خطب ومحاضرات
شرح زاد المستقنع فصل: أعذار ترك صلاة الجماعة
الحلقة مفرغة
المرض
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيقول المصنف عليه رحمة الله: [فصل: ويعذر بترك جمعة أو جماعة مريض].
قوله: [يعذر بترك] أي: بالتخلف.
فالجمعة والجماعة لا تجب على المريض الذي لا يستطيع شهودها وحضورها، والسبب في ذلك أن تكاليف الشرع مبنية على التيسير على الناس، لا على التعسير عليهم.
وقد بعث الله نبيه رحمة للعالمين، ولم يبعثه -صلوات الله وسلامه عليه- بما فيه حرج ومشقة لا يطيقها الناس، والمرض فيه مشقة وحرج.
ولذلك لما مرِض عليه الصلاة والسلام لم يشهد الجماعة، كما في الصحيحين أنه قال: (مروا
والمرض له أحوال، فتارةً يمتنع الإنسان بالكلية عن شهود الجماعة، كأن يكون مشلولاً أو به ألم لا يطيق معه الخروج من بيته، فهذا يُعذر، ويعتبر وجود مثل هذا الأذى رخصة له في ترك الجمعة والجماعة.
وتارة يكون مرضه يستطيع معه الخروج، ولكن يتضرر بالخروج؛ فتارة يزداد عليه المرض، كأن يكون مصاباً بالزكام، فلو خرج في شدة البرد زاد عليه زكامه، ولربما ساءت صحته، واشتدت عليه علّته، وتارةً يستطيع الخروج ولا يزداد المرض، ولكن يجد الأذى والمشقة في النقلة، كأن يكون مرضه في قدميه، فلو سار عليهما أو حمل بين اثنين فإنه يتضرر بالمشي.
ففي الحالة الأولى اختار بعض العلماء والمحققين أنه إذا خاف زيادة المرض، وغلب على ظنه أن المرض يزداد والعلة تشتد فإنه يترك شهود الجماعة، فلو أنه أصابه الزكام، وغلب على ظنه أنه لو خرج لهذه الصلاة تشتد عليه العلة ويعظم عليه البلاء فإنه يتخلف.
وهكذا لو كان خروجه فيه المشقة والحرج والأذية، أما لو كانت به مشقة يستطيع أن يتحملها فعليه أن يخرج، ولذلك يقول العلماء: المشقة مشقتان:
مشقة مقدور عليها، ومشقة غير مقدور عليها، فالمشقة غير المقدور عليها لا يكلف معها إجماعاً وإذا كان الإنسان لا يطيقها، ولا يمكنه أن يأتي بالشيء مع وجودها، فلو أن إنساناً أصابه مرض لا يستطيع معه القيام ألبتة -كالشلل- فإنه لا يكلف إجماعاً بالقيام.
والمشقة المقدور عليها تنقسم إلى قسمين:
الأول: أن تكون مقدوراً عليها وفيها حرج وضيق وعناء.
الثاني: أن تكون مقدوراً عليها، ولا يلحق الإنسان بها حرج ولا ضيق.
فمثال الأول -إذا أصابته المشقة وأجحفت به- أن يكون في سفر وتشتد عليه المخمصة، فلو كان في سفر وهو صائم، فإنه في حال السفر يمكنه أن يصبر على الصيام، ولكن تصل نفسه إلى الضيق والحرج، فهذا يرخص له في الفطر.
ومثال الثاني: مشقة الخروج لصلاة الفجر، فإنه يترك النوم ويخرج، ومشقة الوضوء في الشتاء، فإنه يكلف بها، فأصبحت المشقة ثلاثة أقسام:
الأول: ما لا يُقدر عليه، كالمخمصة التي تفضي به إلى الموت.
فهذه يسقط فيها التكليف، وينتقل إلى الرخصة بأكل الميتة.
الثاني: مشقة مقدور عليها مع الحرج، كالصوم في السفر، فيخير بين الفعل والترك، والرخصة له أن يترك، فالإنسان في السفر يخير بين أن يفطر ويصوم.
الثالث: مشقة مقدور عليها بدون حرج، فيلزم فيها بالتكليف، ولذلك قال العلماء: سميت التكاليف تكاليفاً لوجود الكلفة والمشقة فيها.
وبناءً على ذلك فالمريض الذي إذا خرج من بيته أجحف به الخروج وحصل له العناء والضررله أن يترك شهود الجماعة، ولا حرج عليه في ذلك.
أما لو كان يطيق -ولو مع يسير المشقة- فإنه يشهد، فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم نفاقه، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف).
فهذا يدل على حرصهم رضي الله عنهم على شهود الجماعة، ويدل على تأكدها ولزومها.
مدافعة أحد الأخبثين
أي:يعذر بترك الجماعة من كان يدافع أحد الأخبثين. والمدافعة: مأخوذة من دفع الشيء، والمراد به كفه.
وهناك (دفع) و(رفع)، والعلماء يقولون في القاعدة المشهورة: (الدفع أسهل من الرفع).
وسأل بعضهم: ما الفرق بين الدفع والرفع؟ فقالوا: الدفع لما لا يقع، والرفع لما وقع. فأنت ترفع شيئاً قد وقع وحصل، كأن ترفع شيئاً على الأرض، فإنه بعد سقوطه على الأرض يرفع.
وأما بالنسبة للدفع فإنه يكون لشيء لا يراد وقوعه، فمدافعة الأخبثين المراد بها: أن يكون حاقناً بالبول أو الغائط أو بهما معاً، فمثل هذا لا يستطيع أن يكون مستحضراً للخشوع في صلاته، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم من يدافع الأخبثين أن يصلي حال مدافعته للأخبثين، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان)، والأخبثان -كما قلنا-: البول والغائظ.
ومدافعة الأخبثين تكون على صور:
الصورة الأولى: أن تكون إلى درجة لا يعي الإنسان معها الصلاة، بأن تشتد عليه، وتبلغ به إلى مقام تذهله عن صلاته، وكذلك عن خشوعه وموقفه بين يدي ربه.
الصورة الثانية: أن تكون في بدايتها، بحيث يطيق الصبر إلى انتهاء الصلاة، فيرجع إلى صلاته تارة ويغيب عن صلاته تارة.
فإن وصلت به إلى حد لا يستطيع معه أن يدرك صلاته فإن صلاته لا تصح في قول طائفة من العلماء، وهو مذهب الظاهرية، وكذلك قال به الإمام مالك ، وكذلك قال به بعض السلف رحمة الله على الجميع.
فإذا وصلت المدافعة إلى درجة لا يعي معها صلاته، فإن صلاته غير صحيحة، ويُلزم بإعادة الصلاة.
والقول الثاني: صلاته مكروهة، وتقع مجزئة؛ لأنه صلى وهو متوضئ وغير محدث، وإنما كانت مدافعة الأخبثين متعلقة بالخشوع، وفوات الخشوع لا يؤثر في ذات الصلاة، وإنما يؤثر في كمالها وحصول الأجر فيها، وهذا مذهب الجمهور.
وهذا المذهب يقول: لا يستلزم فوات الخشوع بطلان الصلاة، فغاية ما هو فيه -أي: الذي يدافع الأخبثين- أنه لا يعي صلاته، بمعنى أنه لا يخشع فيها الخشوع المعتبر.
وبناءً على ذلك قالوا: إن صلاته صحيحة.
والحقيقة أنه إذا دافع مدافعة يذهل فيها عن صلاته بالكلية فإن القول بالإعادة من القوة بمكان.
وأما إذا كانت المدافعة يسيرة، بأن تغلبه تارة ويرجع تارة إلى الصلاة، فإن الظاهرية يقولون ببطلان الصلاة، وبعض أهل الحديث يوافقهم، والجمهور على صحة الصلاة، وقالوا: لكن يُكره له أن يصلي على هذه الحالة.
والصحيح أنه إذا كان في بداية المدافعة بحيث يرجع إليه الشعور تارة ويغيب عنه تارة فإن صلاته صحيحة.
والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لأم المؤمنين عائشة : (أميطي عنا قرامك هذا؛ فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي)، فقوله: (أميطي) أي: أزيلي. (قرامك) القرام: هو الستارة، وكانت فيها صور، فقال: (أميطي عنا قرامك هذا؛ فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي)، ولم يبطل صلاته ولم يقطعها.
فدل على أنه إذا فاء تارة وغلبه فذلك لا يؤثر في الصلاة، وفي الصحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام، فأمر عليه الصلاة والسلام فقال: (اذهبوا بخميصتي هذه إلى
وبناءً على ذلك يفرق فيمن يدافع الأخبثين بهذا التفريق، فإن غلبته المدافعة إلى درجة لا يعي معها الصلاة بالكلية فإنه حينئذٍ يعيد، وأما إذا كان تغلبه تارةً وتارةً يغلبها فإنه تصح صلاته وتجزيه، لما ذكرنا من الأحاديث.
فمن يدافع الأخبثين إذا أقيمت الصلاة يشرع له أن يخرج ويتوضأ، أو يعيد وضوءه، والسبب في ذلك واضح إذا كانت المدافعة قوية؛ لأن صلاته محكوم ببطلانها، أما إذا كانت المدافعة يسيرة فإنه يصلي.
وقال بعض العلماء: لا حرج أن يخرج من المسجد وأن يعيد وضوءه في هذه الحالة ولو كانت يسيرة.
حضرة الطعام مع الحاجة إليه
الطعام قد يكون غداءً أو عشاءً، وحضور الطعام مع الصلاة هو المعبر عنه في الحديث في قوله في حديث أم المؤمنين عائشة : (لا صلاة بحضرة طعام)، وحضور الطعام كمال نضجه واستوائه وتهيؤه لتناوله، فالمراد بذلك أن تحضر الصلاة في حال حضور الطعام.
بمعنى أن يكون فعل الجماعة للصلاة وقت وضع الطعام بين يديه، أو يكون مشغولاً بالأكل فتقام الصلاة أثناء اشتغاله بالأكل، فإذا كان الطعام يحتاج إليه وتتعلق نفسه به فإنه حينئذٍ ينصرف إلى الطعام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدأوا بالعشاء).
وهذا من سماحة الشريعة، وفيه دليل على كمال منهجها ورحمة الله عز وجل بعباده؛ فإن الإنسان ضعيف، إذ لو صلى وهو بحضرة الطعام تنشغل نفسه فيفوته الأجر، فأُذِن له أن يشتغل بالطعام.
وقوله: [محتاج إليه] خرج به الطعام الذي لا يحتاج إليه، فلو دعي إلى صلاة العِشاء، وكان بحضرة طعام لا يحتاج إليه، كأن يكون في شبع، أو يكون شراباً كالشاهي أو نحوه، كما هو موجود في زماننا الآن فإنه ينصرف إلى الجماعة، ولا يجوز له أن يتخلف عنها.
أما إذا كان محتاجاً إليه، كمن أصابه الجوع وحضرته صلاة العصر والطعام بين يديه فإنه يتخلف، وينبغي أن يُنبه أنه لا يجوز اتخاذ هذا وسيلة لترك الجماعة، كأن يُهيئ طعامه عند حضور الصلوات بقصد التخلف عنها، فإنه يعامل بنقيض قصده، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات).
فإذا نوى مخالفة الشرع وتفويت هذه الفريضة عليه من شهود الصلاة مع الجماعة فإنه يأثم بهذا الفعل، وقال طائفة: لا يرخص له. فتسقط الرخصة عنه معاملة له بنقيض قصده، والمعاملة بنقيض القصد الفاسد معروفة شرعاً ومعهودة عند العلماء رحمة الله عليهم.
فالمقصود أن حضور الطعام المراد به نضجه وتيسر أكله له مع تعلق نفسه به، فإن كان الطعام لم ينضج بعد فإنه ينصرف إلى صلاته، وكذلك إذا كانت نفسه لا تتعلق بهذا الطعام، بمعنى أنه في شبع ولا يجد الحاجة لهذا الطعام، فيجب عليه شهود الجماعة إعمالاً للأصل.
الخوف من ضياع المال أو فواته
أي: يرخص للإنسان إذا كان عنده مال ويحرس هذا المال ويقوم عليه أن يتخلف عن الجماعة إذا خاف بذهابه إليها أن يسرق هذا المال، أو يضيع عليه.
فمن كان عنده مال أمانة، أو ماله هو يملكه، ولا يستطيع أن يدخله معه فإنه يرخص له في ترك الجماعة لوجود الضرر.
وقد نبه الشرع بالنهي عن الصلاة بحضرة الطعام على اعتبار حاجة الإنسان، والمال من حوائجه، ولذلك لا حرج عليه في قول جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم في ترك الجماعة، خاصة إذا كانت هناك جماعة أخرى كأهله وزوجه ونحو ذلك.
فإن خاف على ماله، أو مال يكون أمانة عنده فإنه حينئذٍ يُشرع له أن يحفظ المال، وأن يتخلّف لوجود الحاجة، والحاجة تنزل منزلة الضرورة للقاعدة التي تقول: ( الحاجة تنزَّل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة ).
وهذا بالنسبة لفوات المال، ويكون أيضاً ضياع المال في حكم الفوات، كأن يكون عنده دابة ولا يجد مكاناً يحفظ فيه هذه الدابة، فإن أقيمت الصلاة وإذا تركها فإنها تضيع فحينئذٍ يجوز له أن يتخلف عنها، خاصة إذا كان في سفر وفواتها يضر به ويجحف.
الخوف من موت قريب إذا تركه بمفرده
أي: إذا خاف موت القريب فإنه يُشرع له أن يتخلف لمداواته والقيام عليه وتجهيزه للصلاة عليه، وقد أُثر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه لما سمع الصارخ على ابن عمه -وقد كان خرج للجمعة- ترك الجمعة، وانصرف إليه وأقام حاله.
وهذا من باب التيسير، وبناءً على ذلك فإذا أقيمت الصلاة والإنسان يخاف على والدته أو على والده أن يموت، أو كان في شدة المرض يحتاج إلى قيامه عليه ورعايته له، فلا حرج عليه أن يتخلف للقيام عليه ورعايته.
وكذا لو غلب على ظنه أنه لو ترك المريض وذهب فإنه يموت، أو ربما يحصل له ضرر، كالأطباء في بعض الأحوال التي يقومون فيها على المرضى، فيشرع لهم أن يتخلفوا عن الجماعة في الحالات الطارئة.
فالأطباء الذين يستقبلون الحالات التي تطرأ على الناس، ويغلب على الظن فيها فوات الأنفس يشرع لهم أن يصلوا جماعة مع بعضهم، وأن يتخلفوا عن الجماعة العامة إحياءً للأنفس إذا غلب على ظنهم وجود الضرر أو التلف.
وهكذا بالنسبة لمن يحفظ الأموال وخاصة عند وجود الفساد، فإنه يُشرع لهم أن يتخلفوا لوجود الحاجة، وهكذا الخوف على العرض، فإذا كان الإنسان في سفر ومعه زوجه أو معه أخته، وهو في موضع لا يجد فيه أين يضع أهله، ويخشى لو فارقهم أن يُعتدى عليهم، أو يحصل الضرر عليهم، فإنه يجوز له أن يصلي معهم جماعة، ولا حرج عليه في مثل هذه الأحوال.
الخوف على النفس من ضرر أو سلطان
إذا خاف على نفسه من ضرر فإنه يجوز له -في قول جماهير العلماء- أن يتخلف عن الجماعة، وذلك لأنه إذا تعارض حق الله وحق العبد فحقوق الله مبينة على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحة والمقاصة.
ولذلك أباح الله عز وجل للعبد أن يأكل من الميتة في حال خوفه على نفسه، فسقط التكليف بالحرمة، فإذا خاف على نفسه سقط التكليف بوجوب شهادة الجماعة، وجاز له أن يتخلف.
والأمثلة التي ذكرها إنما هي أمثلة أنواع، وليست أمثلة تقييد، فإذا خاف على نفسه الضرر من أي جهة كانت فإنه يشرع له ويجوز له أن يتخلف دفعاً لهذا الضرر، فإن الشرع دفع الضرر عن المكلف كما في الصوم، وكما في المخمصة.
ولذلك قالوا: إن الشرع قصد المحافظة على الأنفس فيخفَّف في شهود الجمعة والجماعة، فيصليها في بيته إذا خاف الضرر، ولا حرج عليه في هذه الأحوال.
قالوا: وأصول الشريعة تدل على هذا؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وهذا ليس في وسعه أن يعرض نفسه للهلاك والتلف.
وكذلك أيضاً يقول تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، فلو أُلزِم بشهودها كان ضررا يخالف القصد الذي بُنيت الرسالة عليه من الرحمة بالناس، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن خير دين الله أيسره)، وقال: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين).
فلو أوجبنا عليه شهود الجماعة مع وجود هذه الأضرار كان هذا مخالفة للأصول التي دلت عليها هذه النصوص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فاستنبط الجماهير رحمة الله عليهم من هذا الحكم بجواز التخلف عن شهود الجماعة في مثل هذه الأحوال.
ملازمة غريم
ملازمة الغريم تكون على حالتين:
الأولى: أن يكون الإنسان معذوراً بالتخلف عن سداد الدين.
الثانية: أن يكون غير معذور.
فإن كان معذوراً لا يجد السداد والغريم يسيء إليه، فيؤذيه بالكلام، أو يتسبب في التضييق عليه، أو الاستعداء عليه، بحيث يكون سبباً في لحوق ضرر به، أو يخاصمه أمام الناس، فيقول له: يا ظالم. يا مماطل. أو يؤذيه بدون حق فيجوز له أن يتخلف في هذه الأحوال.
والسبب في ذلك -كما يقول العلماء رحمة الله عليهم- أنه لو خرج لحقت به المشقة والحرج، والله يقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، فإن الإنسان إذا أوذي أمام الناس وانتقصت كرامته، وأوذي بسبه وشتمه قد يكون الأذى والضرر عليه أكبر مما لو أُوذِي بجرحه والضرر في جسده.
ولذلك قالوا: جرح اللسان أعظم من جرح السنان. فالمقصود أن الإنسان إذا خاف من أذية صاحب الدين وكان مظلوماً بهذه الأذية وليس عنده سداد شرع له التخلف.
أما لو كان عنده سداد ويستطيع أن يدفع فإنه ظالم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته) فإذا امتنع عن السداد وهو قادر عليه، وعنده ما يتمكن به من سداد الحقوق التي عليه فإنه لا يشرع له أن يتخلف عن الجماعة، بل يجب عليه أن يخرج، وإذا أُوذِي فإنه يستحق الأذية بإذن الشرع بذلك.
فوات الرفقة
إذا كان في سفر وكان فوات الرفقة قد يعرضه للهلاك فقد قالوا: يشرع له أن يترك الجماعة. أما لو كانت هناك رفقة بديلة عن هذه الرفقة، أو يستطيع أن يمشي وحده ولا حرج عليه فإنه حينئذٍ يتخلف ويصلي، فإن أدركهم فبها، وإلا أقام حق الله عز وجل عليه بشهود الجماعة.
غلبة نعاس
مثال هذا: لو أن إنساناً اشتغل من الصباح الباكر، فجاء قبل صلاة الظهر وإذا به في شدة الإعياء والإرهاق، ثم إنه غلب على ظنه أنه لو نزل إلى المسجد فإنه سينتظر بقدر ربع ساعة إلى ثلث ساعة وهو في غاية الإرهاق، وغلب على ظنه أنه لو نزل لا يعي الصلاة من شدة ما يجد من العناء والتعب، أو قد لا يستطيع ذلك إلا بعناءٍ شديد ومشقة، فحينئذٍ يصلي في موضعه، ولا حرج عليه في التخلف عن الجماعة.
الأذى بمطر أو وحل
وذلك لما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر من هديه عليه الصلاة والسلام أنه إذا نزل المطر وحضرت الصلاة كان ينادي المنادي: (الصلاة في الرحال.. الصلاة في الرحال). وهذا بعد قوله: حي على الصلاة.
وهذا من سماحة الشرع ويسره، وذلك أن الخروج في المرض أو في المطر لا يخلو من وجود الضرر والأذية، ولذلك يقولون: إذن الشرع بالتخلف عن الجماعة في حال المطر يدل على اعتبار الأضرار مرخِّصة في ترك الجماعة.
فكون الشرع مع وجود المطر يأذن في ترك الجماعة ينبِّه على أنه لو وُجِد الضرر الذي ذكرناه من خوف النفس والخوف على الأموال ونحوها يُشرع له التخلف؛ فإنها في مقام ضرورة، أو مقام حاجة قد تكون أشد من أذية المطر وما يكون فيه من مشقة.
وبعض العلماء يقول: يسير المطر وكثيره سواء، وهذه سنة ضائعة اليوم إلا ممن رحم الله، وينبغي للمؤذنين أن يحيوها، وأن يُنبه على المؤذنين بإحيائها، فإن الأذان يؤذن -سواءٌ هناك مطر أم لم يكن هناك مطر- وقل أن تسمع هذه السنة، بحيث يقال: الصلاة في الرحال.
فينبغي إحياء هذه السنة والتنبيه عليها، وأنه إذا وجد المطر يقول المؤذن: (الصلاة في الرحال.. الصلاة في الرحال) لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان من هديه ذلك، وقد فعل ذلك ابن عمر رضي الله عنهما وأرضاهما، ورفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك لا يقتصر على الأذان وحده، وإنما يدخل هذه العبارة؛ لأنها من ألفاظ الأذان المشروعة.
والمطر إن كان شديداً فقولاً واحداً أنه يتخلف ويعذر بالتخلف عن الجمعة والجماعة.
وأما إذا كان يسيراً فقال بعض العلماء: إن يسيره لا يوجب الترخيص، وإنما يوجب الترخيص إذا كان فيه ضرر. بمعنى أن يكون شديداً. وإن كان ظاهر النص على أنه يُرخص في المطر مطلقاً، والاحتياط أنه إذا كان يسيراً وأمكن الإنسان أن يشهد معهم الجماعة دون وجود ضرر فإنه يشهدها.
قوله: [أو وحل].
هو الذي يكون ناتجاً عن المطر، كالطين الذي يكون في الطريق، فإذا كان طريقه فيه وحل فحينئذٍ لا حرج أن يتخلف عن الجماعة؛ لأن الشرع لما أذن بالصلاة في البيوت مع وجود المطر فإن الوحل أثر من الآثار التي أوجبت الرخصة.
الريح الشديدة البرودة في الليلة المظلمة
الريح فيها حرج ومشقة، وخروج الناس مع وجود الريح في شدة البرد يُضر بهم، وقد يتسبب في حصول الضرر بالإنسان، ولذلك قالوا: يشرع له أن يتخلف عن الجماعة إذا كانت الريح باردة، والريح الساخنة التي تسمى بالسموم يمكن الصبر عليها، ويمكن اتقاؤها وإذهاب حرها بما يكون من الملابس ونحوها.
والريح الباردة أقوى في الإضرار بالجسد من الحارة، ولذلك رخِّص في الباردة دون الحارة، فالأمر الأول: أن تكون الريح باردة.
الأمر الثاني: أن تكون شديدة، فإذا كانت يسيرة وجب عليه أن يشهد الجماعة؛ لأنه الأصل.
الثالث أن تكون في ليلة مظلمة، والسبب في ذلك أن الضرر بها يكون أبلغ ما يكون إذا كان بهذه الصفة، أما لو كانت الريح باردة وشديدة، ويمكنه أن يخرج ويرى فحينئذٍ يخرج، فقوله: [مظلمة] إشارة إلى أنه لا يرى الطريق، فلما كان الشرع يأذن بالتخلف عن الجماعة مع وجود المطر الذي يعيق السير كان تنبيهاً إلى الريح الشديدة الباردة وما في حكمها.
قالوا: فحينئذٍ يتخلف، لكن بشرط أن يكون متأذياً، أو متضرراً ببرودة هذه الريح وشدتها وكونه في ليلة ظلماء، أما لو اتقى الريح بركوب سيارة، أو كان عليه ما يحفظه من الأذى والضرر فإنه يشهد الجماعة، ولا يتخلف عنها؛ لأن العلة في مثله ليست بمتحققة، فيشهد الجماعة ويصلي مع الناس.
وهذا كله من سماحة الشرع وتيسير الله عز وجل على عباده، والعلماء ذكروا هذه الصور، وهي إما منصوص عليها كمدافعة الأخبثين والصلاة بحضرة الطعام ونحوها من الأعذار التي نص عليها.
وإما أن تكون في حكم المنصوصة، كالخوف على النفس، وما يوجب الحرج على الإنسان، سواء أكان ذلك في نفسه أم في ماله، فإنه يجوز له أن يتخلف للمعنى الذي استنبط من النصوص.
فعندنا أعذار نصية وأعذار اجتهادية، فالأعذار النصية مثلما ذكرناه، والأعذار الاجتهادية آخذة حكم الأعذار المنصوصة؛ لأن الشرع ينبه بالشيء على مثله، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخاطب أبا موسى : ( اعرف الأشباه والنظائر ).
فإنه قد ينبه الشرع على شيء لكي يكون أصلاً لغيره، فلما نبه الشرع على المطر، وكان ذلك موجباً للترخيص في ترك الجمعة والجماعة كان أصلاً في دفع كل ما فيه ضرر لشهود الجماعة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيقول المصنف عليه رحمة الله: [فصل: ويعذر بترك جمعة أو جماعة مريض].
قوله: [يعذر بترك] أي: بالتخلف.
فالجمعة والجماعة لا تجب على المريض الذي لا يستطيع شهودها وحضورها، والسبب في ذلك أن تكاليف الشرع مبنية على التيسير على الناس، لا على التعسير عليهم.
وقد بعث الله نبيه رحمة للعالمين، ولم يبعثه -صلوات الله وسلامه عليه- بما فيه حرج ومشقة لا يطيقها الناس، والمرض فيه مشقة وحرج.
ولذلك لما مرِض عليه الصلاة والسلام لم يشهد الجماعة، كما في الصحيحين أنه قال: (مروا
والمرض له أحوال، فتارةً يمتنع الإنسان بالكلية عن شهود الجماعة، كأن يكون مشلولاً أو به ألم لا يطيق معه الخروج من بيته، فهذا يُعذر، ويعتبر وجود مثل هذا الأذى رخصة له في ترك الجمعة والجماعة.
وتارة يكون مرضه يستطيع معه الخروج، ولكن يتضرر بالخروج؛ فتارة يزداد عليه المرض، كأن يكون مصاباً بالزكام، فلو خرج في شدة البرد زاد عليه زكامه، ولربما ساءت صحته، واشتدت عليه علّته، وتارةً يستطيع الخروج ولا يزداد المرض، ولكن يجد الأذى والمشقة في النقلة، كأن يكون مرضه في قدميه، فلو سار عليهما أو حمل بين اثنين فإنه يتضرر بالمشي.
ففي الحالة الأولى اختار بعض العلماء والمحققين أنه إذا خاف زيادة المرض، وغلب على ظنه أن المرض يزداد والعلة تشتد فإنه يترك شهود الجماعة، فلو أنه أصابه الزكام، وغلب على ظنه أنه لو خرج لهذه الصلاة تشتد عليه العلة ويعظم عليه البلاء فإنه يتخلف.
وهكذا لو كان خروجه فيه المشقة والحرج والأذية، أما لو كانت به مشقة يستطيع أن يتحملها فعليه أن يخرج، ولذلك يقول العلماء: المشقة مشقتان:
مشقة مقدور عليها، ومشقة غير مقدور عليها، فالمشقة غير المقدور عليها لا يكلف معها إجماعاً وإذا كان الإنسان لا يطيقها، ولا يمكنه أن يأتي بالشيء مع وجودها، فلو أن إنساناً أصابه مرض لا يستطيع معه القيام ألبتة -كالشلل- فإنه لا يكلف إجماعاً بالقيام.
والمشقة المقدور عليها تنقسم إلى قسمين:
الأول: أن تكون مقدوراً عليها وفيها حرج وضيق وعناء.
الثاني: أن تكون مقدوراً عليها، ولا يلحق الإنسان بها حرج ولا ضيق.
فمثال الأول -إذا أصابته المشقة وأجحفت به- أن يكون في سفر وتشتد عليه المخمصة، فلو كان في سفر وهو صائم، فإنه في حال السفر يمكنه أن يصبر على الصيام، ولكن تصل نفسه إلى الضيق والحرج، فهذا يرخص له في الفطر.
ومثال الثاني: مشقة الخروج لصلاة الفجر، فإنه يترك النوم ويخرج، ومشقة الوضوء في الشتاء، فإنه يكلف بها، فأصبحت المشقة ثلاثة أقسام:
الأول: ما لا يُقدر عليه، كالمخمصة التي تفضي به إلى الموت.
فهذه يسقط فيها التكليف، وينتقل إلى الرخصة بأكل الميتة.
الثاني: مشقة مقدور عليها مع الحرج، كالصوم في السفر، فيخير بين الفعل والترك، والرخصة له أن يترك، فالإنسان في السفر يخير بين أن يفطر ويصوم.
الثالث: مشقة مقدور عليها بدون حرج، فيلزم فيها بالتكليف، ولذلك قال العلماء: سميت التكاليف تكاليفاً لوجود الكلفة والمشقة فيها.
وبناءً على ذلك فالمريض الذي إذا خرج من بيته أجحف به الخروج وحصل له العناء والضررله أن يترك شهود الجماعة، ولا حرج عليه في ذلك.
أما لو كان يطيق -ولو مع يسير المشقة- فإنه يشهد، فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم نفاقه، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف).
فهذا يدل على حرصهم رضي الله عنهم على شهود الجماعة، ويدل على تأكدها ولزومها.
استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] | 3704 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] | 3620 استماع |
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق | 3441 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] | 3374 استماع |
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة | 3339 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] | 3320 استماع |
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] | 3273 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] | 3228 استماع |
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص | 3186 استماع |
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] | 3169 استماع |