باعها بقيمة رخيصة جداً، مع إمكان بيعها بقيمة غالية، فطالب أولياؤه بالحجر عليه، وثبت عند القاضي أنه باعها بهذه القيمة الرخيصة، فإنه يحجر عليه ويمنعه؛ لأنه ثبت عند القاضي أنه لا يحسن الإعطاء للغير، فإذا وجد أحد الأمرين: إما أنه لا يحسن الإعطاء للغير، أو لا يحسن الأخذ لنفسه، فيحجر عليه، فلو اشترى داراً قيمتها مائة ألف، فاشتراها بثلاثمائة ألف، أو بمائتي ألف، أو بأربعمائة ألف، فتعلم حينئذٍ أنه أَخْرَق، وأنه يُضحك عليه، فلا بد من الحجر عليه صيانة لماله لحظ نفسه، كما حجرنا على المجنون وعلى الصبي.
والأصل في ذلك قوله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5] ، وقد جاء عن عثمان في قصة عبد الله بن جعفر وعلي بن أبي طالب رضي الله عن الجميع، في مسألة شراء أرض في الغابة بالمدينة، فإن عثمان رضي الله عنه لما بلغه شراء عبد الله لها أراد أن يحجر عليه، فقال علي رضي الله عنه: أنا شريكه.
وعلى هذا: فالمقصود أننا نحجر على الإنسان إذا ثبت أنه لا يحسن الإعطاء للغير، أو لا يحسن الأخذ لنفسه.
الضابط الثاني للسفيه: أن يكون مسرفاً في الشهوات، والمراد بهذا: أن يشتري الأشياء المباحة، ويبالغ في الكماليات، مع أنه مكفي الحاجة بما دونها.
ومن أمثلة ذلك: أن يكون بحاجة إلى سيارة مثلاً، فيمكنه أن يشتري سيارة بخمسين ألفاً، فيذهب ويشتري سيارة بمائتي ألف، أو أن يكون بحاجة إلى ثوب، والثوب لمثله ومتوسط مثله من كان في قدره ومكانته يشتري الثوب بمائة، فيذهب ويشتري الأثواب بالمائتين والثلاثمائة والأربعمائة، فينقل نفسه إلى منزلة ليست له، ويتشبع بما لم يعط، فإذا أغرق في هذه المباحات، وأصبح يشتري الأشياء العالية الغالية، ويسرف فيها، مع أن مثله لا يليق به ذلك الشيء؛ فإنه يحجر عليه، ويوصف بالسفه، وهذا الضابط هو الذي أشار إليه بعض العلماء بقوله رحمه الله:
وَالسَّفَهُ التَّبْذِيْرُ لِلأَمْوَالِ فِيْ لَذَّةٍ وَشَهْوَةٍ حَلاَلِ
حتى قال بعض العلماء: إذا أسرف وأكثر من الزواج، فيكون رجلاً كثير الطلاق للنساء، ورجلاً لا يحسن العشرة الزوجية، وكلما طلّق هذه ذهب ونكح غيرها، فمثل هذا يحجر عليه إذا بلغ به الأمر إلى الدَّين أو الضرر في ماله؛ لأنه في هذه الحالة قد أسرف في اللذة -وهي لذة حلال- وجاوز الحد المعتبر، فحينئذٍ يحجر عليه ويمنع، وقد روي عن علي رضي الله عنه -وهذا يروى عنه أثراً- أنه لما أكثر الحسن الزواج قام على المنبر وقال: (إنه كثير الطلاق أو مطلاق للنساء)، وكأنه يريد أن يمنع الناس من تزوجيه، فقالوا: لَنُزَوِّجَنَّه وإن كان مطلاقاً. وذلك لشرفه رضي الله عنه وأرضاه، فهو ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنهم تعاظموا أنه قام في الكوفة وقال: (إن ابني هذا كثير الطلاق للنساء، فلا تزوجوه)، وكأنه يريد أن يؤدب الحسن، وقد قيل: إنه أحصن أكثر من مائة امرأة.
الشاهد: أنه إذا أكثر الإنسان في المباح ولو كان في الزواج، وحفظ عنه أنه يفعل ذلك على سبيل الخرق، ولم يكن هناك موجب لفعله، فإنه يحكم بسفهه؛ لأنه أسرف في اللذة المباحة مع إمكانه أن يجتزئ بما هو أقل من ذلك.
أن تكون العين مباحة المنفعة
هذا هو الشرط الثالث، وهو: أن تكون العين مباحة النفع لغير حاجة، وبيان ذلك: أن البيع وقع على محل، وهذا المحل يشمل الثمن، والمثمن، أي: صور البيع الثلاث، سواءً وقع بيع صرفٍ أو بيع مقايضةٍ أو بيعاً مطلقاً، فينبغي أن يكون مباح المنفعة، وهذا أكثر ما يقع في المثمونات، فالذهب والفضة مباحا النفع، فلا إشكال فيهما بالنسبة للثمن، فيبقى الإشكال دائماً في المثمونات، فإذا باع شيئاً محرم المنفعة فإنه حينئذٍ لا يُحكم بصحة البيع.
والمراد من هذا الشرط: أن الله عز وجل حينما أباح البيع أباحه لأمرين:
الأمر الأول: جلب المصالح للعباد.
الأمر الثاني: درء المفاسد عنهم.
فأما جلب المصالح فإن الإنسان إذا احتاج للشيء وأراد أن يشتريه فإنه يجد مصلحة بحصوله على ذلك الشيء، فأنت إذا كنت محتاجاً إلى بيتٍ تسكنه وترتفق به، فإنك إذا اشتريته حصلت هذه المصلحة، كذلك إذا كنت محتاجاً إلى سيارة تركبها ونحو ذلك، فإنك تجلب المصلحة بهذا البيع، كذلك تدرأ عن نفسك المفسدة؛ لأنك إن بقيت بدون بيتٍ فستكون في العراء، وإذا بقيت بدون ثوبٍ أو بدون طعامٍ فأنت على ضرر، فإذاً: البيع فيه جلب مصلحة ودرء مفسدة، فهذه المصلحة التي يطلبها الإنسان أو المفسدة التي يدفعها لابد أن يشهد الشرع باعتبارها، والإذن بجلبها إن كانت مصلحة، والإذن بدرئها إن كانت مفسدة، فإذا اشتمل البيع على ما يضاد الشرع؛ فإنه حينئذٍ لا يمكن أن يحكم بكونه بيعاً شرعياً، فيقول الشرع حينئذٍ: لا يجوز هذا البيع، وعندي فيه أمارة أو علامة تقتضي الحكم بعدم جوازه، وذلك أن المنفعة التي قُصدت من هذا البيع منفعة محرمة.
ومن أمثلة هذا: أن يبيع الخمر، فإن الخمر منفعتها محرمة، وعلى الأصل أن الله عز وجل سلب المنافع من الخمر بعد أن حرمها، لكن لو قال قائل: إنه -والعياذ بالله- يشربها لما يكون فيها مما يظنه من منافع، أو يشتري أو يبيع المخدرات لاستعمالاتٍ محرمة، فإننا نقول: الخمر والمخدرات منافعهما محرمة، وما يقصد منها محرم.
إذاً: لا بد لصحة البيع أن تكون العين مباحة المنفعة، فإذا كانت منفعتها مضرّة فلا يجوز بيعها، ومن هنا قالوا باشتراط هذا الشرط؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يأذن لعباده بالضرر، ولا يُبيح سبحانه وتعالى لهم ما فيه ضرر عليهم، لقوله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج [الحج:78]، فهذا حكم الشرع، ولو أن الشرع أجاز هذا النوع من البيع فإنه حرجٌ ومشقة.
وفي هذا الشرط عدة فوائد وهي:
الفائدة الأولى: لا يصحُّ بيع شيءٍ لا منفعة فيه، ومن أمثلة ذلك مما يذكره العلماء: لو قال له: أبيعك هذه التفاحة لشمِّها، أي: المنفعة الشم فقط، وبعض العلماء يدخل هذا في باب الإجارة، وهو صحيح؛ لأنه من باب المنافع أقرب منه للأعيان، لكن منهم من يذكره مثالاً على البيع، فلو قال له: أبيعك هذه التفاحة للنظر إليها، أو لشمِّها، فإن هذه ليست بمنفعة مقصودة، وليست بتلك المنفعة التي يشتغل بها، ومن هنا قال العلماء: لا يصحُّ بيع الحشرات؛ لأنهم في القديم كانوا لا يجدون فيها منفعة، فأبطلوا بيعها.
الفائدة الثانية -وهي فائدة عكسية-: أنه لا يجوز بيع ما فيه ضرر؛ كالسمومات، فإنه لا يجوز بيعها ولا شراؤها؛ لأن السمَّ لا منفعة فيه بل فيه ضرر؛ لكن لو احتيح إلى السمِّ للعلاج أو لمنفعة، وكانت منفعة مقصودة، فإننا نقول بجواز البيع وصحته؛ لكن من حيث الأصل فإن السمومات ليست من جنس ما أحلَّ الله؛ لأنها مشتملة على الضرر، والله عز وجل لا يأذن لعباده بقتل أنفسهم، قال تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، وتحريم الشيء يقتضي تحريم وسائله، فحينما قال العلماء: يُشترط أن تكون هناك منفعة، خرج ثلاثة أمور: ما لا منفعة فيه كالحشرات، الأمر الثاني: العكس، وهو -مفهوم الشرط- ما فيه مضرة، فلو قال قائل: وُجدت المنفعة لكن هذه المنفعة محرمة، كالخمر فإن فيها منفعة الإسكار، والإسكار محرم، والمخدرات فيها منفعة التخدير، وهي محرمة، فعلى هذا نقول: لا يصحُّ البيع، ولا يجوز، وكذلك الميتة: وهي كلُّ حيوان مات حتف أنفه أو بغير ذكاةٍ شرعية، فإنه إذا قتل، أو كان يذكى بالصعق الكهربائي أو نحو ذلك، وبِيع، فإنه لا يصحُّ بيعه ولا يصحُّ شراؤه؛ وذلك لأن هذه الميتة منفعة الأكل منها محرمة شرعاً، إذاً: لا بد أن تكون المنفعة مباحة.
الأمر الثالث: خرج أيضاً المنفعة المباحة لحاجة، فأنت إذا قلت: هناك شيءٌ له منفعة، وهذه المنفعة مباحة؛ ولكن أبيحت للضرورة، أو أبيحت للحاجة، مثل: الكلب، ففي الأصل أنه لا يجوز اتخاذه، ولا يجوز أن يكون عند الإنسان كلب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من اتخذ كلباً إلاّ كلب صيدٍ أو حرث أو ماشية نقص من أجره كلَّ يوم قيراطان)، فهذا يدل على حرمة اتخاذ الكلب، فإذا كان اتخاذه محرماً فإنه أذن للضرورة للصيد والحرث والماشية، وهذه ثلاث منافع، فلو قيل لك: هل أشتري الكلب للصيد أو للحراسة -حراسة الماشية والزرع-؟ فنقول: نعم، فهذه ثلاث منافع، وينطبق عليها الشرط بأنها منفعة، ثم هي منفعة مباحة؛ لأن حفظ الأموال مقصود شرعاً؛ لكنها مباحة للضرورة، فإذاً: لم ينطبق عليها الشرط، فاحتاط المصنف رحمه الله وقال: (من غير حاجة) أي: يشترط أن تكون المنفعة منفعة مباحة مطلقاً، وليست بمنفعة مقيدة بالضرورة والحاجة، فإن المنافع المباحة للضرورة والحاجة لا يجوز بيعها، ومن هنا يتفرع عدم جواز بيع المادة المخدرة للاستعمال المضطر إليه؛ وإنما يُعطى المال عوضاً كإجارة، ولا يعطى عوضاً عن العين، وفرقٌ بين المعاوضة على المادة المخدرة إذا كانت لعلاجٍ كبيع، أو تعطى كإجارة، فهناك فرق بين المسألتين؛ لأنها إذا كانت بيعاً فإنَّ معنى ذلك أنها منفعة مباحة لحاجة، ولا يجوز بيع المنافع المباحة لحاجة؛ لأنه ثبت في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر البدري رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب)، وثبت في مسلم من حديث جابر رضي الله عنهما: (زجر النبي صلى الله عليه وسلم عنه)، أي: عن ثمن الكلب، وقال عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أبي داود بسند صحيح: (إن جاءك يريد ماله فاملأ كفه تراباً)، فهذا كله يدل على حرمة بيع الكلب وشرائه، وقال: (ثمن الكلب خبيث) كما في الصحيحين، وقال: (ثمن الكلب سحت)، ولم يفرِّق بين كلب وآخر، فدلَّ على أن الكلب المأذون به لمنفعة مضطر إليها لا يجوز بيعه لهذه المنفعة، وسيأتي -إن شاء الله- بيان هذه المسألة وخلاف العلماء رحمهم الله فيها.
الشاهد: أن عندنا شرطاً يقول: ينبغي أن تكون العين لها منفعة مباحة، فخرجت العين التي لا منفعة فيها كالحشرات، وخرجت العين التي فيها مضرة كالسموم، ثم أضاف رحمه الله قيد الحاجة، ففهمنا من ذلك أنه إذا كانت مباحة للحاجة فإنه لا يجوز بيعها؛ والسبب في هذا من ناحية فقهيّة: أن الشرع إذا أذن لك باتخاذ الكلب للصيد والحرث والماشية، فمعنى ذلك أنه مباحٌ لضرورة الصيد، وضرورة الحرث، وضرورة الماشية، فإذا أُبيح لهذه الحوائج وجاء الإنسان يبيعه، فمعنى ذلك أنه قد زاد عن الحاجة، والقاعدة: (ما أبيح للحاجة فإنه يقدَّر بقدرها)، فلو أُبيح أخذ ثمن الكلب الذي للصيد مثلاً وقيل: يجوز بيعه؛ لأن منفعة الصيد مباحة فنريد أن نبيعه؛ فمعنى ذلك أنه يستفيد منه في الصيد ويستفيد منه في البيع بأكل ثمنه، وحينئذٍ خرج عن مقام الحاجة إلى مقام التوسع، والأصل أنه لا يباح منه إلاّ ما اضطر إليه، أو إلاَّ ما نصّ الشرع عليه: وهو الإذن باتخاذه للصيد وحراسة الحرث والماشية.
ذكر بعض الحيوانات المباحة المنفعة
قوله: (كالبغل)، فإن البغل فيه منفعة وهي منفعة الركوب، قال تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً [النحل:8]، فنقول: هذه الأشياء ذكرها الله سبحانه وتعالى امتناناً على عباده، فذكر أنَّ الخيل والبغال والحمير تركب، وهذا الركوب منفعة مقصودة؛ لأن الإنسان يحتاج إلى الركوب للسفر، ويحتاج إلى الركوب للتجارة، وإلى غير ذلك من المصالح؛ ولذلك قال الله تعالى: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُس [النحل:7]، والسياق سياق منَّة، وقد جعل الله سورة النحل التي وردت فيها آية الخيل والبغال سورة (النعم)، كما يسميها بعض العلماء رحمهم الله؛ لكثرة ما فيها من النعم التي امتنَّ الله بها على عباده، فالسياق سياق امتنان، فلمَّا امتن الله بركوب البغال دلَّ على أنَّ منافعها مباحةٌ مأذونٌ بها شرعاً، فإذا باع البغل فمعنى ذلك أنه يريد أن يشتريه لمصلحة الركوب، وهكذا لو باع الخيل، أو باع الحمار، فكلُّ هذه الأشياء يُقصدُ منها المنافع المباحة.
وقوله: (ودود القزِّ وبزره)؛ لأنه يستخرج منه الحرير، وهي منفعة مباحة؛ لأن الحرير أحلَّه الله عز وجل لنساء الأمة، وهذا الحرير يُكْتسى ويُنْتفع به، وكذلك ينتفع به للمرض، فقد أذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم لمن به حِكّة، كما في حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه، فهذه المنافع كلها مقصودة، فلو باع دودة القز فإن من يشتريها إنما يقصد من ورائها الانتفاع بما يكون منها من النسيج الذي يستخلص منه الحرير، كما لو اشترى بقرةً حلوباً؛ لأن البقر تباع للحليب، أو ناقةً حلوباً؛ لأن الناقة تباع للحليب، وتباع كذلك للحمها، وتباع لظهرها، وقد تباع لهذه الثلاثة الأشياء، فكلها منافع مباحة، فإذا باع بغلاً فإن معنى ذلك أنه يريد أن يركبه، وإذا باع دودة قز فمعنى ذلك أنه يريد ما يكون منها من نتاج القز الذي يستخرج منه الحرير، كما لو اشترى البهائم من أجل أن يجزَّ أصوافها أو أوبارها وأشعارها لكي يتخذ منها الأثاث واللباس.
وقوله: (والفيل)، كذلك لو اشترى الفيل، فإن فيه مصالح، منها: الناب، حيث يتخذ من ناب الفيل أشياء، منها: الأمشاط التي تكون من العاج، ومنها: الأسورة التي تكون من العاج، وهو ناب الفيل، وكذلك أيضاً الركاب والرحال التي تحطُّ على الدواب يستفاد منها من عظم الناب، فهذه منافع يقصد منها، وكذلك الفيل يُركب في البلاد التي يركبون عليه كما يركب على البغال والحمير، وهذا في الأماكن التي توجد فيها الفيلة، وهذا من عظيم رحمة الله عز وجل وتفضيله لبني آدم، فإنك ترى الصبي الحدث يمتطي ظهر الفيل ويقوده حيث شاء، ولا يمكن للإنسان أن يتصور بعقله وإدراكه أن من كان في مثل هذا الحجم أن يقود هذا الحجم الكبير، ولكن الله عز وجل أذن، وإذا لم يأذن الله فلن يستطيع، فإن البعير يقوده الطفل الصغير ممسكاً بزمامه؛ ولكن إذا هاج البعير فقد يفتك بالقرية بكاملها، وقد ترى القرية بكاملها في ذعرٍ منه، وهذا يدلُّ على عظيم رحمة الله عز وجل وتفضيله لبني آدم، فاللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك؛ ولكن من الذي يعي ذلك؟! ومن الذي يقدر الله حقَّ قدره؟! وصدق الله عز وجل إذ يقول: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67]، فمن يتأمل في مثل هذه الأمور يدرك عظمة الله سبحانه وتعالى، ويدرك أن الله تعالى قد أحسن إلى العبد إحساناً غاية الإحسان، وليس بعد إحسان الله على عبده إحسان، ومن هنا كان الشكر لله وحده، فينبغي أن يكون على أتمِّ الوجوه وأكملها.
فالمقصود: أن الفيلة تباع من أجل الركوب عليها، ومن أجل القتال عليها، كما كان في القديم، ومن أجل حمل الأمتعة عليها.
قال رحمه الله: [وسباع البهائم التي تصلح للصيد].
قوله: (وسباع البهائم) أي: يجوز أن تباع سباع البهائم، والبهيمة مأخوذة من الإبهام، وأصل الإبهام الشيء غير الواضح، وقد قيل: سميت البهيمة بهيمة؛ لأنك لا تستطيع أن تفهم كلامها، وكلامها مبهمٌ عليك، ولا تستطيع هي أن تعبر لك بلغة تفهمها.
والبهائم تنقسم إلى أقسام:
فمن البهائم ما خلقه الله للأكل.
ومنها ما خلقه الله للركوب.
ومنها ما خلقه الله لأشياء عديدة، ومن أراد أن يتقصى ما في البهائم من الحكم والأسرار لحار عقله، وللإمام ابن القيم رحمه الله كلام جميل في (بدائع الفوائد)، فقد ذكر فيه نكتاً عظيمة في مسألة خلق البهائم للمقاصد، كأن يجعل هناك بهائم للأكل، وبهائم للشرب، وبهائم للركوب، وبهائم للقتال عليها، ولمصالح عديدة، وتجد أن هذه البهيمة لو جيء بغيرها مما هو أقوى منها لكي يقوم مقامها فلا يمكن؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50] ، فالله سبحانه وتعالى هداها لهذا الشيء المعين، ولا تستطيع أن تصرفها عن غير هذا الشيء، كأنها ما خلقت إلاّ لهذا الأمر.
فالمقصود: أن الله سبحانه وتعالى جعل في كل بهيمة مقاصدها، فالسباع تعدو، والسباع العادية كالأسد والنمر واللبوة -وهي أنثى الأسد- ونحوها من هذه السباع، هذه تعلّم الصيد، فالأسد مثلاً يمكن تعليمه الصيد، وهناك طريقة اعتنت كتب الأدب بها، ومن أفضل الكتب التي تكلمت على هذه الفوائد كتاب (نهاية الأرب)، و(صبح الأعشى) للقلقشندي، فقد ذكر فيها طرق تعليم الحيوانات للصيد.
وتنقسم هذه الحيوانات إلى قسمين:
القسم الأول: الحيوانات التي على وجه الأرض، مثل السباع.
القسم الثاني: الحيوانات الطائرة؛ كالصقر والباز والباشق والشاهين والعقاب، ونحوها من الطيور العادية.
فسباع الطير وسباع البهائم يمكن أن يُسخر ويُذلَّل للصيد، فإذا باعه الإنسان أو اشتراه من أجل مصلحة الصيد به جاز؛ لأن الصيد مباح، ومنفعته مأذون بها شرعاً، قال تعالى: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ [المائدة:4]، وكذلك قال عدي رضي الله عنه كما في الحديث الصحيح: (يا رسول الله! إني أصيد بكلبي المعلم، وبكلبي غير المعلم، وأصيد بهذه البزاة -وهي الباز- فماذا يحلُّ لي؟ فأنزل الله عز وجل آية الصيد: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ [المائدة:4])، فدلَّت هذه الآية الكريمة على جواز تعليم السباع العادية الصيد؛ ولذلك قال تعالى: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ [المائدة:4]، و(مُكلِّبين) مأخوذة من الكَلَب، وأصل الكَلَب القوة؛ لأن هذه البهائم فيها قوة وفتك بالفريسة، وسواء كانت من ذوات الطير أو كانت من ذوات السباع العادية من البهائم، فلو أنه اشترى أسداً من أجل أن يُعِّلمه الصيد صحَّ البيع وصحَّ الشراء، وكذلك لو اشترى لبوةً متعلمة للصيد صح كذلك، وهكذا النمر لو اشتراه معلماً الصيد وأراد أن ينتفع به للصيد فإنه يجوز له ذلك، وهذا هو الذي عناه المصنف رحمه الله بقوله: (وسباع البهائم).
قال رحمه الله: [إلاّ الكلب والحشرات].
(إلاّ): استثناء، والاستثناء: إخراج لبعض ما يتناوله اللفظ، فقوله: (إلاّ الكلب) أي: لا يجوز بيع الكلب، مع أن فيه منفعة الصيد، وسنتكلم إن شاء الله على مسألة بيع الكلب؛ لأنها مسألة خلافية، وفيها ما يقارب خمسة أقوال للعلماء رحمهم الله، وفيها أدلة وردود ومناقشات. والله تعالى أعلم.
قال رحمه الله: (ويشترط التراضي)
أي: يشترط لصحة عقد البيع أن يكون البائع راضياً، وأن يكون المشتري راضياً، فلابد أن يكون كل منهما راضياً على عقد المبادلة والمعاوضة، فلو قال رجل لرجل: بعتك بيتي بمائة ألف، فيشترط أن يكون هناك الرضا من البائع وهو صاحب البيت، بحيث يرضى بالمائة ألف عوضاً عن بيته، ويشترط الرضا في المشتري، بحيث يرضى بدفع المائة ألف في مقابل هذه العين، أعني: البيت. والأصل في اشتراط هذا الشرط قول الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، فبيّن سبحانه وتعالى حرمة أكل مال المسلم بالباطل، والباطل هو الذي ليس فيه وجه حق، وعلى هذا فإنه يستحق مال المسلم في التجارة إذا وجد الرضا، ومفهوم ذلك: أنه لا يستحق مال المسلم إذا فقد الرضا، والله تعالى يقول: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، فاشتملت هذه الآية على اشتراط الرضا في الطرفين: في البائع وفي المشتري، ومفهوم ذلك: أنه لا يصح البيع إذا فقد الرضا. وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن من شروط صحة البيع وجود الرضا من حيث الجملة؛ لنص الله عز وجل عليه، ولذلك نجد فقهاء الحنفية رحمهم الله لما وصفوا البيع الشرعي قالوا: مبادلة المال بالمال بالتراضي، وقولهم: (بالتراضي)، الباء للمصاحبة، أي: مصحوباً بالتراضي من الطرفين، أعني: البائع والمشتري.
وعلى هذا: فلو أن إنساناً هدد غيره أن يبيع فباع تحت هذا التهديد، أو أضر به أو قهره على البيع، فإذا توفرت شروط الإكراه لم يصح البيع؛ وذلك لأن الله عز وجل اشترط للحكم بجواز البيع وصحته أن يوجد الرضا، ومفهوم ذلك: أنه لا يحكم بصحة البيع واعتباره إذا لم يوجد الرضا، وقد جاء في حديث ابن عمر عند ابن حبان وغيره وحسن بعض العلماء إسناده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما البيع عن تراض)، فقوله: (إنما البيع) أسلوب حصر وقصر، كأنه يقول: البيع الشرعي هو البيع الذي وجد فيه التراضي، ومفهوم ذلك -وهو مفهوم الحصر كما يسميه الأصوليون-: أنه إذا لم يوجد الرضا فليس ثمّ بيع شرعي.
وقوله: (فلا يصح من مكره بلا حق) الفاء في قوله: (فلا يصح) للتفريع، فرّع على اشتراط الرضا في البائع والمشتري أنه لا يحكم بصحة البيع إذا أكره البائع على البيع أو أكره المشتري على الشراء، فإذا أكره أحدهما أو أكرها معاً لم يصح البيع.
وقوله: (من مكره) المكره: مأخوذ من الكره، وأصل الكره الشيء الذي انتفى فيه الرضا، والأصل في كون الإكراه مسقطاً للأحكام الشرعية قول الله سبحانه وتعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]، فهذه الآية الكريمة قال علماء التفسير فيها: إنها أصل في إسقاط حكم الإكراه، ووجه ذلك: أن الله سبحانه وتعالى بيّن أن المسلم إذا قال ما يوجب الردة -وهي كلمة الكفر- بالإكراه وقلبه مطمئن بالإيمان، فإن هذا القول لا عبرة به، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعمار عندما أكره: (وإن عادوا فعد) ، فأسقط بالإكراه الحكم بالمؤاخذة.
وعلى هذا: فلو قال المكره: بعت، وقال المكره: اشتريت، فإن هذا اللفظ من البائع والمشتري وجوده وعدمه على حد سواء؛ لكن يبقى النظر: متى نحكم بكون الإنسان مكرهاً؟
هذه المسألة تكلم عنها العلماء رحمهم الله، ولكن فيها تفصيل وكلام طويل، وسيكون الحديث عنها إن شاء الله في طلاق المكره، وسنتكلم عن الشروط المعتبرة للحكم بكون الإنسان مكرهاً، فمثلاً: لو قال رجل لرجل: بع بستانك هذا بمليون وإلا ضربتك على يدك، فإن الضرب على اليد أهون من بيع البستان بهذا المبلغ، فلا نقول: إنه مكره بهذا القول، وإنما يحكم بكونه مكرهاً، إذا هُدِّد بأمر هو أعظم من الأمر الذي طلب منه. وهناك موازين وأمور معينة لا بد من وجودها للحكم بالإكراه.
فالشاهد: أن من باع مكرهاً على بيعه لم يصح بيعه، ومن اشترى مكرها على الشراء لم يصح شراؤه، ولكن يبقى النظر إذا أكره بحق، ومثال ذلك: المفلس، فلو أن رجلاً استدان من الناس حتى أفلس، ووجدت أمتعة الناس عنده -ومعلوم أنه لا يحكم بكون الإنسان مفلساً إلا إذا كانت ديونه أكثر من تجارته، وغلب على الظن عدم نمائها، وعدم استطاعته أو قدرته على رد الحقوق إلى أهلها -فإذا كان الإنسان مفلساً، وعليه دين مثلاً مليون، وهناك أرض أخذها من شخص بمائة ألف، وهناك أرض ثانية بمائتين، وهناك سيارة بمائة، فإن أصحاب الأرض وصاحب السيارة إذا وجدوا عين السيارة وعين الأرض فمن حقهم أن يأخذوها، فيقول صاحب الأرض: أنا آخذ أرضي وأسقط حقي في الدين، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن: (من وجد متاعه عند من أفلس فهو أحق به) ، قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبناءً على هذا: لو أن المفلس -مثلاً- كان عنده من السيارات والعقارات ما يساوي المائة ألف، والديون التي عليه ثلاثمائة ألف، فقرر القاضي بيع ما عنده من الأملاك وتسديد الديون، فإنه ستخرج منه هذه الأملاك دون طواعية ودون رضاً، وسيبيع بدون اختياره وبدون رضاه، ولكنه إكراه بحق، ولذلك يصح البيع وينفذ.
فاحتاط المصنف رحمه الله وقال: (بلا حق)، فمن أكره بالحق فإن إكراهه شرعي، وهكذا لو احتيج إلى توسعة مسجد، أو توسعة طريق تضرر الناس بضيقه، وقيل لرجل: بع دارك لتوسعة الأرض أو توسعة المسجد، فأبى، فمن حق ولي الأمر أن يأخذه منه بالكره ويعوضه عليه بقدر ما للعين من قيمة، والأصل في ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هدم دار العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وذلك حينما ضاق المطاف واحتاج أن يوسعه، فهدم دوراً، ومنها دار العباس رضي الله عنه وأرضاه، وكانت قريبة تطل على المسجد، فأكرهه على بيعها، وأكرهه على المناقلة فيها، فدل على مشروعية هذا النوع من البيع لوجود الحق، والقاعدة الشرعية تقول: (يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام)، ومن فروعها هذه المسألة، وكذلك الحجر على المريض بمرض معْدٍ ونحوها، كلها أضرار خاصة قصد منها دفع الضرر العام. فالبيع في مثل هذا بيع معتبر عند العلماء رحمهم الله.
استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] | 3704 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] | 3620 استماع |
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق | 3441 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] | 3374 استماع |
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة | 3339 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] | 3320 استماع |
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] | 3273 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] | 3228 استماع |
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص | 3186 استماع |
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] | 3169 استماع |