السلاح المعطل


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

معاشر الأحبة نساءً ورجالاً، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته!

حياكم الله وبياكم وسدد على طريق الحق خطاي وخطاكم، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته إخواناً على سرر متقابلين، أسأله سبحانه أن يحفظني وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا هداة مهتدين، لا ضالين ولا مضلين.

عنوان اللقاء أحبتي في هذه الليلة المباركة: السلاح المعطل وهو الدعاء.

وسيتكون الحديث من سهام لا من عناصر، لأن الحديث عن السلاح فكان مناسباً أن نرسل سهاماً إلى المسامع، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا إن القوة الرمي).

السهم الأول: مقدمة عن الدعاء وشروطه.

السهم الثاني: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [الأنفال:9].

السهم الثالث: سهام الجمعة.

السهم الرابع: الله المستعان.

السهم الخامس: بمن تنتصر الأمة؟

السهم السادس: سؤال يطرح نفسه؟

السهم السابع: سهام عابرة للقارات.

السهم الثامن: كيف تفتح أبواب الجنان؟

السهم التاسع: أجمل وأحلى الأوقات.

السهم العاشر: كيف تعطل السلاح؟

والسهم الأخير: آخر السهام.

فتعالوا أحبتي ننطلق!

يوم أن أطلق الأولون سهام الدعاء في الأسحار وأوقات الإجابة، قهروا أعداءهم وسادوا وشادوا، فليس أكرم على الله من الدعاء، فهو العبادة، وهو الذل والانكسار، وهو الرجاء والافتقار، وهو طريق الصبر والانتصار؛ فيه صدق اللجوء وتفويض الأمر والتوكل على الله.

عبادة سهلة ميسرة غير مقيدة بمكان ولا زمان، ولا حال من الأحوال، فهي في الليل والنهار، والبر والبحر والجو، وفي السفر والحضر، وحال الغنى والفقر، والمرض والصحة، والسر والعلانية.

فالدعاء -وايم الله- وظيفة العمر، به يرفع البلاء ويدفع الشقاء، قال تعالى عن خليله إبراهيم: وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا [مريم:48].

بالدعاء تستجلب الرحمات وبه العز والتمكين ورفعة الدرجات.

فلله ما أعظم الدعاء! وما أعظم نعمة الله على عباده به!

جمعت شروطه وآدابه في قوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:55-56].

أركانه: الإخلاص، والمتابعة، مع اليقين وحسن الظن بالله، من غير اعتداء بإثم أو قطيعة، مع الاستفتاح بالحمد والثناء على رب الأرض والسماء بما هو أهله، والصلاة على خاتم الأنبياء في أوله ووسطه وخاتمته - فهي للدعاء كالجناح يصعد بخالصه إلى عنان السماء - مع طيب مطعم، وملبس، ومسكن، وإيقان بالإجابة وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].

فإذا استوفى الدعاء شروطه وانتفت موانعه لا يرد بإذن الله.. قال سهل التستري : شروط الدعاء سبعه: أولها التضرع والخوف والرجاء والمداومة والخشوع والعموم وأكل الحلال.

وقال ابن عطاء : إن للدعاء أركاناً، وأجنحة، وأسباباً، وأوقاتاً، فإن وافق أركانه قوي، وإن وافق أجنحته طار في السماء، وإن وافق مواقيته فاز، وإن وافق أسبابه أنجح؛ فأركانه: حضور القلب والرأفة والاستكانة والخشوع، وأجنحته: الصدق، ومواقيته: الأسحار، وأسبابه: الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم.

جاء في الأخبار والسير عن عمر رضي الله عنه قال:

لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف فقال: اللهم إنهم قلة فكثرهم، حفاة فاحملهم، جياع فأطعمهم. ثم نظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه إلى السماء وعليه رداؤه وإزاره ثم قال: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصبة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض أبداً.

قال: فما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرده على ظهره، ثم التزمه من ورائه ثم قال: يا نبي الله! كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز ما وعدك، فأنزل الله جل في علاه: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9]، يقول أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: فخفق النبي صلى الله عليه وسلم خفقة -أي إغفاءة قليلة- ثم انتبه ثم قال: أبشر يا أبا بكر ! أبشر يا أبا بكر ! أتاك نصر الله.. أتاك نصر الله، هذا أخي جبريل آخذ بعنان فرسه.

لا إله إلا الله! سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر:45-46].

لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.

صدق الرجال مع الله فصدق الله معهم، استشارهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الموقف، فقال: أشيروا علي أيها الناس! فقال المهاجرون: يا رسول الله، امض لما أمرك الله فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ولجالدنا من دونك، ما تخلف منا رجل واحد، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، ولكن نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.

ثم تكلم الأنصار فقالوا: يا رسول الله! آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، امض لما أردت ونحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه أمامك ما تخلف منا رجل واحد، والله لو أمرتنا أن نرمي بأنفسنا من أعالي الجبال لرميناها ما تخلف منا رجل واحد، يا رسول الله! صل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وسالم من شئت وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، واترك ما شئت، فوالله للذي أخذته أحب إلينا مما تركت، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً.. إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، فسر بنا على بركة الله.

إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:10].

نصروا الله فنصرهم، قال عنهم سبحانه: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:123-126].

كيف انتصر هؤلاء؟

انتصروا بالدعاء والتضرع إلى رب الأرض والسماء، باعوا الأنفس والأموال فاشتراها الله، فربح البيع والله. البـائعـون نفـوسهم لـمليكهم الله أمـضى بيعهم وتكـرما

والحامـلين إلى الوغـى أرواحـهم وعلى نحورهم تحدرت الدما

قوم كـأن وجوههم شمس الضـحى طلعت ففر الليل كالح مظلما

إن أسـدل اللـيل البهـيم ستـاره عكفوا على آي الكتاب ترنما

أو أشرق الصـبح البهيج فلن تـرى إلا الكتائب حاسراً ومعـمما

ملكوا الفـؤاد وما دروا يا ويحـهم أن الفـؤاد بهـم يـهيم متيما

يـتـلـذذون بـبـذلهم ويـرونـه حـقاً أكـيداً للإلـه ومغنما

ربح البيع والله!

أن تجعل حياتك كلها خالصة لوجه الله، دعوة لله وجهاداً في سبيل الله، حياة ظاهرها عذاب وضيق، وباطنها عذوبة وبريق، ظاهرها دموع وألم، وباطنها خشوع وأمل، تعب الجسد ونعيم الروح، جسد يمشي على الأرض وروح ترفرف حول العرش.

قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]: قال ابن عباس : فضل الله هو الإسلام، ورحمته أن جعلكم من أهل القرآن.

اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، وقاعدين، وراقدين، أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، يا رب العالمين.

السهم الثالث: سهام الجمعة.. وما أدراك ما يوم الجمعة!

أين السابقون يوم الجمعة؟!

لا تنصر الأمة إلا بأولئك الذين يرفعون أكف الضراعة إلى رب الأرض والسماء.

في معركة عين جالوت انتظر الملك المظفر قطز بالمسلمين وقت صلاة الجمعة ليباشروا قتال أعدائهم وخطباء المسلمين على المنابر يعجون مع المسلمين إلى الله بالدعاء أن يؤيدهم وينصرهم.

ولما نشبت المعركة واشتدت تعرض السلطان للقتل على أيدي التتار، فأحاط به مجموعة من الفرسان قذفوا بأنفسهم شاهرين سيوفهم يدافعون عنه، وكان منهم فارس ملثم يدافع عنه، فأصابته طعنة قاتلة خر على إثرها صائحاً: صن نفسك يا سلطان المسلمين.. صن نفسك يا سلطان المسلمين! ها قد سبقتك إلى الجنة.. ها قد سبقتك إلى الجنة!

ولما تبين للسلطان أن الفارس الملثم إنما هو السلطانة زوجته هاله الأمر.

اسمعي رعاك الله.. اسمعي بارك الله فيك!

حمل زوجته حتى أدخلها الخيمة، ووضعها على فراشها، وأخذ يقبل جبينها والدموع تنهمر من عينيه وهو يقول: وازوجاه! واحبيبتاه! فأحست به ورفعت نظرها إليه، وقالت بصوت متقطع وهي تجود بروحها: لا تقل واحبيبتاه! لا تقل واحبيبتاه! ولكن قل: واإسلاماه! ثم ما لبثت أن لفظت أنفاسها الأخيرة.

فوضع السلطان على جبينها قبلة، ومسح دموعه، وترك الشهيدة لمن يتولى تجهيزها، وخرج إلى جيشه فكبر وكبروا، وحملوا واستبسلوا، واشتدت الهجمات، فتقدم السلطان فكشف عن خوذته وألقى بها إلى الأرض، وصرخ بأعلى صوته: واإسلاماه.. واإسلاماه! ودعوات المصلين في المساجد ترتفع إلى رب الأرض والسماء: اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم دمر الشرك والمشركين.

وحمل القائد المظفر قطز ومن معه على التتار حملة صادقة وهم يرددون آيات الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ [الأنفال:15]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:45-46].

بالصبر والثبات والدعاء تنتصر الأمة على الأعداء، برهبان الليل وفرسان النهار يقهر الكفار.

اعلمي رعاك الله! واعلم بارك الله فيك! أن قيام الليل وإطلاق السهام في الظلام عز في الدنيا وشرف في الآخرة وعون على الأعداء في الجهاد.

سأل عظيم الروم رجلاً من أتباعه - كان قد أسر مع المسلمين - فقال: أخبرني عن هؤلاء القوم! قال: أخبرك كأنك تنظر إليهم، هم رهبان بالليل، فرسان بالنهار، لا يأكلون في ذمتهم إلا بثمن، ولا يدخلون إلا بسلام، يقفون على من حاربوه حتى يأتوا عليه.

فقال عظيم الروم: لئن صدقت ليملكن موقع قدمي هاتين.

ولقد فعلوا.. ولقد فعلوا لله درهم.

ملكنا هذه الدنيا قرونا وأخضعها جدود خالدونا

وسطرها صحائف من ضياء

فما نسى الزمان ولا نسينا

وكنا حين يأخذنا ولي

بطغيان ندوس له الجبينا

وما فتئ الزمان يدور حتى

مضى بالمجد قوم آخرونا

وأصبح لا يرى في الركب قومي

وقد عاشوا أئمته سنينا

وآلمني وآلم كل حر سؤال الدهر: أين المسلمونا

نعم أيتها الغالية! تقدمت الأمة يوم أن صامت، وقامت، وحكمت كتاب ربها وسنة نبيها؛ فلما ضيعت الأوامر ضاعت وتعطلت أسلحتها، ولما نسيت أمر الله نسيها، ولم تصب سهامها، وتسلط عليها أعداؤها.

يقول أحد مراسلي الإذاعات عن مجزرة وقعت في كشمير: رأيت مجزرة لم أشهد أبشع منها؛ كان ضحيتها ألفاً من المسلمين، كنت أرى جثثاً بلا رءوس لأطفال ونساء.

لماذا يذبحون؟!

لماذا يذبحون ونستكين ولا أحد يرد ولا يبين

أللإسلام نسبتنا وهذا دم الإسلام أرخص ما يكون

دم الإسلام مسفوك فمن ذا يرد له الكرامة أو يصون

تحاصرنا المجازر كل يوم وتهدم في مرابعنا الحصون

فكم من مسجد أضحى يباباً وعاث به التهتك والمجون

وما ذنب الضحايا غير ديـن تهون له النفوس ولا يهون

الله المستعان:

يوم تعطلت أسلحتنا وسهامنا، فعلوا بنا هذا، فالله المستعان.

إذا حل الأمر الصعب، وادلهم الخطب، وعم الجدب، فالله المستعان.

إذا أظلم الأفق، وضاقت الطرق، وانشق بالمصائب الأفق، فالله المستعان.

إذا جاعت البطون، وأخطأت الظنون، وحلت المنون، فالله المستعان.

إذا قست القلوب، وظهرت العيوب، وكثرت الذنوب، فالله المستعان.

إذا فقد الولد، وقحط البلد، وضعف السند، فالله المستعان.

سبحان من انتشل ذا النون من الظلمات، ونجا نوحاً من الكربات.

سبحان من أطفأ النار لإبراهيم، وجمد الماء للكليم.

سبحان من على العرش استوى، سبحان من يسمع ويرى.. سبحان الله العظيم.

سبحان من لا يموت، سبحان من تكفل بالقوت، سبحان من وهب النور في الأبصار، وقصر بالموت الأعمار. لا إله إلا الله، لا نعبد سواه، غالب فلا يقهر، أغنى وأقنى، أضحك وأبكى، وهو رب الشعرى.

لا إله إلا الله! عدد ما خطت الأقلام، وسجع الحمام، وهطل الغمام، وقوضت من منى الخيام.

لا إله إلا الله كلما برق الصباح، وهبت الرياح، وكلما تعاقبت الأحزان والأفراح، عز فارتفع، خضع له كل شيء وركع، أعطى ومنع، خفض ورفع، وأعز وأذل، يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29].

يهدي ضالاً، ويغني فقيراً، ويغفر ذنباً، ويستر عيباً، وينصر مظلوماً، ويقصم جباراً،

أتهزأ بالدعـاء وتـزدريه وما تدري بما صنع الدعاء

سهام الليل لا تخطي ولكن لها أمد وللأمد انقضاء

تنتصر الأمة بأولياء الله الصالحين، بالمخلصين والصادقين الذين رباهم القرآن، أولئك الذين تربوا في روضة القرآن، وفي ظل الأحاديث الصحاح.

عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه

وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم جاءوا إلى الموت يستجدون رؤياه

قال الحسن البصري رحمه الله: قراء القرآن ثلاثة أصناف: صنف اتخذوه بضاعة، وصنف أقاموا حروفه وضيعوا حدوده، وصنف وضعوا القرآن على داء قلوبهم فاستشعروا الخوف فقاموا في محاريبهم.

بمثل هؤلاء تنتصر الأمة على أعدائها، وبمثل هؤلاء يستسقى الغيث من السماء.

قال: فوالله الذي لا إله إلا هو لهذا الصنف من حملة القرآن أقل من الكبريت الأحمر.

لما صف المسلمون يوم اليمامة لقتال مسيلمة الكذاب ومن معه، حمل راية المهاجرين سالم مولى أبي حذيفة فقالوا له: إنا لنخشى أن نؤتى من قبلك، فقال: إن أتيتم من قبلي فبئس حامل القرآن أنا أكون!

بات قتيبة بن مسلم ليلة لقائه مع الترك باكياً متضرعاً، فلما أصبح الصباح سأل: أين محمد بن الواسع ؟ فبحثوا عنه فوجدوه يصلي ويدعو رافعاً أصبعه إلى السماء، فأخبروا قتيبة بن مسلم بذلك فقال: والله لأصبع محمد بن الواسع أحب إلي من ألف سيف شهير، وألف شاب طرير.

ولما حاصر عمرو بن العاص رضي الله عنه حصن بابليون بمصر طلب من عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يمده بمدد عدده أربعة آلاف مقاتل يستعين بهم على إتمام فتح مصر، فأرسل إليه عمر أربعة رجال وعلى رأسهم الزبير بن العوام ، وكتب إليه: بعثت إليك بأربعة رجال وعلى رأسهم الزبير ؛ كل رجل بألف رجل، ولقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (جيش فيه المقداد لا يهزم بإذن الله).

بمثل هؤلاء تنتصر الأمة، أولئك الذين إذا رؤوا ذكروا بالله عز وجل، أولئك الذين تنبعث من وجوههم أنوار الطاعة، أولئك الذين قال الله عنهم: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، أولئك الذين إذا قال المرء منهم: يا رب! قال الله: لبيك وسعديك، أولئك الذين تربوا في محاريب الظلام، أولئك الذين تدربوا على إطلاق السهام في صلاة القيام.

لما انتدب الله محمداً صلى الله عليه وسلم للدور الكبير الشاق الثقيل قال له: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:1-6].

وربى محمد صلى الله عليه وسلم أصحابه في تلك المدرسة؛ مدرسة الليل، إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ [المزمل:20].

في مدرسة الإخلاص تربى الرجال والنساء، إنها التربية على الصبر، والإخلاص، ومجاهدة النفس، وعلو الهمة.

قال قتادة رحمه الله: لا يقوم الليل منافق -وصدق والله- لا يقوم الليل إلا مؤمن صادق.

فإذا أردت الانضمام إلى ركب الصالحين فعليك بسهام الليل والدعاء.

إن كنت فقيراً تشتكي الفقر فعليك بسهام الليل والدعاء.

إن كنت مظلوماً تريد الانتصار فعليك بسهام الليل والدعاء.

إن كنت قد أثقلتك الذنوب والمعاصي فعليك بسهام الليل والدعاء.

إن كنت مريضاً تطلب الشفاء فعليك بسهام الليل والدعاء.

إن كنت عقيماً تريد الأطفال فعليك بسهام الليل والدعاء.

عن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومقربة لكم إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، وملهاة عن الإثم، ومطردة لداء الجسد)، رواه الطبراني في الكبير.

قال ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: (فضل صلاة الليل على صلاة النهار كفضل صدقة السر على صدقة العلانية).

وإنما فضلت صلاة الليل على صلاة النهار لأنها أبلغ في الإسرار وأقرب إلى الإخلاص.

مدح الله سبحانه وتعالى المستيقظين بالليل لذكره ودعائه واسغفاره ومناجاته بقوله: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16]، وقال: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:17]، وقال عن ليلهم: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان:64].

ونفى سبحانه التسوية بين المتهجدين القانتين وغيرهم في قوله: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9].

من مزايا أهل الليل: أن الله يحبهم ويباهي بهم ويستجيب دعاءهم.

روى الطبراني عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم ويستبشر بهم، فذكر منهم: الذي له امرأة حسناء، وفراش حسن، فيقوم من الليل، فيقول الله تعالى: يذر شهوته ويذكرني ولو شاء رقد، والذي إذا كان في سفر وكان معه رهط فسهروا ثم هجعوا، فقام هو من السحر يتملقني).

قال بعض السلف: قيام الليل يهون طول القيام يوم القيامة.

السؤال الذي يطرح نفسه: كيف استطاعوا القيام وإطلاق السهام؟

الجواب: استطاعوا بأمور:

منها وأهمها: الصدق والإخلاص.

ومنها: سلامة الصدور، وخلوها من الأحقاد، وتعلقها بالآخرة، فلا هم إلا هم الآخرة.

كان داود الطائي يناجي في الليل: اللهم همك عطل علي الهموم، وحالف بيني وبين السهاد.

والأهم منها خوف لازم القلوب وقصر الأمل، لأنه من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، لأن من تفكر في أهوال الآخرة، ودركات جهنم طار نومه وعظم حذره، كما قال طاوس : إن ذكر جهنم طير نوم العابدين.

وكما قال ابن المبارك :

إذا ما الليل أظلم كابدوه فيسفر عنهم وهم ركوع

أطار الخوف نومهم فقاموا وأهل الأمن في الدنيا هجوع

ومن ذلك أيضاً: عرفوا فضل قيام الليل يوم تليت عليهم الآيات تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16].

سمعوا قوله: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17].

سمعوا قوله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لمن أفشى السلام وطيب الكلام وصلى بالليل والناس نيام).

ومن الأمور أيضاً وأعجبها: الحب الصادق، جربوا لذة المناجاة، وحلاوة الخلوة مع الحبيب.

قال أحدهم: أفرح لقدوم الليل لأني أخلو بربي وأكره قدوم النهار لملاقاة الناس.

قال علي البكار : أربعين سنة ما أحزنني شيء سوى طلوع الفجر.

إن كانت صواريخهم طويلة المدى فصواريخ الدعاء سهام عابرة للقارات.

اسمع واسمعي ماذا يصنع الدعاء!

خرج رجل من الصالحين العباد الزاهدين في تجارة فاعترضه قاطع طريق فقال: أقتلك، قال: خذ المال والتجارة، ودعني أمضي في طريقي، فقال: سآخذ المال والتجارة وسأقتلك، فقال العابد الزاهد: دعني أصلي لله قبل أن ألقاه، قال: صل ما بدا لك! فصلى، ورفع شكواه إلى الذي يسمع سره ونجواه، دعاه سراً وناجاه: يا ودود! يا ذا العرش المجيد! يا فعالاً لما تريد! أسألك بعزك الذي لا يرام، وبملكك الذي لا يضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك، يا مغيث أغثني! يا مغيث أغثني! يا مغيث أغثني!

سلم وأنهى صلاته، فإذا بقاطع الطريق ملقىً على الأرض ينزف دماً وعلى رأسه فارس أبيض، ذو ثياب بيضاء وعمامة بيضاء، على فرس أبيض، فقال من شدة الفرح: من أنت؟! قال: أنا ملك من السماء الرابعة، لما دعوت الدعاء الأول قرقعت أبواب السماء، ولما دعوت الدعاء الثاني ضجت الملائكة في السماء، ولما دعوت الدعاء الثالث قلت: يا ربي! مضطر يناديك، فائذن لي في إغاثته، أنا من جند أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62].

يا صاحبي في شدتي، ويا مؤنسي في وحدتي، ويا حافظي عند غربتي، ويا وليي في نعمتي، ويا كاشف كربتي، ويا سامع دعوتي، ويا راحم عبرتي، ويا مقيل عثرتي، يا إلهي بالتحقيق، يا ركني الوثيق، يا رجائي عند الضيق، يا مولاي الشفيق، ويا رب البيت العتيق، أخرجني من حلق المضيق إلى سعة الطريق، وفرج من عندك قريب وثيق، واكشف عني كل شدة وضيق، واكفني ما أطيق وما لا أطيق.

اللهم فرج عني كل هم وكرب، وأخرجني من كل غم وحزن، يا فارج الهم، يا كاشف الغم، يا منزل القطر، يا مجيب دعوة المضطرين، يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، يا كاشف كل ضر وبلية، ويا عالم كل سر وخفية، يا أرحم الراحمين.

قال أبو الدرداء رضي الله عنه: ادع الله يوم سرائك، يستجب لك يوم ضرائك) -إي وربي- (من تعرف على الله في الرخاء تعرف الله عليه في الشدة).

إن الدعاء عباد الله! من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب، ومن أنفع الأدوية، وهو يدفع البلاء ويعالجه ويمنع نزوله ويرفعه أو يخففه إذا نزل.

لن ينفع حذر من قدر، ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم بالدعاء، فعليكم بالدعاء عباد الله!

رجل يقال له صهيب يسهر الليل، يبكي، ويناجي، فعوتب على ذلك، فقالت له مولاته: أفسدت على نفسك يا صهيب ! فقال: إن صهيباً إذا ذكر الجنة طال شوقه، وإذا ذكر النار طار نومه.

سبحانك ما أضيق الطريق على من لم تكن دليله، وما أوحش الطريق على من لم تكن أنيسه.

طوبى لقلوب ملأتها خشيتك، واستولت عليها محبتك، فمحبتك مانعة لها من كل لذة غير مناجاتك والاجتهاد في مرضاتك، وخشيتك قاطعة لها عن كل معصيه خوفاً من أليم عقابك.

ما ضر المقبلين على الله ما فاتهم من الدنيا إذا كان الله لهم حظاً، وما ضرهم من عاداهم إذا كان الله لهم سلماً.

ولله در القائل:

هنيئاً لمن أضحى وأنت حبيبه ولو أن لوعات الغرام تذيبه

وطوبي لقلب أنت ساكن سره ولو بان عنه إلفه وقريبه

فما ضر قلباً أن يبيت وما له نصيب من الدنيا وأنت نصيبه

ومن ترض عنه أنت في طي غيبه فما ضره في الناس من يستغيبه

فيا علة في الصدر أنت شفاؤها ويا مرضاً في القلب أنت طبيبه

وصدق الله وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا، قال سبحانه: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [النمل:62].

والدعاء سلاح المؤمن والمؤمنة، والسلاح بضاربه، فمتى كان السلاح قوياً لا آفة فيه، والساعد قوياً، والمانع مفقوداً، حصلت النكاية في العدو؛ ومتى تخلف واحد من هذه الثلاث تخلف التأثير.

فتدربوا على استعمال السلاح، واعلموا أن العلم بالتعلم، والصبر بالتصبر، والحلم بالتحلم.

فيا معلم آدم وإبراهيم علمنا، ويا مفهم سليمان فهمنا، علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً يا رب العالمين.

بالدعاء والتضرع تفتح أبواب الجنان

قال سبحانه في سورة الطور: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [الطور:17-18].

اسمعي واسمع رعاك الله! إذا استقر المتقون في الجنان دار بينهم هذا الحوار، قال الله: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:25-28].

اسمعي واسمع أثر الدعاء! إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ * فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ [الطور:28-29].

قال السعدي رحمه الله في قوله: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قال يتساءلون عن الدنيا وأحوالها، ثم أخذوا في بيان الذي أوصلهم إلى ما هم فيه من الحبرة والسرور: قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ، أي في الدنيا كنا خائفين وجلين، فتركنا من خوفه الذنوب، وأصلحنا لذلك العيوب، فكان نتيجة ذلك: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ، أي من علينا بالهداية والتوفيق، وأجارنا وأنقذنا من عذاب الجحيم.

ثم بينوا حالهم وما الذي كان سبباً في فوزهم ونجاتهم، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ، كنا نسأله وندعوه أن يقينا عذاب السموم وأن يوصلنا إلى جنات النعيم، فمن بره ورحمته بنا أنالنا رضاه والجنة، ووقانا سخطه والنار.

سر نجاتهم أنهم عاشوا على حذر من هذا اليوم، عاشوا في خشية من لقاء ربهم، عاشوا مشفقين من حسابه، عاشوا كذلك وهم في أهلهم حيث الأمان الخادع، لكنهم لم ينخدعوا حيث المشغلة الملهية، فرفعوا إلى الله سؤالهم وحاجاتهم، وتضرعوا إليه، طلباً للفوز والنجاة، وهم يعرفون من صفاته أنه البر الرحيم بعباده.

أخرج أحمد في مسنده عن عبد الرحمن رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء).

في إحدى معارك المسلمين قال المغيرة بن حبيب : لما برزنا للعدو قال عبد الله بن غانم: هذه الجنان تزينت، فعلام آسى من الدنيا، فوالله ما فيها لعاقل مقام، ووالله لولا محبتي لمباشرة السهر بصفحة وجهي، وافتراش جبهتي في ظلم الليل رجاء الثواب وحلول الرضوان، لتمنيت فراق الدنيا وأهلها. ثم كسر جفن سيفه وتقدم وقاتل حتى قتل، فلما دفن أصابوا من قبره رائحة المسك، فرآه رجل فيما يرى النائم فقال له: يا أبا سراق! ماذا صنعت؟ قال: خير الصنيع.

قال: إلام صرت؟ قال: إلى الجنة، قال: بم؟ قال: بحسن اليقين، وطول التهجد، وظمأ الهواجر، وكثرة الدعاء.

قال: فما هذه الرائحة الطيبة التي توجد من قبرك؟ قال: تلك رائحة التلاوة والظمأ.

قال: أوصني! قال: أوصيك بكل خير.

قال: أوصني! قال: اكسب لنفسك خيراً، لا تخرج عنك الليالي والأيام عطلاً، فإني رأيت الأبرار نالوا البر بالبر، قال سبحانه: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ [المطففين:22-27].

حتى تكون منهم فعليك بالدعاء والتضرع، فلقد قالوا: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:26-27].

ردد وقل:

أتيتك سائلاً فارحم عنائي فعندك يا كريم دواء دائي

فيا مولى الورى جد لي بعفو ومن بنظرة فيها شفائي

رأيت كثير ما أهدي قليلاً لمثلك فاقتصرت على الثناء

اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بأسوأ ما عندنا.

أجمل الأوقات هي ساعات الإجابة.

فمنها: عند الأذان، وبين الأذان والإقامة، وأدبار الصلوات المكتوبة، وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تقضى الصلاة، وآخر ساعة بعد العصر من ذلك اليوم.

ما أجمل وأحلى تلك الساعات!

أما أجمل منها وأحلى منها: فثلث الليل الأخير ساعة السحر، كيف لا وهو وقت النزول الإلهي، أخرج أحمد في مسنده وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ينزل الله عز وجل كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول: من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ من ذا الذي يسترزقني فأرزقه؟ من ذا الذي يستكشف الضر أكشفه عنه؟ حتى ينفجر الفجر).

قال سبحانه: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:17].

جاء في كتب التفاسير أنه لما قال أبناء يعقوب له: اسْتَغْفِرْ لَنَا [يوسف:97] أخرهم إلى السحر لقوله: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ [يوسف:98].

وفي الزهد لـابن حنبل : (أن داود عليه السلام سأل جبريل عليه السلام: يا جبريل! أي الليل أفضل؟ قال: يا داود! لا أدري إلا أن العرش يهتز من السحر).

قلت لليل هل في جوفك سر عامر بالحديث والأخبار

قال لم أر حديثاً كحديث الأحباب في الأسحار!

قال صلى الله عليه وسلم: (إن من الليل ساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله تعالى خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه، وذلك كل ليلة)، فأين السائلون؟!

فيا ألله ما أحلى حديثهم ودموعهم، ومناجاتهم في تلك الساعات!

فقائل منهم يناجي ويقول:

يا خير معبود، ويا خير مسئول، وخير مشكور، ويا خير محمود، ويا خير مقصود، أحلى العطايا في قلبي رجاؤك، وأعذب الكلام على لساني ثناؤك، اللهم أغلقت الملوك أبوابها، وقام عليها حراسها وحجابها، وبابك مفتوح للسائلين، نامت العيون، وغارت النجوم، وعينك لا تنام يا حي يا قيوم.

وآخر يردد ويقول:

إلهي! فرشت الفرش، وخلا كل حبيب بحبيبه، وأنت حبيب المتهجدين، وأنيس المستوحشين.

إلهي! إن طردتني عن بابك، فإلى باب من ألتجي، وإن قطعت عني خدمتك، فخدمة من أرتجي.

إلهي! إن عذبتني فإني مستحق العذاب والنقم، وإن عفوت فأنت أهل الجود والكرم.

إلهي! أخلص لك العارفون، وبفضلك نجا الصالحون، وبرحمتك أناب المقصرون، يا جميل العفو أذقني برد عفوك، إن لم أكن أهلاً لذلك، فأنت أهل التقوى وأهل المغفرة.

فاز -والله- من سبح والناس هجوع، يدفن الرغبة ما بين الضلوع

يغشاه سكون وخشوع بذكر الله والدموع هموع

سوف يغدو - والله - ذلك الدمع شموع

كان بعض السلف يقول: اللهم إن منعتني ثواب الصالحين، فلا تحرمني أجر المصاب على مصيبته، اللهم إن لم ترض عنا فاعف عنا يا أرحم الراحمين.

أين أحباب الرحمن؟! أين خطاب الجنان؟!

يا قوام الليل في الأسحار! اشفعوا في النوام، يا أحياء القلوب! ترحموا على الأموات.

يقول مالك بن دينار : سهوت ليلة عن وردي ونمت، فإذا أنا في المنام بجارية كأحسن ما يكون وبيدها رقعة، فقالت: أتحسن القراءة؟ فقلت: نعم، فدفعت إلي الرقعة فإذا فيها:

أألهتك اللذائذ والأماني عن البيض الأوانس في الجنان

تعيش مخلداً لا موت فيها وتلهو في الجنان مع الحسان

تنبه من منامك إن خيراً من النوم التهجد بالقران

يقول ابن القيم : عجباً لمن آثر الحظ الفاني الخفيف على الباقي النفيس! فباع جنة عرضها الأرض والسماوات بسجن ضيق بين أرباب العاهات! عجباً للجنة كيف نام طالبها، وكيف لم يدفع مهرها خاطبها! وكيف طاب العيش في هذه الـدار بعـد سماع أخبـارها؟!

تأمل في قول أهل الجنان: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:28]، فكيف غفلت عن تلك الساعة التي ينزل الله فيها إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وعظيم سلطانه فيقول: هل من تائب؟! هل من داع؟!

والله لو قام أهل الحاجات وأهل الذنوب في الأسحار، وسألوا مولاهم، وقدموا الطلبات، ورفعوا الحاجات، وأتبعوها بالاستغفار والآهات، لرقت قلوبهم، وقضيت حاجاتهم، وسترت عيوبهم، وغفرت ذنوبهم، وأقيلت العثرات، ومحيت الزلات.

والله لو شممت رحيق الأسحار لاستفاق منك قلبك المخمور.

كيف تعطل ذلك السلاح؟

تعطل يوم أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لك)، رواه الترمذي وقال حديث حسن؛ فهل أمرنا بالمعروف، ونهينا عن المنكر، لعل الله أن يستجيب دعاءنا.

تعطل السلاح يوم أكل الحرام، جاء عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الرجل يمد إليه إلى السماء ويقول: يا رب.. يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له.

تعطل السلاح يوم كثرت الذنوب والمعاصي، جاء في الأثر: (ما طفف قوم كيلاً، ولا بخسوا ميزاناً، إلا منعهم الله عز وجل القطر، وما ظهر في قوم الزنا إلا ظهر فيهم الموت، وما ظهر في قوم الربا إلا سلط الله عليهم الجنون، ولا ظهر في قوم القتل إلا سلط عليهم عدوهم، ولا ظهر في قوم عمل قوم لوط إلا ظهر فيهم الخسف، وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا لم ترفع أعمالهم، ولم يسمع دعاؤهم)، رواه ابن أبي الدنيا والطبراني .

قال يحيى بن معاذ عن هؤلاء: آثروا النوم على القيام، والراحة على الجهاد والمجاهدة.

تعطل السلاح يوم قل المستغفرون بالأسحار.

تعطل السلاح يوم قل فرسان الليل، وقل فرسان النهار، فتطاول علينا الكفار.

قيل لـإبراهيم بن أدهم: ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا؟ قال: لأنكم عرفتم الله فلم تطيعوه، أما قال الله: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [المائدة:92].

وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سنته، أما قال سبحانه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31].

وعرفتم القرآن فلم تعملوا به، أما قال جل وعلا: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29].

أكلتم نعمة الله فلم تؤدوا شكرها، أما قال جل وعلا: يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا [النحل:83].

وعرفتم الجنة فلم تطلبوها، أما قال تبارك وتعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72].

وعرفتم النار فلم تهربوا منها، أما قال جل من قائل: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا [الفرقان:65].

وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه، أما قال سبحانه: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6].

وعرفتم الموت فلم تستعدوا له، أما قال سبحانه: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:8].

ودفنتم الأموات فلم تعتبروا، أما قال سبحانه: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2].

وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ [الحجرات:11].


استمع المزيد من الشيخ خالد الراشد - عنوان الحلقة اسٌتمع
انها النار 3543 استماع
بر الوالدين 3428 استماع
أحوال العابدات 3413 استماع
يأجوج ومأجوج 3350 استماع
البداية والنهاية 3336 استماع
وقت وأخ وخمر وأخت 3271 استماع
أسمع وأفتح قلبك - ذكرى لمن كان له قلب 3255 استماع
أين دارك غداً 3205 استماع
هذا ما رأيت في رحلة الأحزان 3099 استماع
أين أنتن من هؤلاء؟ 3097 استماع