خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/456"> الشيخ خالد الراشد . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/456?sub=24559"> خطب ومحاضرات عامة
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
قوافل العائدات
الحلقة مفرغة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حياكم الله وبياكم، وسدد على طريق الحق خطاي وخطاكم، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته إخواننا على سرر متقابلين، وأسأله سبحانه أن يغفر ذنب المذنبين، وأن يقبل توبة التائبين، وأن يدل الحيارى، ويهدي الضالين، ويغفر للأحياء وللميتين، أمر الله عز وجل بالتوبة فقال: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، ووعد جلّ في علاه بالقبول فقال: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ [الشورى:25]، ثم فتح الرحمن باب الرجاء فقال: لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53].
وقد أخرج مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يأيها الناس! توبوا إلى ربكم، فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة).
وأوحى الله إلى داود عليه السلام: (يا داود! لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم، ورفقي بهم، وشوقي إلى ترك معاصيهم، لماتوا شوقاً إليّ، ولتقطعت أوصالهم من محبتي، يا داود! هذه إرادتي في المدبرين عني، فكيف إرادتي في المقبلين علي؟!)
يا من يرى ما في الضمير ويسمع
أنت المعد لكل ما يتوقع
يا من يرجى للشدائد كلها
يا من إليه المشتكى والمفزع
يا من خزائن رزقه في قول كن
والخير كله عندك أجمع
ما لي سواء فقري إليك وسيلة
فبالافتقار إليك فقري إليك أرفع
ما لي سواء قرعي لبابك حيلة
فلئن رددت فأي باب أقرع ومن ذا الذي أدعوه وأهتف باسمه
إن كان فضلك عن فقيرك يمنع
حاشاك أن تقنط من فضلك عاصياً
الفضل أجزل والمواهب أوسع
عنوان اللقاء: (قوافل العائدين) نعم قوافل العائدين، وسيتكون اللقاء من مقدمة وبداية وختام، وبينهما أخبار خمسة:
الخبر الأول: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب.
الخبر الثاني: سبحان مغير الأحوال.
الخبر الثالث: أترضى أن تكون مثل هذا.
الخبر الرابع: طريق المخدرات.
الخبر الخامس: هدايتي على يديك، ثم الختام. فإلى أول الكلام.
روى البخاري رضي الله عنه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة يطوفون في الطريق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم، قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال: فيسألهم ربهم جل في علاه وهو أعلم بهم: ما يقولون عبادي؟ قال: فيقولون: يسبحونك ويكبرونك ويمجدونك ويحمدونك، فيقول جلّ في علاه: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك، قال: فيقول: كيف لو رأوني؟ قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيداً وتحميداً وأكثر تسبيحاً).
اللهم لا تحرمنا لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.
نعم أبشروا يا أهل هذه المجالس! فربكم ذو رحمة واسعة، وأسمع منادي الله ينادي: (ألا قد طال شوق الأبرار إلى لقائي، وإني أشد شوقاً لهم، ألا من طلبني وجدني، ومن طلب غيري لم يجدني، من ذا الذي أقبل عليّ وما قبلته، من ذا الذي طرق بابي وما فتحته، من ذا الذي توكل علي وما كفيته، من ذا الذي دعاني وما أجبته، من ذا الذي سألني وما أعطيته، أهل ذكري أهل مجالستي، أهل شكري أهل زيادتي، أهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أقنطهم أبداً من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب، من أقبل عليّ قبلته من بعيد، ومن أعرض عني ناديته من قريب، ومن ترك لأجلي أعطيته المزيد، ومن أراد رضاي أردت ما أريد، ومن تصرف بحولي وقوتي ألنت له الحديد، من صفا معي صافيته، من أوى إلي آويته، من فوض أمره إليّ كفيته، ومن باع نفسه مني اشتريته وجعلت الثمن جنتي ورضاي)، وعد صادق وعهد سابق ومن أوفى بعهده من الله فيا فرحة التائبين بمحبة الله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222].
فالهج بحمده واهتف بشكره، وقل: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوا لك بنعمتك عليّ، وأبو بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).
قل: أنا الميت الذي أحييته فلك الحمد، وأنا الضعيف الذي قويته فلك الحمد، وأنا الصغير الذي ربيته فلك الحمد، وأنا الفقير الذي أغنيته فلك الحمد، وأنا الضال الذي هديته فلك الحمد، وأنا الجاهل الذي علمته فلك الحمد، وأنا الجائع الذي أطعمته فلك الحمد، لك الحمد كله، ولك الشكر كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، لا إله إلا أنت.
يا رب حمداً ليس غيرك يحمد
يا من له كل الخلائق تصمد
أبواب غيرك ربنا قد أوصدت
ورأيت بابك واسع لا يوصد
روي عن منصور بن عمار قال: خرجت ليلة وظننت أني قد أصبحت، وإذا عليّ ليل، فقعدت عند بابٍ صغير، فإذا بصوت شابٍ يبكي ويقول: وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك وقد عصيتك حين عصيتك، وما أنا بنكالك جاهلاً، ولا لعقوبتك متعرضاً، ولا بنظرك مستخفاً، ولكن سولت لي نفسي، وغلبتني شقوتي، وغرني سترك المرخي عليّ، فالآن من عذابك من يستنقذني، وبحبل من أعتصم إن قطعت حبالك عني، واسوأتاه من أيام في معصية ربي، ويا ويلي كم أتوب وكم أعود، وقد حان لي أن أستحي من ربي.
قال منصور : فلما سمعت كلامه قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
قال: فسمعت صوتاً واضطراباً شديداً، ثم مضيت لحاجتي، فلما أصبحنا رجعت وإذا أنا بجنازة على الباب، وعجوز تذهب وتجيء، فقلت لها: من الميت؟ فقالت: لا تجدد عليّ أحزاني، قلت: إني رجل غريب، فقالت: هذا ولدي مر بنا البارحة رجلاً لا جزاه الله خيراً قرأ آية فيها ذكر النار فلم يزل ولدي يضطرب ويبكي حتى مات، قلت: إن لله وإنا إليه راجعون، هكذا والله صفة الخائفين يا ابن عمار !
سبحان من وفق للتوبة أقواماً، وثبت على صراطها أقوماً.
يا من ليس لي منه مجير
بعفوك من عذابك أستجير
إن تعذبني فبعدلك
وإن ترحمني فأنت به جدير
إن علاج مشاكل الشباب والشيب، وأصحاب الهموم والغموم هو الفرار إلى الله بالانضمام إلى قوافل العائدين، نعم الانضمام إلى قوافل العائدين، العائدين إلى الله بعد طول غياب.. الذين أحرقتهم الذنوب والمعاصي.. الذين جربوا الحياة في الظلام ثم اكتشفوا النور.. الذين بدلوا ذل المعصية بعز الطاعة.. الذين انتصروا على النفس والهوى والشيطان وحزبه.. الذين آثروا الجنة على النار.. الذين ندموا على ما فرطوا في جنب الله، قال صلى الله عليه وسلم: (الندم توبة).
وقال بعضهم: إن العبد ليذنب الذنب فلا يزال نادماً حتى يدخل الجنة، فيقول إبليس: ليتني لم أوقعه في الذنب.
وقال طلق بن حبيب : إن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد، ولكن أصبحوا تائبين وأمسوا تائبين.
فليس عيباً أن تخطئ، ولكن كل العيب أن تصر على الخطأ، وأن تتمادى في الخطأ، وأن تنسى فضل الله عليك.. وأن تنسى رقابة الله لك.
قصة وعبرة
وأنت نعم أنت إياك أعني! يا من تأكل من رزقه، وتسكن في أرضه، وفي كل مكان يراك، ولا تستطيع رد الموت إذا أتاك، ولا تملك لنفسك جنة ولا ناراً! أما آن لك أن تتوب وتستغفر علام الغيوب؟! أما آن لك أن تنظم إلى قوافل العائدين؟!
أما آن لما أنت فيه متأب
وهل لك من بعد الغياب إياب
تقضت بك الأعمار في غير طاعة
سوى عمل ترجوه وهو سراب
وليس للمرء سلامة دينه
سوى عزلة فيها الجليس كتاب
يعني: القرآن.
كتاب حوى العلوم بكلها
وكل ما حوى من العلوم صواب
ففيه الدواء لكل داء فاظفر به
فوا الله ما عنه ينوب كتاب
كتاب: أي: القرآن.
جاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم فقال: يا إبراهيم ! لقد أسرفت على نفسي بالذنوب والمعاصي، فقل لي في نفسي قولا بليغاً، قال: أعظك بخمس قال: هات الأولى، قال: الأولى: لا تأكل من رزق الله واعص الله، قال: كيف يا إبراهيم! وهو الذي يطعم ولا يُطعم؟! قال: عجباً لك تأكل من رزقه وتعصيه! قال: هات الثانية: قال: الثانية: لا تسكن في أرض الله واعص الله، قال: كيف يا إبراهيم الأرض أرضه والسماء سماؤه؟! قال: عجباً لك تأكل من رزقه وتسكن في أرضه وتعصيه! قال: هات الثالثة، قال: الثالثة: اذهب في مكان لا يراك فيه الله واعص الله، قال: أين يا إبراهيم ! وهو الذي لا تأخذه سنة ولا نوم؟! قال: عجباً لك تأكل من رزقه وتسكن في أرضه وفي كل مكان يراك ثم تعصيه! قال: هات الرابعة، قال: الرابعة: إذا أتاك ملك الموت ليقبض الروح فقل له: إني لا أموت الآن، قال: من يستطيع يا إبراهيم ؟! والله يقول: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34] قال: عجباً لك، تأكل من رزقه، وتسكن في أرضه، وفي كل مكان يراك، ولا تستطيع رد الموت إذا أتاك وتعصيه! قال: هات الخامسة، قال: الخامسة: إذا جاءك زبانية العذاب تأخذك إلى النار فخذ نفسك إلى الجنة، قال: من يستطيع هذا يا إبراهيم ؟! قال: عجباً لك، تأكل من رزقه، وتسكن في أرضه، وفي كل مكان يراك، ولا تستطيع رد الموت إذا أتاك، ولا تملك لنفسك جنة ولا نار ثم تعصيه؟! قال: اسمع يا إبراهيم ! أنا أستغفر الله وأتوب إليه، فأعلنها توبة وإنابة وفراراً إلى الله، وأعلنها رجعة وانضماماً إلى قوافل العائدين.
وأنت نعم أنت إياك أعني! يا من تأكل من رزقه، وتسكن في أرضه، وفي كل مكان يراك، ولا تستطيع رد الموت إذا أتاك، ولا تملك لنفسك جنة ولا ناراً! أما آن لك أن تتوب وتستغفر علام الغيوب؟! أما آن لك أن تنظم إلى قوافل العائدين؟!
أما آن لما أنت فيه متأب
وهل لك من بعد الغياب إياب
تقضت بك الأعمار في غير طاعة
سوى عمل ترجوه وهو سراب
وليس للمرء سلامة دينه
سوى عزلة فيها الجليس كتاب
يعني: القرآن.
كتاب حوى العلوم بكلها
وكل ما حوى من العلوم صواب
ففيه الدواء لكل داء فاظفر به
فوا الله ما عنه ينوب كتاب
كتاب: أي: القرآن.
تعال بنا نسمع إلى أخبار أصحاب تلك القوافل ماضياً وحاضراً، تعال بنا نأخذ العبرة من قصصهم.. قصص ممزوجة بالندم والدموع.. قصص مليئة بالصور والعبر يشكو أصحابها قبل الانضمام إلى قوافل العائدين من الهموم والغموم.. مآسي وآهات.. غرقوا في لجج المعاصي والمنكرات، فمن خمور ومخدرات وفواحش ومنكرات، وكانت النجاة بالفرار إلى الله، والانضمام إلى قوافل العائدين.
لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب
فقال: يا جارية! اذهبي فأنت حرة لوجه الله تعالى، ثم ألقى ما معه من الشراب، وكسر العود، ثم دعاني فاعتنقني، وجعل يبكي ويقول: يا أخي! أترى أن الله يقبل توبتي، فقلت: نعم، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، قلت: نعم، وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ [الشورى:25].
فتاب واستقام وتبدل حاله، وصحبته بعد ذلك أربعين سنة حتى مات، فرأيته في المنام فقلت له: إلى ما صرت؟ فقال: إلى الجنة، قلت: بماذا؟ قال: بقراءتك عليّ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ [التكوير:10].
فلا إله إلا الله كيف سيكون حالي وحالك إذا الصحف نشرت؟ ووَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [التكوير:11-14].. يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18].
فلا إله إلا الله إذا نطقت العينان وقالت: أنا للحرام نظرت، ولا إله إلا الله إذا نطقت الأذنان وقالت: أنا للأغاني وللحرام سمعت، ولا إله إلا الله إذا نطقت اليدان وقالت: أنا للربا والحرام أخذت، ولا إله إلا الله إذا نطقت الرجلان وقالت: أنا للحرام مشيت الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65].. وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت:22-24].
مثل لقلبك أيها المغرور
يوم القيامة والسماء تمور
قد كورت شمس النهار وأضعفت
حراً على رؤوس العباد تمور
وإذا الجبال تقلعت بأصولها
فرأيتها مثل السحاب تسير
وإذا النجوم تساقطت وتناثرت
وتبدلت بعد الضياء كدور
وإذا العشار تعطلت عن أهلها
خلت الديار فما بها معمور
وإذا الوحوش لدى القيامة أحضرت
وتقول للأملاك أين نسير؟
فيقال سيروا تشهدون فضائحاً
وعجائباً قد أحضرت وأمور
وإذا الجنين بأمه متعلق
خوف الحساب وقلبه مذعور
هذا بلا ذنب يخاف لهوله
كيف المقيم على الذنوب دهور
حتى ننجو ونفوز ونفلح في ذلك اليوم لابد من الفرار إلى الله بالانضمام إلى قوافل العائدين، قال سبحانه: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
سبحان مغير الأحوال
قلت: نعم هو ذاك، فصورتك التي أذكرها منذ سنوات تختلف عن صورتك الآن، فتنهد قائلاً: سبحان مغير الأحوال، قلت: لابد أن وراء ذلك قصة، قال: نعم، وسأقصها عليك، ثم التفت إلي قائلاً: كنت في سيارتي على طريق ساحلي، وعند أحد الجسور الموصلة إلى أحد الأحياء، فوجئت بصبي صغير يقطع من أمامي الطريق، فارتبكت واختلت عجلة القيادة من يدي ولم أشعر إلا وأنا في أعماق المياه، فرفعت رأسي إلى أعلى لأجد متنفساً ولكن الماء بدأ يغمر السيارة من جميع نواحيها، فمددت يدي لأفتح الباب فلم ينفتح، وهنا تأكدت أني هالك لا محالة، وفي لحظات لعلها ثواني مرت أمامي وفي ذهني صور سريعة متلاحقة، صور من حياتي الحافلة بكل أنواع العبث والمجون، وتمثل لي الماء شبحاً مخيفاً، وأحاطت بي الظلامات كثيفة، وأحسست أني أهوي إلى أغوار سحيقة مظلمة، فانتابني فزعاً شديداً، فصرخت بصوت مكتوم يا رب! يا رب! أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62]، ودرت حول نفسي، ماداً ذراعي أطلب النجاة لا من الموت الذي أصبح محققاً، بل من خطاياي التي حاصرتني وضيقت علي الخناق.
وأحسست بقلبي يخفق بشدة، فانتفضت وبدأت أزيح من حولي تلك الأشباح المخيفة، وأستغفر ربي قبل أن ألقاه، وأحسست أن كل ما حولي يضغط عليّ، وكأنما استحالت المياه إلى جدران من الحديد، فقلت: إنها النهاية لا محالة، فنطقت بالشهادتين، وبدأت أستعد للموت، وحركت يدي فإذا بها تنفذ في فراغ، فراغ يمتد إلى خارج السيارة، وكالحال تذكرت إن زجاج السيارة الأمامي مكسور، شاء الله أن ينكسر في حادث منذ ثلاثة أيام، فقفزت منه دون تفكير، ودفعت بنفسي من خلال هذا الفراغ، وخرجت من أعماق الماء، فإذا الأضواء تغمرني، وإذا بي خارج السيارة، فنظرت فإذا بجمع من الناس يقفون على الشاطئ، وكانوا يتصايحون بأصوات لم أتبينها، ولما رأوني نزل اثنان منهم، وأخرجاني من الماء، فوقفت على الشاطئ ذاهلاً عما حولي، وغير مصدق أني نجوت من الموت، وأني الآن بين الأحياء.
كنت أتخيل السيارة وهي غارقة في الماء، فأتخيلها تختنق وتموت وقد ماتت فعلاً، وهي الآن راقدة في نعشها أمامي، لقد تخلصت منها وخرجت، فخرجت مولوداً جديداً لا يمت إلى الماضي بسبب من الأسباب، وأحسست برغبة في الركض بعيداً عن هذا المكان، المكان الذي دفنت فيه الماضي الدنس، ومضيت إلى البيت إنساناً آخر غير الذي خرج قبل ساعات، فدخلت البيت، وكان أول ما وقع عليه بصري صور معلقة على الحائط لممثلات وراقصات ومغنيات، فاندفعت إلى الصور أمزقها، ثم ارتميت على سريري أبكي ولأول مرة أبكي.
أحسست بالندم على ما فرطت في جنب الله، فأخذت الدموع تنساب في غزارة من عيني، وأخذ جسمي يهتز، وبينما أنا كذلك إذا بصوت لطالما سمعته وتجاهلته، إنه صوت الأذان يجلجل في الفضاء، وكأني أسمعه لأول مرة.
وجلجلت الأذان في كل حي
ولكن أين صوت من بلال ؟
منائركم علت في كل ساح
ومسجدكم من العباد خالي
يقول: فانتفضت واقفاً وتوضأت، وبعد أن أديت الصلاة أعلنت توبتي في المسجد، وجلست أبكي وأدعو الله أن يغفر لي خطيئتي، ومنذ ذلك الحين وأنا كما ترى، قلت: هنيئاً لك الدموع الحارة، وهنيئا لك الانضمام إلى قوافل العائدين.
قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8]. وقال صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون).
وقال عمر رضي الله عنه: التوبة النصوح أن يذنب العبد ثم يتوب فلا يعود فيه.
وقال الحسن البصري : التوبة النصوح ندم بالقلب، واستغفار باللسان، وترك بالجوارح، وإضمار بأن لا يعود.
وقال يحيى بن معاذ : علامة التائب إسبال الدمعة، وحب الخلوة، والمحاسبة للنفس في كل همه. اللهم اجعلنا من التوابين واجعلنا من المتطهرين الذين لا خوفاً عليهم ولا هم يحزنون.
أترضى أن تكون مثل هذا
وفي ليلة لم يتوقعها في ليل مظلم، استحوذ عليه الشيطان فأنساه ذكر الله، فأطلق لقدميه تركض في أوحال المعصية، وأوزار الجريمة، فألهته الأماني، وغرته نسمة الحياة وبهجة الدنيا، ومثله كثير، اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ [المجادلة:19] وفجأة على غير موعد نزل به نازل، وطرق بابه طارق، ولم يكن هذا الضيف ليزوره إلا هذه المرة فحسب، ولكنها زيارة ثقيلة مؤلمة، إنه الزائر الذي لا يرد، حاول أن يؤخره أن يؤجله فلم يستطع، أراد أن يتفاهم معه فلم يستطع، أراد أن يدفعه بالدواء والطبيب، بالمال والأولاد فلم يستطع حاول بكل الوسائل الدفاعية فلم يستطع وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [سبأ:54].
انتهى كل شي، هوت آمال عظام وأحلام كالجبال، حشرج الصدر، وضاقت الأنفاس، وغادرت الروح وأمامه أسئلة صعاب، وجنة ونار، هلك المسوفون.
يقول الشاب: لم يكن هو أول من غادر الحياة بهذه السرعة من أسرتي، ولم يكن هو الشاب الوحيد الذي فقدناه، ولكن كان لحياته فجيعة ولموته عبرة، وكان يوم موته وتغسيله والصلاة عليه ثم دفنه يوماً مشهوداً غاب عن كثير وكنت أولهم، فكيف أصلي على من حرم الله عز وجل ورسوله الصلاة عليه؟ لم أصل عليه طاعة وعبادة لله حتى تم كل شي.
يقول الشاب: ثم اجتمعت وأقاربي في مجلس ضم الكثير منهم، وأكثرهم عالم بأمور الدنيا جاهل بأمور الدين، كما قال الله: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7]، فقام أحدهم شاهراً سيفه، ومصوب سهمه، ورافعاً صوته باستغراب يملؤه الاستهزاء، وهو يسمع الجميع: أين أنت عن صلة الرحم والقيام بالواجب؟ فهاهو فلان قد مات ولم نر لك أثراً، ولم نعلم لك مكاناً! اتجهت نحوي العيون بالعتاب، وتحركت الأيدي تلوم والألسنة تقول: أين أنت عن واجب الصلاة والعزاء؟ وأضاف أحدهم مستهزأً تصلي وتصوم ولا تعرف حقوق القريب وواجبات الأسرة، وأخذ المجلس يتحدث ويقول وأنا لا أرد عليه.
حتى إذا أفرغوا سهامهم وانتهوا، قلت للمتحدث الأول بصوت يسمعه الجميع: ما رأيك لو صليت صلاة المغرب أربع ركعات هل يجوز ذلك؟ سكت ولم يجب، وهو يحرك حاجبيه ويهز يده باستغباء عجيب، كررت وأعدت السؤال وطلبت الإجابة منه بصوت مسموع حتى يسمع المجلس، قال لي بعد تكرار السؤال عليه ثلاث مرات: لا يجوز، قلت له: أحسنت هذا أمر الله ورسوله، فنحن نطيع الله في هذا ونطيع رسوله صلى الله عليه وسلم، إن الكتاب والسنة يأمرانا أن لا نصلي على من مات وهو لا يصلي، وسماه كافراً، رفعت صوتي -والحق يعلو ولا يعلى عليه- وأنا أفرغ سهماً من كنانتي، هل أسمع كلام الله ورسوله وأطيع أمرهما؟ أم أسمع كلامك أنت وهراك.
استدرت نحو المجلس وأنا أقول: أمرنا أن لا نصلي على من مات وهو تارك للصلاة، ولا نغسله، ولا ندفنه في مقابر المسلمين، ولهذا لم أصل عليه سمعاً وطاعة لله ورسوله، خيم الصمت على المجلس وأغمدت السيوف، فقد ظهر الأمر واضحاً جلياً، وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81].
يقول الشاب: مرت شهور فإذا كثير من شباب أسرتنا وقد سمع ورأى هذا الموقف يعيد حساباته، ويراجع أفعاله، ويخشى أن يمر عليه يوم لا يجد فيه من يصلي عليه، لقد كان هلاك هذا القريب رحمة لمن بعده، وعبرة لمن خلفه، ولا يزال يتردد في جنبات المسلمين قول الله عز وجل: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84]، وقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر).
فقل لي بالله: كيف حال الشباب اليوم مع صلاتهم؟! حال عجيبة: قسم لا يصلي ولا يركع لا بليل ولا بنهار، وقسم يقدم ويؤخر، وقسم يصلي متى ما شاء وكيف ما شاء أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:4-6]، أما آن لهؤلاء أن ينتظموا في صفوف المصلين، وينضموا إلى قوافل العائدين.
خل إدكار الأربع
والمعهد المرتبع
والضاعن المودع
وخل عنه ودع
واندب زماناً سلفا
سودت فيه الصحف
ولم تزل معتكفاً
على القبيح الشنع
كم ليلة أودعتها
مآثماً أبدعتها
لشهوة أطعتها
في مرتع ومضجع
وكم خطىً حثثتها
لخزية أحدثتها
وتوبة نكثتها
لملعب ومرتع
وكم تجرأت على
رب السموات العلى
ولم تراقبه ولا
صدقت فيما تدعي
وكم غمطت بره
وكم أمنت مكره
وكم نبذت أمره
نبذ الحذاء المرقع
وكم ركضت باللعب
وفهت عمداً بالكذب
ولم تراقب ما يجب
في عهده المتبع
فالبس شعار الندم
واسكب شآبيب الدم
قبل زوال القدم
وقبل سوء المصرع
واخضع خضوع المعترف
ولذ ملاذ المقترف
واعص هواك وانحرف
عنه انحراف المقلع
إلى متى تسهو وتني
ومعظم العمر فني
فيما يضر المقتني
ولست بالمرتدع
قال بعض الحكماء: تعرف توبة الرجل بأربعة أشياء:
أولها: أن يمنع لسانه من فضول الكلام، من غيبة ونميمة وكذب.
ثانيها: أن لا يحمل في قلبه حسداً ولا عداوة لأحد من المسلمين.
ثالثها: أن يترك أصحاب السوء ولا يصاحب أحداً منهم.
الرابع: أن يكون مستعدا للموت، نادماً على الذنب، مستغفراً لما سبق من ذنوبه، مجتهداً في طاعات ربه.
يا من يرى مد البعوض جناحها
في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى نياط عروقها في نحرها
والمخ من تلك العروق النحل
فاغفر لعبد تاب من زلاته
ما كان منه في الزمان الأول
طريق المخدرات
يقول الشاب: كان صاحبي يحدثني عن المتع المحرمة، وكأنه يغريني بالسفر حتى عزمت عليه واستحوذني الشيطان، فكان صاحبي أول المرحبين، وتكفل بشراء تذكرة السفر على أن أتكفل أنا هناك ببقية المصاريف، وسافرنا هناك ورأينا جموعاً من الشباب ليس لهم هم إلا المتعة المحرمة، اليوم الأقصى يشتكي والشباب يغرق في أوحال المعاصي والمنكرات.
هاهو الأقصى يلوك جراحة
والمسلمون جموعهم أحاد
يا ويلنا ماذا أصاب رجالنا؟
أو ما لنا سعد ولا مقداد
يقول الشاب: رأينا هناك جموعاً من الشباب ليس لهم هم إلا المتعة المحرمة، فتعلمت من الشباب التدخين، وشرب الخمر، ثم الزنا، ثم تعاطي المخدرات، وخضنا في كل الوحول القذرة حتى بلغنا الحضيض، ثم عدنا وبعد فترة جمعنا مبلغاً آخر من المال ثم سافرنا إلى بلد آخر أشد فساداً وجربنا كل شيء.
وفي إحدى الليالي رفض أحد الشباب إعطائي حقنة المخدرات المعهودة، فخرجت من الفندق، وقابلت مجموعة من المروجين فدعوني إلى مقرهم فذهبت معهم، وعرضوا عليّ أنواعاً كثيرة من المخدرات، وكنت أجهل بعضها ومدى تأثيرها على الجسم، وبعد تعاطي المخدرات والمسكرات، دعاني أحدهم إلى الغرفة المجاورة لممارسة الزنا، بعد أن أمرني بدفع الثمن مقدماً، وكنت في سكر شديد لا أدري ما أصنع، فقبلت العرض ولم أكن أدري أني أمشي برجلي إلى الهاوية.
ثم بعد أيام عدنا من السفر ومارست حياتي الطبيعية، لكن شبح المخدرات كان يطاردني في كل مكان، وقد نصحني بعض المخلصين بالتوجه إلى المستشفى لتلقي العلاج، فوعدتهم بالذهاب ولم أذهب، وتوالت السفريات لممارسة تلك الأعمال المشينة التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياتي البائسة المتدهورة، حتى نفذت النقود فاحترفت السرقة من هنا وهناك، وتعلمت فنون النصب والاحتيال حتى أجمع لمتعتي المحرمة.
وفجأة شعرت بوعكة صحية، فذهبت إلى المركز الصحي بحثاً عن العلاج، وبعد تحليل عينة من دمي أخبروني أني حامل لفيروس الإيدز، فضاقت الدنيا في وجهي، يا للهول! يا للمصيبة! لقد ذهبت تلك اللذات وانقضت تلك المسرات، فلم يبق إلا الآلام والحسرات، وا حسرتاه! على أصحاب لم ينفعوا، وا حسرتاه! على أحباب لم يشفعوا، يا حسرتاه! يوم طال السهر ولم أعد زاداً للحفر، يا حسرتاه! على عمر مضى وزمان ولى وانقضى ولم أتق فيه حر لظى، يا حسرتاه! إذا كشف الديوان بخطايا اللسان، وزلات الجنان، وقبيح العصيان، يا حسرتاه! إذا وضع الكتاب ونشر ما فيه من خطأ وصواب وعرض الشباب، يا حسرتاه! على صلاة أضعتها، وزكاة منعتها، وأيام أفطرتها، يا حسرتاه! على أوقات أهدرتها، يا حسرتاه! على ذنوب ارتكبتها، وفواحش اقترفتها، يا حسرتاه! يوم لم يلهج لساني بذكره، ولم تقم جوارحي بشكره، يا حسرتاه! يوم يفوز الصالحون بالدرجات، يا حسرتاه! يوم يهوي الظالمون في الدركات، قال سبحانه: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم:39-40].
يقول الشاب: لقد ذهبت تلك اللذات وانقضت تلك المسرات، فلم يبق إلا الآلام والحسرات، ولم يبق إلا الآثام والأوزار والتبعات.
تفنى اللذات ممن ذاق صفوتها
من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء في مغبتها
لا خير في لذة من بعدها النار
فهذه حكايتي باختصار، وكل ما أعرفه أني مصاب بمرض الإيدز، وأنا أنتظر الموت، وعلى الرغم من أني أسير إلى الموت سيراً سريعاً فلا بأس فقد أفقت من غفوتي وأفقت من غفلتي، وأنصح كل شاب عاقل بالالتزام بتعاليم الدين الحنيف، تلك التعاليم التي لطالما سمعناها ولم نتبعها، إنما أتبعنا النفس والهوى والشيطان، وقد خاب من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
أقول لإخواني الشباب: احذروا المخدرات والفواحش والمنكرات فإنها الهلاك الماحق، واحذروا من رفقة السوء فإنهم جنود إبليس اللعين.
يقول: أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، فلعلكم تقرءون هذه الكلمات وأنا تحت التراب، فاسألوا الله لي الرحمة، لعلكم تقرءون كلماتي وأنا تحت التراب، قد فارقت الروح الجسد وصعدت الروح إلى بارئها، فاللهم يا من وسعت رحمته كل شي ارحم عبدك الضعيف المسكين.
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة
فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن
فبمن يلوذ ويستجير المجرم
مالي إليك وسيلة إلا الرجا
وجميل عفوك ثم إني مسلم
لو رأيت التائب رأيت جفناً مقروحاً تراه في الأسحار على باب الاعتذار مطروحاً، واسمع قول الإله يوحي فيما يوحي: توبوا إلى الله توبة نصوحاً، فالتائب مطعمه يسير وحزنه كثير ومزعجة مثير، وكأنه أسير قد رمي مجروحاً، ولسان حاله يردد توبوا إلى الله توبة نصوحاً، التائب أنحل بدنه الصيام وأتعب قدمه القيام وحلف بالعزم على هجر المنام، فبذل بدناً وروحاً وهو يردد توبوا إلى الله توبة نصوحاً، التائب الذل قد علاه والحزن قد وهاه، يذم نفسه وهواه، وبهذا صار ممدوحاً يردد ويعيد توبوا إلى الله توبة نصوحا، التائب يبكي جنايات الشباب التي بها قد اسود الكتاب، فإن من يأتي إلى الباب يجد الباب مفتوحاً، يردد ويقول قول الله: توبوا إلى الله توبة نصوحاً، اللهم إنا نسألك التوبة ودوامها ونعوذ بك من المعصية وأسبابها.
هدايتي على يديه
وفي تلك الليلة سخرت من رجل أعمى رأيته يتسول في السوق، والأدهى أني وضعت رجلي أمامه ليتعثر، فتعثر وانطلقت ضحكتي التي دوت في السوق، ثم عدت إلى بيتي متأخراً، ووجدت زوجتي في انتظاري، وكانت في حالة يرثى لها.
أين كنت يا راشد ؟ قلت: في المريخ ساخراً عند أصحابي طبعاً، وكانت في حالة يرثى لها، قالت والعبرة تخنقها: راشد أنا متعبة جداً، والظاهر أن موعد ولادتي صار وشيكاً، وسقطت دمعة على جبينها، وأحسست أني أهملت زوجتي، وكان المفروض أن أهتم بها وأقلل من سهراتي، وخاصة وأنها في شهرها التاسع.
قاست زوجتي ألام يوم وليلة في المستشفى حتى رأى طفلي النور، ولم أكن في المستشفى ساعتها، فتركت رقم هاتف المنزل وخرجت، ثم اتصلوا بي حتى تعلموني الخبر، ففعلوا فاتصلوا بي ليزفوا لي نبأ قدوم سالم .
وحين وصلت المستشفى طلب مني أن أراجع الطبيبة، أي طبيبة؟ المهم الآن أن أرى ابني سالم، لابد من مراجعة الطبيبة فأجابتني موظفة الاستقبال بحزم، فصدمت حين عرفت أن ابني به تشوه شديد في عينيه وفي بصره، تذكرت المتسول قلت: سبحان الله! كما تدين تدان، ولم تحزن زوجتي فقد كانت مؤمنة بقضاء الله راضية، وطالما نصحتني، وطالما طلبت مني أن أكف عن تقليد الآخرين، كلا هي لا تسميه تقليداً بل غيبة ومعها كل الحق، ولم أكن أهتم بسالم كثيراً، فاعتبرته غير موجود في المنزل، وحين يشتد بكاه أهرب إلى الصالة لأنام فيها.
وكانت زوجتي تهتم به كثيراً وتحبه، -لا تظنوا أني أكرهه، فأنا لا أكرهه لكني لم أستطع أن أحبه- أقامت زوجتي احتفالاً حين خطأ خطواته الأولى، وحين أكمل الثانية اكتشفنا أنه أعرج، وكان كلما زدت ابتعاداً عنه زادت زوجتي حباً وتعلقاً به، حتى بعد أن أنجبت عمراً وخالداً.
ومرت السنوات وكنت لاه غافل، فقد غرتني الدنيا وما فيها، فكنت كاللعبة في يد رفقة السوء مع أني كنت أظن أني من يلعب عليهم، ولم تيأس زوجتي من إصلاحي، وكانت دائماً تدعو لي بالهداية، ولم تغضب من تصرفاتي الطائشة أو إهمالي لسالم واهتمامي بباقي إخوته، ثم كبر سالم ولم أمانع حين طلبت زوجتي تسجيله في أحد المدارس الخاصة بالمعاقين، ولم أكن أحس بمرور السنوات أمامي سواء ليل ونهار عمل ونوم طعام وسهر، حتى ذلك اليوم كان يوم الجمعة، استيقظت الساعة الحادي عشرة ظهراً، ما يزال الوقت مبكراً -أقول- لكن لا يهم، اغتسلت ولبست وتعطرت وهممت بالخروج.
استوقفني منظر سالم، كان يبكي بحرقة، إنها المرة الأولى التي أرى فيها سالماً يبكي مذ كان طفلاً، أأخرج أم أرى مما يشكو سالم؟ قلت: لا كيف أتركه وهو في هذه الحالة، أهو الفضول أم الشفقة لا يهم، سألته لماذا تبكي يا سالم! حين سمع صوتي توقف، وبدأ يتحسس ما حوله، ما به يا ترى! اكتشفت أن ابني يهرب مني، الآن أحسست به، أين كنت منذ عشر سنوات؟ فتبعته وكان قد دخل غرفته ورفض أن يخبرني في البداية عن سبب بكائه، وتحت إصراري عرفت السبب؟! تأخر عليه شقيقه عمر الذي اعتاد أن يوصله إلى المسجد، اليوم الجمعة خاف سالم أن لا يجد مكاناً في الصف الأول، فنادى والدته لكن لا مجيب حينها.
حينها وضعت يدي على فمه وكأني أطلب منه أن يكف عن حديثه، حينها بكيت، ولا أعلم ما الذي دفعني لأقول له: سالم! لا تحزن هل تعلم من سيرافقك اليوم إلى المسجد؟ أجاب سالم أكيد عمر، ليتني أعلم إلى أين ذهب؟ قلت: لا يا سالم! أنا من سيرافقك، استغرب سالم ولم يصدق، فظن أني أسخر منه، ثم عاد إلى بكائه فمسحت دموعه بيدي وأمسكت بيده، وأردت أن أوصله بالسيارة فرفض قائلاً: أبي المسجد قريب أريد أن أخطو إلى المسجد فإني احتسب كل خطوة أخطوها.
يقول: لا أذكر متى آخر مرة دخلت فيها المسجد؟ ولا أذكر آخر مرة سجدت فيها لله سجدة، هي المرة الأولى التي أشعر فيها بالخوف والندم، الندم على ما فرطت طوال السنوات الماضية، مع أن المسجد كان مليئاً بالمصلين إلا أني وجدت لسالم مكاناً في الصف الأول، استمعنا لخطبة الجمعة معاً وصليت بجانبه.
وبعد انتهاء الصلاة طلب مني سالم مصحفاً، فاستغربت كيف سيقرأ وهو أعمى؟ هذا ما تردد في نفسي ولم أصرح به خوفاً من جرح مشاعره، طلب مني أن أفتح له المصحف على سورة الكهف، نفذت ما طلب، ووضع المصحف أمامه وبدأ في قراءة السورة، يا الله! إنه يحفظ سورة الكهف كاملة وعن ظهر قلب.
خجلت من نفسي، فأمسكت مصحفاً وأحسست برعشة في أوصالي، قرأت وقرأت ودعوت الله أن يغفر لي ويهديني، هذه المرة أنا الذي أبكى، بكيت حزناً وندماً على ما فرطت، ولم أشعر إلا بيد حنونة تمسح عني دموعي، لقد كان سالم يمسح دموعي ويهدئ من خاطري.
عدنا إلى المنزل، وكانت زوجتي قلقة كثيراً على سالم، لكن قلقها تحول إلى دموع فرح حين علمت أني صليت الجمعة مع سالم.
منذ ذلك اليوم لم تفتني صلاة الجماعة في المسجد، فقد هجرت رفقاء السوء وأصبحت في رفقة خيرة عرفتها في المسجد، ذقت طعم الإيمان، وعرفت منهم أشياء ألهتني عن الدنيا، ولم أفوت حلقة ذكر أو قيام، وختمت القرآن عدة مرات في شهر، وأنا نفس الشخص الذي هجرة لسنوات، ورطبت لساني بالذكر لعل الله يغفر لي غيبتي وسخريتي من الناس، وأحسست أني أكثر قرباً من أسرتي، فاختفت نظرات الخوف والشفقة التي كانت تطل من عيون زوجتي، والابتسامة ما عادت تفارق وجه ابني سالم، من يرى سالم يظنه ملك الدنيا وما فيها.
حمدت الله كثيراً، وصليت له كثيراً على نعمه، وذات يوم قررت أنا وأصحابي أن نتجه إلى أحد المناطق البعيدة في برامج دعوية مع موسسة خيرية، فترددت في الذهاب واستخرت الله واستشرت زوجتي، فتوقعت أن ترفض لكن حدث العكس، ففرحت كثيراً بل شجعتني، وحين أخبرت سالماً عزمي على الذهاب أحاط جسمي بذراعيه الصغيرين فرحاً، ووالله لو كان طويل القامة مثلي لما توانى عن تقبيل رأسي.
بعدها توكلت على الله، وقدمت طلب إجازة مفتوحة بدون مرتب، والحمد لله جاءت الموافقة بسرعة أسرع مما تصورت، فتغيبت عن البيت ثلاثة أشهر، وكنت خلال تلك الفترة أتصل كلما سنحت لي الفرصة بزوجتي، وأحدث أبنائي، لقد اشتقت لهم كثيراً، لكني اشتقت لسالم أكثر، وتمنيت سماع صوته، وهو الوحيد الذي لم يحدثني منذ سافرت، إما أن يكون في المدرسة أو في المسجد ساعة اتصالي بهم، وكلما أحدث زوجتي أطلب منها أن تبلغه سلامي وتقبله، وكانت تضحك حينما تسمعني أقول هذا الكلام، إلا آخر مرة هاتفتها فيها لم أسمع ضحكتها المتوقعة، وتغير صوتها وقالت لي: إن شاء الله.
أخيراً عدت إلى المنزل، فطرقت الباب وتمنيت أن يفتح لي سالم الباب، لكن فوجئت بابني خالد الذي لم يتجاوز الرابعة من عمره، فحملته بين ذراعي وهو يصيح بابا بابا، انقبض صدري حين دخلت البيت، واستعذت بالله من الشيطان الرجيم، وسعدت زوجتي بقدومي لكن هناك شي قد تغير فيها، فتأملتها جيداً إنها نظرات الحزن التي ما كانت تفارقها، عادت مرة ثانية إلى عينيها، سألتها ما بك؟ قالت: لا شيء، هكذا ردت، فجأة تذكرة من نسيته للحظات، قلت لها: أين سالم؟ خفضت رأسها ولم تجب، ولم أسمع حينها سوى صوت ابني خالد الذي ما يزال يرن في أذني حتى هذه اللحظة، قال: أبي إن سالم راح عند الله في الجنة.
لم تتمالك زوجتي الموقف، فأجهشت بالبكاء وخرجت من الغرفة، فعرفت بعدها أن سالماً أصابته حمى قبل موعد مجيئي بأسبوعين، فأخذته زوجتي إلى المستشفى ولازمته يومين، وبعد ذلك فارقته الحمى حين فارقت روحه الجسد، وأحسست أن ما حدث ابتلاء واختبار من الله سبحانه وتعالى، أجل إنه اختبار وأي اختبار، فصبرت على مصابي وحمدت الله الذي لا يحمد على مكروه سواه، وما زلت أحس بيده تمسح دموعي، وذراعه تحيطني.
كم حزنت على سالم الأعمى الأعرج، لم يكن أعمى أنا من كنت أعمى حين انسقت وراء رفقة السوء، ولم يكن سالم أعرج لأنه استطاع أن يسلك طريق الإيمان رغم كل شيء، لا زلت أتذكر كلماته وهو يقول: إن الله ذو رحمة واسعة، سالم الذي امتنعت يوماً عن حبه اكتشفت أني أحبه أكثر من إخوانه، بكيت كثيراً وما زلت حزيناً، كيف لا أحزن وقد كانت هدايتي على يديه!
اللهم تقبل سالم في رحمتك، اللهم إنا نسألك الثبات حتى الممات.