توبة صادقة


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد..

فإن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة بالنار.

قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً [طه:82].

أنا وإياكم في مكان مبارك في ساعة مباركة في حضور مبارك في ليلة عنوان: توبة صادقة.

التوبة بداية حياة ونهاية حياة، بداية مع الهداية ونهاية مع الغواية، التوبة منة وفضل من الله يمن بها على من يشاء من عباده فهو التواب الرحيم.

التوبة امتحان للتائبين ليعرف الصادقون والكاذبون، التوبة ميلاد جديد وانطلاقة إلى عهد مديد، إنها حياة شعارها الحياة مع الله.

المطلوب: هو الصدق مع الله، لذا أسميت المحاضرة: توبة صادقة.

أحبتي! كثير هم الذين يتوبون، لكن قليل هم الذين يصدقون في توبتهم ويثبتون.

كتبت المحاضرة على مدى أيام وليال طوال، تنقلت فيها من كتاب إلى كتاب، وسمعت أخباراً وأخباراً فاخترت من أخبار الماضي والحاضر طرزتها بالآيات والأحاديث والآثار، ضمنتها أبياتاً من الأشعار وأقوالاً للصالحين الأخيار.

أردت من طرح الموضوع تثبيت التائبين وتذكير الغافلين.

أردت أن أذكر الجميع أنه ما نزل ذنب إلا ببلاء، وما رفع إلا بتوبة، جعلت الحديث موجهاً للجميع ذكراناً وإناثا نساءً ورجالاً، فالتوبة وظيفة الجميع.

فهيا معاً نركب قطار المستغفرين إلى ديار التائبين، وننضم إلى قوافل العائدات والعائدين، ونبدل الحال من حال إلى حال قبل نزول مفرق الجماعات وهاذم اللذات، فلا ندري أين تكون الدار غداً، إلى روضة من رياض الجنة أم إلى حفرة من حفر النار، ومن أشرقت بدايته أشرقت نهايته، ومن كان مع الله كان الله معه، إن من صدق مع الله في توبته صدق الله معه ووفقه لحسن خاتمته.

إن التوبة والنجاة بالاستغفار لا بالتمادي والاستهتار، وإنه من بذل الأسباب وصل إلى الأبواب.

عناصر اللقاء:

العنصر الأول: توبة كاذبة.

العنصر الثاني: باختصار مع الذين خلفوا.

العنصر الثالث: من ترك شيئاً لله.

العنصر الذي يليه: لست فاتنة بل ظالمة.

ثم أخيراً: اعتبروا يا أولي الأبصار!

قال منصور بن عمار : كان لي صديق مسرف على نفسه ثم تاب، وكنت أراه من العباد والقوام والصوام، أراه كثير العبادة والتهجد ففقدته أياماً، فقيل لي: هو مريض، فأتيت إلى داره فخرجت إلي ابنته فقالت: من تريد؟ قلت: قولي لأبيك فلان، فاستأذنت لي ثم دخلت فوجدته في وسط الدار وهو مضطجع على فراشه وقد اسود وجهه، وذرفت عيناه، وغلظت شفتاه، فقلت له وأنا خائف منه: يا أخي! أكثر من قول لا إله إلا الله، ففتح عينيه فنظر إلي بشدة ثم غشي عليه، فقلت له ثانياً: يا أخي! أكثر من قول لا إله إلا الله، ثم كررتها عليه ثالثاً, ففتح عينيه فقال: يا أخي منصور! هذه كلمة قد حيل بيني وبينها!

فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم قلت له: يا أخي! أين تلك الصلاة والصيام والتهجد والقيام، فقال: كان ذلك لغير الله، وكانت توبتي كاذبة، إنما كنت أفعل ذلك ليقال عني وأذكر به، وكنت أفعل ذلك رياءً للناس، فإذا خلوت إلى نفسي أغلقت الأبواب وأرخيت الستور وشربت الخمور وبارزت ربي بالمعاصي، ودمت على ذلك مدة، فأصابني المرض وأشرفت على الهلاك، فقلت لابنتي هذه: ناوليني المصحف، فقلت بعد أن أخذت المصحف: اللهم بحق كلامك في هذا المصحف العظيم إلا ما شفيتني ورفعت عني البلاء، وأنا أعاهدك ألا أعود إلى ذنب أبداً. ففرج الله عني، فلما شفيت عدت إلى ما كنت عليه من اللهو واللذات وأنساني الشيطان العهد الذي بيني وبين ربي، فبقيت على ذلك مدة من الزمن، فمرضت مرة ثانية أشرفت حينها على الهلاك والموت، فأمرت أهلي فأخرجوني إلى وسط الدار كعادتي ثم دعوت بالمصحف وقرأت فيه ثم رفعته وقلت: اللهم بحرمة ما في هذا المصحف الكريم من كلامك إلا ما فرجت عني ورفعت عني البلاء، فاستجاب الله مني وفرج عني، ثم عدت إلى ما كنت عليه من اللهو والضياع ما كأني عاهدت الله ألا أعود، فوقعت في هذا المرض الذي تراني فيه الآن، فأمرت أهلي فأخرجوني إلى وسط الدار كما تراني، ثم دعوت بالمصحف لأقرأ فيه فلم يتبين لي حرف واحد منه، فعلمت أن الله سبحانه قد غضب علي فرفعت رأسي إلى السماء وقلت: اللهم فرج عني يا جبار السماء والأرض، فسمعت كأن هاتفاً يقول:

تتوب عن الذنوب إذا مرضت

وترجع للذنوب إذا برأت

فكم من كربة نجاك منها

وكم كشف البلاء إذا بليت

أما تخشى بأن تأتي المنايا

وأنت على الخطايا قد لهوت

قال منصور بن عمار : فوالله ما خرجت من عنده إلا وعيني تسكب العبرات، فما وصلت الباب إلا وقيل لي إنه قد مات. وحيل بينهم وبين ما يشتهون.

نعم أحبتي! التوبة ليست نطقاً باللسان، إنما هي ندم بالقلب وعزم على عدم العودة إلى الماضي المرير، ومن شروط صحة التوبة أن تكون قبل معاينة أمور الآخرة، فمن باشره العذاب أو عاين الموت فقد فاته موسم القبول.

والله ما صدق صادق فرد عن الأبواب، ولا أتى الباب مخلص فصد عن الباب، ورب الأرباب، إنما الشأن في صدق التوبة، لذلك قال الله: اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].

يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا

واغفر لنا ربنا ذنباً جنيناه

كم نطلب الله في ضر يحل بنا

لما تولت بلايانا نسيناه

ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا

لما وصلنا الشاطي عصيناه

ونركب الجو في أمن وفي دعة

وما سقطنا لأن الحافظ الله

فأين الشباب اليوم؟ أين الصادقون؟ أين الذين يتوبون ثم يستقيمون ويصدقون؟

إن الأمة اليوم في أمس الحاجة لشبابها وفتياتها الذين يعتزون بدينهم ويتمسكون بعقيدتهم ويفخرون بماضيهم، فوالله الذي لا إله إلا هو لا زال في أمتنا خير وفي شبابها خير، وفي فتياتها خير، بل حتى في أطفالها خير.

مع البداية أهمس لك همسة:

كان هناك فتاة عابدة صوامة قوامة في عمر الورود والأزهار، من بنات هذا الجيل لا من بنات الأجيال الماضية، تقدم لها شاب فترددت فقيل لها: لماذا التردد ولماذا لا توافقين؟ قالت: أحب الصيام والقيام! فقيل لها: إن خدمة الزوج عبادة وقربة إلى الله، فأنت في خير وعبادة، فاستخارت ثم قطعت التردد بالموافقة، قالت: لكن بشرط واحد ليس لي شرط سواه، قالوا: وما هو؟ قالت: أن يأذن لي بصيام ثلاثة أيام من كل أسبوع، فهي تعلم أن صيام النافلة لا بد أن يكون بإذن زوجها، فأخبروه ففرح بالشرط ووافق, وفرحت هي بموافقته وزفت إليه، وبني بيت على تقوى من الله ورضوان.

الله أكبر! نريد بيوتاً تبنى على صيام بالنهار وقيام بالليل، من مثل هذه البيوت يتخرج الرجال والأبطال.

وإليك أنت أيضاً همسة أهمسها مع البداية.

اعلم بارك الله فيك! أن كل الأبطال تخرجوا من مدرسة الليل، ففي الظلام تعلموا الإخلاص والإقدام، اعلم أنك لن تكون فارساً مغواراً بالنهار حتى تتعلم الرهبانية بالليل.

أخبرت عن شاب نحيل الجسم، كثير الحياء، قليل الكلام، همه الإسلام والعمل للدين، لم يتجاوز السابعة والعشرين لكنه ذو رأي وقول سديد موفق -والتوفيق بيد الله- يقول أحد الشباب: رافقته مراراً في رحلات دعوية كم أصابنا فيها من التعب والإرهاق والمشقة والعناء, ومع هذا رأيت منه العجب العجاب؛ كان صاحب قيام ليل، وليس بأي قيام، بل قيام طويل تتعب منه الأقدام.

أحبتي! كثير هم الذين يقومون لكن أين قيام من قيام، من وقف دقيقة ليس كمن وقف ساعة، يقول الشاب عن صاحب ذلك الجسم النحيل: كان يقوم في الليلة الواحدة بخمسة أجزاء من القرآن، وما تخلف عن ذلك ليلة واحدة مهما كانت الظروف ومهما كانت الأحوال.

قلت: هكذا هم الصادقون: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17]، هكذا هم الصادقون، تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:16-17]، إن أمة تمتلك أمثال هؤلاء الفتيات والفتيان أمة لا تقهر ولا تغلب بإذن الله، ولكنها تمتحن وتبتلى حتى يأتي أمر الله، وحينها يفرح المؤمنون، وحينها سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

إنه خبر توبة زكاها الله في القرآن، ثم أمرنا الله أن نكون منهم ومعهم، قال سبحانه: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة:118] ثم اسمع إلى هذا النداء العظيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].

جاء خبرهم عند البخاري مفصلاً وأنا أسوقه لكم باختصار:

أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ليتأهبوا للغزو، وكان ذلك في غزوة تبوك، كان الحر شديداً والسفر بعيداً والعدو كثيراً وعنيداً.

يقول كعب بن مالك راوي الحديث وأحد الثلاثة الذين خلفوا: والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت في تلك الغزوة، ولما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه قلت: غداً ألحقهم، ولكن لم يقدر لي ذلك، ولقد هممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت، ولكن لم يقدر لي ذلك، ولقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عني وهو في القوم بتبوك فقال رجل: يا رسول الله حبسه برداه ونظره في عطفه، فقال معاذ بن جبل : بئسما قلت، والله يا رسول الله ما علمت عنه إلا خيراً!

فأين هم الذين يدافعون عن أعراض إخوانهم اليوم، يقول كعب : فلما بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم توجه قافلاً -أي راجعاً- حضرني همي وطفقت أتذكر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخطه غداً؟ فلما قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد حل بالمدينة قادماً زاح عني الباطل، وعلمت أني لن أخرج منه أبداً بشيء فيه كذب، فأجمعت على أن أصدقه في الحديث.

جاء المخلفون وكانوا بضعة وثمانين فطفقوا يعتذرون ويحلفون، فقبل منهم النبي صلى الله عليه وسلم علانيتهم ووكل سرائرهم إلى الله.

أحبتي! الله لا ينظر إلى المظاهر ولكن الله سيبتلي السرائر!

قال: فلما جئته تبسم تبسم المغضب، فلما جلست بين يديه قال لي: ما خلفك؟! ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ قلت: بلى! والله لقد علمت لئن حدثتك بحديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله.

أحبتي! قد تأخذ ما عند فلان أو فلان بالكذب أو الافتراء، ولكن والله الذي لا إله إلا هو إنك لن تأخذ ما عند الله إلا إذا صدقت مع الله، قد تنصب على فلان وتضحك على فلان وتأخذ ما تشاء، ولكن لن ينجيك من الله إلا أن تصدق مع الله.

قال كعب : والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك فقال صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك!

يقول كعب : فقمت فلامني من لامني، وقالوا لي: يسعك ما وسع غيرك ويكفيك استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لك، فقلت: هل قال مثل قولي أحد؟ فذكروا لي رجلين هما: مرارة بن الربيع وهلال بن أمية ، فمضيت حين ذكروهما لي، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامنا نحن الثلاثة، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لنا الأرض فلا هي الأرض التي نعرفها، بل حتى تنكرت لنا أنفسنا التي بين جنوبنا فلا هي بالأنفس التي نعرفها، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، أما صاحباي فقعدا في بيوتهما يبكيان، أما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج لأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق ولا يكلمني أحد، كنت آتي النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه فأسلم عليه بعد صلاته وأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه أسارقه النظر، فلما طال الأمر واشتد ذلك علي، تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي، فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام، قلت: أنشدك بالله يا أبا قتادة هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت. فناشدته فسكت. فناشدته في الثالثة فقال: الله ورسوله أعلم! ففاضت عيناي، وخرجت أمشي في سوق المدينة، فإذا بنبطي من أهل الشام يقول: من يدل على كعب بن مالك ؟ فأشار الناس إلي. فجاءني فدفع لي كتاباً من ملك غسان يقول فيه: لقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولن يجعلك الله بدار مضيعة أو هوان، إلحق بنا نواسك! فعلمت أن هذا من زيادة البلاء فتيممت به التنور ورميته فيه.

يمتحن العبد على قدر إيمانه؛ إن كان في إيمانه شدة شدد عليه في البلاء وإن كان في إيمانه رقة خفف عنه في البلاء!

يقول كعب : فعلمت أن هذا من زيادة البلاء فتيممت به التنور ورميته فيه، فلما مضت أربعون من الخمسين ليلة، جاءنا الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم أن نعتزل نساءنا، قلت: أأطلقها أم ماذا؟ قال: بل اعتزلها، فقلت لها: إلحقي بأهلك حتى يقضي الله في هذا الأمر، ولقد قيل لصاحبي مثل ما قيل لي، أما امرأة هلال بن أمية فجاءت للنبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه، فقال: لا. ولكن لا يقربنك، فقالت: والله الذي لا إله إلا هو ما به حركة إلى شيء ولا زال يبكي من أمره إلى يومه هذا.

هكذا حال الصادقين! دموعهم حارة مدرارة بالليل والنهار!

يقول كعب رضي الله عنه: فلبثت بعد عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، فلما صليت صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، وأنا على تلك الحال التي ذكر الله قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت؛ إذا بصارخ يصرخ على جبل سلع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر! يا كعب بن مالك أبشر! فخررت ساجداً وعرفت أنه قد جاء الفرج، وأنه قد أذن النبي صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا، فذهب الناس يبشروني ويبشرون صاحبي هلالاً ومرارة ، فلما جاء من يبشرني نزعت ثوبي فكسوته إياهما ببشارته، ووالله ما أملك غيرهما ,ثم استعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجاً بعد فوج يهنئونني بالتوبة يقولون لي: لتهنك توبة الله عليك! لتهنك توبة الله عليك!

فلما دخلت المسجد قام لي طلحة بن عبيد الله مهرولاً فصحافحني وهنأني، ووالله ما أنساها لـطلحة.

يقول كعب : فلما سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم قال لي ووجهه يبرق من السرور وكان إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر؛ قال: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك!

قلت: أمن عندك يا رسول الله أم عند الله؟ قال: بل من عند الله! فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله! إنما نجاني الله بالصدق، وإن من صدق توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت، ووالله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث أحسن مما أبلاني.

تأمل أيها التائب، وتأملي أيتها التائبة في قول النبي صلى الله عليه وسلم لـكعب : ( أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ).

يا الله!

ما أجمل التوبة! وما أجمل الرجوع إلى الله!

التوبة ابتلاء وامتحان، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال:42].

أحبتي!

صدق أقوام في توبتهم فصدق الله معهم فعفا عنهم وزكاهم.

واسمع واسمعي معي بعضاً من آثار توبة الصادقين والصادقات: فمنهم من يحزن على اقتراف المعصية حزناً لا يفارقه حتى الموت، ومنهم من يهجر الناس ويعتزلهم ويضج بيته بالبكاء، ومنهم من يتمنى أن يكون تراباً حتى لا يحاسبه الله على ذنبه ومعاصيه، ومنهم من يمرغ خده بالتراب حتى يذوق طعم الذلة عل الله أن يرحمه على تلك الحال، ومنهم من يتعلق بأستار الكعبة مطرقاً خاشعاً يطلب العفو من الله، ومنهم من يجوب الصحراء هائماً على وجهه يعاهد الله عز وجل ألا يرجع إلى بيته إلا وقد تاب وتاب عليه الله، ومنهم من يعتكف في بيت من بيوت الله يذكر الله ويتلو القرآن ويركع ويسجد والدموع تتزاحم في عينيه ندماً على ما فرط في جنب الله، ومنهم من يحس بآلام ورعشة وببكاء واضطراب كالحية يتغشاها الألم ويخر مغشياً عليه حياء من الله، ومنهم من يشهق شهقة يموت بعدها خوفاً ووجلاً من الله، ومنهم من بلغ من عبادة ربه أنه يوم مات كأنه جذع محترق من عبادة الله.

أخي! أخية!

لا غرابة فيما ذكرت وقلت، فالخوف من الله أرجف قلوب العصاة وكاد يخلعها من مكانها، فكم رعدت بروق الخوف في القلوب القاسية فذهبت عنها سحب الغفلة وأمطرت دموع الخشية، فصفا سماء القلب واستنار وطلعت عليه شمس النهار، وسبحان الذي قال عن التائبين:

يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37].

بذكرك يا مولى الورى نتنعم وقد خاب قوم عن سبيلك قد عموا

إلهي تحملنا ذنوباً عظيمة

أسأنا وقصرنا وجودك أعظم

ألست الذي قربت قوماً فوفقوا

ووفقتهم حتى أنابوا وأسلموا

لك الحمد عاملنا بما أنت أهله

فسامح وسلمنا فأنت المسلم

هذا مبتلىً بالذنوب والمعاصي تركها من أجل الله فجاءه العوض من الله جل في علاه، كان مولعاً بالغناء محباً للطرب، ومما زاد حبه لهذه المعصية ذلك الصوت الجميل الذي وهبه الله له، صوت شجي خلاب يحرك المشاعر والأحاسيس، لم يكن يفكر في حرمة الغناء وعواقبه، كان تفكيره كيف يكون مشهوراً ويظهر أمام الناس، فسعى إلى شهرة الباطل وأخرج شريطاً غنائياً وأخذ يوزعه بين أهله وأصحابه وأقاربه.

زاره يوما أحد أقاربه من مدينة بعيدة ومعه شاب صالح، وباتا عنده، فلما سمع ذلك الشاب الصالح عنه وعن أغانيه وعن صوته الجميل قال له: ليت هذا الصوت الجميل كان يرتفع ويصدح بالقرآن بدلاً من مزامير الشيطان، أما سمعت قول الله: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء:61-65].

فأثرت تلك الكلمات والآيات فيه ووجدت قبولاً في قلبه، فلما جن الليل ونام النائمون استيقظ التائبون، يقول قريبه الذي كان يزوره: بينما نحن نائمون يغطينا ظلام الليل الدامس والسكون يملأ المكان استيقظت على صوت بكاء، فإذا بقريبي المغني ساجد لله في صلاته يشهق من البكاء ألماً وندماً على ما فرط في جنب الله. ففرحت لبكائه وندمه وأنه ترك الماضي بكل ما فيه، وأقبل على الله يرجو ما عنده فكان العوض من الله، عوضه الله خيراً مما ترك، أصبح يحب القرآن يغدو ويروح مع آياته، يترنم بالآيات بالليل والنهار، أخذ يتعلم علم القرآن وفن التلاوة حتى صار إماماً وقارئاً يشار إليه بالبنان لجمال صوته وخشوعه في صلاته.

فسبحان مغير الأحوال! صدق في توبته فصدق الله معه، وترك من أجل الله فعوضه الله خيراً مما ترك، وأي عوض أجمل من القرآن؟!

يا الله!

ما أجمل التوبة! وما أجمل العودة إلى الله!

إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201].

قل للذي ألف الذنوب وأجرما

وغدا على زلاته متندما

لا تيأسن من الجليل فعندنا فضل ينيل التائبين تكرما

يا معشر العاصين جودي واسع توبوا ودونكم المنى والمغنما

لا تقنطوا فالذنب مغفور لكم إني الجدير بأن أجود وأرحما

وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82].

اعلم واعلمي: أن الذنوب الصغيرة تكبر وتعظم بأسباب، منها:

الإصرار والمواظبة، لذلك قيل: لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع الاستغفار، قال محمد بن سيرين رحمه الله: والله لا أبكي على ذنب أذنبته ولكني أبكي على ذنب كنت أحسبه هيناً وهو عند الله عظيم.

وتعظم الذنوب أيضاً باستصغارها، فإن الذنب كلما استعظمه العبد من نفسه صغر عند الله تعالى، وكلما استصغره العبد كبر عند الله تعالى.

جاء في الخبر: (إن المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوقه يخاف أن يقع عليه، وإن المنافق يرى ذنبه كذباب مر إلى أنفه فأطاره بيديه).

أوحى الله إلى بعض أنبيائه: لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى كبريائي وعظمة من عصيت.

وتعظم الذنوب إذا فرح بها أصحابها وتبجحوا بها وبذكرها يظنون أن التمكن من الذنب نعمة، ما دروا أنه غفلة وشقاوة.

يا حي يا قيوم برحمة نستغيث أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

تعظم الذنوب إذا تهاون أصحابها بستر الله عليهم وحلمه عنهم وإمهاله إياهم، ما درى أولئك أن الله يمهل ولا يهمل، وأنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.

تعظم الذنوب إذا جاهر بها أصحابها، فإن في ذلك كشفاً لستر الله الذي أسدله وتحريكاً لرغبة الشر في من أسمعه.

والأعظم من ذلك: قلة الحياء مع الله، قال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، يبيت أحدهم على ذنب قد ستره الله عليه فيصبح فيكشف ستر الله ويتحدث بذنبه).

قال بعضهم: لا تذنب فإن فعلت فلا ترغب غيرك بالذنب، فتكون كالمنافقين الذين قال الله فيهم: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ [التوبة:67]، الحمد لله الذي عافنا مما ابتلاهم به، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً.

أسوق إليك هذه القصة التي هي بعنوان: (لست فاتنة بل ظالمة):

اختصرتها مع طولها ففيها من العبرة الشيء الكثير، اسمها فاتنة وهي كاسمها جريئة متحررة مثقفة في كل شيء إلا في الدين، الدين عندها أن تكون ذات قلب طيب، ولا عليها بعد ذلك أن تخالط من تشاء، تلبس ما تشاء، تفعل ما تشاء.

جمعت ليلة صويحباتها في الكلية للاحتفال بعيد ميلادها، عيد ما أنزل الله به من سلطان ورثناه عن الكفار تشبهاً وتقليداً ( ومن تشبه بقوم.. ) سأترك البقية لكم!

كانت في أجمل هيئة وأحسن مظهر، بدأت تدور بين صويحباتها تطلق الضحكات هنا وهناك تسألهن: أتدرين يا بنات ماذا ينقص حفلتنا هذه؟ فأجبنها إجابات وهي تقول: لا، ثم لا، وهي مصرة على سؤالها، ثم قالت مجيبة على سؤالها وهي تضحك: تنقصنا الشيخة علياء، فانطلقت موجات الضحك من كل مكان، ثم قالت أحداهن مدافعة: لماذا كل هذا الضحك؟ لماذا كل هذا الضحك والاستهزاء بـعلياء؟! أليست زميلتنا في الصف! أليست صديقتنا في الكلية! ألم تكن إلى عهد قريب رفيقة لنا في سهراتنا وحفلاتنا وهي الآن في محرابها مع صلواتها وقرآنها، إنها تبحث عن الآخرة ونحن عن ماذا نبحث؟! فتجاهلن سؤالها.

قالت أخرى: لقد ذهبنا إليها -أي إلى علياء- لندعوها لعيد الميلاد ولكنها اعتذرت وأعطتنا محاضرة طويلة عريضة في الأخلاق والدين والعادات والاجتماعات.

قالت فاتنة: مسكينة علياء ! لقد كانت عاقلة متحررة قبل أن يصيبها هذا الهوس الديني الذي اختطفها من بيننا -قلت أنا: سبحان الله أصبح الدين هوساً وجنوناً- ثم تابعت فاتنة حديثها وهي تقول: فعلاً مسكينة علياء ! لقد انقلبت بسرعة وتسممت أفكارها وتغيرت هيئتها، لقد أطالت ثيابها فأصبح منظرها ككبيرات السن لم تعد تؤمن بأن خير اللباس ما قل ودل، والأدهى من ذلك شعرها أصبح بضاعة محرمة مغطاة تحت ذلك السواد، مسكينة علياء ! نسيت أن الله يهمه منا القلب وكل ما عدا ذلك شكليات.

الله أكبر! أصبح الحجاب والتمسك بالدين شكليات، قاتل الله الشاشات والقنوات.

ثم تابعت فاتنة حديثها عن علياء : إنها تخوفنا من النار وأن الله سيحرق به أجسادنا المكشوفة، إنها تنذرنا من شيء اسمه الموت، وآخر تسميه الحساب، بل اسمعوا يا بنات! إنها تحملنا مسئولية إغواء الشباب وإغراء الرجال، فقالت أحداهن: لقد قتلتها الهواجس والوساوس ونسيت أن النساء للرجال خلقن ولهن خلق الرجال، مسكينة علياء ! أين ستجد فتى أحلامها، أين ستجد السعادة والأنس، لقد قتلت نفسها وهي في ريعان الشباب، ولا بد أن نصنع شيئاً لإنقاذها.

مساكين! ما درين أنهن هن بحاجة إلى إنقاذ.

فارتفعت الأصوات: لا بد من إنقاذها! إنها تقتل نفسها بطول العبادة وكثرة الصيام وقراءة القرآن ولزوم البيت، فلا أسواق ولا حفلات، ما هذا الفهم الخاطئ للدين، إن الحياة متعة وحرية، أما الموت فمالنا وله الآن، نعم سنموت عندما نشيخ ونهرم.

إنه الأمل الطويل! ووالله ما حال بين الناس وبين الصدق في التوبة إلا طول الأمل، ومن أطال الأمل أساء العمل، قال الله تعالى عنهم: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3].

انتهى الاحتفال ودارت سنوات تخرجت فيها فاتنة وتخرجت علياء وثبتت على طريق الاستقامة والالتزام، فماذا حدث لـفاتنة، وماذا حدث لـعلياء؟

تعالوا أحبتي .. أعطوني المسامع نتابع القصة من مكان آخر:

في إحدى المستشفيات في الدور الرابع في غرفة من الغرف صوت أنين مريضة يملأ الغرفة، إنها في تلك الغرفة منذ عدة أشهر، ولقد أيس الأطباء من حالتها وأصبح صوت أنينها معتاداً مألوفاً في المستشفى ولا أحد يستطيع أن يفعل لها شيئاً، لقد تعودت الممرضات على سماع أنينها، أما الطبيبة المناوبة الجديدة في المستشفى فلم تستطع أن تتجاهل ذلك الصوت وذلك الأنين، فقلبها مليء بالرحمة، وهكذا الإيمان يملأ القلب رحمة وعطفاً على الآخرين.

فأخذت بعض العقاقير والمهدئات ودخلت لتلك الغرفة، فتحت الباب فإذا بامرأة على السرير في شبه غيبوبة، جست نبضها فإذا هو ضعيف على وشك التوقف، أصغت إلى تنفسها فكان التنفس مضطرباً خافتاً، جلست بجانبها وأعطتها بعض المنعشات فأفاقت بعد قليل واستوت على سريرها، أدارت عينيها فيما حولها -المريضة- ثم ثبتت نظرها على وجه الطبيبة، ثم أخذت تفرك عينيها بيديها الضعيفتين، ثم زاد اضطرابها ثم قالت للطبيبة: أسألك بالله من أنت؟!

فقالت: أنا الطبيبة يا أمي!

فقالت المريضة: أنا لا أسألك عن مهنتك، أنا أسألك عن اسمك، أسألك بالله ألست أنت علياء؟

فقالت الطبيبة باستغراب: بلى أنا علياء، وفي لحظات إذا بالمريضة تأخذ برأس علياء تطوقه بذراعيها وتضمه إلى صدرها وتقبله وتجهش بالبكاء.

زاد استغراب علياء وصعقت: من عساها تكون هذه المرأة؟ وهل بها مس من جنون؟! كيف عرفتني وأنا لم أقابلها من قبل ولم يسبق لي علاجها، بل هذه أول ليلة لي في هذا المستشفى كطبيبة مناوبة.

فرجعت علياء برأسها إلى الوراء وأخذت تنظر إلى المريضة مشدوهة لا تدري ماذا تفعل، ثم قالت للمريضة: من أنت يا خالة؟ وكيف عرفت اسمي؟ وهل التقينا من قبل؟!

فردت المريضة بصوت تخنقه العبرات: نعم يا علياء لقد التقينا مرات ومرات، إن اسمك وصورتك لم يفارقا خاطري خاصة عندما أصابني المرض قبل ثلاث سنوات، آه يا علياء، أنا التي أكلت لحمك واستهزأت بك أنا فاتنة يا علياء ، أنا فاتنة يا علياء، ثم انفجرت بالبكاء والنحيب.

صدمت علياء ولم تستطع الكلام ثم قالت وهي لا تصدق ما سمعت: أقسمت عليك بالله أأنت فاتنة؟! مستحيل فاتنة كانت كاسمها أصغر وأجمل وأنضر.

فقالت فاتنة بصوت خافت متقطع: نعم، أنا التي كان يقال لها ذات يوم فاتنة، فأكبت عليها علياء تضمها إلى صدرها وتجهش بالبكاء المرير الأليم عليها.

فلما هدأ البكاء أخذت فاتنة تروي قصة سبع سنين منذ أن افترقتا، قالت: تخرجت من البكالوريا وحاولت إكمال الدراسة، فلم أستطع، كنت لاهية متمردة على كل شيء، لم أكن أشك بالله، ولكني كنت أعتقد بأن كل ما له علي أن أكون طيبة القلب وكفى، تعرفت على شبان وفتيات وفتيان ثم ارتبطت برجل تعرفت عليه في الوظيفة أحبني وأحببته، لكننا كنا نعيش حياة غافلة بعيدة عن الله، ثم بعد زواجنا بسنوات رزقنا الله بطفلة صغيرة جميلة رائعة سميتها سوسن على اسم صاحبتي التي تعرفينها، ثم بدأت أشكو من آلام في بطني فقال الأطباء: إنها قرحة، فأخذت أتعالج ولكن دون فائدة، أخذت آلامي تزيد وهمومي تزيد، وبدلاً من أن أهرب إلى الله فررت إلى مزيد من الغفلة والضياع، ثم تدهورت صحتي وجاء التشخيص الجديد ليقول: بداية تورم خبيث في المعدة، وهكذا استحالت القرحة إلى سرطان، ثم أخذ السرطان يستفحل ويزيد إلى أن أقعدني هنا أصارع الألم وأنتظر الموت في أية لحظة، لم أر ابنتي منذ أربعة أشهر، عمرها الآن أربع سنوات وزوجي لم يأت لزيارتي منذ أسبوعين، لقد تعب من التردد علي كل يوم لعله ملني أو كرهني.

فلما سمعت علياء قصتها لم تتمالك نفسها وانخرطت في بكاء شديد، ثم تمالكت نفسها وقامت إلى فاتنة تضمها إلى صدرها تواسيها وتخفف عنها: لا تجزعي يا فاتنة ، لا تجزعي يا فاتنة لقد عرفتك شجاعة قوية، لا تقنطي من رحمة الله، لا تستسلمي لليأس، قد يكتب الله لك الشفاء وقد يكون هذا ابتلاء، فاستسلمي إلى قضاء الله وقدره واصبري فالصبر جميل والله مع الصابرين.

هدأت فاتنة وغطت وجهها بكفيها وأخذت تقول: عفوك يا الله! عفوك يا الله، لم يبق لي سواك فهل تقبلني، رحماك يا الله! ليته الابتلاء ولكنه الانتقام، لكم تجاهلت تلك الآيات تقرأ على مسامعي، لكم تجاهلت كلام أمي الصالحة الحنون، إنه الانتقام للضحايا الذين فتنتهم وأغويتهم، يا الله! كم أغويت من شاب وكم أفسدت من فتاة، ثم أخذت تردد وتقول: اقترب مني يا موت فلطالما خدعتني أوهامي، لقد ظننت أنك لا تأخذ إلا الكبار والشيوخ وتترك الشباب، لقد خدعتني نفسي وغرني أملي.

يا غافلاً عن العمل وغره طول الأمل

الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل

ثم أخذت تسأل علياء : أصحيح يا علياء أن القبر مظلم! أصحيح أن القبر ضيق! فتجيب نفسها: نعم صحيح وعما قريب سأحمل إليه جسداً بارداً هامداً، هناك لن يكون معي أهل ولا أحباب، ولن يكون معي مال ولا ثياب، لن يكون هناك زوج ولا أصحاب.

يا الله! كيف سأفارق صغيرتي سوسن أنا لا زلت صغيرة ولم أشبع من الحياة، ثم تلمست عينيها، وقالت: بكما أرى النور وكم أسقطت بنظراتي من شاب، أحقاً سيأكلكما الدود؟! وينهشكما التراب؟! أخذتها علياء بين ذراعيها وضمتها إلى صدرها وأخذت تقرأ عليها القرآن وتدعو لها بالشفاء، وأخذت تقول لها: كفى يا فاتنة لا تيأسي من رحمة الله ولا من شفاء الله.

قالت فاتنة : أسألك بالله يا علياء : أيغفر الله لي وقد فعلت ما فعلت وأجرمت ما أجرمت؟

فقالت علياء بصوت واثق: وكيف لا يا فاتنة أليس الله واسع المغفرة؟ أليس الله تواباً رحيماً؟ ألم تسمعي قول الله وهو يخاطب العصاة: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].

فقالت فاتنة : بربك يا علياء! لا تناديني بعد الآن فاتنة ، ناديني ظالمة، نعم ظالمة، لقد ظلمت نفسي كثيراً وأجرمت في حق نفسي جرماً كبيراً، ثم استوت فاتنة على سريرها بقدرة عجيبة ورفعت يديها إلى السماء وهي ترتجف ضارعة وأخذت تدعو الله برقة وخشوع: اللهم اشهد بأني قد رجعت إليك، وأنبت إليك، فها أنذا طريحة على بابك، اللهم إن كنت قد كتبت لي الشفاء وهذا ليس صعباً عليك وقد أخفق الأطباء وعجز الحكماء فاشهد يا حكيم بأني لن أعصيك أبداً ما بقيت، اللهم وإن كنت قد قدرت علي الموت عاجلاً فاشهد يا رحيم بأني لن أيأس من رحمتك ولن أقنط من مغفرتك طالما بقي في صدري نفس يتردد يا رحمن الدنيا والآخرة، يا الله ظلمت نفسي ظلماً كبيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، إنك أنت الغفور الرحيم.

إلهي لئن جلت وعظمت خطيئتي فعفوك عن ذنبي أجل وأوسع

إلهي لئن أعطيت نفسي سؤلها فها أنا في روضة الندامة أرتع

إلهي ترى حالي وفقري وفاقتي وأنت مناجاتي الخفية تسمع

إلهي فلا تقطع رجائي ولا تزغ فؤادي فلي في نهر جودك مطمع

إلهي أجرني من عذابك إنني أسير ذليل خائف لك أخضع

إلهي أذقني طعم عفوك يوم لا بنون ولا مال هنالك ينفع

قال أحد الصالحين: إن ملك الموت عليه السلام إذا ظهر للعبد أعلمه أنه قد بقي من عمرك ساعة، وأنك لا تسـتأخر عنها طرفة عين، فيبدو للعبد من الأسف والحسرة ما الله به عليم، فيتمنى أن يضاف إلى تلك الساعة ساعة أخرى ليتدارك التقصير والتفريط فلا يجد إلى ذلك سبيلاً، وهذا معنى قول الله: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [سبأ:54]، وإلى هذا أشار الله جل في علاه بقوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ [المنافقون:10].

قيل: الأجل القريب الذي يطلبه أنه يقول لملك الموت: أخرني يوماً أعتذر فيه لربي وأتوب وأتزود صالحاً لنفسي، فيقول له: فنيت الأيام فلا يوم، فيقول: فأخرني ساعة فيقول: فنيت الساعات فلا ساعة، فيغلق عليه باب التوبة، فيا خسارته ويا ندامته حين يموت على تلك الحال: وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران:117]، قال الله: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:18]، إنما التوبة لمن؟ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17].

اللهم اجعل خير عمرنا آخره وخير عملنا خواتيمه وخير أيامنا يوم نلقاك.

كتب لي أحد التائبين قصة توبته ورجوعه إلى الله بعد ضياع ومعاناة استمرت سنوات، قال في سطوره وفي رسالته:

لا أدري كيف أبدأ وكيف أعبر لك عن قصة الرجوع، أنا شاب أبلغ اليوم من العمر ستة وعشرين عاماً، أنا أكبر إخوتي وأسرتي فقيرة جداً، أما أصحابي فلا يصلون ولا يصومون، حياتنا بكل صراحة سهر وخمر ومخدرات، سبع سنوات على هذه الحال حتى مللنا من هذا الضياع، فبدأنا بطريق آخر من طرق الضياع وبدأنا رحلة جديدة من رحلات الغفلة، اقترح أحدنا أن نسافر لبلاد الكفار بحثاً عن المتعة والتغيير، ففعلنا وليتنا لم نفعل، هناك تعلمنا فنون الزنا والخنا والنصب والاحتيال، كنا نمكث في سفراتنا أشهراً طوالاً فإذا نفذت أموالنا اتصلنا على أهلنا ونحن في سكر شديد نطلب منهم أن يمدونا بالمال حتى نستطيع الرجوع، فإذا وصل المال مددنا فترة البقاء، وهكذا في كل مرة كان أحدنا يتصل على أهله للكذب والاحتيال.

في مرة من المرات استأجرنا سيارة وذهبنا إلى أحد نوادي الضياع حيث الخمر والموسيقى والرقص كالأنعام، بل حياة الأنعام أفضل من هذه الحياة، وبينما نحن جلوس نتبادل الحديث ونتبادل كئوس الخمر إذ قال أحد أصحابنا: سوف أذهب إلى مكان قريب وأرجع إليكم بسرعة. فذهب وكان في حالة سكر شديد، مضت الساعات ولم يرجع، فخرجنا نبحث عنه وبعد بحث وجدناه وقد سقط وهوى بسيارته من مكان مرتفع ومات على أشنع حال!

بكينا وحزنا على موته ورجعنا إلى ديارنا محملين بالأحزان، فما مضى شهران حتى عدنا إلى ما كنا عليه، يا ألله! كم هي قاسية قلوبنا، لم أكن أملك مالاً ولا دخلاً شهرياً، بل كنت أحتال وتحمل أهلي بسبب ذلك ديوناً كثيرة، بل كنت أقترض وأتحمل مصاريف السفر مع الأصحاب وأتحملها عنهم مع أنهم كانوا أكثر مني مالاً وأحسن حالاً، وكنت أظن أن هذا من الكرم والجود على الأصحاب والخلان.

تراكمت الديون علي وساءت الأحوال وبدأ يتخلى عني الأصحاب، أي أصحاب هؤلاء، أصبحوا يسافرون ولا يخبروني بسفرهم وأنا الذي تحملت الديون من أجلهم، اكتشفت حينها أنهم أصحاب مصلحة وضياع -قلت أنا: اكتشاف متأخر!- فصاحبت غيرهم ولم يكونوا بأحسن حال منهم، جمعت أموالاً وسافرت أنا وإياهم مع ابن عم لي مع مجموعة من الأصحاب إلى بلد آسيوي مشهور بالمجون وفساد الأخلاق، بعد يومين من وصولنا قال ابن عمي إنه سوف يرجع، فلما سألته عن السبب قال: لقد رأيت في المنام أن الناس في هذه البلاد يحترقون وقد اشتعلت بهم النيران، وأتاني رجل شديد البياض فقال: ارجع قبل أن تحترق معهم، فرجع ابن عمي ورجعت معه، فمكثت في البيت بلا مال وبلا أصحاب، وأصابني من الهم والحزن والضيق ما الله به عليم.

في يوم من الأيام حانت ساعة الانتقال فجاءتني أمي باكية وقالت: لماذا لا تصلي؟! لماذا لا ترجع إلى الله؟! وأعطتني شريطاً وأقسمت علي أن أسمعه، ثم ذهبت وتركتني.

فبدأت أسمع الشريط فأحسست أني أنا المخاطب، كان الشريط يتكلم عن اللذين يغرقون في الذنوب والمعاصي، كان الشريط يتكلم عن أثر الصحبة في الاستقامة وأثرهم في الضياع، أخذت أبكي وأبكي وأبكي فقررت التوبة ومراجعة الحسابات.

يقول صاحب الرسالة: أتعرف يا شيخ من هو صاحب الشريط؟ إنه أنت, وأنا أحبك حباً شديداً، وكان اسم الشريط: أحوال الغارقين، ثم أعطتني أمي شريطاً آخر اسمه: قوافل العائدين -قلت أنا: اللهم اجعلنا خيراً مما يقولون- وأحسن مما يظنون، واغفر لنا ما لا يعلمون -يقول: ها أنذا أكتب لك الرسالة وأنا أبكي بكاءً شديداً وأمي جالسة عندي تبكي معي وتدعو لك بالثبات حتى الممات وهي فرحة جداً بتوبتي، يا شيخ! إن قصتي أكبر وأعظم من هذا، ولكني ذكرتها لك باختصار.

أما من أخباري الجديدة منذ أن بدأت الحياة الجديدة حياة التوبة والاستقامة، فأنا أنتقل من خير إلى خير، ومن نور إلى نور، لقد حصلت على وظيفة وأنا الذي كنت عاطلاً لسنوات، بل لست أملك شهادة كما يملك الغير، ولكنه فضل الله يؤتيه من يشاء.

وأزيدك خبراً من الأخبار ستفرح لي عندما أخبرك به: فزيادة على وظيفتي أنا الآن مؤذن في بيت من بيوت الله، أصدح بالأذان وأردد في اليوم مرات ومرات: الله أكبر ولا إله إلا الله، فادع لي بالثبات وإني والله لأدعو لأصحاب الماضي بالهداية والصلاح وأتمنى أن يعتبر بقصتي أولو الأبصار.

أحبتي!

إن الذنوب والمعاصي باب كلنا ولجناه وبحر كلنا سبحنا فيه، ولا ينجو من ذلك إلا المعصومون ممن اصطفاهم الله واجتباهم من الأنبياء والرسل، أما أنا وأنت وأنت فكلنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)، وقال بأبي هو وأمي: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم)، رواه مسلم .

فالوبال والهلاك هو الاستمرار على المعصية التي زينتها النفوس الضعيفة والشياطين الخبيثة، قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: يا أيها الناس! من ألم بذنب فليستغفر الله وليتب، فإن عاد فليستغفر الله وليتب، فإن عاد فليستغفر الله وليتب، فإنما هي خطايا مطوقة في أعناق الرجال، وإن الهلاك كل الهلاك في الإصرار عليها.

أخي! أخية!

لا بد من الندم والبكاء بسبب المعصية والإقلاع عنها في الحال، فالرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ولن تطيب الحياة إلا بالعودة إلى الله والتمسك بالدين! كثير هم المترددون، كثير هم الذين يقولون: ذنوبنا كثيرة، معاصينا غزيرة، فهل يغفر الله لنا؟

أقول: نعم -وبأعلى الصوت- يغفر الله لكم إن تبتم وندمتم ورجعتم، بل ويفرح سبحانه بتوبتكم وعودتكم، بل يحب التوابين ويحب المتطهرين.

تأمل وتأملي معي في هذه الآيات وهذه الكلمات النبويات:

قال الله: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156]، فالرحمة واسعة ونحن لا شيء، وهو أرحم الراحمين.

تدبر وتدبري وتأمل وتأملي في قول الرحمن الرحيم: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53]، نعم يغفر الذنوب جميعاً، بل من كرمه ومنه وجوده يبدل السيئات إلى حسنات.

قال سعيد بن المسيب في قوله تعالى: (فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا [الإسراء:25] قال: هو الرجل يذنب الذنب ثم يتوب، ثم يذنب الذنب ثم يتوب، فالباب مفتوح ويداه سبحانه مبسوطتان بالليل والنهار ليتوب مسيء الليل ويتوب مسيء النهار.

قال الفضيل : قال الله: (بشر المذنبين بأنهم إن تابوا قبلت منهم، وحذر الصديقين أني إن وضعت عليهم عدلي عذبتهم ).

قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الصحيح: (إن الله قال: من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له على ما كان منه ولا أبالي ما لم يشرك بي شيئاً).

واعلم رعاك الله واعلمي بارك الله فيك!

أن نبي الهدى والرحمة قال: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له).

فلنسارع بارك الله في الجميع إلى التوبة والندم والرجوع إلى الله، سارعوا بارك الله فيكم قبل أن نصيح بأعلى الصوت: رباه ارجعون؛ رباه ارجعون؛ فلا يستجاب لنا، لكن الباب مفتوح ورحمة الرحمن واسعة.

بل أبشر أيها التائب! وأبشري أيتها التائبة! بهذه الآيات العظيمة التي تستغفر الملائكة فيها للتائبين قال الله: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [غافر:7-9].

فالبدار البدار! والمسارعة المسارعة! فإن حياة النفوس في السمو ونجاتها في العلو.

الله الله في التوبة والإنابة.

الله الله في الثبات حتى الممات.

الله الله في الصدق في التوبة مع الله.

الله الله في الصدق في التوبة مع الاستقامة.

واعلم أن باب الاستقامة هو المحراب فالخير كل الخير في ارتياد المساجد، وزاد المساجد هو خير زاد للانطلاق فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:36-37] فما جزاء خوفهم؟ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:38].

عمارة المساجد من الإيمان كما قال الله: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التوبة:18]، وقال صلى الله عليه وسلم: (من غدا إلى المسجد أو راح، بنى الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح وأحب البقاع إلى الله المساجد وأبغضها إلى الله الأسواق).

قال الحسن بن علي رضي الله عنها: (من أدام الاختلاف إلى المسجد أصاب ثماني خصال: آيةً محكمة، وأخاً مستفاداً، وعلماً مستظرفاً،ورحمةً منتظرةً، وكلمةً تدله على هدى أو تردعه عن ردى، وترك الذنوب حياءً أو خشيةً).

ولله در القائل:

لا يصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفساح

في روضة القرآن في ظل الأحاديث الصحاح

شعب بغير عقيدة ورق يذريه الرياح

من خان حي على الصلاة يخون حي على الكفاح

اللهم ارحم عباداً غرهم طول إمهالك، وأطمعهم دوام إفضالك، ومدوا أيديهم إلى كرم نوالك، وتيقنوا أن لا غنىً لهم عن سؤالك.

قولي وقل ولنردد: اللهم إن يكن الندم توبة إليك فإنا إليك من النادمين، وإن يكن الترك لمعصيتك إنابة إليك فإنا لك يا رب من المنيبين، وإن يكن الاستغفار حطة للذنوب فإنا لك من المستغفرين، اللهم فتقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبت حجتنا، واهد قلوبنا، واسلل سخيمة صدورنا، ولا ترجعنا مرجع الخيبة من رحمتك فإنك أنت التواب الرحيم الجواد الكريم، يا غافر الذنب يا قابل التوب يا أرحم الراحمين.

يا من له وجب الكمال بذاته بل كل غاية فوزهم لقياه

سبحان من أحيا قلوب عباده بلوائح من فيض نور هداه

من كان يعرف أنك الحق الذي بهر العقول فحسبه وكفاه

مولاي جودك لم يدع لي مطلباً إلا وتممه إلى أقصاه

اللهم اجعلنا من التوابين واجعلنا من المتطهرين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

اللهم اقبل توبة التائبين واغفر ذنوب المذنبين.

اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً وتفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا من بيننا شقياً ولا محروماً يا أرحم الراحمين.

اللهم وفقنا لتوبة نصوح قبل الموت وشهادة عند الموت ورحمة بعد الموت يا رب العالمين.

اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يجاهدون من أجل إعلاء كلمة دينك، اللهم انصرهم في كل مكان يا رب العالمين.

اللهم ثبت إخواننا في العراق وفي فلسطين وأفغانستان وكل مكان، كن لهم عوناً وظهيراً ومؤيداً ونصيراً.

واعلموا أنهم ينصرون بدعوة التائبين، فلنجدد التوبة وندعو لهم منيبين إلى الله راجعين.

تقبل منا إنك أنت السميع العليم، آمنا في أوطاننا اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.

ربنا ظلمنا أنفسنا وإلا تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

أستغفر الله العظيم وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


استمع المزيد من الشيخ خالد الراشد - عنوان الحلقة اسٌتمع
انها النار 3542 استماع
بر الوالدين 3421 استماع
أحوال العابدات 3410 استماع
يأجوج ومأجوج 3348 استماع
البداية والنهاية 3335 استماع
وقت وأخ وخمر وأخت 3269 استماع
أسمع وأفتح قلبك - ذكرى لمن كان له قلب 3254 استماع
أين دارك غداً 3204 استماع
هذا ما رأيت في رحلة الأحزان 3097 استماع
أين أنتن من هؤلاء؟ 3096 استماع