خطب ومحاضرات
سلسلة تفسير سورة النور [3]
الحلقة مفرغة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ . وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ [النور:4-10].
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين.
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته والتابعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
يقول الله تبارك وتعالى بعد أَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4]: هذه الآية الكريمة اشتملت على جملة من الأحكام الشرعية والكلام عليها ينحصر في ثلاثة مواضع:
الموضع الأول: في بيان سبب نزولها.
والموضع الثاني: في بيان مفرداتها.
والموضع الثالث: في بيان أحكامها ومسائلها.
سبب نزول الآية
ومِن العلماء مَن قال: إن هذه الآية الكريمة أنزلها الله -تبارك وتعالى- على العموم، وأراد أن يقرر بها صيانة أعراض المسلمين، حتى لا يستطيل المسلم على عرض أخيه، فأدّب الألسن لئلا تسترسل في أعراض الناس بالتهم والظن الذي لا أصل له.
معاني الرمي
الرمي الحسي: كرمي الحجر وهو قذفه، ومنه قوله تبارك وتعالى: تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ [الفيل:4].
والرمي المعنوي: وهو السب والنقيصة والتهمة بالسوء والعياذ بالله، فيقال: رمى الرجلُ الرجلَ إذا اتهمه بالسوء والعياذ بالله وانتقصه في عرضه، فالرمي بهذا المعنى يستعمل فيما يُسْتَبْشَع والعياذ بالله من الألفاظ الخبيثة، ومنه قول الشاعر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئاً ومن أجل الطوي رماني
أي: رماني بتهمة سوء قد كنتُ منها ووالدي بريئين، فمعنى الرمي انتقاص الشخص الذي يُتَّهم.
يقول الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ) أي: يقذفون، والمراد بهذه الآية اشتراط شيءٍ معين، وهو أن يحصل لفظ معين من الإنسان، وهذا اللفظ يتضمن تهمة الإنسان بالزنا والعياذ بالله، سواءً كان المتهم رجلاً أو كان امرأة، صالحاً كان أو فاسداً ما دام أنه من المسلمين.
الأقوال في معنى المحصنات والإحصان
القول الأول: المراد بالمحصنات: العفيفات.
والقول الثاني: المراد بذلك: الفروج المحصنة.
والقول الثالث: الأنفس المحصنة.
والقول الرابع: أن الآية جاءت للمغايرة، فذكر الله فيها قذف الأجنبية حتى يُرَكِّبَ عليها قذف الزوج لزوجته، كما سيأتي بيانه وبيان أحكامه ومسائله إن شاء الله.
والإحصان في اللغة معناه: المنع، ومنه الحصن؛ لأنه يمنع الإنسان الذي بداخله من أن يصله السوء من خارجه، ومنه قوله تبارك وتعالى: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ [الأنبياء:80]، أي: لتقيكم ضربات السيف والقنا، فقوله: (لتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) أي: تحفظكم من أذى الحروب.
فالشاهد: استعمال الإحصان بمعنى المنع.
يقول العلماء: سُمِّيت المرأةُ العفيفةُ محصنةً؛ لأنها تمتنع عن الأمور التي لا تليق بها من الفاحشة وما في حكمها.
فقوله -تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) المراد به: العفيفات، والمرأة المحصنة هي المرأة العفيفة الحافظة لعرضها، ومن ذلك قول حسان بن ثابت يمدح أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعنه:
حصان رزان ما تُزَنُّ بريبةٍ وتصبح غرثى مِن لحوم الغوافلِ
(حصان) أي: عفيفة.
فالمرأة المحصنة هي العفيفة، وُصفت بذلك لأنها أحصنت فرجها، فحفظته مِن أن يُتَوَصَّل إليه بغير طريق شرعي معتبر.
يقول الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ)، والسؤال: كيف يتحقق رمي المحصنات؟
رمي المحصنات يفتقر إلى لفظ مخصوص، وسيأتي إن شاء الله بيانُ الألفاظ التي إذا خاطب بها الإنسانُ غيرَه والعياذ بالله كان قاذفاً متوَعَّداً بالوعيد الذي اشتملت عليه هذه الآية الكريمة.
يقول الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) ليس المراد من هذه الجملة أن الوعيد والعذاب مختص بمن قذف النساء، بل إن الحكم عام، فكل من قذف مسلماً أيَّاً كان رجلاً أو امرأة فإن الله تبارك وتعالى توعده بما جاء في الآية.
أما سبب نزول هذه الآية فذهب سعيد بن جبير رحمه الله إلى أنها نزلت في قَذَفَة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فبيَّن الله -تبارك وتعالى- وجوب الحد عليهم، وأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقيم عليهم حد القذف -والعياذ بالله-.
ومِن العلماء مَن قال: إن هذه الآية الكريمة أنزلها الله -تبارك وتعالى- على العموم، وأراد أن يقرر بها صيانة أعراض المسلمين، حتى لا يستطيل المسلم على عرض أخيه، فأدّب الألسن لئلا تسترسل في أعراض الناس بالتهم والظن الذي لا أصل له.
يقول الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) الرمي في لغة العرب يطلق على معنيين:
الرمي الحسي: كرمي الحجر وهو قذفه، ومنه قوله تبارك وتعالى: تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ [الفيل:4].
والرمي المعنوي: وهو السب والنقيصة والتهمة بالسوء والعياذ بالله، فيقال: رمى الرجلُ الرجلَ إذا اتهمه بالسوء والعياذ بالله وانتقصه في عرضه، فالرمي بهذا المعنى يستعمل فيما يُسْتَبْشَع والعياذ بالله من الألفاظ الخبيثة، ومنه قول الشاعر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئاً ومن أجل الطوي رماني
أي: رماني بتهمة سوء قد كنتُ منها ووالدي بريئين، فمعنى الرمي انتقاص الشخص الذي يُتَّهم.
يقول الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ) أي: يقذفون، والمراد بهذه الآية اشتراط شيءٍ معين، وهو أن يحصل لفظ معين من الإنسان، وهذا اللفظ يتضمن تهمة الإنسان بالزنا والعياذ بالله، سواءً كان المتهم رجلاً أو كان امرأة، صالحاً كان أو فاسداً ما دام أنه من المسلمين.
وقوله سبحانه وتعالى: (الْمُحْصَنَاتِ) قيد، والمحصنات جمع محصنة، وللعلماء في معناها أربعة أقوال:
القول الأول: المراد بالمحصنات: العفيفات.
والقول الثاني: المراد بذلك: الفروج المحصنة.
والقول الثالث: الأنفس المحصنة.
والقول الرابع: أن الآية جاءت للمغايرة، فذكر الله فيها قذف الأجنبية حتى يُرَكِّبَ عليها قذف الزوج لزوجته، كما سيأتي بيانه وبيان أحكامه ومسائله إن شاء الله.
والإحصان في اللغة معناه: المنع، ومنه الحصن؛ لأنه يمنع الإنسان الذي بداخله من أن يصله السوء من خارجه، ومنه قوله تبارك وتعالى: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ [الأنبياء:80]، أي: لتقيكم ضربات السيف والقنا، فقوله: (لتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) أي: تحفظكم من أذى الحروب.
فالشاهد: استعمال الإحصان بمعنى المنع.
يقول العلماء: سُمِّيت المرأةُ العفيفةُ محصنةً؛ لأنها تمتنع عن الأمور التي لا تليق بها من الفاحشة وما في حكمها.
فقوله -تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) المراد به: العفيفات، والمرأة المحصنة هي المرأة العفيفة الحافظة لعرضها، ومن ذلك قول حسان بن ثابت يمدح أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعنه:
حصان رزان ما تُزَنُّ بريبةٍ وتصبح غرثى مِن لحوم الغوافلِ
(حصان) أي: عفيفة.
فالمرأة المحصنة هي العفيفة، وُصفت بذلك لأنها أحصنت فرجها، فحفظته مِن أن يُتَوَصَّل إليه بغير طريق شرعي معتبر.
يقول الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ)، والسؤال: كيف يتحقق رمي المحصنات؟
رمي المحصنات يفتقر إلى لفظ مخصوص، وسيأتي إن شاء الله بيانُ الألفاظ التي إذا خاطب بها الإنسانُ غيرَه والعياذ بالله كان قاذفاً متوَعَّداً بالوعيد الذي اشتملت عليه هذه الآية الكريمة.
يقول الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) ليس المراد من هذه الجملة أن الوعيد والعذاب مختص بمن قذف النساء، بل إن الحكم عام، فكل من قذف مسلماً أيَّاً كان رجلاً أو امرأة فإن الله تبارك وتعالى توعده بما جاء في الآية.
يقول الله تعالى: (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) هذه هي الجملة الثانية:
وهي على أمرين:
الأمر الأول: أن الزنا يثبت بشهادة أربعة شهود ذكور عدول، وذلك يدل على أنه إذا وُجِد هذا الشرط، وهو اكتمال البينة بأربعة شهود ثبت الزنا.
وقوله تعالى: (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) يدل على الأمر الثاني وهو: أن حد القذف لا يثبت إلا إذا لم يُقِم الإنسان بينة كاملة، وهي أربعة شهود، ولو أن إنساناً قذف غيره فقال له والعياذ بالله: يا زانٍ، أو قال لامرأة: يا زانية، ولم يُقِم إلا ثلاثة شهود، فإنه يجب أن يجلد الحد، وأن يجلد بقية الشهود أيضاً الحد، وفي هذا دليل على صيانة الله عزَّ وجلَّ لأعراض المسلمين.
فانظر رحمك الله! إلى هذه الآية الكريمة؛ يخاطب الله عزَّ وجلَّ بها خير الأمة وأفضلها بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهم أصحابه الكرام الفضلاء الأعلام.
يقول تعالى: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ [النور:4]، فلو أن ثلاثة من الصحابة شهدوا ولم يكتمل النصاب -أربعة- لوجب إقامة الحد عليهم جميعاً على المدعي والشهود الذين معه؛ لأنهم قَذَفَةٌ، كما فعل ذلك عمر رضي الله عنه بمن قذف المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأرضاه.
وقوله تعالى: (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) أي لم يحضروا أربعة شهداء، والمراد بهم الذكور، وأما الإناث فإن شهادتهن في الحدود فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله كما سيأتي إن شاء الله!
وقوله تعالى: فَاجْلِدُوهُمْ [النور:4]: هذه هي الجملة الثالثة، تدل على أنه إذا تحقق الأمران:
الأمر الأول: وهو قذف الإنسان لغيره وذلك باتهامه بالزنا رجلاً كان أو امرأة.
والأمر الثاني: أنه لا بينة عنده، ولم يقر المقذوف بأنه زان، فحينئذ يقول الله تعالى مبيِّناً العقوبة المترتبة على هذا الأمر:
العقوبة الأولى: أشار إليها بقوله: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4].
والعقوبة الثانية: أشار إليها بقوله: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً [النور:4].
والعقوبة الثالثة: أشار إليها بقوله سبحانه: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4]، أي: فَسَقَةٌ -والعياذ بالله- خارجون عن طاعة الله ومحبة الله.
فهذه ثلاث عقوبات لمن قذف أخاه المسلم، أو قذف أخته المسلمة بدون بينة.
المسألة الأولى: بم يتحقق القذف؟
يتحقق القذف باللفظ الصريح الدال عليه، وذلك بأن يتهم الإنسانُ غيرَه رجلاً كان أو امرأةً من المسلمين بالزنا، فيقول له -والعياذ بالله-: يا زانٍ، أو يقول للمرأة: يا زانية، أو يتهم أبا المقذوف، فيقول له: يا ابن الزاني، أو يتهم أم المقذوف -والعياذ بالله- فيقول: يا ابن الزانية، فهذا لفظ صريح يدل على التهمة بالزنا، أو يتهمه بفاحشة في حكم الزنا على خلاف بين العلماء، كأن يقول له: يا لوطي، أو يا ابن اللوطي والعياذ بالله.
فكل هذه الألفاظ توجب ثبوت القذف أي: التهمة، وتعتبر من الألفاظ الدالة على ثبوت لفظ القذف، أي: الألفاظ الصريحة.
اللفظ غير الصريح
اختلاف العلماء في القذف بالتعريض
القول الأول: مذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة رحمة الله على الجميع أن من قذف أخاه تعريضاً أنه لا يجب عليه حد القذف وإنما يعزر.
القول الثاني: من قذف أخاه تعريضاً فإنه يجب أن يُحَدَّ حد القذف، كالحال فيمن قذف تصريحاً، وهذا هو مذهب الإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله على الجميع، يقول الإمام مالك والإمام أحمد في رواية: مَن قال لأخيه: لست بابن زنا، أو ما أنا بابن الزنا، ونحو ذلك من الألفاظ التي يُفْهَم منها أنه يتهم صاحبه، فإنه يُعْتَبَر قاذفاً والعياذ بالله.
واستدل الجمهور بما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن رجلاً قال له: (يا رسول الله! إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: هل لك من إبل؟ ...) الحديث، وجه الدلالة أن الرجل اتهم امرأته تعريضاً ولم يصرح، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر بإقامة الحد عليه، وقال أصحاب هذا القول: إن في اللفظ احتمالاً، وبناءً على ذلك فالأصل براءة المتكلم، حتى تثبت إدانته وتهمته على وجه لاشك فيه ولا مرية.
أما أصحاب القول الثاني فاحتجوا بأدلة، أقواها: قول الله تبارك وتعالى في بني إسرائيل: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً [النساء:156]، فإن بني إسرائيل لم يقولوا لـمريم: أنت زانيةٌ صراحةً وإنما قالوا: لها ما ذكر الله: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيَّاً [مريم:28]، فلم يقولوا لها: أنت زانية، وإنما قالوا لها: مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيَّاً [مريم:28]، كأنهم يقولون لها: أنت واقعة في ذلك، أي في الزنا، والله يقول: وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً [النساء:156]، فأثبت أنهم متَّهِمون لها من هذا الوجه، فدل على أن التعريض يأخذ حكم التصريح.
وأصح الأقوال -والعلم عند الله-: أن القذف تعريضاً لا يأخذ الحكم بالقذف تصريحاً، وأنه في هذه الحالة ينبغي زجر المتكلم، والنظر إلى بساط المجلس، فإن كان بساطُ المجلس فيه خصومة أو فيه عداوة يُفهم منها أنه يريد السوء؛ فإنه يُؤدَّب ويُعزَّر، ولا يقام عليه حد القذف، وإنما يعزر بما دون حد القذف، كما أشار إلى ذلك جمهور العلماء رحمهم الله.
هناك نوع ثانٍ من الألفاظ: وهي الألفاظ المحتَمِلة التي يُقْذَف بها تعريضاً، ولا يُقْذَف بها تصريحاً، مثال ذلك: أن يقول الرجل للرجل -في حال الخصومة وفي حال المنازعة- إني لستُ بابن زانٍ، أو لستُ أنا بزانٍ، أو لستُ مِن أهل الزنا، كأنه يقول له: أنت من أهل الزنا، فهذا يسميه العلماء: القذف بالتعريض، أي: أنه لم يباشره بلفظ يدل صراحة، وإنما أعطاه لفظاً يحتمل المعنى الذي هو ظاهره، ويحتمل المعنى الآخر.
إن للعلماء في القذف بالتعريض قولين:
القول الأول: مذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة رحمة الله على الجميع أن من قذف أخاه تعريضاً أنه لا يجب عليه حد القذف وإنما يعزر.
القول الثاني: من قذف أخاه تعريضاً فإنه يجب أن يُحَدَّ حد القذف، كالحال فيمن قذف تصريحاً، وهذا هو مذهب الإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله على الجميع، يقول الإمام مالك والإمام أحمد في رواية: مَن قال لأخيه: لست بابن زنا، أو ما أنا بابن الزنا، ونحو ذلك من الألفاظ التي يُفْهَم منها أنه يتهم صاحبه، فإنه يُعْتَبَر قاذفاً والعياذ بالله.
واستدل الجمهور بما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن رجلاً قال له: (يا رسول الله! إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: هل لك من إبل؟ ...) الحديث، وجه الدلالة أن الرجل اتهم امرأته تعريضاً ولم يصرح، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر بإقامة الحد عليه، وقال أصحاب هذا القول: إن في اللفظ احتمالاً، وبناءً على ذلك فالأصل براءة المتكلم، حتى تثبت إدانته وتهمته على وجه لاشك فيه ولا مرية.
أما أصحاب القول الثاني فاحتجوا بأدلة، أقواها: قول الله تبارك وتعالى في بني إسرائيل: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً [النساء:156]، فإن بني إسرائيل لم يقولوا لـمريم: أنت زانيةٌ صراحةً وإنما قالوا: لها ما ذكر الله: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيَّاً [مريم:28]، فلم يقولوا لها: أنت زانية، وإنما قالوا لها: مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيَّاً [مريم:28]، كأنهم يقولون لها: أنت واقعة في ذلك، أي في الزنا، والله يقول: وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً [النساء:156]، فأثبت أنهم متَّهِمون لها من هذا الوجه، فدل على أن التعريض يأخذ حكم التصريح.
وأصح الأقوال -والعلم عند الله-: أن القذف تعريضاً لا يأخذ الحكم بالقذف تصريحاً، وأنه في هذه الحالة ينبغي زجر المتكلم، والنظر إلى بساط المجلس، فإن كان بساطُ المجلس فيه خصومة أو فيه عداوة يُفهم منها أنه يريد السوء؛ فإنه يُؤدَّب ويُعزَّر، ولا يقام عليه حد القذف، وإنما يعزر بما دون حد القذف، كما أشار إلى ذلك جمهور العلماء رحمهم الله.
المسألة الثانية: بعد أن عرفنا بما يثبت القذف، فما حكم القذف؟
أجمع العلماء رحمهم الله على أنه يحرم على المسلم أن يتهم غيره بالزنا من المسلمين، سواءً كان ذكراً أو كان أنثى، وأجمع العلماء رحمهم الله على أن قذف المحصنات الغافلات المؤمنات يعتبر من كبائر الذنوب -والعياذ بالله- الموجبة لسخط الله عز وجل وغضبه.
ولذلك توعد الله عزَّ وجلَّ مَن فَعَلَ ذلك باللعنة في الدنيا والآخرة، والعذاب العظيم في الآخرة، والفضيحة على رءوس الأشهاد -والعياذ بالله- يوم يقوم الأولون والآخرون، فيقيمهم الله عز وجل، فتشهد الألسن التي تكلمت بأنها افترت على عباد الله، وكذبت على عباد الله، ويكون في ذلك جمع بين عقوبة المعنى وعقوبة الحس والعياذ بالله، كما آذى إخوانه المؤمنين بسبهم وتهمتهم في أعراضهم توعده الله عز وجل بشديد العذاب وعظيم النكال.
الطعن في أعراض المسلمين
ولذلك بيَّن العلماء رحمهم الله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نَزَّل العرض منزلة الدم، فجمع بين حرمة العرض وحرمة الدم، وذلك في أعظم مشهد وأعظم جمع جُمع له في عهده صلوات الله وسلامه عليه، فقد قام في أصحابه في مقامٍ لم يجمع له مثله لا من قبل ولا من بعد، يوم حجة الوداع، حيث أخبر بعض الصحابة أن الجمع بلغ مائة ألف من الصحابة، كلهم حضروا مع النبي صلوات الله وسلامه عليه، فلما أراد أن يقرر الأحكام وأن يبين الشريعة قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)، فدل على أن العرض ومنه: سب الإنسان وتهمته بالزنا يعتبر من المحارم المعظَّمة عند الله عز وجل، كحرمة يوم عرفة في الشهر الحرام في البلد الحرام، كل ذلك تعظيماً من الله لأعراض المسلمين.
فدل على أنه ينبغي للمسلم أن يصون لسانه من الوقيعة في عرض أخيه المسلم، بل قال العلماء: لو أن شخصاً رأى رجلاً أو امرأة فظن بهما ظن السَّوء ولم يتحقق فعلهما للسُّوء، فإنه يعتبر مرتكباً للجريمة -والعياذ بالله- على قدر ظنه، ويلقى الله -والعياذ بالله- بإثمهما، كما بين الله تبارك وتعالى ذلك بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12]، فأخبر أن بعض الظن إثم وجريمة في حق الناس.
ولذلك نبه العلماء رحمهم الله -عند الكلام على أدب اللسان- على ما ينبغي أن يكون عليه المسلم، من عدم التكلم في حق أخيه إلا ببينة وعلم، كما أشار الله تبارك وتعالى إلى ذلك بقوله: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا [يوسف:81]، ولو كان الإنسان مازحاً فقال لأخيه: يا ابن الزانية أو يا ابن الزاني؛ لكان -والعياذ بالله- قاذفاً، ويلحقه الوعيد الذي أخبر الله عز وجل عنه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، في الحديث الذي تقدمت الإشارة إليه في قوله: (اجتنبوا السبع الموبقات) قال بعض العلماء (الموبقات) أي: المهلكات والعياذ بالله، أي: أنها تهلك العبد في دينه ودنياه وآخرته.
فالمقصود: أن القذف من كبائر الذنوب، وأنه ينبغي للمسلم أن يصون لسانه، وأن يصون سمعه عن سماع أي طعن في مسلم أو مسلمة بفاحشة.
استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
سلسلة تفسير سورة النور [6] | 2490 استماع |
سلسلة تفسير سورة النور [1] | 2471 استماع |
سلسلة تفسير سورة النور [2] | 2307 استماع |
سلسلة تفسير سورة النور [4] | 1932 استماع |
سلسلة تفسير سورة النور [5] | 992 استماع |