تفسير سورة ق (3)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

وها نحن مع سورة (ق) المكية، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوة هذه الآيات، والله نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ * أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق:12-15].

تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بذكر خبر الأمم مع رسلها

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! نبي الله ورسوله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم عند نزول هذه السورة وهذه الآيات كان يعاني ما لا يطاق من كفار مكة ومشركيها، وهم يكذبون برسالته وينكرون توحيد الله، يكذبون بالبعث الآخر ولا يؤمنون به، ثم يقولون: إنه ساحر، وشاعر، ومجنون، فمن يطيق هذا لولا أن الله قواه وأقدره وأعانه؟

وها هو تعالى ينزل هذه الآيات ليخفف ألمه، ليخفف ما يصيبه من ألم وإعياء وتعب، فيقول له: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [ق:12] كذبت قبل قومك يا رسول الله من المشركين في مكة وغيرها قوم نوح، فكذبوا رسول الله نوحاً وكذبوا بالبعث الآخر، وكذبوا بالشرع الذي جاء به، وهذا هو الواقع، فاصبر أنت على تكذيب قومك ولا تتألم ولا تقطع دعوتك واثبت عليها كما ثبت من قبلك أنبياء الله ورسله.

خبر نوح عليه السلام مع قومه

وقد أنزل الله تعالى أحداث نوح مع قومه في كثير من السور، وأنزل سورة كاملة تسمى سورة نوح: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [نوح:1-4]، واستمر في دعوتهم حتى قالوا: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23]، وأخيراً رفع يديه إلى ربه وقال: رب! أنزل بهم عذابك ونقمتك، فأهلكهم الله.

نوح مكث ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو يدعو إلى عبادة الله وحده، والقوم مصرون على عبادة هذه الخمسة: يغوث، ويعوق، وود، وسواع، ونسر، وهؤلاء الخمسة كانوا أولياء الله صالحين أيام العلم والطاعة والمعرفة، فلما ماتوا وقل العلم قال أهل البلاد: نضع على قبورهم تماثيل تذكرنا بهم إذا رأيناهم، فوضعوا تماثيل على قبورهم، ومات ذلك الجيل وجاء الجيل الثاني فقالوا: هذه آلهتنا، فعبدوهم، فبعث الله تعالى إليهم عبده ورسوله نوحاً، وناداهم: يا قوم! اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، وجهر بالدعوة وأسر بها وجهر في الليل والنهار، وما آمن معه إلا نيف وثمانون نسمة، لم يستجب لدعوته أكثر من بضع وثمانين نسمة ما بين ذكر وأنثى، فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ [العنكبوت:14-15].

خبر أصحاب الرس

قال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ [ق:12] الرس بئر، كان هذا البئر يعبده أهل المنطقة أو القرية، فلما نهاهم رسول الله إليهم وندد بهم وبين لهم الحق غضبوا عليه فدفنوه في البئر، فهم أصحاب الرس والعياذ بالله تعالى، فانتقم الله منهم وأهلكهم كلهم، لما قاوموا التوحيد وما رضوا بأن يعبد الله وحده، وما رضوا بأن يطيعوا رسولهم ليعبدوا الله بما شرع لهم، وتكبروا أتاهم عذاب الله فأهلكهم عن آخرهم، هؤلاء هم أصحاب الرس، والرس: البئر.

خبر ثمود مع صالح عليه السلام

ثم قال تعالى: وَثَمُودُ [ق:12]، وفي سورة وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1] يقول تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا [الشمس:11]، والطغوى والطغيان واحد، وهو العتو والكبر، أي: كذبت ثمود بسبب طغواها، إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا [الشمس:12] وهو قدار بن سالف الذي عقر الناقة وقتلها والعياذ بالله تعالى.

قال تعالى: فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا [الشمس:13]، اتركوها تشرب من الماء، وهذه الناقة وجودها عجب؛ إذ قالوا له: إن كنت صادقاً في أنك رسول لله ونحن مخطئون ومشركون فادع لنا ربك يخرج لنا ناقة من هذا الجبل، فقام صالح عليه السلام يصلي ويدعو حتى انفلق الجبل فلقتين وخرجت الناقة منه كأجمل ما تكون ولا نظير لها، فكانت آية عجباً.

ثم قال لهم: هذا الماء الذي تسقون منه يوم للناقة ويوم لكم، آية من آيات الله، الناقة تشرب ذلك الماء يوماً كاملاً، ويتحول كله إلى لبن، فيحلبون ما شاءوا أن يحلبوا، يوم للناقة تشرب الماء الذي في ذلك البئر أو الوادي، وفي اليوم الثاني يتحول إلى لبن، فيأتي النساء والرجال والخدم يحلبون اللبن ويعودون به إلى دورهم، ومع هذا قالوا: هيا نعقر هذه الناقة وننظر ماذا يحصل؟ فعقروا الناقة وقتلوها، والغريب أن قدار بن سالف عليه لعائن الله كان يمر بالواحد والاثنين والقرية والأسرة فيقول: نريد أن نعقر الناقة، فهل توافقون؟ فأخذ موافقتهم أجمعين، إلا من نجا الله مع صالح عليه السلام، فآتاهم عذاب الله الكامل بعد ثلاثة أيام، ففي اليوم الأول جثوا على الركب، وفي اليوم الثاني اسودت وجوههم، وفي اليوم الثالث نزلت بهم صاعقة فخرجت أرواحهم: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ * فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ [الذاريات:44-45]، ثلاثة أيام برجالهم ونسائهم وهم على ركبهم جاثمين، لا حركة، وفي اليوم الثالث أو الرابع كانت الصاعقة فماتوا عن آخرهم.

وثمود هؤلاء ديارهم وراءنا، منازل ثمود موجودة في مدائن صالح، والأصل فيهم أنهم نزحوا من اليمن من بلاد عاد لما نجى المؤمنون من العذاب، نزحوا فنزلوا بهذه الأرض وعمروها وأصبحوا بعد قرون أمة كبيرة، فأرسل الله تعالى إليهم صالحاً بعدما فسدوا في عقائدهم وأخلاقهم وآدابهم ليهديهم ويصلحهم، فما استجابوا وتعاونوا على الشر، فأهلكهم الله.

خبر قوم عاد

وديار عاد في الجنوب من حضرموت إلى عمان، ديار لم تر الدنيا أقوى من تلك الأمة في ذلك الوقت، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:6-8]، وكان طول أحدهم ستين ذراعاً، أطول الناس كأنهم أولاد آدم؛ لأن آدم طوله ستون ذراعاً، وبعث الله إليهم نبيه هوداً صلى الله عليه وسلم فدعاهم إلى أن يعبدوا الله وحده، إلى أن يتركوا عبادة الأصنام والأوثان وأن يتقربوا إلى الله بصالح الأعمال، فأصروا على الشرك والكفر والعناد والفسق والفجور، والظلم والفساد.

إذاً: فما كان إلا أن أرسل الله تعالى عليهم ريحاً عاصفة دامت سبع ليال وثمانية أيام، حتى إن عجوزاً لجأت إلى غار في جبل لتنجو، وإذا بالريح تدور في هذا الجبل وتخرجها وتصرعها، وهذا اليوم ما زال العرب يسمونه قرة العجوز إلى الآن، توارثه الآباء والأبناء، ما نجا منهم إلا هود ومن معه من المؤمنين، فنزلوا بمكة، وبعضهم ذهبوا إلى الشمال.

هذه عاد التي قال الله تعالى عنها: كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:123-131]، فما استجابوا، فأهلكهم الله عن آخرهم، بريح عاصف مزقتهم وأهلكتهم.

خبر موسى عليه السلام مع فرعون

قال تعالى: وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ [ق:13] فرعون هذا طاغية من الطغاة في مصر، وأرسل الله تعالى إليه نبيه ورسوله موسى عليه السلام، ودعاه إلى أن يعبد الله عز وجل ويوحده وإلى أن يترك بني إسرائيل يعودون معه إلى بيت المقدس، فأصر فرعون على الكفر والعناد، وتبجح وقال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وتبجح وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] وفعل العجب.

وعاش موسى زمناً يدعوه ويدعو قومه، وأخيراً خرج مع بني إسرائيل في طريقهم إلى أرض القدس، وكان أمامهم البحر الأحمر، فماذا فعلوا؟ أمر الله تعالى موسى أن يضرب البحر بعصاه باسم الله، فانفلق البحر فلقتين فأصبح طرقاً كل قبيلة تمشي في طريق، وعلم بذلك فرعون فنادى في رجاله وعسكره فخرج في مائة ألف، وتعجبوا كيف دخل بنو إسرائيل البحر وخرجوا، ولما نجا بنو إسرائيل وخرج آخر واحد منهم دخل فرعون بجيشه، ولما توسطوا البحر أطبقه الله عليهم، فأغرقهم أجمعين، والله! ما نجا فرعون ولا من معه، إلا أن فرعون بقي على سطح الماء لحكمة إلهية، ما صار تحت الأرض في البحر، بقي فوقه؛ ليعرف الناس أنه ميت ما هو بحي؛ إذ بنو إسرائيل من خوفهم وشدة فزعهم لو قيل لهم: إنه مات فلن يصدقوا، سيقولون: أين هو؟ لا بد أن يأتينا ويعذبنا، فمكث على سطح البحر مدة، وذكر تعالى هذا في سورة يونس: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ [يونس:92] إي والله.

هذا فرعون موسى، أهلكه الله ودمره أو لا؟ أهلك جيشه أو لا؟ كل ذلك فعله الله، الله رب العالمين إله الأولين والآخرين، الذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم وأرسله إلى العالمين، والمشركون يسمعون هذا ولا يبكون ولا يتألمون لقساوة قلوبهم والعياذ بالله تعالى.

خبر قوم لوط عليه السلام

قال تعالى: وَإِخْوَانُ لُوطٍ [ق:13] هذه الأخوة وطنية، ما هم بإخوان في الدين ولا في النسب؛ لأن لوطاً عليه السلام من العراق وهم في الأردن في البحر الميت، فهذه الأخوة وطنية، أخوهم في الوطن فقط، أما في الدين فلا، وأما في الجنس فلا، وَإِخْوَانُ لُوطٍ [ق:13] من هؤلاء؟

هؤلاء زين لهم الشيطان اللواط وحسنه لهم، فكانوا في ناديهم يشربون ويأكلون ويضحكون ويعلو بعضهم على أخيه ويطؤه والعياذ بالله، ويضحكون، واعتبروا هذا من متع الحياة الدنيا وزينتها، فبعث الله تعالى إليهم رسوله لوطاً عليه السلام، جاء مع عمه إبراهيم من أرض بابل من العراق، وبعثه الله إلى قرى قوم لوط، فما صدقوه ولا آمنوا به، وطالبوا بالعذاب، فأنزل الله تعالى عليهم عذابه، أولاً: خسفت بهم البلاد، ثانياً: الذين كانوا خارج البلاد أنزل الله عليهم حجارة من السماء فأهلكتهم عن آخرهم، كما قال تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ * قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ * رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ * فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ [الشعراء:161-172].

هذه العجوز إحدى امرأتيه، إحدى امرأتيه كانت عجوزاً كافرة فاسقة ما آمنت ولا تابت، وكانت تساعد على اللواط وتعين عليه، أما الثانية فهي مؤمنة طاهرة نجاها الله مع ابنتيه، والباقون أهلكهم الله تعالى.

فقوله تعالى: وَإِخْوَانُ لُوطٍ [ق:13] هذه الأخوة ليست دينية ولا إنسانية بشرية، بل أخوة وطنية بلدية؛ لأنه كان معهم.

خبر أصحاب الأيكة

قال تعالى: وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ [ق:14]، الأيكة: الغيظة من الشجر، شجر السدر وغيره، مجموعة من الأشجار وفيها ثمار، فعبدوها ووضعوا تحتها أصناماً وأحجاراً وأخذوا يتبركون بها ويعبدونها لما مات العلماء وانقرضوا، وهم قريبون من ديار مدين، فبعث الله تعالى إليهم شعيباً عليه السلام، فشعيب نبي أرسله الله إلى الأيكة وإلى أهل مدين.

فهؤلاء لما لم يستجيبوا أهلكهم الله، ما نجا منهم أحد، وهم أصحاب هذه الغيظة من الأشجار الملتفة يعبدونها ويتبركون بها.

وسبحان الله! لما مات العلماء وانطفأ نور العلم في أكثر بلاد المسلمين عبدت الأشجار كما عبدت على عهد شعيب، الشجرة يعبدونها، يتبركون بها، يطوفون حولها حتى في المدينة والعياذ بالله تعالى، ولا عجب؛ لأن الإنسان هو الإنسان والشيطان هو الشيطان، الإنسان إذا لم تستنر روحه وتتعظ نفسه فإنه يضحك منه الشيطان ويعميه إلى أبعد شيء، والشيطان هذه مهمته، يريد أن يصرف الناس عن عبادة الله ليهلكوا في الدنيا والآخرة، ما يريد الشيطان أن يسعد إنسان أبداً؛ لأنه شقي بسبب الإنسان، فهو يرى أنه يواصل دعوته إلى الموت، فعبدت في بلاد المسلمين الأشجار والنخيل والقباب والقبور وقل ما شئت، لكن ذلك متى؟ لما انقطع العلم ومات العلماء، تجد بلداً ما فيه عالم ولا يعرفون عالماً أبداً منذ قرن كامل، فكيف يبقى النور فيه؟

و عبد القادر الجيلاني رحمة الله عليه عُبد كما عُبد الله، والله! لقد عبدوه كما عُبد الله، يحلفون به، يتبركون به، يأتون إلى قبره، يذبحون له، ينذرون له، ينادونه: يا راعي الحمراء! يا عبد القادر! في العالم الإسلامي، وسبب ذلك الجهل لموت العلماء وانقضاء العلم، كما وقع لقوم نوح، حيث كان أولئك الخمسة من صالحي عباد لله مؤمنين صالحين، فلما ماتوا وضعوا تماثيل على قبورهم للذكرى كما يقولون، فجاء جيل فعبدوهم، وبعث الله رسوله إليهم فحاربوه، قالوا: ما نترك آلهتنا أبداً.

خبر قوم تبع

قال تعالى: وَقَوْمُ تُبَّعٍ [ق:14] تبع هذا حميري يمني في بلاد اليمن، وفقه الله وأعطاه البصيرة والعلم واهتدى، والتف حوله بعض الشباب فوحدوا الله عز وجل، فكرههم أهل البلاد، وقالوا: هؤلاء مفسدون، وقالوا كما قالوا للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فما كان من الله إلا أن أحرقهم بنار اشتعلت بينهم فأحرقتهم، وهلكوا عن آخرهم.

قال تعالى: كُلٌّ [ق:14] ممن ذكر كَذَّبَ الرُّسُلَ [ق:14]، لا تحزن يا محمد ولا تكرب ولا تتألم، كل الذين ذكرناهم من نوح إلى قوم تبع أهلكناهم بكفرهم وفسقهم وفجورهم، فلا تعجب ولا تبك ولا تتألم، واصل دعوتك واصبر عليها.

ثبوت وعيد الله تعالى للأمم المكذبة لرسلها

كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [ق:14] والرسل: جمع رسول، وقد علمتم أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً؛ إذ النبي يرسله الله بالكتاب والعلم إلى قوم فيسمى رسولاً، والنبي في بلده، فإن أرسله الله أصبح رسولاً، كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ [ق:14] وجب وَعِيدِ [ق:14] بعذابهم فأهلكتهم عن آخرهم من قوم نوح إلى قوم تبع ، وأنتم أيها المشركون إما أن تسلموا وإما أن ينزل بكم ما نزل بالأمم قبلكم؛ لأن في هذا موعظة عجيبة لكم، وبذلك أسلموا ودخلوا في الإسلام.

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! نبي الله ورسوله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم عند نزول هذه السورة وهذه الآيات كان يعاني ما لا يطاق من كفار مكة ومشركيها، وهم يكذبون برسالته وينكرون توحيد الله، يكذبون بالبعث الآخر ولا يؤمنون به، ثم يقولون: إنه ساحر، وشاعر، ومجنون، فمن يطيق هذا لولا أن الله قواه وأقدره وأعانه؟

وها هو تعالى ينزل هذه الآيات ليخفف ألمه، ليخفف ما يصيبه من ألم وإعياء وتعب، فيقول له: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [ق:12] كذبت قبل قومك يا رسول الله من المشركين في مكة وغيرها قوم نوح، فكذبوا رسول الله نوحاً وكذبوا بالبعث الآخر، وكذبوا بالشرع الذي جاء به، وهذا هو الواقع، فاصبر أنت على تكذيب قومك ولا تتألم ولا تقطع دعوتك واثبت عليها كما ثبت من قبلك أنبياء الله ورسله.

وقد أنزل الله تعالى أحداث نوح مع قومه في كثير من السور، وأنزل سورة كاملة تسمى سورة نوح: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [نوح:1-4]، واستمر في دعوتهم حتى قالوا: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23]، وأخيراً رفع يديه إلى ربه وقال: رب! أنزل بهم عذابك ونقمتك، فأهلكهم الله.

نوح مكث ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو يدعو إلى عبادة الله وحده، والقوم مصرون على عبادة هذه الخمسة: يغوث، ويعوق، وود، وسواع، ونسر، وهؤلاء الخمسة كانوا أولياء الله صالحين أيام العلم والطاعة والمعرفة، فلما ماتوا وقل العلم قال أهل البلاد: نضع على قبورهم تماثيل تذكرنا بهم إذا رأيناهم، فوضعوا تماثيل على قبورهم، ومات ذلك الجيل وجاء الجيل الثاني فقالوا: هذه آلهتنا، فعبدوهم، فبعث الله تعالى إليهم عبده ورسوله نوحاً، وناداهم: يا قوم! اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، وجهر بالدعوة وأسر بها وجهر في الليل والنهار، وما آمن معه إلا نيف وثمانون نسمة، لم يستجب لدعوته أكثر من بضع وثمانين نسمة ما بين ذكر وأنثى، فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ [العنكبوت:14-15].




استمع المزيد من الشيخ ابو بكر الجزائري - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة الأحقاف (8) 3862 استماع
تفسير سورة الفتح (8) 3473 استماع
تفسير سورة الأحقاف (7) 3331 استماع
تفسير سورة ق (6) 3235 استماع
تفسير سورة الفتح (1) 3128 استماع
تفسير سورة الأحقاف (1) 3061 استماع
تفسير سورة ق (2) 3049 استماع
تفسير سورة الفتح (3) 3023 استماع
تفسير سورة الأحقاف (4) 2964 استماع
تفسير سورة الفتح (4) 2895 استماع