خان الخليلي
مدة
قراءة المادة :
4 دقائق
.
للأستاذ نجيب محفوظ
بقلم السيدة وداد سكاكيني
من خصائص هوجو في قصصه أنه طويل النفس في إنشائها، مسترسل الوصف لشخوصها، أنه ليفيض في تصوير الشاعر كرنكوار أحد أبطال رواياته فلا تنتهي من وصفه بصفحات إذ يبدأ رسمه إلى أخمص قدميه، فذكرني بهذا الفن المسهب قصة جديدة للأديب الموهوب نجيب محفوظ، سماها (خان الخليلي) وقد عجبت لفن فتى اكتمل قبل الكهولة، إنه ليصف لنا أحمد عاكف بطل قصته، فيصوره من طرة طربوشه إلى كتابة العلية، وكان بقلمه تلاوين الرسامين. على أن القاص لا بد أن يوطد قلمه على مثل هذا الإمعان في التصوير والتحليل، لا سيما إذا كانت روايته تقع في نحو من خمسين فصلا، وكذلك كان هوجو في روايته البؤساء ونوتردام دوباري. وقد كان من نهضة الفن القصصي في بلاد الغرب أن رأينا أدباء مبرزين في أثارهم التي كتبوها مستوحاة من آفاقنا وأساطيرنا، فأديب البؤساء الذي كتب (المشرقيات) له أنداد من قومه شغفوا بالقصص عن المشرق والشرقيين، فرومان دورجليس حين دار بلاد الشام أوحى إليه فنها العريق أن يكتب روايته المشهورة (قافلة بغير جمال) وقد غفل أدباؤنا عن هذا الفن الخصيب فبقيت أقلامهم مكفوفة عن ذخائرنا حتى يأتيها كاتب غربي فيثير كوامنها ويستخرج لآلئها، ولكن عزاني اليوم في زهادة أدباء العرب بفن بلادهم، أن رأيت مؤلف (خان الخليلي) وهو مصري صميم، تتكشف له مصر في عراقتها وشرقيتها عن مكامن فن أخاذ، فراح يغمس فيه قلمه، ويتطلع من خلاله إلى بلده فيصور أهل حي شعبي من أحياءها الخافقة بالناس، وكأن دروبه عروق تنبض بالإنسان في جسم القاهرة، فوصف القاص حياة موظف من هؤلاء الموظفين الذين لا يهنم هم إلا الغدو على عملهم الراتب، وتزجية الشهر استهدافاً للمرتب والدرجة، وفي تضاعيف القصة صور لنا حياة أسرة مصرية تركت سكنها القديم وجاءت خان الخليلي خشية الغارات الجوية التي أصابت القاهرة في هذه الحرب كانت حياة بطل القصة وهو الموظف مثل بركة ماء بقيت هادئة إلى أن اضطربت م تأثير الغارات ثم سكنت بعد تغيير السكن، وما لبثت أن ثارت بها عاصفة من عواصف الحياة التي لا تترك غصناً حتى تهزه ولا ورقة عليه حتى تسقطها، تلك عاصفة الحب، ولقد كان هذا الموظف كهلا خاملا، فاستحيا من هذا الحب، وهاهنا تظهر براعة القصص في تصوير العواطف المكبوتة التي كانت نائمة مخدرة في نفس أحمد عاكف حتى أطلت بترددها وقلقها حين عدا عليه في حبه أخوه رشدي فانتزع منه بمرحه ومغامرته تلك النبتة التي عاهد النفس على تعهدها بالإرواء. وغدا هذا الأخ الطياش مصدوراً، فهو على مشارف الردى وقد ضاع من صدر عاكف كل تذمر وخشية منه لمزاحمته على حبه، وتضاءل وجده على الفتاة المحبوبة بوجده على المريض الذاوي، فهم يفديه بالروح وبذل العناية حتى قضى نحبه، فجثم الأسى على بيت عاكف بعد أن عصف الحب بالأخوين حيناً من الدهر، حتى احترقا به معاً واستقر الحداد بعبئه على الأبوين، ولم يكن أشقى لهذه الأسرة المنكوب من أن تبارح (خان الخليلي) وتلجأ إلى ضاحية من ضواحي القاهرة. حببت هذه القصة إلى نفسي أن أزور (خان الخليلي) وأنا في مصر لأملأ العين من حي سيدنا الحسين، فأرى بالنظر ما توهمته بالخيال في قصة الأستاذ نجيب محفوظ الذي وصف مقاهي الحي البلدي ونداوته الشعبية وأسواقه وسكانه العاكفين على خبرهم اليومي، فجاءت قصته ذات روح مصرية خالصة بشخوصها وحوادثها، فاذكرني إحسان محفوظ لفنه الشرقي الممحوض إساءة بعض الأدباء بسطوهم على آثار غربية نحلوها أدبهم وزوروها، فبدت فيها طوابع أقاليمهم زائفة شافة عن تمرد فنها وقلقة، ولا على كاتب (خان الخليلي) أن يكون تعبيره في قصته سهلاً ليناً، فإن شخوصها يتحاورون، ومن التحذلق أن يجري على ألسنتهم أساليب البلاغة الإلزامية. وبعد فهذا الأثر الطريف للأستاذ نجيب محفوظ ثمرة طيبة في فن القصة المعاصرة ومن قطوف لجنة النشر للجامعيين القاهرة وداد سكاكيني