خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/68"> الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/68?sub=33611"> خطب ومحاضرات عامة
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
رحلة غريب
الحلقة مفرغة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) .
رحلة غريب .. رحلة غريب .. رحلة غريب.
سفري بعيد وزادي لن يبلغني وقوتي ضعفت والموت يطلبني
الموت.!!
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185].
طويت الصفحات، وصرت في عداد الأموات، كأن لم تكن في الدنيا.
القبر!!
وأنزلوني إلى قبري على مهل وقدموا واحداً منهم يلحدني
وكشف الثوب عن وجهي لينظرني...
القيامة!!
وخرجت من تلك الأجداث وتلك القبور إلى ربها حفاة عراة غرلاً، فلا أنساب ولا أحساب.
الحساب!!
قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ [ق:28] * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق:29].
حطت الرحال، ففريق في جنة الله الكبير المتعال.. في دار الخلد والإجلال، وفريق في دار الخزي والندامة والعذاب والملامة.
فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7].
وبدأت الرحلة.. وبدأت الرحلة.
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19].
إنها بداية الرحلة إلى الآخرة، إنها بداية عظيمة! فتخيل نفسك إذا ضعف جنانك، وثقل لسانك، وكثرت خطوبك، وعظمت كروبك، إذا عرضت عليك عند كشف الغطاء ذنوبك!
إنها اللحظة التي يعرف الإنسان فيها حقارة الدنيا.. إنها اللحظة التي يحس الإنسان فيها أنه فرط كثيراً في جنب الله.. إنها اللحظة التي يحس الإنسان فيها بالحسرة والألم على كل لحظة فرط فيها في جنب الله، ينادي: رباه! رباه! لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:100].
يا زلة كتبت في غفلة ذهبت يا حسرة بقيت في القلب تحرقني
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99-100].
حال الإنسان عند حلول سكرات الموت
كأنني بين كل الأهل منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني
وقد تجمع حولي من ينوح ومن يبكي علي وينعاني ويندبني
ويدعى لك الأطباء، ويجمع لك الدواء؛ فلا يزيدك ذلك إلا هماً وبلاءً.
وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أرَ الطب هذا اليوم ينفعني
وبعدها: تيقنت أن الموت قد فاجأك، وأن ملك الموت قد وافاك، فيئس منك الطبيب، وفارقك الحبيب، فوقعت في الحسرة، وجاءتك السكرة.
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19].
فتخيل نفسك وأنت في نزع الموت وكربه، إذا نظرت ببصرك إلى من هم حولك، فرأيت أمك وأباك وأختك وأخاك، وقد سالت منهم الدموع فلا ترد عليهم جواباً، ولا يستطيع لسانك خطاباً.
تلك اللحظة التي يلقي الإنسان فيها آخر النظرات على الأبناء والبنات، والإخوان والأخوات، يلقي فيها آخر النظرات على هذه الدنيا، وتبدو على وجهه معالم السكرات، وتخرج من قلبه الآهات والزفرات.
واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا هون
واستخرج الروح مني في تغرغرها وصار ريقي مريراً حين غرغرني
ثم اشتد بك النزع والسياق، وقد بلغت الروح التراقي.
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة:26-29].
وبطلت بعدها كل حيلة، وعجزت كل وسيلة، وعلمت أن نهاية المطاف: إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة:30].
لا إله إلا الله! من ساعة تطوى فيها صحيفتك، إما على الحسنات أو على السيئات، تتمنى حسنة تزاد في الأعمال، تتمنى حسنة تزاد في الأقوال، تتمنى صلاح الأقوال والأفعال.
رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون:10].
تحس بقلب متقطع من الألم، تحس بالشعور والندم؛ أن الأيام انتهت، وأن الدنيا قد انطوت.
وغمضوني وراح الكل وانصرفوا بعد الإياس وجدوا في شرا الكفن
وقام من كان أولى الناس في عجل نحو المغسل يأتيني يغسلني
فتخيل حالك -أيها الغافل- يوم تقلّب على المغتسل بيد الغاسل، قد زال عزك عنك، وسلب مالك منك، وأُخرجت من بين أحبابك، وجهزت لترابك، ونودي أين المغسل؟!
فجاءني رجل منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني
وأودعوني على الألواح منطرحاً وصار فوقي خرير الماء ينظفني
وأسكب الماء من فوقي وغسلني غسلاً ثلاثاً ونادى القوم بالكفن
وألبسوني ثياباً لا كمام لها وصار زادي حنوطاً حين حنطني
ثم ألبسوك الكفن، وحملت إلى العفن، وأخرجت من بين أحبابك، وجهزت لترابك، وأسلمت إلى الدود، وصرت رهيناً بين اللحود، وصار القبر مأواك إلى يوم القيامة ومثواك.
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22].
في لحظة واحدة أصبح العبد كأن لم يكن شيئاً مذكوراً، طويت الصفحات، وصرت في عداد الأموات، تذكر كأن لم تكن في الدنيا، كأن عينيك لم تر، وكأن أذنك لم تسمع، وكأن الأرض لم تضرب عليها الخطى.
وأخرجوني من الدنيا فواأسفا على رحيل بلا زاد يبلغني
وحملوني على الأكتاف أربعة من الرجال وخلفي من يشيعني
وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني
صلوا علي صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني
القبر أول منازل الآخرة
وأنزلوني إلى قبري على مهل وقدموا واحداً منهم يلحدني
وكشف الثوب عن وجهي لينظرني وأسبل الدمع من عينيه أغرقني
فقام محترماً بالعزم مشتملاً وصفف اللبن من فوقي وفارقني
فلا إله إلا الله! من ساعة نزلت فيها أول منازل الآخرة، لا إله إلا الله! إذ صرت في عداد تلك السفينة الناخرة، واستقبلت الحياة الجديدة، فإما عيشة سعيدة أو عيشة نكدة، ونزلت في عداد أولئك الغرباء، بين الأجداث والبلاء، هناك..
في ظلمة القبر لا أم هناك ولا أب شفيق ولا أخ يؤانسني
أين صديقك المؤانس؟ أين رفيقك المجالس؟ لقد وضعت في القبر على غير وهاد ولا وساد، ولا مقدمة زاد ولا استعداد، فتخيل نفسك في ذلك المكان.
فيه الظلام كذا السكون مخيم والروح رُد وجاءني الملكان
فلا إله إلا الله! من دار تقارب سكانها وتفاوت عمارها، فقبر يتقلب في النعيم والرضوان العظيم من الرحيم الحليم الكريم، وقبر في دركات الجحيم، والعذاب المقيم. ننادي ولا مجيب، ونستعصم ولا مستجيب، انقطعت الأيام بما فيها، وعاين الإنسان ما كان يقترف فيها.
وهالني صورة في العين إذ نظرت من هول مَطْلَعِ ما قد كان أدهشني
من منكر ونكير ما أقول لهم قد هالني أمرهم جداً فأفزعني
وأقعدوني وجدوا في سؤالهم ما لي سواك إلهي من يخلصني
أصبحت في ضيق وكربات، وهم وحسرات، من ظلمات القبور وسؤال منكر ونكير، والخلود في البرزخ إلى يوم البعث والنشور.
بعث الناس من القبور
وخرج الناس من تلك الأجداث وتلك القبور إلى ربهم حفاة عراة غرلاً، فلا أنساب ولا أحساب، ولا جاه ولا عز ولا مال.. فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101].
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا [يس:51-52].
خرج العبد حسيراً كسيراً أسيراً.. خرج حقيراً ذليلاً، فلا أحد يكفيه، ولا شيء يواريه، خرج إلى الله حافياً عارياً.. خرج إلى ربه.. خرج إلى خالقه.. خرج إلى جبار السماوات والأرض ووقف أمامه حتى يسأله ويحاسبه..
هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [يس:52-54].
فلا إله إلا الله! من يوم بطلت فيه الملهيات، وزالت فيه المغريات، وعاين العبد فيه الحقائق أمام عينيه، جُمع فيه الناس على أرض واحدة: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام:94].
كيف احتيالي إذا جاء الكتاب غـداً وقد حشرت بأثقالي وأوزاري
وقد نظرت إلى صحفي مسودة من شؤم ذنب قديم العهد أو طاري
وقد تجلى لهتك الستر خالقنا يوم المعاد ويوم الذل والعار
فلا إله إلا الله! من أرض لم تطأها قدم غير تلك الأقدام، ولا إله إلا الله! إذا شعت الشمس وتبدد الظلام، ولا إله إلا الله! إذا طال الوقوف بين يديه، ولا إله إلا الله! يوم يرهن العبد بما جناه بيديه.
وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
إنه يوم تجتمع فيه الخصوم، وينصف فيه المظلوم.. إنه اليوم الذي أعده الله للعباد، فتنشر فيه الدواوين، وتنصب فيه الموازين، لحكومة إله الأولين والآخرين.
وتخيل نفسك طريحاً بين أهلك، وقد وقعت في الحسرة، وجفتك العبرة، وثقل منك اللسان، واشتدت بك الأحزان، وعلا صراخ الأهل والإخوان.
كأنني بين كل الأهل منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني
وقد تجمع حولي من ينوح ومن يبكي علي وينعاني ويندبني
ويدعى لك الأطباء، ويجمع لك الدواء؛ فلا يزيدك ذلك إلا هماً وبلاءً.
وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أرَ الطب هذا اليوم ينفعني
وبعدها: تيقنت أن الموت قد فاجأك، وأن ملك الموت قد وافاك، فيئس منك الطبيب، وفارقك الحبيب، فوقعت في الحسرة، وجاءتك السكرة.
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19].
فتخيل نفسك وأنت في نزع الموت وكربه، إذا نظرت ببصرك إلى من هم حولك، فرأيت أمك وأباك وأختك وأخاك، وقد سالت منهم الدموع فلا ترد عليهم جواباً، ولا يستطيع لسانك خطاباً.
تلك اللحظة التي يلقي الإنسان فيها آخر النظرات على الأبناء والبنات، والإخوان والأخوات، يلقي فيها آخر النظرات على هذه الدنيا، وتبدو على وجهه معالم السكرات، وتخرج من قلبه الآهات والزفرات.
واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا هون
واستخرج الروح مني في تغرغرها وصار ريقي مريراً حين غرغرني
ثم اشتد بك النزع والسياق، وقد بلغت الروح التراقي.
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة:26-29].
وبطلت بعدها كل حيلة، وعجزت كل وسيلة، وعلمت أن نهاية المطاف: إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة:30].
لا إله إلا الله! من ساعة تطوى فيها صحيفتك، إما على الحسنات أو على السيئات، تتمنى حسنة تزاد في الأعمال، تتمنى حسنة تزاد في الأقوال، تتمنى صلاح الأقوال والأفعال.
رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون:10].
تحس بقلب متقطع من الألم، تحس بالشعور والندم؛ أن الأيام انتهت، وأن الدنيا قد انطوت.
وغمضوني وراح الكل وانصرفوا بعد الإياس وجدوا في شرا الكفن
وقام من كان أولى الناس في عجل نحو المغسل يأتيني يغسلني
فتخيل حالك -أيها الغافل- يوم تقلّب على المغتسل بيد الغاسل، قد زال عزك عنك، وسلب مالك منك، وأُخرجت من بين أحبابك، وجهزت لترابك، ونودي أين المغسل؟!
فجاءني رجل منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني
وأودعوني على الألواح منطرحاً وصار فوقي خرير الماء ينظفني
وأسكب الماء من فوقي وغسلني غسلاً ثلاثاً ونادى القوم بالكفن
وألبسوني ثياباً لا كمام لها وصار زادي حنوطاً حين حنطني
ثم ألبسوك الكفن، وحملت إلى العفن، وأخرجت من بين أحبابك، وجهزت لترابك، وأسلمت إلى الدود، وصرت رهيناً بين اللحود، وصار القبر مأواك إلى يوم القيامة ومثواك.
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22].
في لحظة واحدة أصبح العبد كأن لم يكن شيئاً مذكوراً، طويت الصفحات، وصرت في عداد الأموات، تذكر كأن لم تكن في الدنيا، كأن عينيك لم تر، وكأن أذنك لم تسمع، وكأن الأرض لم تضرب عليها الخطى.
وأخرجوني من الدنيا فواأسفا على رحيل بلا زاد يبلغني
وحملوني على الأكتاف أربعة من الرجال وخلفي من يشيعني
وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني
صلوا علي صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني
ثم نقلت عن الأحباب، وحملت إلى التراب، فيا ساكن القبر غداً! ما الذي غرك من الدنيا؟ أين دارك الفيحاء؟ وأين نخلك المضطرد؟ أين رقاق ثيابك؟ فيا مجاور المهلكات! صرت في محل الأموات.
وأنزلوني إلى قبري على مهل وقدموا واحداً منهم يلحدني
وكشف الثوب عن وجهي لينظرني وأسبل الدمع من عينيه أغرقني
فقام محترماً بالعزم مشتملاً وصفف اللبن من فوقي وفارقني
فلا إله إلا الله! من ساعة نزلت فيها أول منازل الآخرة، لا إله إلا الله! إذ صرت في عداد تلك السفينة الناخرة، واستقبلت الحياة الجديدة، فإما عيشة سعيدة أو عيشة نكدة، ونزلت في عداد أولئك الغرباء، بين الأجداث والبلاء، هناك..
في ظلمة القبر لا أم هناك ولا أب شفيق ولا أخ يؤانسني
أين صديقك المؤانس؟ أين رفيقك المجالس؟ لقد وضعت في القبر على غير وهاد ولا وساد، ولا مقدمة زاد ولا استعداد، فتخيل نفسك في ذلك المكان.
فيه الظلام كذا السكون مخيم والروح رُد وجاءني الملكان
فلا إله إلا الله! من دار تقارب سكانها وتفاوت عمارها، فقبر يتقلب في النعيم والرضوان العظيم من الرحيم الحليم الكريم، وقبر في دركات الجحيم، والعذاب المقيم. ننادي ولا مجيب، ونستعصم ولا مستجيب، انقطعت الأيام بما فيها، وعاين الإنسان ما كان يقترف فيها.
وهالني صورة في العين إذ نظرت من هول مَطْلَعِ ما قد كان أدهشني
من منكر ونكير ما أقول لهم قد هالني أمرهم جداً فأفزعني
وأقعدوني وجدوا في سؤالهم ما لي سواك إلهي من يخلصني
أصبحت في ضيق وكربات، وهم وحسرات، من ظلمات القبور وسؤال منكر ونكير، والخلود في البرزخ إلى يوم البعث والنشور.
ضمت القبور أهلها، وانطوت على من حل فيها، فلما حان الموعد جمعت تلك الأشلاء والأعضاء، ونادى منادي الله عليها أن تخرج إلى اللقاء الموعود واليوم المشهود.. إلى يوم تتبدل فيه الأرض غير الأرض والسموات يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم:48].
وخرج الناس من تلك الأجداث وتلك القبور إلى ربهم حفاة عراة غرلاً، فلا أنساب ولا أحساب، ولا جاه ولا عز ولا مال.. فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101].
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا [يس:51-52].
خرج العبد حسيراً كسيراً أسيراً.. خرج حقيراً ذليلاً، فلا أحد يكفيه، ولا شيء يواريه، خرج إلى الله حافياً عارياً.. خرج إلى ربه.. خرج إلى خالقه.. خرج إلى جبار السماوات والأرض ووقف أمامه حتى يسأله ويحاسبه..
هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [يس:52-54].
فلا إله إلا الله! من يوم بطلت فيه الملهيات، وزالت فيه المغريات، وعاين العبد فيه الحقائق أمام عينيه، جُمع فيه الناس على أرض واحدة: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام:94].
كيف احتيالي إذا جاء الكتاب غـداً وقد حشرت بأثقالي وأوزاري
وقد نظرت إلى صحفي مسودة من شؤم ذنب قديم العهد أو طاري
وقد تجلى لهتك الستر خالقنا يوم المعاد ويوم الذل والعار
فلا إله إلا الله! من أرض لم تطأها قدم غير تلك الأقدام، ولا إله إلا الله! إذا شعت الشمس وتبدد الظلام، ولا إله إلا الله! إذا طال الوقوف بين يديه، ولا إله إلا الله! يوم يرهن العبد بما جناه بيديه.
وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
إنه يوم تجتمع فيه الخصوم، وينصف فيه المظلوم.. إنه اليوم الذي أعده الله للعباد، فتنشر فيه الدواوين، وتنصب فيه الموازين، لحكومة إله الأولين والآخرين.
إنها المسئولية العظيمة.. المسئولية الجليلة الخطيرة، إنها مسئولية الآخرة، كل هذه الجموع، وكل هذه الأمم أقيمت في ذلك المشهد العظيم، وذلك اليوم العظيم؛ لكي تنهال عليها الأسئلة، وتعد لها درجاتها ودركاتها بحسب ما تجيب.
إنه اليوم الذي جمع الله فيه الأولين والآخرين من أجل السؤال، هناك حيث تغص الحناجر بغصصها، هناك..
يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر:17].
وأبى الله إلا أن تشخص إلى السماء بعينيك، تنتظر فصل القضاء، تنتظر حكم رب الأرض والسماء، أفي الجنة أم في النار يكون القرار!! وشخصت الأبصار بين يدي الواحد القهار.
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:93-95].
ليت شعري إذا أتيت فردا والموازين قد نصبت حيالي
والدواوين قد نشرت وجئنا والنبيون يشهدون سؤالي
ما اعتذاري وما أقول لربي في سؤالي وما يكون مقالي
هناك حيث تقف بين يدي الله، والشهود حاضرة، والعيون إلى الله ناظرة.. هناك حيث يوقف العبد بين يدي الله جل جلاله، فينادي منادي الله: يا فلان ابن فلانة! قم للعرض على الله. فلا ينادى أحد بأبيه؛ لكي تزول الأحساب والأنساب؛ ويذل العباد بين يدي الله رب الأرباب.
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا [طه:108-109].
فدعيت أمام الأولين والآخرين، فارتعدت فرائصك من خشية الله، واصطكت القدمان بين يدي الله، وجئت من دارك إلى لقاء الله، وسألك الله عن الأيام التي مضت، وعن السنين والأعوام التي انقضت، سألك عن الشباب وما كان فيه من اللهو مع الأصحاب والأحباب.. فنشرت بين يديك الأوقات لا تفوت منها لحظة واحدة، فإما لك وإما عليك.
وعرض عليك الشباب بأيامه وما فيه من الشهوات والملهيات، وكشفت الأستار وتبدت للأنظار، هناك حيث تشهد عليك الليالي بما اجترحت فيها.