خطب ومحاضرات
سلسلة تفسير سورة النور [6]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين.
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته، والتابعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيقول الله تبارك وتعالى بعد أَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:21].
هذه الآية الكريمة اشتملت على ثلاثة أمور:
الأمر الأول: نهي الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين عن اتباع سبيل الشيطان الرجيم.
والأمر الثاني: بيان العاقبة التي ينتهي إليها كل من اتبع الشيطان في أوامره وسبُله.
وأما الأمر الثالث الذي اشتملت عليه الآية الكريمة: بيان أن الله تبارك وتعالى هو المتفضل على عباده، يرحم من يشاء بهدايته، ويزكي من يشاء بفضله، سبحانه وتعالى.
نهي الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين عن اتباع سبيل الشيطان
قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) (يا): حرف نداء، و(أيُّ): منادَى، و(الهاء): للتنبيه...
أي: يا من آمنتم بي، وآمنتم برسلي، وآمنتم بكتابي، ولقائي! لا تتبعوا خطوات الشيطان.
هذا النداء من الله تبارك وتعالى استفتحه بهذه الخصلة العظيمة التي تدل على شرف الإنسان وعلوِّ مكانته عند الله عز وجل وهي صفة الإيمان بالله تبارك وتعالى.
وفي استفتاح هذا النهي بهذا النداء تشويق لأهل الإيمان أن يلتزموا شرع الرحمن، أي: إن كنتم أهل إيمان وطاعة واتباع لي، ولسبيلي لا تكونوا متابعين للشيطان في أوامره التي يأمركم بها بالفحشاء والمنكر.
وهذا النداء يستفتح الله تبارك وتعالى به بعض أوامره، ويستفتح به نواهيه، قال بعض العلماء: إن الله تبارك وتعالى يستفتح أوامره ونواهيه بهذا النداء؛ لكي يشوق السامعين والقارئين للقرآن للعمل بما تضمنه ذلك النداء من الأمر، ولترك ما اشتمل عليه من النهي، ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (إذا سمعت الله عز وجل يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا) فأرعها سمعك، فإنما هو خير تؤمر به، أو شر تُنهى عنه).
ولذلك قال العلماء رحمهم الله: إن الله تبارك وتعالى يستفتح الآيات بهذا النداء الذي يتضمن أحد ثلاثة أمور:
- إما أمر بالمعروف.
- وإما نهيٌ عن المنكر.
- وإما أن يجمع بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فمن أمثلة أمره بالمعروف: أمره بتقواه فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ).
ومن أمثلة نهيه عن المنكر كما في هذه الآية الكريمة في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [النور:21].
فقد تضمنت هذه الآية الكريمة النهي عن اتباع سبيل الشيطان، بل إن النهي عن اتباع خطوات الشيطان هو النهي عن الشر والبلاء كله، فالشر كل الشر في متابعة الشيطان، والخير كل الخير في اتباع سبيل الرحمن، ولن تجد من العبد معصية انتهك بها حدود الله أو أصاب بها محارم الله تبارك وتعالى إلا وجدت الشيطان داعياً إليها محبِّباً إياها ومقرباً منها، ولذلك جمع الله تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة النهي عن أصل الشر كله والتحذير منه، فكل الشر في هذا الأمر، وهو اتباع خطوات الشيطان.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خص الله عز وجل أهل الإيمان في هذه السورة الكريمة ونهاهم عن اتباع سبيل الشيطان، وجاء في آية أخرى النهي لعموم الناس في قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168] فنهى الله تبارك وتعالى الناس عموماً والمؤمنين خصوصاً:
- فشمل النداء عموم الناس مؤمنهم وكافرهم حينما قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ).
- وخصَّ أفضل الناس وهم أهل طاعته، وأهل سبيل محبته، حينما ناداهم في هذه السورة فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).
وفي هذا النداء دليل على أن الإيمان يستلزم من الإنسان القولَ والعملَ الصالح، كما قرره أهل السنة والجماعة من أن الإيمان بالله عز وجل: (اعتقادٌ بالجَنان، وقولٌ باللسان، وعملٌ بالجوارح والأركان).
اعتقادٌ بالجَنان: فلابد أن يكون جَنان الإنسان أي: قلبه مؤمناً بالله تبارك وتعالى.
وقولٌ باللسان: وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وأما فعلُ الأركان والجوارح: فهو العمل بمقتضى هذه الشهادة، فتكون الأقوالُ والأفعالُ موزونةً بميزان الكتاب والسنة، لا يحيد المؤمن عن ذلك قيد شعرة، فإن حاد نقص إيمانه بقدر ما حاد، وإن ازداد من الخير والطاعة والاستقامة على منهج الله تبارك وتعالى كان أحظى الناس بالإيمان وأعلاهم مرتبةً في طاعة الرحمن.
يقول الله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) الخطوات: جمع خُطوة، وهي ما بين القدمين، ويقال: خَطوة، وهو مصدر.
(لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) للعلماء رحمهم الله في (خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) أقوال:
- فمِن أهل العلم مَن قال: إن قوله تبارك وتعالى: (خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ): المراد منه الخطايا التي يصيبها الإنسان باتباعه الشيطان؛ لأن الشيطان متمرد على طاعة ربه، بعيد عن محبة الله عز وجل وسبيل ولايته.
- ومِن أهل العلم مَن قال: إن قوله: (لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) أي: آثاره.
- ومِنهم مَن قال: (لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) المراد بها: نذور المعاصي التي كان عليها أهل الجاهلية في جاهليتهم؛ لأن الشيطان كان يدعوهم بها إلى انتهاك حدود الله، وغشيان محارم الله تبارك وتعالى.
- وهناك قولٌ اختاره بعض المفسرين -وهو قولٌ لطيف- يقول: إن قوله تبارك وتعالى: (لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) المراد بها: انتقال الشيطان من المعصية إلى المعصية، فهو يقود الإنسان إلى حدود الله شيئاً فشيئاً، ويحببه في معاصي الله خطوة خطوة، حتى يفضي به إلى أعظم الحدود وأكبر الكبائر وهو الشرك بالله والعياذ بالله.
- وهناك قولٌ أخيرٌ في هذه الآية الكريمة -وهو القول الخامس-: وأن المراد بقوله: (خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ): أي: الخطوة التي ينتقل بها من الحلال إلى الحرام.
فالمقصود: أن هذه هي أقوال العلماء في قوله تعالى: (لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ).
والذي عليه بعض المحققين: أن الآية شاملة لهذا كله، فما دام أن الجميع يصدُق عليه أنه خطوة للشيطان، فلا مانع أن الله تبارك وتعالى ينهانا عن جميع ذلك، والأصل أن اللفظ ما دام على عمومه أن يُحْمَل على ذلك العموم سواءً ورد في الكتاب أو ورد في السنة فيبقى لفظ الآية الكريمة في الدلالة على العموم حتى يرد النص الذي يدل على شيءٍ مخصوص بعينه.
ومن هنا يتبين لنا أن نهي الله تبارك وتعالى عن اتباع خطوات الشيطان المراد به النهي عن جميع ذلك كله، فالإنسان مطلوب منه أن يبتعد عن متابعة الشيطان سواءً دعاه إلى المعاصي أو نقله إليها خطوة خطوة، فينبغي للمؤمن كلما أحس في قلبه بوسوسة من الشيطان تدعوه إلى معصية الرحمن أن ينكفَّ وينـزجر ويطيع الله تبارك وتعالى إذ نهاه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم عن متابعة هذه الوساوس والخطرات، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (خط خطاً مستقيماً، ثم خط عن يمينة خطوطاً، وعن يساره خطوطاً فقال: هذا صراط الله، وهذه السبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه) فكل من أطاع داعي الشيطان إلى تلك السبل وأجابه إلى تلك المعاصي فقد خالف نهي الله تبارك وتعالى، واعتدى حدود الله عز وجل، وانتهك محارمه على قدر عظم ما أصاب من ذلك الذنب الذي أطاع الشيطانَ فيه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) قال بعض العلماء: إن الله عز وجل قد جمع في هذه الآية الكريمة النهي عن أساس الشر كله، وذلك في بعض سطر حينما قال: (لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) وهذا من إعجاز القرآن وحسن بيانه وعظيم شأنه، فإن الله تبارك وتعالى جعل هذا الكتاب المبين معجزاً بلفظه وبمعناه، فجمع الشر في هذا المقطع اليسير من الآية الكريمة.
وقوله تعالى: (خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ): نسبها إلى الشيطان؛ لأنه هو الداعي إليها والمحبِّب فيها، والشيطان على ضربين:
- شيطان إنس.
- وشيطان جن.
ولكن إذا أطلق الشيطان فالمراد به أساس الشر وهو إبليس، ويتبعه أعوانه الذين يسلطهم بإذن الله على بني آدم، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الشيطان عرشه على الماء، يبعث رسله إلى بني آدم فتنةً من الله وامتحاناً وابتلاءً واختباراً تدعو عباد الله إلى معاصي الله، وتحببهم في انتهاك حدود الله وغشيان محارمه، فالناس بين عبدين:
- عبد له مجيب، قد تردى في الدركات والعياذ بالله الموجبة لسخط رب الأرض والسماوات.
- عبد الله يتمرد على شيطانه، ويعتصم بالله تبارك وتعالى، ويلوذ به ويستعيذ به، فينقذه الله عز وجل من شرورهم، قال الله عز وجل: شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام:112].
فالمقصود: أن الله تبارك وتعالى نهانا في هذه الآية الكريمة عن اتباع سبيل الشيطان، سواءً كان ذلك الشيطان شيطان جن أو كان شيطان إنس.
عاقبة اتباع خطوات الشيطان
(فَإِنَّهُ) أي: الشيطان. (يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) وهي: جمع فاحشة، والفحشاء: المراد بها الفاحشة، وقد تطلق على القول الذي لا يحبه الله تبارك وتعالى، وقد تطلق على الفعل:
فمن إطلاقها على الفعل: قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً [الإسراء:32] فأخبر سبحانه وتعالى أن الزنا فاحشة مع أن الزنا فِعْل من الأفعال، فهذا من إطلاق لفظ: (الفاحشة) على الفعل.
ومن إطلاق الفاحشة على القول: قول عائشة رضي الله عنها: (إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً) صلوات الله وسلامه عليه، أي: ما كان ليقول أو يفعل ما لا خير فيه.
وقوله تعالى (وَالْمُنْكَرِ): المنكر ضد المعروف، وهو ما أنكره الله تبارك وتعالى في كتابه، وأنكره رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، والمنكر وُصِف بذلك لما فيه من النكارة وهي كل ما لا يحبه الله ويرضاه فإذا فعل العبد ما حرم الله عليه فإنه قد أصاب منكراً؛ لأنه من أعظم ما يكون جريمة أن يعصي العبد ربه، فبمعصيته لمن خلقه ورزقه، وأطعمه وكساه كان بذلك مرتكباً لأمرٍ منكر لا يحبه الله ولا يرضاه.
يقول الله تعالى: (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ) أي: الشيطان.
أما الفائدة الثانية: أن الآية فيها منهجٌ تربوي لمن أراد أن يعلِّم أو يربِّي غيره، ذلك أن الله تبارك وتعالى نهى العباد عن متابعة الشيطان، وذكر عاقبة مَن اتبع الشيطان، قال بعض العلماء: ذكر عاقبة من اتبع الشيطان أبلغ في زجر الناس عن متابعة الشيطان، بمعنى إذا أراد الإنسان أن ينهى صبياً أو يعلم جاهلاً فإنه ينبغي له أن يجمع في النهي بين أمرين:
الأمر الأول: أن يحدد له الشيء الذي ينهاه عنه.
والأمر الثاني: أن يبين له عاقبة الشيء الذي نهاه عنه.
فذلك أبلغ في التربية والتوجيه والتعليم.
وقد اشتملت الآية الكريمة على كِلا الأمرين، فحذرنا الله تبارك وتعالى عن اتباع سبيل الشيطان، وأخبرنا عن العاقبة التي ينتهي إليها كل من اتبعه وسار على نهجه وارتضاه، فقال: (فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) هذا الأمر الذي يوجهه الشيطان إلى الإنسان إنما يوجهه بالوسوسة، فهي سبيل الشيطان للإنسان، ولذلك إذا وقف الإنسان أمام معصية من المعاصي وجد في نفسه دعوة تدعوه إلى تلك المعصية، وهي لَمَّة الشيطان والعياذ بالله، ووجد في نفسه ما يزجره عن فعل تلك المعصية وهي لَمَّة الخير التي جعلها الله عز وجل للمَلَك، ولذلك يعيش الإنسان بين اللَّمَّتين: منهما: لَمَّة الشيطان كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (فإن للشيطان لَمَّة، وللمَلَك لَمَّة، فأما لَمَّة الشيطان: فتسويف بالخير وإيعاد بالشر، وأما لَمَّة المَلَك: فنهي عن الشر وإيعاد بالخير)، فهاتان لَمَّتان موجودتان في الإنسان.
وبناءً على ذلك: فكل ما يجده الإنسان في نفسه من الدعوة إلى الحرام ينبغي أن يعلم أنه من الشيطان، وعلاج ذلك بيَّنه الله تبارك وتعالى بقوله: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:36] فمن أراد أن ينجو من هذه الأوامر التي يسوِّلها الشيطان لأوليائه، فما عليه إلا أن يستعيذ بالله عز وجل، فإنه نعم المولى ونعم النصير.
هداية الله العباد إلى طاعته
والمراد بقوله: مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ [النور:21] أي: ما طهر قلب الإنسان من معصية الله تبارك وتعالى التي اشتملت عليها أوامر الشيطان، وفي هذا دليل على أنه لا نجاة من تلك الوساوس والخطرات إلا برحمة الله تبارك وتعالى، وكأن الله تبارك وتعالى يدعونا بهذه الآية الكريمة إلى التعلق به، وسؤاله النجاة من هذه الوساوس والخطرات، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يكثر من دعاء الله عز وجل صلاحَ قلبه، وزكاةَ فؤاده، حتى قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها) فالله تبارك وتعالى هو وحده الذي يزكي القلوب بفضله؛ فتنشرح لطاعته وسبيل محبته، وتكون أسبق ما تكون إلى ما يحبه ويرضاه، وأبعد ما تكون عن معاصيه التي لا يحبها ولا يرضاها، وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى هذا المعنى بقوله: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات:7] فالله تبارك وتعالى وحده هو الذي يحبب القلوب في طاعته، ويشرح الصدور لسبيل ولايته، فإذا أراد أن يصطفي أحداً لتلك الهداية أو يجتبيَه لتلك الولاية جعل قلبه منشرحاً زكياً نقياً طاهراً من هذه الوساوس، ولذلك قال بعض العلماء رحمهم الله: إن الإنسان إذا أراد أن يكون على درجة الصلاح والخير والاستقامة فينبغي أن يكون أبعد ما يكون عن الوساوس، كلما وجد في نفسه الوسوسة دفعها بذكر الله والاستعاذة به تبارك وتعالى، ومن ثم نبهوا على أن أخطر ما يُخشى على الإنسان الاسترسال في الوساوس والخطرات، وهي: التي يُدْلَى بها الإنسان إلى معاصي الله عز وجل، فيبتدئ الشيطان مع الإنسان في سمعه، أو في بصره، أو في لسانه، أو في فرجه، أو في أي شيءٍ من الأمور التي يملكها حتى يسهل له بها السبيل إلى حدود الله فيبتدئ بالسمع أو بالبصر، فيقول له: تمتع بسمعك أو تمتع ببصرك، ولا حرج عليك في النظرة والنظرتين، فيرسل النظرة، فتورث النظرةُ الشهوة، فيسترسل بالنظرة تلو النظرة حتى ينتهي إلى حديث النفس المستحكِم، فإذا استحكم الشيطان بذلك القلب واستأثر بالفؤاد انقلب ذلك القلب والعياذ بالله من طاعة الله إلى معاصي الله عز وجل، فيصبح يفكر كيف السبيل لإصابة تلك الشهوة، وإصابة ذلك الحد من حدود الله عز وجل؟
يقول الله تبارك وتعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ [النور:21] الفضل في اللغة: الزيادة.
وقوله: (فَضْلُ اللَّهِ): أي: تفضل الله تبارك وتعالى عليكم ورحمته؛ لأن النجاة من المعاصي والبعد عما لا يحبه الله عز وجل ويرضاه إنما هو رحمة من الله عز وجل يرحم بها من شاء، قال بعض العلماء: وَصَفَ الله عز وجل الهداية والاستقامة بكونها رحمة، لأن العبد يُرْحَم فيها في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا: فلأن صلاح الأمور بالاستقامة، وأما في الآخرة: فبالنجاة من عذاب الله عز وجل وعقوبته، وذلك إنما يكون بالتزام شرعه والبعد عن حدوده ومحارمه.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:21] سميعٌ لأقوالكم، عليمٌ بأفعالكم.
وقوله: (سَمِيعٌ): فعيل بمعنى فاعل أي: سامعٌ سبحانه وتعالى.
وقوله (عِلِيمٌ): فعيل أيضاً، وصيغة فعيلٍ وهي دالة على المبالغة.
هذه الثلاثة الأمور، أشار الله تبارك وتعالى إلى أولها بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ).
قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) (يا): حرف نداء، و(أيُّ): منادَى، و(الهاء): للتنبيه...
أي: يا من آمنتم بي، وآمنتم برسلي، وآمنتم بكتابي، ولقائي! لا تتبعوا خطوات الشيطان.
هذا النداء من الله تبارك وتعالى استفتحه بهذه الخصلة العظيمة التي تدل على شرف الإنسان وعلوِّ مكانته عند الله عز وجل وهي صفة الإيمان بالله تبارك وتعالى.
وفي استفتاح هذا النهي بهذا النداء تشويق لأهل الإيمان أن يلتزموا شرع الرحمن، أي: إن كنتم أهل إيمان وطاعة واتباع لي، ولسبيلي لا تكونوا متابعين للشيطان في أوامره التي يأمركم بها بالفحشاء والمنكر.
وهذا النداء يستفتح الله تبارك وتعالى به بعض أوامره، ويستفتح به نواهيه، قال بعض العلماء: إن الله تبارك وتعالى يستفتح أوامره ونواهيه بهذا النداء؛ لكي يشوق السامعين والقارئين للقرآن للعمل بما تضمنه ذلك النداء من الأمر، ولترك ما اشتمل عليه من النهي، ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (إذا سمعت الله عز وجل يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا) فأرعها سمعك، فإنما هو خير تؤمر به، أو شر تُنهى عنه).
ولذلك قال العلماء رحمهم الله: إن الله تبارك وتعالى يستفتح الآيات بهذا النداء الذي يتضمن أحد ثلاثة أمور:
- إما أمر بالمعروف.
- وإما نهيٌ عن المنكر.
- وإما أن يجمع بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فمن أمثلة أمره بالمعروف: أمره بتقواه فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ).
ومن أمثلة نهيه عن المنكر كما في هذه الآية الكريمة في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [النور:21].
فقد تضمنت هذه الآية الكريمة النهي عن اتباع سبيل الشيطان، بل إن النهي عن اتباع خطوات الشيطان هو النهي عن الشر والبلاء كله، فالشر كل الشر في متابعة الشيطان، والخير كل الخير في اتباع سبيل الرحمن، ولن تجد من العبد معصية انتهك بها حدود الله أو أصاب بها محارم الله تبارك وتعالى إلا وجدت الشيطان داعياً إليها محبِّباً إياها ومقرباً منها، ولذلك جمع الله تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة النهي عن أصل الشر كله والتحذير منه، فكل الشر في هذا الأمر، وهو اتباع خطوات الشيطان.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خص الله عز وجل أهل الإيمان في هذه السورة الكريمة ونهاهم عن اتباع سبيل الشيطان، وجاء في آية أخرى النهي لعموم الناس في قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168] فنهى الله تبارك وتعالى الناس عموماً والمؤمنين خصوصاً:
- فشمل النداء عموم الناس مؤمنهم وكافرهم حينما قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ).
- وخصَّ أفضل الناس وهم أهل طاعته، وأهل سبيل محبته، حينما ناداهم في هذه السورة فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).
وفي هذا النداء دليل على أن الإيمان يستلزم من الإنسان القولَ والعملَ الصالح، كما قرره أهل السنة والجماعة من أن الإيمان بالله عز وجل: (اعتقادٌ بالجَنان، وقولٌ باللسان، وعملٌ بالجوارح والأركان).
اعتقادٌ بالجَنان: فلابد أن يكون جَنان الإنسان أي: قلبه مؤمناً بالله تبارك وتعالى.
وقولٌ باللسان: وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وأما فعلُ الأركان والجوارح: فهو العمل بمقتضى هذه الشهادة، فتكون الأقوالُ والأفعالُ موزونةً بميزان الكتاب والسنة، لا يحيد المؤمن عن ذلك قيد شعرة، فإن حاد نقص إيمانه بقدر ما حاد، وإن ازداد من الخير والطاعة والاستقامة على منهج الله تبارك وتعالى كان أحظى الناس بالإيمان وأعلاهم مرتبةً في طاعة الرحمن.
يقول الله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) الخطوات: جمع خُطوة، وهي ما بين القدمين، ويقال: خَطوة، وهو مصدر.
(لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) للعلماء رحمهم الله في (خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) أقوال:
- فمِن أهل العلم مَن قال: إن قوله تبارك وتعالى: (خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ): المراد منه الخطايا التي يصيبها الإنسان باتباعه الشيطان؛ لأن الشيطان متمرد على طاعة ربه، بعيد عن محبة الله عز وجل وسبيل ولايته.
- ومِن أهل العلم مَن قال: إن قوله: (لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) أي: آثاره.
- ومِنهم مَن قال: (لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) المراد بها: نذور المعاصي التي كان عليها أهل الجاهلية في جاهليتهم؛ لأن الشيطان كان يدعوهم بها إلى انتهاك حدود الله، وغشيان محارم الله تبارك وتعالى.
- وهناك قولٌ اختاره بعض المفسرين -وهو قولٌ لطيف- يقول: إن قوله تبارك وتعالى: (لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) المراد بها: انتقال الشيطان من المعصية إلى المعصية، فهو يقود الإنسان إلى حدود الله شيئاً فشيئاً، ويحببه في معاصي الله خطوة خطوة، حتى يفضي به إلى أعظم الحدود وأكبر الكبائر وهو الشرك بالله والعياذ بالله.
- وهناك قولٌ أخيرٌ في هذه الآية الكريمة -وهو القول الخامس-: وأن المراد بقوله: (خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ): أي: الخطوة التي ينتقل بها من الحلال إلى الحرام.
فالمقصود: أن هذه هي أقوال العلماء في قوله تعالى: (لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ).
والذي عليه بعض المحققين: أن الآية شاملة لهذا كله، فما دام أن الجميع يصدُق عليه أنه خطوة للشيطان، فلا مانع أن الله تبارك وتعالى ينهانا عن جميع ذلك، والأصل أن اللفظ ما دام على عمومه أن يُحْمَل على ذلك العموم سواءً ورد في الكتاب أو ورد في السنة فيبقى لفظ الآية الكريمة في الدلالة على العموم حتى يرد النص الذي يدل على شيءٍ مخصوص بعينه.
ومن هنا يتبين لنا أن نهي الله تبارك وتعالى عن اتباع خطوات الشيطان المراد به النهي عن جميع ذلك كله، فالإنسان مطلوب منه أن يبتعد عن متابعة الشيطان سواءً دعاه إلى المعاصي أو نقله إليها خطوة خطوة، فينبغي للمؤمن كلما أحس في قلبه بوسوسة من الشيطان تدعوه إلى معصية الرحمن أن ينكفَّ وينـزجر ويطيع الله تبارك وتعالى إذ نهاه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم عن متابعة هذه الوساوس والخطرات، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (خط خطاً مستقيماً، ثم خط عن يمينة خطوطاً، وعن يساره خطوطاً فقال: هذا صراط الله، وهذه السبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه) فكل من أطاع داعي الشيطان إلى تلك السبل وأجابه إلى تلك المعاصي فقد خالف نهي الله تبارك وتعالى، واعتدى حدود الله عز وجل، وانتهك محارمه على قدر عظم ما أصاب من ذلك الذنب الذي أطاع الشيطانَ فيه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) قال بعض العلماء: إن الله عز وجل قد جمع في هذه الآية الكريمة النهي عن أساس الشر كله، وذلك في بعض سطر حينما قال: (لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) وهذا من إعجاز القرآن وحسن بيانه وعظيم شأنه، فإن الله تبارك وتعالى جعل هذا الكتاب المبين معجزاً بلفظه وبمعناه، فجمع الشر في هذا المقطع اليسير من الآية الكريمة.
وقوله تعالى: (خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ): نسبها إلى الشيطان؛ لأنه هو الداعي إليها والمحبِّب فيها، والشيطان على ضربين:
- شيطان إنس.
- وشيطان جن.
ولكن إذا أطلق الشيطان فالمراد به أساس الشر وهو إبليس، ويتبعه أعوانه الذين يسلطهم بإذن الله على بني آدم، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الشيطان عرشه على الماء، يبعث رسله إلى بني آدم فتنةً من الله وامتحاناً وابتلاءً واختباراً تدعو عباد الله إلى معاصي الله، وتحببهم في انتهاك حدود الله وغشيان محارمه، فالناس بين عبدين:
- عبد له مجيب، قد تردى في الدركات والعياذ بالله الموجبة لسخط رب الأرض والسماوات.
- عبد الله يتمرد على شيطانه، ويعتصم بالله تبارك وتعالى، ويلوذ به ويستعيذ به، فينقذه الله عز وجل من شرورهم، قال الله عز وجل: شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام:112].
فالمقصود: أن الله تبارك وتعالى نهانا في هذه الآية الكريمة عن اتباع سبيل الشيطان، سواءً كان ذلك الشيطان شيطان جن أو كان شيطان إنس.
استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
سلسلة تفسير سورة النور [3] | 2517 استماع |
سلسلة تفسير سورة النور [1] | 2472 استماع |
سلسلة تفسير سورة النور [2] | 2307 استماع |
سلسلة تفسير سورة النور [4] | 1932 استماع |
سلسلة تفسير سورة النور [5] | 992 استماع |