Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73

Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73

نجاة أهل الصدق


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

معاشر الأحبة! منذ فترة مضت مر بي هذا الموقف ولعله موقف يتكرر هنا وهناك: في ضحى أحد الأيام بينما أنا على طريق الدمام الساحلي متجهاً إلى مدينة الخبر، إذا برجل على جانب الطريق يشير إلي باستحياء، فاستحيت أنا وتوقفت، فقال: أنا ليلة البارحة أطلت السهر واستيقظت متأخراً فما وجدت من يوصلني إلى مكان وظيفتي، قلت: أين تعمل؟ قال: أنا أعمل في ميناء الدمام، قلت: الأمر هين وأنت على طريقي.

ركب الرجل، ثم دار بيني وبينه هذا الحديث:

قال: ماذا سأقول لرئيسي الآن؟ كيف سأبرر له تأخري؟

قلت: الأمر هين، قل له كما قلت لي تماماً، أطلت السهر، واستيقظت متأخراً، ولم تجد أحداً يوصلك إلى مكان الوظيفة، قال: لن يقبل مني.

قلت: مصيبة! نتحدث بالصدق ونقول الحقيقة ثم لا يقبل منا!

وهذا هو واقعنا اليوم، فنكذب ونلفق بالأيمان الكاذبة حتى نعد من الصادقين، وإن صدقنا وقلنا الحق لم يقبل منا، فماذا نفعل؟ أليست هذه من علامات آخر الزمان؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من ورائكم أياماً خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويخون فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، ويتكلم فيها الرويبضة) هذه أشراط الساعة ظهرت فينا والله المستعان فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ * فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ [محمد:18-19].

قلت -والحديث لا زال بيني وبينه مستمراً-: أنت تريد رضا من؟ إن أنت تحدثت بالصدق فسترضي الله تبارك وتعالى، وإن أنت كذبت فستسخط الله تبارك وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من ابتغى رضا الله في سخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن ابتغى رضا الناس في سخط الله سخط الله عليه، وأسخط الناس عليه).

لسان حال الصادق:

فليتك تحلو والحياة مريرة

وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر

وبيني وبين العالمين خراب

إذا صح منك الود فالكل هين

وكل الذي فوق التراب تراب

من الذي يملك الضر والنفع؟ أليس هو الله؟!

أنت تبتغي رضا من؟ رضا الله أم رضا المخلوق؟!

أحبتي! كثير اليوم من يجامل، ويتنازل عن دينه، ويتنازل عن مبادئه، ويتنازل عن قيمه في سبيل عرض من الدنيا قليل، لما تنزل قول الحق تبارك وتعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59] قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: (أتضيع أمتي الصلاة؟) أتضيع أمة محمد الصلاة! تعجب بأبي هو وأمي، هل يعقل أن أمة محمد تنام وتتخلف عن الصلوات؟ فقال جبريل عليه السلام: (يا محمد! يأتي أقوام من أمتك يبيعون دينهم كله بعرض من الدنيا قليل) نسأل الله أن يحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

هذا موقف يمر بي وبك في كثير من الأحيان، يمر بنا في متاجرنا.. في أماكن وظائفنا .. في شوارعنا.. في كل مكان، أصبح الكذب سمة بارزة في المجتمع، الجميع يكذب إلا من رحم الله تبارك وتعالى، وقل أن نرى الصادقين.

اعلم -بارك الله فيك- أن الصدق امتحان وابتلاء، ولكن عواقب الصدق دائماً حميدة، والكذب -والعياذ بالله- وبال وشر على صاحبه، وعواقبه دائماً وخيمة، وحبل الكذب قصير مهما طال، والبضاعة النادرة إذا قلت في الأسواق غلا ثمنها، وزاد طلب الناس عليها، والبضاعة التي نحتاجها اليوم بضاعة الصدق.

قال ابن القيم رحمه الله: من منازل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] منزلة الصادقين، المنزلة التي فرقت بين المؤمنين وبين المنافقين، المنزلة التي فرقت بين أهل النيران وبين أهل الجنان، الصدق الذي صرع الباطل وطرحه، من صال به لم ترد صولته، ومن جال به لم ترد جولته، وهو باب الدخول على الرحمن، قال الله: هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة:119]، وقال: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [الأحزاب:8]، مرتبة الصادقين أدنى من مرتبة النبوة وأعلى من مرتبة الشهداء، قال الله: فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69].

الصدق من مراتب الأنبياء كما قال الله عن أنبيائه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا [مريم:41]، وقال عن إسماعيل: إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:54]، وقال عن يوسف: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ [يوسف:46].

سبب بلوغ الصديق مرتبة الصدق

بلغ مرتبة الصدق من هذه الأمة أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، لكن السؤال: كيف بلغها؟ وكيف وصل إلى تلك المرتبة العالية؟

وصلها بالأفعال لا بالأقوال، والمواقف هي التي تبين طبيعة الرجال، أما في الرخاء فالجميع يدعي، لكن يأبى الله إلا أن يمتحن هذا ويمتحن ذاك، ليظهر كل إنسان على حقيقته، وهذه سنة ماضية في الأولين وسنة ماضية في اللاحقين: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا [العنكبوت:2-3] وما أقلهم! وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3] وما أكثرهم!

عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ [التوبة:43].

الصدق مرتبة رفيعة بلغها الصديق رضي الله عنه وأرضاه بأفعاله، قالها وصدق الأقوال بالأفعال، والأفعال أبلغ أثراً من الأقوال، جاء أهل مكة إلى أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه في أول البعثة يقولون له: إن صاحبك -يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم- يدعي أنه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السماء، ثم رجع من ليلته.

القلوب التي لم ترض بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً لم تستطع أن تتصور هذا، فقالوا: يا أبا بكر ! صاحبك يدعي أنه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السماء، ثم رجع من ليلته، فقال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: أوقد قال؟ قالوا: نعم، قال: صدق! بكل صراحة وبكل ثقة ويقين، وبلا أدنى تردد ولا ريب، وهذه من علامات الإيمان: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات:15]، ما عنده شك أن قدرة الله مطلقة، وأن علم الله مطلق، وأن الله على كل شيء قدير.

قالوا: إنه يقول: أسري به وعرج به في ليلة واحدة، والمطايا لا تقطع هذه المسافة إلا في شهور طويلة، ثم ترجع في شهور أطول بعد تعب وعناء، وصاحبك من ليلة واحدة أسري به ثم عرج به إلى السماء، قال: أوقد قال؟ قالوا: نعم، قال: صدق، نصدقه فيما هو أعظم من هذا، نصدقه في خبر السماء صباح مساء، أفلا نصدق أنه أسري به ثم عرج به إلى السماء؟! فـ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1] فسمي أبو بكر من بعدها بـالصديق ، وجاء بالصدق وصدق به.

والمواقف التي تثبت أن الصديق أهل لهذه الكلمة كثيرة، يوم الهجرة يوم امتحان عظيم، فيه تغير مجرى حياة البشرية، وانتقلت قوة الإسلام من مكة إلى المدينة، ومن هناك انطلقت كتائب الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها؛ لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، فكان يوم الهجرة يوماً عظيماً، والذي حدث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالهجرة، وبدءوا بالخروج آحاداً وفرادى وجماعات، وبقي -بأبي هو وأمي- ينتظر الأمر من السماء حتى يخرج إلى المدينة، وأبو بكر -رضي الله عنه وأرضاه- يعد العدة لمرافقة النبي صلى الله عليه وسلم، إنها رحلة من أخطر الرحلات، خرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو مطلوب حياً أو ميتاً، تخيل رجل تطلبه استخبارات الجزيرة كلها، رجل مطارد من القاصي والداني، من يأتي به حياً أو ميتاً فله مائة ناقة من أطيب أموال العرب، فمن الذي يجازف في مرافقته؟ وماذا تعني مرافقة هذا الرجل في تلك الرحلة الصعبة؟ تعني الموت، لا معنى لتلك الرحلة والمرافقة إلا الموت والهلاك.

فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر يخبره بأن الله قد أذن له بالهجرة؛ بكى الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وأخذ يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: الصحبة الصحبة، أسألك بالله الصحبة الصحبة!

أتعي ماذا تعني الصحبة؟ أتعي ماذا تعني تلك المرافقة في تلك الرحلة؟ إنها الموت والهلاك، يقول عمر رضي الله عنه وأرضاه: ما غبطت الصديق على شيء كيوم الهجرة. فهو يوم غير الله فيه مجرى البشرية.

وفي طريق الهجرة أظهر الصديق العجب العجاب، أظهر من الصدق والتفاني في خدمة الدين ما الله به عليم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر : (تارة يسير عن يميني، وتارة عن شمالي، وتارة من أمامي، وتارة من خلفي، قلت: عجب أمرك يا أبا بكر ! قال: يا رسول الله! أتذكر الرصد فأخاف عليك، إن أنا هلكت يهلك رجل واحد، وإن أنت تهلك تهلك البشرية كلها) استحق الصديق أن يكون ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].

ثم المواقف تبين أن الصديق صادق في قوله وفي فعله، في الرخاء يدعي الجميع وصلاً لليلى وليلى لا تقر لهم بذاك، دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم للنفقة، فقال عمر : والله لأتصدقن اليوم بصدقة ما تصدقها الصديق . منافسة على الطاعات، ومسابقة إلى مرضاة رب الأرض والسماوات، لا كما هو الواقع اليوم، سباق على الدنيا وعلى حطامها، انقلبت الموازين، فبدلاً من أن نتسابق إلى مرضاة الله، بدأنا نتسابق على حطام الدنيا الفانية، يقول عمر : والله لأسبقن الصديق اليوم. فأتى بنصف ماله، أتدري ماذا يعني نصف المال؟ أن تخرج نصف الرصيد الذي تملكه، وتنفقه بنفس طيبة راضية في سبيل الله، فجاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بنصف ماله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ماذا أبقيت لأهلك يا عمر ؟ قال: أبقيت مثله) أي: أنفقت النصف وأبقيت النصف الآخر لأهلي. ثم ظل عمر يترقب قدوم الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فجاء ووضع ماله كله في حضن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ماذا أبقيت لأهلك يا أبا بكر ؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله) فقال عمر : تباً لك يا عمر ! مثلك ينافس الصديق ؟

ما غيرته الخلافة وما غيرته الإمارة، بل زادته تواضعاً وبذلاً للناس رضي الله عنه وأرضاه، يقول عمر : كنت أراه يصلي الفجر، ثم ينطلق من مصلاه مسرعاً، فقلت: إلى أين يذهب الصديق في مثل هذه الساعة، فتتبعته، فوجدته يدخل بيتاً من بيوت المسلمين، فيمكث فيه حيناً من الزمن، ثم يخرج، فقلت: سأرى ماذا يفعل الصديق في ذلك البيت؟

يقول عمر : فلما خرج الصديق دخلت البيت، فإذا فيه امرأة عمياء معها صبية صغار، قلت: من أنت يا أمة الله؟! قالت: عمياء حسيرة كسيرة، قلت: ومن هذا الرجل الذي يدخل عليكم؟ قالت: ما نعرفه، ما تدري أن هذا خليفة النبي صلى الله عليه وسلم! ما تدري أن هذا هو أمير المؤمنين وقائدهم رضي الله عنه وأرضاه! قال عمر : وماذا يصنع عندكم؟ قالت: يحلب شاتنا، ويكنس دارنا، ويطعم صغارنا، ثم يمضي في سبيله!

هذا الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ما غيرته الخلافة والإمارة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال عمر : لأسبقن الصديق غداً، قال عمر : فجئتها مبكراً قبل أن يأتيها الصديق في ذلك اليوم، فقالت لي: لقد سبقك صاحبك! جاءها أبو بكر في ذلك اليوم قبل الوقت المعتاد الذي كان يأتيها فيه! فقال عمر : تباً لك يا عمر ! مثلك ينافس الصديق ؟!

سخروا أنفسهم وسخروا أموالهم وسخروا أوقاتهم كلها لمرضاة الله تبارك وتعالى، فقال الله عنهم: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23].

بلغ مرتبة الصدق من هذه الأمة أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، لكن السؤال: كيف بلغها؟ وكيف وصل إلى تلك المرتبة العالية؟

وصلها بالأفعال لا بالأقوال، والمواقف هي التي تبين طبيعة الرجال، أما في الرخاء فالجميع يدعي، لكن يأبى الله إلا أن يمتحن هذا ويمتحن ذاك، ليظهر كل إنسان على حقيقته، وهذه سنة ماضية في الأولين وسنة ماضية في اللاحقين: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا [العنكبوت:2-3] وما أقلهم! وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3] وما أكثرهم!

عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ [التوبة:43].

الصدق مرتبة رفيعة بلغها الصديق رضي الله عنه وأرضاه بأفعاله، قالها وصدق الأقوال بالأفعال، والأفعال أبلغ أثراً من الأقوال، جاء أهل مكة إلى أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه في أول البعثة يقولون له: إن صاحبك -يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم- يدعي أنه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السماء، ثم رجع من ليلته.

القلوب التي لم ترض بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً لم تستطع أن تتصور هذا، فقالوا: يا أبا بكر ! صاحبك يدعي أنه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السماء، ثم رجع من ليلته، فقال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: أوقد قال؟ قالوا: نعم، قال: صدق! بكل صراحة وبكل ثقة ويقين، وبلا أدنى تردد ولا ريب، وهذه من علامات الإيمان: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات:15]، ما عنده شك أن قدرة الله مطلقة، وأن علم الله مطلق، وأن الله على كل شيء قدير.

قالوا: إنه يقول: أسري به وعرج به في ليلة واحدة، والمطايا لا تقطع هذه المسافة إلا في شهور طويلة، ثم ترجع في شهور أطول بعد تعب وعناء، وصاحبك من ليلة واحدة أسري به ثم عرج به إلى السماء، قال: أوقد قال؟ قالوا: نعم، قال: صدق، نصدقه فيما هو أعظم من هذا، نصدقه في خبر السماء صباح مساء، أفلا نصدق أنه أسري به ثم عرج به إلى السماء؟! فـ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1] فسمي أبو بكر من بعدها بـالصديق ، وجاء بالصدق وصدق به.

والمواقف التي تثبت أن الصديق أهل لهذه الكلمة كثيرة، يوم الهجرة يوم امتحان عظيم، فيه تغير مجرى حياة البشرية، وانتقلت قوة الإسلام من مكة إلى المدينة، ومن هناك انطلقت كتائب الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها؛ لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، فكان يوم الهجرة يوماً عظيماً، والذي حدث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالهجرة، وبدءوا بالخروج آحاداً وفرادى وجماعات، وبقي -بأبي هو وأمي- ينتظر الأمر من السماء حتى يخرج إلى المدينة، وأبو بكر -رضي الله عنه وأرضاه- يعد العدة لمرافقة النبي صلى الله عليه وسلم، إنها رحلة من أخطر الرحلات، خرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو مطلوب حياً أو ميتاً، تخيل رجل تطلبه استخبارات الجزيرة كلها، رجل مطارد من القاصي والداني، من يأتي به حياً أو ميتاً فله مائة ناقة من أطيب أموال العرب، فمن الذي يجازف في مرافقته؟ وماذا تعني مرافقة هذا الرجل في تلك الرحلة الصعبة؟ تعني الموت، لا معنى لتلك الرحلة والمرافقة إلا الموت والهلاك.

فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر يخبره بأن الله قد أذن له بالهجرة؛ بكى الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وأخذ يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: الصحبة الصحبة، أسألك بالله الصحبة الصحبة!

أتعي ماذا تعني الصحبة؟ أتعي ماذا تعني تلك المرافقة في تلك الرحلة؟ إنها الموت والهلاك، يقول عمر رضي الله عنه وأرضاه: ما غبطت الصديق على شيء كيوم الهجرة. فهو يوم غير الله فيه مجرى البشرية.

وفي طريق الهجرة أظهر الصديق العجب العجاب، أظهر من الصدق والتفاني في خدمة الدين ما الله به عليم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر : (تارة يسير عن يميني، وتارة عن شمالي، وتارة من أمامي، وتارة من خلفي، قلت: عجب أمرك يا أبا بكر ! قال: يا رسول الله! أتذكر الرصد فأخاف عليك، إن أنا هلكت يهلك رجل واحد، وإن أنت تهلك تهلك البشرية كلها) استحق الصديق أن يكون ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].

ثم المواقف تبين أن الصديق صادق في قوله وفي فعله، في الرخاء يدعي الجميع وصلاً لليلى وليلى لا تقر لهم بذاك، دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم للنفقة، فقال عمر : والله لأتصدقن اليوم بصدقة ما تصدقها الصديق . منافسة على الطاعات، ومسابقة إلى مرضاة رب الأرض والسماوات، لا كما هو الواقع اليوم، سباق على الدنيا وعلى حطامها، انقلبت الموازين، فبدلاً من أن نتسابق إلى مرضاة الله، بدأنا نتسابق على حطام الدنيا الفانية، يقول عمر : والله لأسبقن الصديق اليوم. فأتى بنصف ماله، أتدري ماذا يعني نصف المال؟ أن تخرج نصف الرصيد الذي تملكه، وتنفقه بنفس طيبة راضية في سبيل الله، فجاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بنصف ماله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ماذا أبقيت لأهلك يا عمر ؟ قال: أبقيت مثله) أي: أنفقت النصف وأبقيت النصف الآخر لأهلي. ثم ظل عمر يترقب قدوم الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فجاء ووضع ماله كله في حضن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ماذا أبقيت لأهلك يا أبا بكر ؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله) فقال عمر : تباً لك يا عمر ! مثلك ينافس الصديق ؟

ما غيرته الخلافة وما غيرته الإمارة، بل زادته تواضعاً وبذلاً للناس رضي الله عنه وأرضاه، يقول عمر : كنت أراه يصلي الفجر، ثم ينطلق من مصلاه مسرعاً، فقلت: إلى أين يذهب الصديق في مثل هذه الساعة، فتتبعته، فوجدته يدخل بيتاً من بيوت المسلمين، فيمكث فيه حيناً من الزمن، ثم يخرج، فقلت: سأرى ماذا يفعل الصديق في ذلك البيت؟

يقول عمر : فلما خرج الصديق دخلت البيت، فإذا فيه امرأة عمياء معها صبية صغار، قلت: من أنت يا أمة الله؟! قالت: عمياء حسيرة كسيرة، قلت: ومن هذا الرجل الذي يدخل عليكم؟ قالت: ما نعرفه، ما تدري أن هذا خليفة النبي صلى الله عليه وسلم! ما تدري أن هذا هو أمير المؤمنين وقائدهم رضي الله عنه وأرضاه! قال عمر : وماذا يصنع عندكم؟ قالت: يحلب شاتنا، ويكنس دارنا، ويطعم صغارنا، ثم يمضي في سبيله!

هذا الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ما غيرته الخلافة والإمارة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال عمر : لأسبقن الصديق غداً، قال عمر : فجئتها مبكراً قبل أن يأتيها الصديق في ذلك اليوم، فقالت لي: لقد سبقك صاحبك! جاءها أبو بكر في ذلك اليوم قبل الوقت المعتاد الذي كان يأتيها فيه! فقال عمر : تباً لك يا عمر ! مثلك ينافس الصديق ؟!

سخروا أنفسهم وسخروا أموالهم وسخروا أوقاتهم كلها لمرضاة الله تبارك وتعالى، فقال الله عنهم: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23].

المواقف هي التي تبين حقيقة الرجال، أعظم مصيبة مرت على الأمة هي وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ما ابتليت الأمة ببلاء، وما أصيبت بمصيبة أعظم من فقد النبي صلى الله عليه وسلم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم حين مات ترك رجالاً يعرفون قيمة المسئولية، يعرفون أنهم مسئولون عن هذا الدين، وأنهم سيبذلون كل غالٍ وكل نفيس من أجل نصرة هذا الدين، لما مات النبي صلى الله عليه وسلم بدأت علامات النفاق وبدأت المصائب والآلام تهاجم المدينة الصغيرة من كل الجهات، ارتدت الجزيرة ولم يبق على الإسلام إلا مكة والمدينة، وبدأت الروم والفرس تتربص بالمسلمين الدوائر، فقيض الله للمرتدين أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه، فشاور القوم: ماذا تقولون في هذه الأوضاع؟

شتان بين حال الأمة بالأمس وحالها اليوم، في الأمس وجدت الأمة من ينصر دينها، ويصون أعراضها، ويحقن دماءها، ويحفظ مقدساتها في كل مكان، أين لنا بمثل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؟!

قال أبو بكر لمن معه: ما رأيكم؟ شاورهم في المرتدين، قالوا: هناك جيش صغير أخرجه النبي صلى الله عليه وسلم لتأديب الروم بقيادة أسامة بن زيد الشاب الصغير ابن السابعة عشرة!

اسمع يا ابن السابعة عشرة، قواد الجيوش من أبناء السابعة عشرة والثامنة عشرة، فماذا يقدم لنا أبناء السابعة عشرة والثامنة عشرة اليوم؟ بعث معاذ سفيراً إلى اليمن وهو ابن ثمان عشرة سنة، فماذا يقدم لنا الشباب اليوم؟

النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بارك لذلك الجيش ودعا له بالخروج، ثم مات النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج الجيش، وارتد من ارتد، وجمع أبو بكر المهاجرين والأنصار يستشيرهم في الأمر، فقال عمر : نصبر على المرتدين ما داموا يقيمون الصلاة حتى تنجلي الأمور، وتذهب الأحزان، وتخف الآلام، ثم شاور عثمان وعلياً فقالا بمثل مقولة عمر رضي الله عنهم وأرضاهم، أما الصديق الملهم من ربه فكان له رأي آخر، قال: أما جيش أسامة فيمضي في طريقه، من يكون ابن قحافة حتى يخالف أمراً من أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبقية الباقية من الرجال تجتمع في المسجد استعداداً للخروج لمقاتلة المرتدين، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه. وقال مقولته التي لا زال التاريخ يشهد لها: أينقص الدين وأنا حي؟!

فانظر إلى ديننا، وإلى بيوتنا وأسواقنا، وإلى كل مكان، من منا قال هذه المقولة، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وبذل الغالي والنفيس من أجل نصرة هذا الدين؟

خرج جيش أسامة وخرج أبو بكر رضي الله عنه بالرجال، فقاتلوا المرتدين، ومن أول معركة انتصر الصديق ، وعاد للمدينة واستعد للخروج مرة ثانية، فأشاروا عليه بالبقاء، وقالوا: يا خليفة رسول الله! لا تفتنا في نفسك، فجهز الجيوش، وانطلقت الألوية، حتى فاءت الجزيرة ورجعت إلى دين الله أفواجاً، من الذي أعادها؟

أعادها الرجال، أعادها الذين صدقوا مع الله، فصدق الله معهم، بالمواقف يعرف الرجال، وفي الشدة يعرف الرجال لا في الرخاء.

تريدين إدراك المعالي رخيصة

ولا بد دون الشهد من إبر النحل

مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179].