خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/68"> الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/68?sub=33611"> خطب ومحاضرات عامة
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
التوحيد في الحج
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
أمـا بعـد:
فأحييكم بتحية الإسلام تحية من عند الله مباركة طيبة، فالسَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، وفي بداية هذا اللقاء، أحمد الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى على عظيم نعمته، وجليل فضله وجميل منته، أن جمعني بكم في هذا البيت من بيوت الله، وبعد هذه الفريضة من فرائض الله فـ(ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده).
وكم من أقوام جلسوا لذكر الله فقاموا من مجالسهم وقد بدلت سيئاتهم حسنات (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43] ثم إنني أشكر بعد شكر الله عَزَّ وَجَلَ من كان له الفضل بعد الله في تهيئة هذا اللقاء من المشايخ الفضلاء، وأخص بالذكر الشئون الدينية في الحرس الوطني، أسأل الله العظيم أن يعظم أجور الجميع، وأن يتقبل منا ومنكم صالح القول والعمل .
أيها الأحبة في الله! أساس الدين والملة وقاعدة الإسلام العظيمة التي عليها صلاح الدين والدنيا والآخرة، والتي من أجلها أنزل الله كتبه، ومن أجلها أرسل رسله مبشرين ومنذرين، بل ومن أجلها كانت الدنيا والآخرة، ومن أجلها نصب الميزان، ونشر الديوان، وكانت الجنان والنيران.
إنها القاعدة العظيمة التي عليها مدار الصلاح والفلاح والربح والخسارة، فمن قام بها وأداها على وجهها أسعده الله في الدنيا والآخرة، ومن ضيعها وأضاع حقوقها فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31] إنه التوحيد والإيمان واليقين، والإحسان الذي هو أساس كل خير، ومنبع كل فضيلة وبر، من أصلح لله إيمانه وكمَّل توحيده وإخلاصه فتح الله له أبواب رحمته وزاده من عظيم بره وفضله، وإذا دخل الإيمان إلى القلوب اطمأنت بالله علام الغيوب.
إنه التوحيد الذي أخبر الله عَزَّ وَجَلَ أن ما من أمة إلا وبعث إليها رسولاً يأمرها أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36].
إنه التوحيد شهادة (أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله) التي هي مدار الصلاح والفلاح في الدين والدنيا والآخرة .
جعل الله شعائر الإسلام كلها تدور حول هذه الكلمة، تغرس في القلوب الإيمان بالله علام الغيوب، وتغرس في النفوس اليقين بلا إِلَهَ إِلَّا الله، فكل ما في هذا الكون يدل على صدق هذه الكلمة، وكل ما في هذا الكون يشهد بمعناها (أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله) ما من ليل ولا نهار ولا عشي ولا إبكار إلا وهو يؤذنك ويعلمك أَنّه لا إِلَهَ إِلَّا الله، إقبال الليل يذكر حينما كان الإنسان قبل ساعات وهو في ضياء النهار، فإذا به في ظلمة بقدرة الله جل جلاله، ثم يمضي الليل ويرخي سدوله، ويبسط العبد كفه فلا يراها من الظلمة، وما هي إلا سويعات قدرها الله جل جلاله حسبت بثوانيها ولحظاتها فإذا انتهت وانقضت آذن الله بالنهار: لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40] هذه الدلائل الزمانية والدلائل المكانية، أشجار وأحجار، وما على هذه البسيطة من جبال ووهاد ونجاد وسهول وهضاب، كلها تذكر بلا إِلَهَ إِلَّا الله، وعلى ذلك دارت شرائع الإسلام كلها، فالصلاة عمود الإسلام التي تحقق معنى لا إِلَهَ إِلَّا الله، ففي الدعوة إلى الصلاة شهادة أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا دخل العبد إلى مسجده وأراد أن يؤدي فريضة ربه، استفتحها بقوله: الله أكبر، الله أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، فيستفتح بالتوحيد، ويختم صلاته بالتوحيد، السَّلامُ عَلَيَّكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ، وهي دعاء بالسلامة والرحمة على العباد.
تفتتح بالتوحيد وتختتم بالتوحيد، وتحتوي جميع أركانها على التوحيد، من قراءة القرآن والتسبيح في الركوع والسجود وغير ذلك من الأذكار القولية والأفعال كلها تدور حول لا إِلَهَ إِلَّا الله .
وهذه الزكاة لا يدفعها العبد إلا وهو يعلم ويوقن بهذه الكلمة؛ لأنه يعلم أن المال مال الله، وأن الله أغناه من الفقر، وأعزه من الذل، وكساه من العري، وأطعمه من الجوع، وأغدق عليه هذا المال، فإذا قدم الصدقة خالصة من قلبه فقد حقق معنى لا إِلَهَ إِلَّا الله، أطاع الله جل جلاله وامتثل أمره وأدى زكاته طيبة بها نفسه، وأداها وطلب أصحابها فوضعها في أيديهم أمانة يلتمس بها مرضاة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تحقيقاً لهذه الكلمة وإيماناً بما فيها .
كذلك الصيام .. فما جاعت الأحشاء ولا ظمئت الأمعاء إلا بالإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، آثر العبد ما عند الله على شهوة نفسه ولذة كبده وطعمة بطنه ولذة فرجه لمرضاة الله ربه، جميع شعائر الإسلام تدور حول هذه الكلمة العظيمة.
إن شعيرة الحج التي جعلها الله سبحانه وتعالى قاعدة من قواعد التوحيد، تدل على كلمة لا إِلَهَ إِلَّا الله من بدايتها إلى نهايتها، ومن مشعر إلى مشعر، ومن منسك إلى منسك، والعبد يدور حول كلمة التوحيد والإخلاص لا إِلَهَ إِلَّا الله.
التوحيد عند مفارقة الأهل والأولاد
تتعلق به الصبية ترده عن مسيره يتعلق به الأبناء والبنات وتستمسك به الزوجات، فيعلنها صيحة طاعة لله فاطر الأرض والسماوات، فيفارق فلذات الكبد، ويفارق أرضاً وموطناً ربما كان في مشرق الأرض أو مغربها، كل ذلك عبودية لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
الله أكبر من آثر ما عند الله على ما عند نفسه وعلى ما عند الناس.
الله أكبر يوم خرج الحاج المؤمن الموحد مؤثراً ما عند الله على هذه الدنيا وما فيها، حتى إن من الناس من يخرج وهو في قمة الغنى والثراء، قد يكون في حياته كلها ما خرج من بلده ومن مسكنه، ولكن الله أخرجه والإيمان والتوحيد أخرجه، عبودية لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لو أنفقت له الملايين ما خرج، ولكن خرج لأنه يؤمن بالله واليوم الآخر.
التوحيد في الاغتسال والإمساك عن محظورات الإحرام
قال بعض العلماء: المؤمن في عبادة الحج يتذكر الآخرة في أكثر مشاعر الحج منذ أن يأتي ويخلع ثيابه عن جسده حيث يتذكر إذا خلعت منه بلا حول ولا قوة، ويتذكر إذا نزعت منه فغسل وكفن، فهو اليوم يغسل نفسه ويلبس رداءه وإزاره، ولكن ستأتي عليه ساعة لا محيص عنها، ولا مفر منها، فيتذكر أنه مقبل على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ومن قواعد الإيمان: الإيمان بالآخرة وما فيها من البعث بعد الموت والحساب والجزاء، فالحج يذكر بذلك كله، فإذا خرج بحجه وعمرته أمسك عن محظورات الإحرام، فيمسك عن الطيب والنساء والشهوات والملذات طاعة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، سبحان من أحل له تلك الشهوات وتلك الملذات قبل أن يدخل في حجه وعمرته، وأصبحت عليه حرام في نسكه، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي يحكم ولا معقب لحكمه عبادة توقيفية لا يستطيع الإنسان أن يقدم أو يؤخر بل يسلم تسليماً، ويؤمن ويوحد توحيداً كاملاً في العبودية لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
التوحيد أثناء الطواف حول البيت
ولذلك سأل الله عَزَّ وَجَلَ وابتهل إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجنبه وذريته عبودية الأصنام، وسأل الله أن يجعل حياته كلها له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا لأي شيء سواه وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ إبراهيم:35] فسأل الله الإخلاص وسأل الله التوحيد، فإذا وقفت أمام ذلك البيت تذكرت هذه القدوة الكاملة الفاضلة التي اختارها الله عَزَّ وَجَلَ لمن بعده إماماً في التوحيد والإسلام والاستسلام.
ثم إذا طاف العبد بالبيت تذكر أنه لا يطوف بهذه الحجارة إلا عبودية لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا يطوف تعظيماً للحجر، ولا تعظيماً لهذا الجماد، ولكن تعظيماً لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالله هو الذي أمره وهو الذي أوجب عليه هذه العبادة فلا يسعه إلا التسليم وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً النساء:65] ولذلك وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أمام الحجر، فقال كلمته المشهورة: [أما إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقبلك ما قبلتك] أي: أن الدين كله قائم على هذا التسليم، إن جاءت العبادة سلم بها العبد وأتى بها على وجهها دون غلو أو شطط، ودون زيادة واعتقاد في الأحجار والأشجار والمواضع, وإنما يعتقد في الله وحده لا إله غيره ولا رب سواه.
التوحيد في الدعاء
ومن أعظم ما يذكر به العبد في عبادة الحج الدعاء، فمن أعظم المشاهد تأثيراً في النفوس وتأثيراً في القلوب مما يزيد العبد ثقة بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وإيماناً وإيقاناً فيه جل جلاله، إذا تأمل ونظر وادّكر واستبصر في هذه الأمم التي اجتمعت على اختلاف لغاتها، وتعدد لهجاتها، وتباين أقطارها وأمصارها، وإذا بها في لحظة واحدة ترفع أكفها إلى الله، فلا يخفى عليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مكانها، ولا تخفى عليه أصواتها ولا لهجاتها، ولا تخفى عليه مسائلها ولا تعييه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حوائجها.
الله أكبر إذا عجت ببابه الأصوات، واختلفت المسائل والحاجات، وتباينت في اللغات واللهجات، ففتح الله أبواب سماواته، وتأذن بنزول رحماته ومغفراته وبركاته، فلم تعييه المسألة، ولم تعجزه حاجة سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يسمع دبيب النملة في الليلة الظلماء، تقول عائشة رضي الله عنها: [والله إني لمن وراء الستر وخولة تجادل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زوجها يخفى عليَّ بعض كلامها فسبحان من وسع سمعه الأصوات ] فسمعها من فوق سبع سماوات، امرأة مظلومة جاءت تشتكي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت عائشة يخفى عليها بعض كلامها، وليس بينها وبين المرأة إلا الستارة، والله يسمعها من فوق سبع سماوات يسمع جميع هذه الأصوات فتقول: لا إله إلا الله، الله أكبر حينما يحتاج العبد حاجة والله يعلمها قبل أن يحتاج ومطلع عليها قبل أن تكون: علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، سُبْحَانَهُ جل جلاله وتقدست أسماؤه.
تضطرب كتفك بجوار الأكتاف، ويضطرب جسم الإنسان مع غيره من إخوانه وخلانه في الإسلام، ومع ذلك كله يسمع شكواهم ومسائلهم وحوائجهم، فيوقن بأنه لا إِلَهَ إِلَّا الله، هل طردنا الله عن بابه -حاشاه- حتى نقف على أبواب المشاهد والقبور؟
هل ردنا الله سبحانه عن دعائه حتى ندعو غيره ونتوسل بما سواه؟
هل عظمت حوائجنا على الله سبحانه وتعالى حتى تنـزلها بغيره؟
لا والله قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ [المؤمنون:88] فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ [يس:83] (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته وما بلغته أمنيته، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) لا ينقص من ملك الله جل جلاله شيئاً ولا يعجزه شيء، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].
تأمل رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يخرج المحتاج من أهله وولده وحِبه، والله ما أخرجه إلا لشيء أعظم وأفضل مما خرج منه، ولا يمكن أن يخرج الإنسان من تلك الشهوات وتلك الملاذ، ومن بين الأبناء والبنات إلا عوضه الله خيراً مما ترك؛ لأن الله كريم، فتؤمن بلا إله إلا الله وتوقن أن عند الله فضلاً ورضواناً، وأن الله ما أخرج هذه الجموع إلا لفضله ورحمته .
ولذلك أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الله رضي لمن آمن به ووحده، ونزل في تلك المنازل موقناً مؤمناً مخلصاً، وأدى الشعائر على أتم الوجوه وأكملها، أن يرجع إلى أهله بلا ذنب ولا خطيئة .
أن يرجع إلى أهله كيوم ولدته أمه .. أن يرجع إلى أهله وولده نقياً من الذنوب والخطايا، فلربما رجع إلى أهله وولده وقد عتقت رقبته من النار، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل .
فإنه قد ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه الرقاب من النار من يوم عرفة) ومعنى العتق من النار: أنه لا يمكن أن يدخل العبد النار أبداً، مهما كان حاله، ولاشك أن هذه بشارة له أنه سيموت على التوحيد، ويموت على الإيمان، ويموت على خصال الخير والبر، ويختم له بخاتمة السعداء جعلنا الله وإياكم منهم.
يوقن العبد وهو يرى هذه المشاهد .. يرى هذه الأمم كلها جاءت لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فيزداد ثقة بالله جل جلاله ويتفكر ويتدبر هل حاجتي تعجز الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كلا والله، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فبمجرد أن ترى ذلك توقن إيقاناً كاملاً أن مسائلك وحوائجك لا ينبغي أن تنـزل إلا بباب الله جل جلاله، فالدعاء والسؤال والحاجة لا يجوز أن تنزل إلا بالله وحده لا شريك له، ومن أنزل حاجته بغير الله زاده الله فقراً، ومن أنزل حاجته بالله تأذن الله له بالفرج العاجل سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3] .. وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11].
التوحيد في سعة الرحمة والحلم
أي كرم وأي فضل هذا! والله لو تأمل الإنسان عظمة هذا الرب لأحس بقيمة هذه الحياة، فلا لذة لهذه الحياة إلا بمعرفة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن عرف الله جل جلاله أقبل على الله صدق الإقبال، فأتم خشيته وهيبته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وحبه جل جلاله، هذا الرب الكريم، أمم تعصيه وتذنب وتسرف، ومع ذلك يبدل السيئات حسنات، فلا يغفر فقط بل يبدل الذنوب والسيئات حسنات سبحان الله ما أكرمه!
لنا مليك محسن إلينـا من نحن لولا فضله علينا
تَبَارَكَ الله وجـل الله أعظم ما فاهت به الأفواه
سبحان من ذلت له الأشراف أكرم من يرجى ومن يخاف
فإذا علم العبد عظمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في حلمه ورحمته ومنه وفضله، أحس أنه لا يزال بخير ما كان مع الله جَلَّ جَلالُهُ، كذلك يحس أنه مادامت هذه الأمم كلها تنادي الله جَلَّ جَلالُهُ في لحظة واحدة والله يسمعها ويراها، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سيرحمه كما رحمهم، وسيلطف به كما لطف بهم، ولكن ما عمل الإنسان إلا أن يوقن بالله جَلَّ جَلالُهُ وأن يسلم لله قلبه، فلا تضيق عليك أي ضائقة ولا تنزل بك أي ملمة إلا أحسنت الظن بالله عَزَّ وَجَلَ.
من الأمور التي يستفيدها الحاج في حجه: حسن الظن بالله عَزَّ وَجَلَ؛ لأنك إذا رأيت هذه الأمم كلها وتعلم علم اليقين أن فيهم المغفور والمرحوم ولربما -ونحن لا نستكثر على الله ولا نستبعد على الله وليس على الله بعزيز- أن يقول لأهل الموقف كلهم: انصرفوا قد غفرت لكم.
بغي من بغايا بني إسرائيل زانية -أعاذنا الله وإياكم- مرت على كلب يلهث الثرى فرحمته فملأت خفها وسقته، فشكر الله لها فغفر لها ذنوبها، فقط بشربة ماء، ورجل مر على غصن شوك، وهو مطروح في طريق المسلمين، أخذته الشفقة فأحب الإحسان، وقال: والله لأنحين هذا عن طريق المسلمين، فزحزحه عن الطريق فزحزحه الله عن نار جهنم، هذا الرب الكريم الحليم الرحيم، ليس هناك للعبد مثل حسن الظن بالله جَلَّ جَلالُهُ.
ولذلك في الحديث الصحيح يقول الله تعالى: (أنا عند حسن ظن عبدي بي، فمن ظن بي خيراً كان له، ومن ظن بي شراً كان له).
من ظن بالله شراً -والعياذ بالله- كالذين يعكفون على الأشجار والأحجار والقبور ويضغون بأصحابها، ويضيفون عليهم الألقاب والكلمات التي لا تليق إلا بالله جَلَّ جَلالُهُ، تعالى الله عما يقول المشركون علواً عظيماً.
هؤلاء في خيبتهم وخسارتهم لأنهم أساءوا الظن بالله عَزَّ وَجَلَ، ما عرفوا الله عَزَّ وَجَلَ، فلو عرفوه ما التفتوا إلى شيء سواه -نسأل الله السلامة والعافية- ولذلك إذا أحسن العبد ظنه بالله عز وجل تلقاه الله برحمته وفاز بعفوه ومغفرته، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يشملنا بذلك العفو والمغفرة.
التوحيد في يوم النحر
ثم امتحنه الله عز وجل في ولده وفلذة كبده أن يذبحه يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102] وانظروا كيف الذرية الطيبة وأهل التوحيد كيف يجعل الله عز وجل ذريتهم طيبة، قال تعالى: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:34] .. قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ [الصافات:102] انظروا كيف التوحيد والتسليم إذا جاءك أي أمر من أوامر الله أن تفعل شيئاً أو تترك شيئاً هذا وهو في صغره يسأل أن يضحي بروحه ونفسه قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102] هذا التوحيد والإيمان ثم انظر إلى التوحيد سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الصافات:102] ما قال: ستجدني واتكل على حوله وقوته، لا، سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102] صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلِيهِ، الله أكبر! تصور إذا قدمت روحك للموت استجابة لأمر الله كانت رخيصة لأمر الله جَلَّ جَلالُهُ، تسليم وتوحيد وانظر كيف يأتي الفرج مع كمال التوحيد.
يقول الله عز وجل: فَلَمَّا أَسْلَمَا [الصافات:103] حتى جاء في الأخبار والسير أن إسماعيل يقول لوالده: يا أبتِ! لا تذبحني وأنا مقبل إليك، ولكن اكفني على وجهي حتى لا تنظر إلي فتدركك الشفقة، حتى الابن يعين على الإيمان والتسليم، لذلك تجد الأب إذا كان موحداً صالحاً أنشأ الله له الذرية الصالحة، والعكس أيضاً، ولذلك صلة بن أشيم كان له أربعة من الولد وتقدم للجهاد في سبيل الله فماذا قال هذا الأب الصالح أمام الغزو وأمام العدو- انظروا الشجاعة والإيمان التي ينبغي أن يكون عليها الموحد الموقن الذي لا يمكن أن يفلح في الدنيا إلا بهذا الإيمان الذي يورث الشجاعة- قال لأحد أبنائه وهو الكبير: تقدم يا بني ! فإني أريد أن أحتسبك عند الله، أي: أريدك أن تموت أنت قبلي فأحتسبك عند الله عز وجل، ما جاء هو يتقدم فراراً من أن يرى ولده يذبح أمامه، هكذا كانت الأمة الموحدة الموقنة المخلصة، فإبراهيم عَلِيهِ الصَلاةُ وَالسَلام يقول له ابنه: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102] يقول الله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] أسلما: أي: استسلما، ومثله أن يأتيك أمر الله في بيتك وأهلك وزوجك، فحينما تستسلم وتنفذ أمر الله يأتيك الفرج، أما أن تذهب فتبحث عن الرخص فتتأول وتجتهد فبهذا يسلم العبد إلى حوله وقوته نسأل الله السَّلامة والعافية .
لكن إذا سلَّم وتوكل واعتقد في الله، فالله لا يخيبه، يقول الله: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إبراهيم * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا [الصافات:103-105] فجاءه الفرج من الله وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107] ففداه الله جَلَّ جَلالُهُ من فوق سبع سماوات بالإسلام والاستسلام والتوحيد، فإذا رمى المسلم جمرة العقبة تذكر هذا الابتلاء، وتذكر أنه سيمتحن في أهله وماله ونفسه وفلذة كبده، فينبغي أن يقدم ما عند الله على ما عند نفسه، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا كمال الإيمان والتسليم.
كذلك أيضاً بعد رميه لجمرة العقبة يذبح إذا كان متمتعاً أو قارناً، فإذا ذبح هديه ذبحه لله جَلَّ جَلالُهُ وهذا مشهد من مشاهد التوحيد إراقة الدماء لفاطر الأرض والسماء، حتى إن الإنسان إذا أراق دم البهيمة قال: باِسْمِ اللهِ، الله أكبر، فسمى الله وكبر على بهيمته تأسياً برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقرباً إلى الله عَزَّ وَجَلَ في هديه، وقع الدم عند الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، وتأتي يوم القيامة بجلودها وشعرها وأظلافها وجميع ما فيها في ميزان العبد، لكن إذا كانت بالتوحيد كانت لله، ولم تكن لأي شيء سواه، لا تذبح لوثن ولا لشجر ولا لقبر ولا لولي، ولا تذبح خوفاً من الجن أو عند النزلة من أجل إرضاء الجن، لكن لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إخلاصاً وتوحيداً قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي [الأنعام:162] أي: ذبحي، كما قال تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2] فهذا مشهد من مشاهد التوحيد.
كذلك أيضاً يقف الإنسان يتحلل من هذا النسك فيحلق شعر رأسه قربة لله عَزَّ وَجَلَ وطاعة لله جَلَّ جَلالُهُ، كما فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتدور مناسك الحج وشعائر الحج كلها مع الإيمان والتسليم مع كمال اليقين لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا ذلك التسليم والإيمان.
وجماع الخير كله أن يكون عند العبد قلب حي، فإن الذكر والانتفاع بهذه العبادات يفتقر إلى نفس مؤمنة .. إلى قلب مقبل على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حتى يتفكر ويتدبر ويتبصر، ويجد هذه المعاني الكريمة والآثار العظيمة التي تزيد من إيمانه ويقينه بالله جَلَّ جَلالُهُ.
اللهم إنا نسألك إيماناً كاملاً، ويقيناً صادقاً، وعلماً نافعاً، وعملاً صالحاً، وآخر دعوانا أن الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
أولها: ما يخرج من بيته لا يخرج ولم يخرج إلا وهو يعلم أن الله يسمعه ويراه، ولا يخرج من بيته مفارقاً لأهله وولده وحبه وزوجه إلا والله أحب إلى قلبه من الكل.
تتعلق به الصبية ترده عن مسيره يتعلق به الأبناء والبنات وتستمسك به الزوجات، فيعلنها صيحة طاعة لله فاطر الأرض والسماوات، فيفارق فلذات الكبد، ويفارق أرضاً وموطناً ربما كان في مشرق الأرض أو مغربها، كل ذلك عبودية لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
الله أكبر من آثر ما عند الله على ما عند نفسه وعلى ما عند الناس.
الله أكبر يوم خرج الحاج المؤمن الموحد مؤثراً ما عند الله على هذه الدنيا وما فيها، حتى إن من الناس من يخرج وهو في قمة الغنى والثراء، قد يكون في حياته كلها ما خرج من بلده ومن مسكنه، ولكن الله أخرجه والإيمان والتوحيد أخرجه، عبودية لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لو أنفقت له الملايين ما خرج، ولكن خرج لأنه يؤمن بالله واليوم الآخر.