أهوال يوم القيامة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلاله، وكل ضلالة في النار.

معاشر الأحبة!

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله وبياكم وسدد على طريق الحق خطاي وخطاكم، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته، وأن يجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين، وأسأله سبحانه أن يفرج هم المهمومين، ويكشف كرب المكروبين، ويقضي الدين عن المدينين، وأن يدل الحيارى ويهدي الضالين، ويغفر للأحياء وللميتين.

فأنا وإياكم في ليلة مباركة، في مكان مبارك، في لقاء مبارك، أسأل الله أن يجعله حجة لنا لا حجة علينا.

أحبتي! في زمن انشغال الناس بدنياهم اخترت لكم موضوعاً بعيداً عن مشاغل الحياة، وبعيداً عن مشاغل الدنيا، وأردت أن ننتقل من صخب الحياة إلى مكان آخر، وأردت أن تكون هذه الليلة موعظة قرآنية لحاجتنا للمواعظ، وأردت أن تكون هذه الليلة موعظة قرآنية بكل ما تعني الكلمة، بعيداً عن صخب الحياة وعن مشاغلها، فكلنا في أمس الحاجة إلى التذكير.

فكما أن المطر يحيي الأرض فإن ذكر الله يحيي القلوب، والحياة الحقيقية وحياة السعادة والراحة والطمأنينة هي حياة القلوب، كما قال علام الغيوب: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].

ولا نجاة يوم القيامة إلا لأصحاب القلوب السليمة، والحياة المؤمنة المطمئنة الراضية بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً.

إنك ترى -بارك الله فيك- شدة حاجة الأرض إلى المطر، وكيف أنه إذا انقطع المطر عن الأرض اصفرت وأقحطت وأجدبت، وتحولت بعد الحياة إلى موت، ثم يتنزل المطر عليها فيبدل حالها من حال إلى حال، من اصفرار إلى اخضرار، ومن جدب إلى زهور وثمار وإلى عطاء ونماء، وكذلك هي القلوب -بارك الله فيك- إذا تنزل عليها ذكر الله -تبارك وتعالى-، قال جل في علاه: وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [الحج:5-7].

فحياة الأرض بالماء دليل على حياة القلوب بذكر الله تبارك وتعالى، والحياة الحقيقية هي حياة القلوب كما قال الله: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122].

فإذا حييت القلوب استعدت للقاء علام الغيوب، وإذا حييت القلوب تعلقت بذكر علام الغيوب، وإذا غفلت نست وقست، والله يقول: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:22]، فتعالوا نعطر المسامع في هذه الليلة المباركة بآيات من الذكر الحكيم، وبكلام من كلام سيد الأولين وسيد الآخرين.

إن التدبر والتمعن والنظر في آيات الله الكونية والشرعية يحيي القلوب، ويحيي القلوب أيضاً الجلوس مع مثل هذه الوجوه التي ما جاءت إلا وهي تريد ما عند الله تبارك وتعالى، وانظر كيف يعاملها الله بكرمه حين ينفض المجلس قائلاً لهم: (قوموا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات، ما جمعكم إلا ذكري)، وشرف المجالس بشرف المذكور، ويكفي الذاكرين قوله جل في علاه: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، فيكفي الذاكرين لله شرفاً أن الله يذكرهم.

أحبتي! إن الحياة هي الإيمان والإيمان هو الحياة، ولا قيمة للحياة بلا إيمان، فالذي يجعل للحياة قيمة، والذي يجعل للحياة طعماً، والذي يجعل للحياة نبضاً؛ هو الإيمان، وعلى قدر قوة هذا الإيمان يكون للحياة قيمة ومعنى.

والمشكلة التي نعاني منها اليوم هو ضعف الإيمان في قلوبنا، وقلة التعلق بالله وباليوم الآخر، وضعف الاتصال بيننا وبين الله تبارك وتعالى، وما جاء القرآن إلا ليربطنا بالله تبارك وتعالى، وما جاء القرآن إلا موعظة من رب العالمين.

قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57]، فالإيمان هو الحياة، والحياة هي الإيمان، ومن أركان هذا الإيمان العظيم: الإيمان باليوم الآخر، ذلك اليوم الذي سيجمع الله فيه الأولين والآخرين؛ ولأهمية ذلك اليوم قدمه الله على أركان الإيمان في مواضع عدة، إشارة ودلالة على أهميته، قال الله: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:177]، وقال: ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:232]، وما من صفحة من صفحات القرآن إلا وهي تذكر ذلك اليوم، لا تكاد صفحة من صفحات القرآن تخلو من ذكر ذلك اليوم وما فيه من الآيات والصور والعظات، وذلك إما تصريحاً وإما تلميحاً، قال الله: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ [القيامة:1-3]، ثم قال في آخر السورة: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة:36-40]، قال قتادة : بلى وعزته وجلاله، بلى قادر كما قال الله: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [لقمان:28].

فتأمل وتدبر وانظر ما من صفحة من صفحات القرآن إلا وهي تخبرنا عن ذلك اليوم العظيم، فتكرار تلك الصور دليل على أهمية وعظمة ذلك اليوم ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود:103-105]، فهذه هي القضية التي لا بد أن تشغل كل واحد منا، قضية: من الشقي ومن السعيد، عن عبد الله بن مسعود أبي عبد الرحمن رضي الله عنه قال: حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم مثلها علقة، ثم مثلها مضغة، ثم يأتيه الملك فينفخ فيه الروح، ثم يؤمر أن يكتب أربع كلمات: عمله ورزقه وأجله وشقي أم سعيد)، فهذه أربع مسائل لا بد أن يتفكر كل منا فيها، ثم قال ابن مسعود في آخر الحديث: (والذي لا إله غيره إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، فلا بد أن يتفكر كل واحد منا في قضية المصير: إما إلى جنة وإما إلى نار.

وتأمل في قوله تبارك وتعالى: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة:1-5].

تقول فاطمة زوج عمر بن عبد العزيز رحمه الله: رأيت منه ليلة العجب العجاب! قام يصلي ثم قرأ القارعة، فما كاد يصل إلى قوله تبارك وتعالى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة:4-5] إلا خر مغشياً عليه، وأخذ يفحص في مكانه كما يفحص العصفور، حتى ظننت وقلت في نفسي: والله ليصبحن الناس ولا أمير لهم، تقول: ثم أفاق وبدأ يقرأ ويصلي حتى إذا بلغ قوله تبارك وتعالى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة:4-5]، فخر مغشياً عليه من شدة البكاء.

فأسألك بالله العظيم! كم مرة يمر على مسامعنا هذا القول العظيم؟! وكم مرة قرعت القارعة مسامعنا؟ وكم مرة قرعت الصاخة آذاننا؟ وكم مرة مر على مسامعنا الطامة والصاخة وتلك الأسماء العظيمة التي سمَّى الله بها ذلك اليوم؟ إن لم تتأثر القلوب بالقرآن، إن لم تحيا القلوب بمواعظ القرآن، فالقضية تحتاج إلى مراجعة حسابات.

سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:1-4]، قال الحسن البصري : كيف أنت بأقوام وقفوا على أقدامهم خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة، ولم يشربوا فيها شربة واحدة؟! كيف يكون حالهم؟! اليوم في وسط هذا الزحام يشتكي الناس من شدة الحر، ويشتكي الناس من شدة الأوضاع والأحوال، فكيف إذا جمع الله الأولين والآخرين على صعيد واحد؟!!

وكيف إذا جمع الله أبناء آدم من لدن آدم حتى آخر من يكون على وجه الأرض؟ وكيف إذا جمعهم الله على صعيد واحد؟!

لقد سمى الله يوم القيامة يوماً عظيماً، قال الله: أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:4-6].

وسماه الله يوماً ثقيلاً، ووصف الله حال الناس في ذلك اليوم وصفاً عجيباً فقال: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2].

ومن دلائل عظمة ذلك اليوم: أنها تتقطع فيه الأحساب والأنساب.

ومن دلائل عظمة ذلك اليوم: أن الكافر يتمنى أن لو كان في ذلك اليوم تراباً.

إنه يوم طويل، فكيف سيبدأ؟ وكيف سينتهي؟ وكيف سينقسم الناس؟

ومن دلائل عظمة ذلك اليوم أنه ما ترك القرآن شاردة ولا واردة إلا ذكرها وصورها عن ذلك اليوم العظيم.

اسمع بارك الله فيك وتدبر وافتح القلب قبل أن تفتح الأذنين! قال جل في علاه: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:13-18]، فلا إله إلا الله! كيف سيكون الحال إذا بعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور؟!

إن يوم القيامة يبدأ بصيحة واحدة وينتهي بانقسام الناس إلى قسمين: فريق في الجنة وفريق في السعير، وقد جاء في حديث الصور الطويل: أن الله بعد أن ينفخ في الصور نفخة واحدة -أي: النفخة الأولى-: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68]، قال: (ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار فيسأله الجبار -وهو أعلم- من بقي؟ فيقول: بقي حملة العرش، وبقي جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، وبقيت أنا، وبقيت أنت، وأنت الحي الذي لا يموت، فيقول الله تبارك وتعالى: فليمت جبرائيل وميكائيل، فيصيح العرش قائلاً: يا رب يموت جبرائيل وميكائيل، فيقول الرب تبارك وتعالى: إني كتبت الموت على كل من تحت عرشي، فيموت جبرائيل وميكائيل، ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار تبارك وتعالى فيسأله -وهو أعلم-: من بقي؟ فيقول: بقي حملة العرش، وبقيت أنا، وبقيت أنت الحي الذي لا يموت، فيقول الجبار: فليمت حملة العرش، فيموتون، ثم يسأل الله ملك الموت عليه السلام: من بقي؟ فيقول: بقيت أنا، وبقيت أنت الحي الذي لا يموت، فيقول: أنت خلق من خلقي خلقتك لما ترى، فمت، فيموت ملك الموت، فلا يبقى كائن حي لا في السماء ولا في الأرض ثم ينادي الجبار جل جلاله: لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد، ثم يجيب نفسه تبارك وتعالى فيقول: لله الواحد القهار).

فهو الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء، ثم ينفخ في الصور نفخة أخرى فيقوم من في السماوات ومن في الأرض، ويبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور، فتأمل حالهم عند الخروج من القبور: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [القمر:6-8]، فأما حال المجرمين: فحال ليس بعده حال: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر:48-53].

وأما حال المتقين: ففي جنات ونهر فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:55].

يا ألله! كيف إذا خرج العباد من القبور ينفضون التراب عن رءوسهم! إنهم خرجوا لا يدرون إلى أين يذهب بهم، ولا يدرون كيف سيكون المصير! وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق:20-30] يا ألله! إنها أحوال وأهوال، تحصل في ذلك اليوم العظيم، فلا الأرض التي كانوا يعرفونها، ولا السماء التي كانوا يرونها يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [إبراهيم:48-52].

فمنهم من يحشر على قدميه، ومن يحشر على ركبتيه، ومنهم من يحشر على وجهه وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا [الإسراء:97] قال رجل: كيف يحشرون على وجوههم يا رسول الله؟ قال: (الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يحشرهم على وجوههم)

وقال الله: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:94].

وقد سماه الله يوم التلاق، ففيه يلتقي العباد برب العباد تبارك وتعالى، ويلتقي فيه الظالم مع المظلوم، ويلتقي فيه آدم مع آخر أبنائه في ذلك اليوم العظيم، وإذا جمعتهم أرض المحشر فلا يغادر الداعي منهم أحداً.

روى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في وليمة فقدمت إليه الذراع، فنهس منها نهسة واحدة، ثم قال: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، أتدرون مما ذلك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فلا يغادر الداعي منهم أحداً، فيسمعون الداعي، ويبصرهم الناظر، ثم تدنو الشمس من رءوس العباد مقدار ميل -قال الراوي: لا أدري أميل المسافة أم ميل المكحلة-، قال: فيغرق الناس في عرقهم، فمنهم من يأخذه العرق إلى كعبيه، ومنهم من يأخذه العرق إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه العرق إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، فبينما هم على تلك الحال من الشدائد والأهوال إذ قال بعضهم لبعض: ألا ترون ما نحن فيه؟ ألا ترون ما قد غلبنا من الهم والغم؟ ألا ترون من يشفع لنا عند ربنا؟ فيقولون: أبوكم آدم، فيهرعون إلى آدم فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسكنك جنته، أما ترى ما نحن فيه، أما ترى ما قد بلغنا من الهم والغم، فيقول آدم: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني نهيت عن تلكم الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي، فيتبرأ آدم أبو البشر من البشر فيزداد الهم والغم على الناس، فيقول لهم: اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحاً فيقولون: أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، أما ترى ما نحن فيه، أما ترى ما قد بلغنا من الهم والغم، فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كانت لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي نفسي نفسي، فيزداد الهم والغم على الناس، فيقول لهم: اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقولون: أنت نبي الله وخليله أما ترى ما نحن فيه؟ أما ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كذبت ثلاث كذبات.. -ولو عددناها نحن لعددناها من صالح أعمالنا فهو كذبها في ذات الله جل في علاه وما كان كاذباً-، فيقول: نفسي نفسي نفسي، فيزداد الهم والغم على الناس، فيقول لهم إبراهيم: اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيقولون له: أنت نبي الله وكليمه، أما ترى ما نحن فيه؟ أما ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، فيزداد الهم والغم على الناس-، فيقول لهم: اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى فيقولون: أنت نبي الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنباً)، فهل تدري من هؤلاء الذين ينادون بأعلى الصوت: نفسي، نفسي، نفسي إنهم المصطفى آدم، والشكور نوح، والخليل إبراهيم، والكليم موسى، وكلمة الله عيسى! فهؤلاء خير من صلى وصام، وهؤلاء خير من عبد الله وأطاعه، فإن كان هذا هو حالهم في ذلك اليوم فكيف يكون حالي وحالك؟! وكيف سيكون حال من ترك الصلاة؟! وكيف سيكون حال من أكل الربا؟! وكيف سيكون حال أولئك الذين حاربوا الله بالمعاصي؟! فإنهم ينادون: يا آدم! يا نوح! يا إبراهيم! يا موسى! يا عيسى! وكلهم يجيبون بأعلى الصوت: نفسي نفسي نفسي.

(فيقول لهم عيسى اذهبوا إلى محمد، فيأتون فيقولون: يا محمد! أنت نبي الله، وخاتم المرسلين، غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، أما ترى ما نحن فيه؟ أما ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فأقول: أنا لها).

يقول الحبيب: أنا لها، فأبشروا يا أمة محمد! فما تخلى عنا محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك الموقف. (فأقول: أنا لها، فأنطلق إلى العرش فأخر ساجداً، فيفتح الله علي من محامده ما لم يفتحه على بشر من قبلي، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب! أمتي أمتي أمتي)، فما تخلى عنا الحبيب، فأين أمة محمد اليوم عن سنته؟ وأين أمة محمد عن نصرة دعوته؟

يا مدعي حب طه لا تخالفه فالخلف يحرم في دين المحبينا

مالي أراك تأخذ شيئاً من شريعته وتترك البعض تهويناً وتدوينا

خذها سماوية خيراً تفوز به أو اطَّرحها وخذ رجس الشياطينا

(فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب! أمتي أمتي أمتي، فيقال: يا محمد! أدخل من أمتك من ليس عليه حساب من الباب الأيمن من الجنة، وهم شركاء الناس في سائر الأبواب يقول -بأبي هو وأمي-: والذي نفسي بيده! إن ما بين المصراعين من مصارع الجنة كما بين مكة وهجر، وليأتين عليها يوم وهي كظيظ من الزحام!)، فيشفع الحبيب، ويأذن الله في الحساب.

لا تظن أن الأمر بهذا قد انتهى، بل انتقل الناس من حال إلى حال، ومن أهوال إلى أهوال، فيبدأ العرض، ويبدأ الحساب: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الكهف:48] حفاة، عراة، غرلاً، قالت عائشة : (الرجال والنساء عراة ينظر بعضهم إلى بعض؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة ! الأمر أعظم من أن ينظر بعضهم إلى بعض).

فكيف سيكون حالي وحالك إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ [الفجر:21-23]، يؤتى بجهنم في ذلك الموقف لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها!

إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [الفرقان:12] تزفر زفرة فتصيح الخلائق بأعلى الصوت، ثم تزفر زفرة ثانية فتجثوا الأمم على الركب: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:28-29].

إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [الفرقان:12]، وتقول: والله لأنتقمن اليوم ممن خلقته فعبد سواك، والله لأنتقمن اليوم ممن أكل رزقك وشكر سواك.

وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى [الفجر:23].

يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18]، فينادي الله في ذلك الموقف: (يا آدم! أخرج بعث النار، فيقول: يا رب! لبيك وسعديك والخير كله بيديك، وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: فذلك يوم تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2]).

فقل لي من الناجي في ذلك اليوم؟! وأين سيكون المصير؟! فيصف العباد صفوفاً متتالية متتابعة، والقلوب واجفة، والأبصار خاشعة، والكل ينتظر كيف سينتهي ذلك اليوم، فبينما هم وقوف على ذلك الحال إذ نادى المنادي: فلان بن فلان! استعد للوقوف بين يدي الله، فكيف سيكون حالي وحالك؟!

فتأخذه الزبانية مطأطئ الرأس، راجف القلب، لا يدري إلى أين يؤخذ به، والخلائق كلها تنظر إليه، فعن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: (يدني الله العبد منه يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه -يعني ستره- ثم يقرره بذنوبه -إن كان تائباً عابداً منيباً لله قرره الله بذنوبه في ذلك اليوم- حتى إذا ظن العبد أنه هلك، قال أرحم الراحمين: إني قد سترتها لك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم، فيعطى كتابه بيمينه) فيخرج بين الخلائق صائحاً فرحاً مسروراً قائلاً بأعلى الصوت: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:19-20]، وأما إن كان عاصياً فاجراً محارباً لله بالمعاصي فيقرره الله بذنوبه، حتى يقر ويعترف بكل ذنب، فيشتد غضب الجبار عليه تبارك وتعالى، فينادي زبانيته وملائكته: يا ملائكتي! خذوه، ومن عذابي أذيقوه، فلقد اشتد غضبي عليه، وقل حياؤه معي، فيربط بالسلاسل والأغلال، ويسحب على وجهه أمام الخلائق، وينادي بأعلى الصوت حسيراً كسيراً: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ [الحاقة:25-27]، والنتيجة: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:30-32]، وجريمته: إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ [الحاقة:33-37].

فأسألك بالله العظيم أما أمرنا بالاستعداد لذلك اليوم؟ أما خلقنا من أجل تحقيق العبودية لله رب العالمين؟ أما قال الله: قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]؟ فنفر من الناس علموا لماذا خلقوا، وحققوا العبودية لله رب العالمين، وأكثر الناس غفلوا عن هذا المقصد العظيم، ويذَكَّرون فلا يتذكرون، ويُوعظون فلا يتعظون.

والله! إن الخسارة كل الخسارة إذا وقفنا في ذلك اليوم وانقسم الناس فيه إلى قسمين: إما إلى جنة وإما إلى نار، وهناك آية واحدة فقط من أبلغ وأعظم مواعظ القرآن الكريم ذكر الله فيها حقائق عظام لو تفكرنا فيها لتغير الحال من حال إلى حال، قال الله: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].

والمطلوب: الاستعداد في الصباح والمساء، وألا نغفل عن ذكر ذلك اليوم، والمطلوب: أن نتواصى فيما بيننا بالحق ونتواصى بالصبر؛ علنا نكون ممن يستظلون بظله في ذلك اليوم.

أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يستر في ذلك اليوم عوراتنا، ويؤمن فيه روعاتنا، وأن يثقل فيه موازيننا، ويبيض فيه وجوهنا، ويزحزحنا عن النار، ويدخلنا الجنة، إنه أرحم الراحمين.

اللهم لا تؤاخذنا بالتقصير، واعف عنا الكثير، وتقبل منا اليسير، إنك يا مولانا! نعم المولى ونعم النصير.

أستغفر الله العظيم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.