شرح زاد المستقنع باب صفة الصلاة [3]


الحلقة مفرغة

الاستعاذة قبل القراءة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ثم يستعيذ ثم يبسمل سراً].

الاستعاذة: طلب العوذ، ومعناها: ألتجئ وأعتصم بالله عز وجل نعم المولى ونعم النصير، ولذلك شرع الله هذه الاستعاذة عند قراءة كتابه العزيز، فقال: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98]، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم -وأمره أمرٌ لأمته حتى يدل الدليل على الخصوص- أنه إذا استفتح قراءة القرآن أن يستفتحها بالاستعاذة، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه استفتح قراءته بالاستعاذة، ولذلك قال بعض العلماء: إنه ينبغي على القارئ أن يستفتح قراءته بالاستعاذة، ومن السلف من قال بوجوب الاستعاذة، وذلك لأمر الله عز وجل بها، قالوا: فهي واجبة.

صيغ الاستعاذة

والاستعاذة تأتي على صيغ:

الصيغة الأولى: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وهذه الصيغة هي التي وردت في سورة النحل، وعليها جماهير القراء، وهي أفضل من غيرها، وذلك لأن الله أمر بها وحدّدها في افتتاح كتابه، والمعين أفضل من غير المعين، فيعتبر تعيينها دليلاً على فضلها، وقد أشار بعض الفضلاء إلى ذلك بقوله:

ولتستعذ إذا قرأت واجهر مع استماع وابتداء السور

إلى أن قال:

ولفظه المختار ما في النحل وقد أتى الغير عن أهل النقل

أي: لفظ الاستعاذة المفضل ما في سورة النحل، وهو قوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98] .

وورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه)، فهذه أيضاً استعاذة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعض السلف: يقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم) ، وبعضهم يقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم)؛ لأن الله قال لنبيه: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:36] قالوا: فيقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم).

ولا شك أن الوارد أوقى من غيره؛ لأن القاعدة -كما قرر العز بن عبد السلام وغيره- تقول: (إذا وردت ألفاظٌ للأذكار منها وارد ومنها مقتبس من الوارد، فالوارد أفضل من غيره -أعني: المقتبس-)، ولذلك يقدم قولهم: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وهو أقوى الاستعاذات.

وكون النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ أحياناً بقوله: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه) يدل على الجواز، وما دلّ على الجواز ليس كما أُمِر به، فإن اختيار الله له يدل على الفضل.

أوجه الاستعاذة مع البسملة وأول السورة، وأوجه البسملة بين السورتين

والاستعاذة أدب من آداب التلاوة ينبغي لمن تلا كتاب الله أن يستفتح بها، قالوا: لأن الإنسان يُعصم بإذن الله عز وجل من دخول الدخل من الشيطان الرجيم في قراءته، فينال بركة القراءة وخيرها وحظها، ولذلك تجده أكمل الناس تدبراً ووعياً وفهماً، فإنه حينما يلتجئ ويحتمي بالله عز وجل من الشيطان أن يدخل بينه وبين قراءته فإنه يأمن الفتنة، وتكون قراءته على أتم الوجوه وأفضلها وأحسنها، فشرع الله لعباده أن يفتتحوا بهذه الاستعاذة، وهذه الاستعاذة تعتبر أصلاً في القراءة كما ذكرنا، وتكون مع البسملة والابتداء بأول السورة على أربعة أوجه:

الوجه الأول: تقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين)، وهذا الوجه يسميه العلماء وجه الوصل، فتصل الجميع.

الوجه الثاني: تقطع فتقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) ، (بسم الله الرحمن الرحيم) ، (الحمد لله رب العالمين)، فتقطع الأول عن الثاني، والثاني عن الثالث.

الوجه الثالث: أن تجمع بين الأول والثاني وتفصل الثالث عنهما، فتقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم)، (الحمد لله رب العالمين).

الوجه الرابع: أن تقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) ، (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين).

وأما البسملة بين السورتين ففيها أربعة أوجه، وأحدها لا يجوز:

الوجه الأول: أن يقول مثلاً: " إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3] بسم الله الرحمن الرحيم قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] " وهذا وجه الوصل، فيصل الجميع.

الوجه الثاني: " إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3] ، بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] " فيقطع الأول عن الثاني، والثاني عن الثالث.

الوجه الثالث: أن يقطع آخر السورة، ويقول: " إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3] " ثم يسكت، ويبتدئ ويقول: " بسم الله الرحمن الرحيم قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] " .

الوجه الرابع: ولا يصح هذا الوجه، وهو أن يصل قوله تعالى: " إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3] ببسم الله الرحمن الرحيم " ثم يقطع ثم يقول: " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] " ؛ لأنه يوهم أن البسملة لآخر السور، وإنما شرعت البسملة لأوائل السور.

الإسرار بالبسملة

قال رحمه الله تعالى: [ثم يبسمل سراً وليست من الفاتحة].

أي يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فـ(البسملة) اختصار لها، كالحوقلة والحسبلة اختصاراً لما ذُكِر من الأذكار.

والبسملة شرعت للفصل بين السور، ومذهب طائفة من العلماء وجوبها إلا فيما بين براءة والأنفال، فإنه لا يفصل بينهما بالبسملة، ولذلك قالوا:

بسمل وجوباً عند كل السور عدا براءةٍ وذاك في الأشهر

أي: على أقوى قول العلماء رحمةُ الله عليهم، فالأشهر يعني الأقوى والأرجح.

فالبسملة مشروعة لابتداء السور، فيقول: بسم الله الرحمن الرحيم.

وقوله: (سراً) على مذهب الجمهور.

والشافعية رحمة الله عليهم يقولون بالبسملة جهراً.

وكلا الفريقين يحتج بحديث أنس : (صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان كلهم كانوا يستفتحون القراءة: ببسم الله الرحمن الرحيم الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]) ، والرواية الثانية: (كلهم يستفتحون القراءة: بـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]) .

وجمع العلماء بين الروايتين عن أنس بأن نفيه للبسملة مراده الجهر، وإثباته لها مراده السر، أي: أنهم كانوا يقرؤون (بسم الله الرحمن الرحيم) سراً لا جهراً.

فإن كان الإنسان قد ترجح عنده القول بعدم الوجوب فإنه يسر، وهذه هي السنة في حقه، وإن ترجح عنده القول بوجوب البسملة وقرأها جهراً فلا حرج، ولا ينكر على أحد بسمل جهراً، ولذلك اختار بعض العلماء: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل هذا تارة ويفعل هذا تارة، كما يفهم من كلام بعض المحققين، ولذلك لا ينكر على من جهر بـ(بسم الله الرحمن الرحيم)، وهو قولٌ أئمة من السلف، ومعتدٌ بقولهم وخلافهم؛ لأن له وجهاً من سُنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هل البسملة من الفاتحة

قوله: [وليست من الفاتحة] هو مذهب الجمهور.

وعند الشافعية البسملة هي آية من الفاتحة، ولذلك يصلون قوله تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] فإن قلت: إنها آية وصلت اعتبرتها آية واحدة حتى تكمل سبعاً؛ لأن سورة الفاتحة سبع آيات كما قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي [الحجر:87] قيل: إنها الفاتحة، وعلى هذا الوجه قالوا: إن آياتها سبع، وبناءً على ذلك يقولون: إذا قرأ البسملة فإنه يصل الآية الأخيرة ولا يحسبها آيتين، ولا يقف عند قوله: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، أما إذا كان يرى أنها ليست من الفاتحة فإنه يعتبر هذا موقفاً له وآية.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ثم يستعيذ ثم يبسمل سراً].

الاستعاذة: طلب العوذ، ومعناها: ألتجئ وأعتصم بالله عز وجل نعم المولى ونعم النصير، ولذلك شرع الله هذه الاستعاذة عند قراءة كتابه العزيز، فقال: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98]، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم -وأمره أمرٌ لأمته حتى يدل الدليل على الخصوص- أنه إذا استفتح قراءة القرآن أن يستفتحها بالاستعاذة، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه استفتح قراءته بالاستعاذة، ولذلك قال بعض العلماء: إنه ينبغي على القارئ أن يستفتح قراءته بالاستعاذة، ومن السلف من قال بوجوب الاستعاذة، وذلك لأمر الله عز وجل بها، قالوا: فهي واجبة.

والاستعاذة تأتي على صيغ:

الصيغة الأولى: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وهذه الصيغة هي التي وردت في سورة النحل، وعليها جماهير القراء، وهي أفضل من غيرها، وذلك لأن الله أمر بها وحدّدها في افتتاح كتابه، والمعين أفضل من غير المعين، فيعتبر تعيينها دليلاً على فضلها، وقد أشار بعض الفضلاء إلى ذلك بقوله:

ولتستعذ إذا قرأت واجهر مع استماع وابتداء السور

إلى أن قال:

ولفظه المختار ما في النحل وقد أتى الغير عن أهل النقل

أي: لفظ الاستعاذة المفضل ما في سورة النحل، وهو قوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98] .

وورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه)، فهذه أيضاً استعاذة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعض السلف: يقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم) ، وبعضهم يقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم)؛ لأن الله قال لنبيه: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:36] قالوا: فيقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم).

ولا شك أن الوارد أوقى من غيره؛ لأن القاعدة -كما قرر العز بن عبد السلام وغيره- تقول: (إذا وردت ألفاظٌ للأذكار منها وارد ومنها مقتبس من الوارد، فالوارد أفضل من غيره -أعني: المقتبس-)، ولذلك يقدم قولهم: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وهو أقوى الاستعاذات.

وكون النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ أحياناً بقوله: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه) يدل على الجواز، وما دلّ على الجواز ليس كما أُمِر به، فإن اختيار الله له يدل على الفضل.

والاستعاذة أدب من آداب التلاوة ينبغي لمن تلا كتاب الله أن يستفتح بها، قالوا: لأن الإنسان يُعصم بإذن الله عز وجل من دخول الدخل من الشيطان الرجيم في قراءته، فينال بركة القراءة وخيرها وحظها، ولذلك تجده أكمل الناس تدبراً ووعياً وفهماً، فإنه حينما يلتجئ ويحتمي بالله عز وجل من الشيطان أن يدخل بينه وبين قراءته فإنه يأمن الفتنة، وتكون قراءته على أتم الوجوه وأفضلها وأحسنها، فشرع الله لعباده أن يفتتحوا بهذه الاستعاذة، وهذه الاستعاذة تعتبر أصلاً في القراءة كما ذكرنا، وتكون مع البسملة والابتداء بأول السورة على أربعة أوجه:

الوجه الأول: تقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين)، وهذا الوجه يسميه العلماء وجه الوصل، فتصل الجميع.

الوجه الثاني: تقطع فتقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) ، (بسم الله الرحمن الرحيم) ، (الحمد لله رب العالمين)، فتقطع الأول عن الثاني، والثاني عن الثالث.

الوجه الثالث: أن تجمع بين الأول والثاني وتفصل الثالث عنهما، فتقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم)، (الحمد لله رب العالمين).

الوجه الرابع: أن تقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) ، (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين).

وأما البسملة بين السورتين ففيها أربعة أوجه، وأحدها لا يجوز:

الوجه الأول: أن يقول مثلاً: " إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3] بسم الله الرحمن الرحيم قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] " وهذا وجه الوصل، فيصل الجميع.

الوجه الثاني: " إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3] ، بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] " فيقطع الأول عن الثاني، والثاني عن الثالث.

الوجه الثالث: أن يقطع آخر السورة، ويقول: " إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3] " ثم يسكت، ويبتدئ ويقول: " بسم الله الرحمن الرحيم قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] " .

الوجه الرابع: ولا يصح هذا الوجه، وهو أن يصل قوله تعالى: " إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3] ببسم الله الرحمن الرحيم " ثم يقطع ثم يقول: " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] " ؛ لأنه يوهم أن البسملة لآخر السور، وإنما شرعت البسملة لأوائل السور.

قال رحمه الله تعالى: [ثم يبسمل سراً وليست من الفاتحة].

أي يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فـ(البسملة) اختصار لها، كالحوقلة والحسبلة اختصاراً لما ذُكِر من الأذكار.

والبسملة شرعت للفصل بين السور، ومذهب طائفة من العلماء وجوبها إلا فيما بين براءة والأنفال، فإنه لا يفصل بينهما بالبسملة، ولذلك قالوا:

بسمل وجوباً عند كل السور عدا براءةٍ وذاك في الأشهر

أي: على أقوى قول العلماء رحمةُ الله عليهم، فالأشهر يعني الأقوى والأرجح.

فالبسملة مشروعة لابتداء السور، فيقول: بسم الله الرحمن الرحيم.

وقوله: (سراً) على مذهب الجمهور.

والشافعية رحمة الله عليهم يقولون بالبسملة جهراً.

وكلا الفريقين يحتج بحديث أنس : (صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان كلهم كانوا يستفتحون القراءة: ببسم الله الرحمن الرحيم الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]) ، والرواية الثانية: (كلهم يستفتحون القراءة: بـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]) .

وجمع العلماء بين الروايتين عن أنس بأن نفيه للبسملة مراده الجهر، وإثباته لها مراده السر، أي: أنهم كانوا يقرؤون (بسم الله الرحمن الرحيم) سراً لا جهراً.

فإن كان الإنسان قد ترجح عنده القول بعدم الوجوب فإنه يسر، وهذه هي السنة في حقه، وإن ترجح عنده القول بوجوب البسملة وقرأها جهراً فلا حرج، ولا ينكر على أحد بسمل جهراً، ولذلك اختار بعض العلماء: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل هذا تارة ويفعل هذا تارة، كما يفهم من كلام بعض المحققين، ولذلك لا ينكر على من جهر بـ(بسم الله الرحمن الرحيم)، وهو قولٌ أئمة من السلف، ومعتدٌ بقولهم وخلافهم؛ لأن له وجهاً من سُنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله: [وليست من الفاتحة] هو مذهب الجمهور.

وعند الشافعية البسملة هي آية من الفاتحة، ولذلك يصلون قوله تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] فإن قلت: إنها آية وصلت اعتبرتها آية واحدة حتى تكمل سبعاً؛ لأن سورة الفاتحة سبع آيات كما قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي [الحجر:87] قيل: إنها الفاتحة، وعلى هذا الوجه قالوا: إن آياتها سبع، وبناءً على ذلك يقولون: إذا قرأ البسملة فإنه يصل الآية الأخيرة ولا يحسبها آيتين، ولا يقف عند قوله: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، أما إذا كان يرى أنها ليست من الفاتحة فإنه يعتبر هذا موقفاً له وآية.

وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة

قال رحمه الله تعالى: [ثم يقرأ الفاتحة].

لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها، وقال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أيما صلاةٍ لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج، فهي خداج)، وسميت فاتحة لأن الله افتتح بها كتابه، وتشرف الكتب بما تفتتح به، ولذلك كانت أفضل سورةٍ في كتاب الله عز وجل، فأفضل آيةٍ آيةٌ الكرسي، وأفضل سورةٌ سورة الفاتحة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام فيها: (هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته) فهذا يدلّ على شرفها، ولذلك قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87]، فعطف العام على الخاص، وعطف الخاص على العام والعام على الخاص يدلّ على شرف الخاص وفضله، كما قال تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا [القدر:4]، فإن اختصاصه بالذكر يدل على ثبوت شرفه وعلوه عن غيره، فلذلك قالوا: الفاتحة هي أفضل ما في القرآن من سور.

حكم قطع الفاتحة بذكر أو سكوت طويل

قال رحمه الله تعالى: [فإن قطعها بذكر أو سكوت غير مشروعين وطال، أو ترك منها تشديدة أو حرفاً أو ترتيباً لزم غير مأموم إعادتها].

قوله: [فإن قطعها بذكر أو سكوت غير مشروعين وطال].

أما الذكر فمثاله: لو أن إنساناً قرأ وقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:2-3] فقطع بين الآية الثانية والآية الثالثة بذكرٍ غير مشروع في هذا الموضع، كما لو قال: (حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم)، فهذا ذكر، لكنه غير مشروع في هذا الموضع، لكن لو قطعها بسؤال رحمته أو استعاذة من عذابه فإنه مشروع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه كما في حديث ابن مسعود أنه : (ما مر بآية رحمة في قيام الليل إلا سأل الله من فضله، ولا مرّ بآية عذابٍ إلا استعاذ بالله عز وجل)، فلو أنه قطع بينهما بذكرٍ مشروع لا يؤثر، وإن قطع بذكر غير مشروع أثر.

فلو قال الحسبلة بين الآية الثالثة والرابعة أو الرابعة والخامسة يبتدئ من جديد قراءة الفاتحة؛ لأن هذه الحسبلة ليست من كتاب الله عز وجل، ولا يشرع ذكرُها في هذا الموضع الذي ذكر، فكأنه تكلم بكلامٍ خارجي، وخرج عن كونه قارئاً، وقارئ الفاتحة لا بد أن يتمها، فإن فصل بين آياتها بالذكر الخارجي فإنه لم يتمها، فيلزمه أن يبتدئ قراءتها من أولها، وقال بعض العلماء: يبتدئ من حيث فصل، فيقرأ الآية الأخيرة التي وقع عند الفصل ثم يتم ما بعدها والأول أحوط.

وأما السكوت فهو السكوت الفاحش، وهو السكوت الطويل، كما لو قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، ثم سكت وطال سكوته، فإنه حينئذٍ يستأنف؛ لأنه لا يشرع السكوت هنا إذا كان متفاحشاً.

أما لو سكت للفصل بين الآيات فهذه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يقرأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4]، فكانت قراءته عليه الصلاة والسلام مفصّلة مرتلة صلوات الله وسلامه عليه.

حكم ترك بعض الحروف والتشديدات في الفاتحة

قوله: [أو ترك منها تشديدة].

في الفاتحة إحدى عشرة تشديدة: (الله)، (ربِّ)، (الرَّحمن)، (الرَّحيم)، (الدِّين)، (إيَّاك)، (وإيَّاك)، (الصِّراط)، (الَّذين)، (الضَّالِّين وفيها تشديدتان)، فهذه إحدى عشرة تشديدة، فإذا ترك منها تشديدة واحدة يستأنف؛ لأن الحرف المشدد يشتمل على حرفين، فـ(ربّ) تشتمل على بائين مدغمتين في بعضهما كأنهما حرفٌ واحد، وهي ولكن حقيقتهما أنهما حرفان، فإذا خفف وترك التشديد كأنه أسقط حرفاً من الفاتحة، ولم يقرأ الفاتحة كما أمرهُ الله، وإنما يعتد بقراءةٍ وقعت على السورة التي أمر الله عز وجل بها، فإن صلى الإمام وكان من هذا الجنس الذي يترك التشديد، أو يُخِلّ بالألفاظ إخلالاً يخرجها عن المعنى، كأن يضم التاء من: (أنعمتَ)، أو يكسرها: (أنعمتِ)، فإنه حينئذٍ لا تصح الصلاة وراءه، فالذي يلحن لحناً يحيل المعنى في الفاتحة فإن صلاته باطلة إذا لم يكن معذوراً، أما إذا كان معذوراً فإنه تصح صلاته لنفسه ولمن هو مثله أو دونه.

ومن ذلك أيضاً الأمي الذي يلحن في الفاتحة لحناً يحيل المعنى، كما لو قال: (أَهدِنا)، فإنه غير قوله: (اهْدِنَا)، وكذلك إذا ضم التاء أو كسرها في قوله تعالى: (أنعمتَ)، فإنه حين يقول: (أنعمتُ) أحال المعنى، فكأنه هو المنعم، وكذلك الحال إذا كسر فإنه خطاب للأنثى، وليس ذلك بصائغٍ لله عز وجل.

فالمقصود أن أي إخلال في الفاتحة يُذهِبُ به الحرف أو يخل به المعنى فقراءته غير معتبرة، وإن كان على سبيل السهو فحينئذٍ يرجع ويعيد القراءة؛ لأنها ركن في الصلاة ويتدارك، وإلا صحت صلاته إذا كان معذوراً كالأمي وحديث العهد بالإسلام الذي لا يمكنه، فإذا غلط في أول مرة يتسامح له، ويصلّي على حالته لنفسه، ثم إذا وسعه الوقت للتعلم فإنه يأثم.

قوله: [أو حرفاً].

وهكذا لو ترك حرفاً، كما لو قرأ: (الصراط) بتخفيف الصاد، فإنه ترك حرفاً، أو ترك الحرف بالكلية فقال: (أنعم) بدل (أنعمتَ)، فإنه تبطل قراءته، ويلزمه أن يأتي بالفاتحة على الوجه المعتبر.

قوله: [أو ترتيباً].

أي: لم يرتب آياتها، فذكر آيةً قبل آية، فإنه لا يعتد بقراءته، ويلزمه أن يستأنف.

وقوله: [لزم غير مأمومٍ إعادتها].

أي أن الإمام يلزمه أن يعيد، وإذا أعاد أجزأ ذلك المأموم، ولذلك قال: [غير مأموم]، وهذا على القول أن الإمام يحمل الفاتحة عن المأموم، وإن كان الصحيح أن الإمام لا يحمل الفاتحة عن المأموم، وبناءً على ذلك فإنه قال على الوجه الذي يرى أن الإمام يحمل عن المأموم، فقال: (لزم غير مأمومٍ إعادتها)، فيلزم المنفرد والإمام أن يعيد القراءة إذا حصل واحدٌ من هذه الإخلالات التي ذكرناها، فإذا ترك حرفاً، أو تشديدةً أو لحن لحناً يخل بالمعنى، فإنه يستأنف.

قول (آمين) والجهر بها للإمام والمأموم

قال رحمه الله تعالى: [ويجهر الكل بآمين في الجهرية].

التأمين معناه: (اللهم استجب)، فقولك: (آمين) أي: اللهم استجب، وقد شُرِع التأمين جهرةً لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به، ولذلك قال: (إذا أمّن الإمام فأمنوا)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أمّن) أي: بلغ موضع التأمين، وليس المراد أنه إذا أمَّن وقال لفظ التأمين؛ لأن هذا معروف في لغة العرب، إذ يصفون الإنسان بالشيء عند مقاربته له، فيقال: أصبح، أي: كاد أن يصبح، ومنه قوله: أصبحت أصبحت، أي: كدت أن تصبح، فقوله عليه الصلاة والسلام: (أمّن) أي: قارب التأمين ووقف عليه، فحينئذٍ: (إذا أمَّن فأمنوا)، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (فإذا قال: (ولا الضالين) فقولوا: (آمين) فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفِر له ما تقدم من ذنبه)، وثبت في الحديث تفصيل ذلك بأن الملائكة تقول في السماء: آمين، ويقول العبد: آمين، فإذا وافق تأمين العبد تأمين الملائكة غُفِر له ما تقدم من ذنبه، وهذا يدل على أنه يجهر، لقوله: (قولوا)، والقول إنما هو اللفظ، وليس الكلام النفسي؛ فإن الكلام النفسي لا يسمّى قولاً، على ما هو معروف من مذهب أهل السنة والجماعة من أن الكلام إنما هو باللفظ وليس في النفس.

كذلك أيضاً ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان وأصحابه إذا أمَّن رفع صوته حتى ترتج أعواد المسجد، أو يرتج المسجد من تأمينه عليه الصلاة والسلام وتأمين الصحابة معه، ولذلك حسدت اليهود المسلمين على هذا التأمين.

فالسنة أن يرفع الصوت، وقال بعض العلماء: يرفع الصوت ولا يبالغ في الرفع إلى درجة الإزعاج، ولا يخافت، ولكن يرفع بقدر وسط.

قراءة سورة بعد الفاتحة

قال رحمه الله تعالى: [ثم يقرأ بعدها سورة].

وهذا من هديه صلوات الله وسلامه عليه، والسورة قيل: مأخوذة من السور لارتفاعه، فقيل: سميت سورةً لارتفاعها وعلو شأنها، وقيل: لأن المكلف بقراءته لها يرتفع درجة، فيكون بحالٍ أحسن من حاله قبل قراءتها بفضل التلاوة، وقيل: من السور، بمعنى الإحاطة، وكل هذه أوجه.

فقوله: [يقرأ بعدها سورة] أي: من كتاب الله عز وجل، ولا حرج عليك أن تقرأ سورةً كاملة، أو تقرأ بعض السورة، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ السور كاملةً، وجزّأ السورة في الركعة الأولى والثانية كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة، ففي فريضة الفجر قرأ: قُولُوا آمَنَّا .. [البقرة:136]، و: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ [آل عمران:64]، فالأولى من البقرة والثانية من آل عمران، هذه آية وهذه آية، وكذلك ثبت عنه قراءته بآخر سورة البقرة صلوات الله وسلامه عليه.

وكذلك أيضاً ثبت عنه في الحديث الصحيح قراءة السور كاملة، كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في أكثر من حديث أنه قرأ في الصلوات الخمس السورة في الركعتين، في الفجر كما سيأتي إن شاء الله، وفي الظهر، وفي العصر، وفي المغرب، وفي العشاء، قرأ السورة كاملة، ويجوز للإنسان أن يجمع بين السورتين أيضاً ولا يقتصر على سورةٍ واحدة، فقد ثبت في الحديث أن رجلاً كان يقرأ ثم يختم بـ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] في كل ركعة، فشكوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما حملك على هذا؟ - أي: ما حملك على أن تجمع بين السورة وسورة الإخلاص- قال: إني أحبها قال: حبك لها أدخلك الجنة)، فهذا يدل على جواز أن يقرن بين السور، وقد قال ابن مسعود : (إني لأعرف السور التي كان يقرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها).

فعلى العموم لا حرج أن تقرأ أكثر من سورة، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه استفتح قيام الليل، فقرأ سورة البقرة والنساء والمائدة -كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه - ولم يقرأ آل عمران) قيل: هذا قبل الترتيب في العرضة الأخيرة.

فالمقصود أن هذا كله من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن شئت قرأت سورةً كاملة، وإن شئت قرأت بعض السورة، وإن شئت قرأت نصف السورة في الركعة الأولى أو أكثرها، وفي الركعة الثانية أتممت، فكل هذا من هديه عليه الصلاة والسلام.


استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3705 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3620 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3441 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3374 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3339 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3320 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3273 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3228 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3186 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3169 استماع