حقوق الإنسان في الإسلام


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم، قال الله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5] الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:1-4].

أما بعــد:

فيا حيَّ الله هذه الوجوه الطاهرة النيرة المشرقة، حضرت إلى بيت من بيوت الله تعالى، ومجلس لعله أن يكون من مجالس الذكر، يذكر فيه الله تعالى فيسبح، أو يذكر فيه رسوله صلى الله عليه وسلم فيصلى عليه ويسلم، فيا حياكم الله ثم حياكم يا أهل الإيمان والنخوة والنجدة والمروءة والحمية، وكثركم وكثر في المسلمين من أمثالكم.

ثم أما بعد أيضاً:

فقد جمد أخي الذي قدمني جمد الريق في فمي وحلقي بهول العبارات التي سمعت منه، وغفر الله لي ولكم وله.

إنني بقدر ما أقدر هذه المشاعر الفياضة وهذا الحب الكبير الذي تحملونه في الله إن شاء الله، بقدر ذلك لا أملك إلا أن أبين عن الإحراج الذي ينتابني وأنا بين أيديكم أسمع مثل هذا الإطراء وهذا الثناء، فأستغفر لي ولأخي ولكم جميعاً وأقول كما قال الصديق: [[اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون]].

ثم أما بعد:

فموضوع حديثي إليكم الليلة عن الإسلام وحقوق الإنسان، في هذا الجامع المبارك، جامع الشيخ فيصل المبارك رحمه الله بمدينة سكاكا بمنطقة الجوف، وثمة أربعة أسباب وراء هذا الحديث:

قدم مسألة حقوق الإنسان

أولها: أن مسألة حقوق الإنسان مسألة قديمة ترجع إلى أقدم العصور، فليس البحث فيها بحثاً جديداً وليد اليوم أو وليد هذا العصر، فقد جاءت الرسالات السماوية كلها من لدن آدم عليه السلام وإلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم لتكرس حقوق الإنسان وتبين فضيلته، وأن الله سبحانه وتعالى خلقه من طين الأرض، ثم نفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، واستخلفه على هذه الدنيا.

أما فقهاء القوانين الوضعية فلعلهم لم يعرفوا الاهتمام الحقيقي بهذا الموضوع إلا في أواخر العصور الوسطى، عصور التخلف والانحطاط في أوروبا، حين وصل استبداد الحكام وسيطرتهم ووصل بأمراء الإقطاع إلى الغاية، وفقدت -تلك الشعوب الأوروبية الكافرة- معظم ما يجب أن يتمتع به الإنسان من حقوق؛ وبذلك اندفعت إلى إعلان الثورة على حكامها من الكنسيين والطغاة الماديين، وأطاحت بهم، وسيطرت على مقاليد البلاد، ثم كان من جراء ذلك إصدار ما يسمى بإعلانات حقوق الإنسان، هذه الإعلانات: التي تضمنت بعض ما يجب للإنسان، كالإعلان الفرنسي الشهير الذي لم يكن صدر إلا بعد الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وكان آخر تلك الإعلانات الإعلان العالمي الشهير: (بإعلان حقوق الإنسان) الذي صدر من الأمم المتحدة في أواسط القرن العشرين، عام خمسة وأربعين وتسعمائة وألف، وكان ذلك في أعقاب حرب عالمية دامية ذهبت بالأخضر واليابس، وذهبت فيها آلاف بل مئات الآلاف من الأرواح والضحايا.

إن حقوق الإنسان التي هي موضوع حديثنا اليوم، كلمة طالما تغنى بها الشعراء، وتكلم عنها الأدباء، وبحث فيها الفلاسفة، وتكلم عنها المصلحون وعلماء الاجتماع وعلماء الاقتصاد وغيرهم، فهي بيت القصيد لكثير من البحوث والأحاديث؛ فلا غرابة إذاً أن نعقد هذه الجلسة للكلام عن حقوق الإنسان في الإسلام.

الفهم المخلوط عن حقوق الإنسان في الإسلام

السبب الثاني: أن هذه الحقوق -حقوق الإنسان- قد أخذت بعداً عالمياً واسعاً عريضاً، فمنذ أن صدر ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ووقعت على هذا الميثاق جميع الدول بلا استثناء، ثم صدرت ملاحق أخرى له تهتم ببيان حقوق الإنسان الاجتماعية أو الاقتصادية أو الإعلامية أو التعليمية أو السياسية أو غيرها، وهي الأخرى حظيت بتأييد غير قليل من دول العالم كلها شرقيها وغربيها.

فأصبح العالم اليوم يتحدث عن حقوق الإنسان حتى أمريكا، أمريكا التي تعاني بذاتها من التفرقة العنصرية، وأمريكا التي شهدت اضطرابات طويلة عريضة بسبب الاعتداء على حقوق من يسمونهم بالسود، حتى أمريكا تتحدث عن حقوق الإنسان، وتتذرع بهذه الحقوق إلى ما تريد، فهي تتدخل هنا أو هناك بحجة حماية حقوق الإنسان، أو رفع الظلم والاضطهاد عن المظلومين، إذاً أصبحت حقوق الإنسان أحياناً ألعوبة يتذرع بها الأقوياء للسطو على الضعفاء، وأصبحت ذريعة للعالم الغربي لتحقيق مآربه وأهدافه في الهيمنة على بلاد المسلمين -مثلاً- أو ابتزاز خيرات أرضهم نفطاً واقتصاداً، أو السيطرة على مقدرات بلادهم، أو القضاء على خصوم الغرب، كل ذلك يتذرعون إليه باسم حماية حقوق الإنسان والثأر للمظلومين.

هذا العالم الخاسر الكافر الذي لم يتورع عن أن يدفن ما يزيد عن ثمانين ألف إنسان وهم أحياء -وهو يضحك ويبتسم- اليوم ينادي ويتكلم باسم حقوق الإنسان المظلومة والمهضومة.

إذا كان الغرب اليوم يتكلم باسم حقوق الإنسان فإنه لا يعرف عن الإسلام إلا ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: مسألة تعدد الزوجات، وأن الإسلام أباح تعدد الزوجات.

المسألة الثانية: مسألة الرق والاسترقاق.

المسألة الثالثة: مسألة الجهاد والقتال.

وبناءً عليه يصور الغرب الإسلام على أنه دين أهدر حقوق الإنسان، فأهدر حقوق المرأة يوم سمح للزوج بأن يأخذ عليها أخرى وثالثة ورابعة، وأهدر حقوق الإنسان يوم رضي أن يكون عبداً رقيقاً يستخدم ويباع ويشترى، وأهدر حقوق الإنسان يوم أذن بقتاله وسفك دمه، هكذا تصور الحضارة الغربية الإسلام، وبناءً عليه كان لابد أن نتكلم عن حقوق الإنسان في الإسلام لنبين أي مستوى من الكرامة رفع الإسلام إليها هذا الإنسان الكريم.

أنها سبب لحوادث جسمية على مر التاريخ

أما السبب الثالث فهو: أن هذه الحقوق كانت سبباً لحوادث تاريخية جسيمة، فربما انتهت المطالبة بحقوق الإنسان -أحياناً- إلى انتفاضات سياسية أو اجتماعية، أو ثورات عارمة تأتي على الأخضر واليابس، أو نهضات فكرية أو نصوص تشريعية ودستورية، فضلاً عن مواثيق ومعاهدات دولية.

وإن الحديث عن هذه الحقوق -حقوق الإنسان في مجتمع ما- يعد ظاهرة صحية للغاية تدل على وعي هذا المجتمع وعلى تماسكه، لقد كانت الكثير من الدكتاتوريات المتسلطة على رقاب الشعوب عبر التاريخ كانت تميل إلى التسلط والفردية والاستبداد والأثرة، وتعتقد أن إعطاء الإنسان حقوقه أو بعض حقوقه أنه يهيئ له الفرصة للتمرد على الحكام ومقاومتهم ومحاولة التخلص منهم، هكذا يظنون! ولكن تجارب التاريخ أثبتت نقيض ذلك تماماً، وأثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن القيود والأغلال التي تكبل بها الشعوب والأمم لا تزيدها إلا رغبة في التحرر والانطلاق، على حين أن تمتع الشعوب بحقوقها المشروعة وحرياتها المشروعة يدفعها دفعاً إلى الاستقرار والتقدم، ويحميها من التمزق والانشطار الذي كثيراً ما يقع بسبب الاعتداء على مصالح الفرد أو مصالح الجماعة من قبل أقلية تحكم وتهيمن وتسيطر.

زيادة الإهدار لحقوق الإنسان في العصر الحاضر

أما السبب الرابع لبحث هذا الموضوع فهو: أننا في الوقت الذي امتلأت آذاننا من الحديث عن حقوق الإنسان من الناحية النظرية، إلا أن آذاننا امتلأت -أيضاً- بما يواجهه الإنسان على محك الواقع من الإهدار لكرامته والانتهاك لحقوقه، ولهذا نقول: ربما لم ير الإنسان في تاريخه الطويل كاليوم قط إهداراً لحقوقه وانتهاكاً لكرامته.

فالإنسان الغربي اليوم لم تعد تفرض عليه الأمور بقوة الحديد والنار كما كان ذلك في الماضي، ولكن أصبحت الأمور تفرض عليه من خلال تأثير الإعلام، فبالأمس إذا أراد الحاكم في بلد غربي أن يحمل الناس على شيء حملهم بقوة الحديد والنار، أما اليوم فإنه يحملهم بقوة الإعلام، فإذا أراد أن ينتخبوا فلاناً -مثلاً- سلط الأجهزة الإعلامية لتلميع هذا الشخص والحديث عن منجزاته، والكلام عن بطولاته، وذكر مآثره حتى تمتلئ نفوس الناس قناعة فيصوتون له بملء اختيارهم وطواعيتهم، فالدكتاتورية هي هي، والاستبداد هو هو، سواء كان حملاً للإنسان بالقسر والقوة، أم كان إقناعاً للإنسان من خلال وسائل الإعلام المسلطة عليه، والتي تقوم معه حيث يقوم، وتقعد معه حيث يقعد.

أما الإنسان المسلم فعلى رغم أن العالم يعلن باستمرار أنه لا يعترف بالفوارق بين الأديان، إلا أن الإنسان المسلم قطعاً يحظى بمعاملة خاصة ملؤها الإهدار واللامبالاة والاعتداء الصارخ على حقوقه، سواء حقوق الأفراد أم حقوق الشعوب أم حقوق الدول، ولسان حال المسلم المستضعف المسكين يقول:

لو كنت من مازن لم تستبح إبلي      بنو اللقيطة من ذهل ابن شيبانا

إن الغرب يريد من المسلم فعلاً أن يتخلى عن إسلامه وتميزه بهذا الدين وانتمائه إلى هذه العقيدة، وبراءته من المخالفين له في الدين، ولكن الغرب نفسه لم يقنع الكافر هناك أن يتعامل مع المسلم على قدم الإخاء والمساواة، اللهم إلا بالكلام فحسب.

غفلة المسلمين عن هذه الحقوق

وأخيراً: فعلى رغم اهتمام الإسلام بالإنسان وتكريمه ومنحه الكثير من الحقوق بل كل الحقوق التي يستحقها إلا أن أقل الناس إحساساً بهذه الحقوق -بدون مبالغة- هم المسلمون.

الفرد المسلم لا يشعر بكرامته ولا يسعى إلى نيل حقه، بل لا يعرف أن له حقاً، ويستكثر القليل مما يدفع له أو يمنح، وربما يستكثر حتى مجرد الحديث عن هذا الموضوع، ولست أستغرب ولا أتعجب أن يقول قائل: أي علاقة لطالب علم شرعي أن يتكلم في حقوق الإنسان؟

وهكذا نجد أننا عملياً خضعنا لمسألة تبعيض الدين وتمزيقه، كما تطالب بذلك العلمانية وتدعو إليه، فأصبح مسموحاً للفقيه أن يتكلم في أحكام الطهارات والعبادات وغيرها، لكن حين ينتقل إلى الحديث عن القضايا العامة الكلية التي تحتاجها الأمة، فإن الكثيرين يفغرون أفواههم ويفتحون عيونهم ويقلبون أيديهم وملؤهم العجب والدهشة!! أي علاقة لهذا أن يتكلم في مثل هذا الموضوع؟!!

وكأن مثل هذه الموضوعات أصبحت نظرياً وعملياً حكراً على الغرب أو على تلامذة الغرب الذين يتكلمون في ديار الإسلام.

إن غيبة الوعي عن الدين جعلت الكثير من المسلمين لا يعرفون ماذا لهم من الحقوق في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يطالبوا بها، ولا ماذا عليهم من الواجبات والمسئوليات حتى ينهضوا بها ويتحملوها، وكذلك البعد عن الواقع جعلت الكثير من المسلمين لا يحركون ساكناً.

رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم      وخاضوا بحار الجد دعوى فما ابتلَّو

إن الكثير من المسلمين قد صودرت حتى إنسانيتهم، حتى شعور الواحد منهم بإنسانيته أصبح قليلاً ضئيلاً ضعيفاً، وأصبح المسلم يسمع -مثلاً- عن حقوق يتمتع بها غيره هنا أو هناك، فيظن أن هذا مما لم يخلق ولم يتأهل ولم يترشح له.

أولها: أن مسألة حقوق الإنسان مسألة قديمة ترجع إلى أقدم العصور، فليس البحث فيها بحثاً جديداً وليد اليوم أو وليد هذا العصر، فقد جاءت الرسالات السماوية كلها من لدن آدم عليه السلام وإلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم لتكرس حقوق الإنسان وتبين فضيلته، وأن الله سبحانه وتعالى خلقه من طين الأرض، ثم نفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، واستخلفه على هذه الدنيا.

أما فقهاء القوانين الوضعية فلعلهم لم يعرفوا الاهتمام الحقيقي بهذا الموضوع إلا في أواخر العصور الوسطى، عصور التخلف والانحطاط في أوروبا، حين وصل استبداد الحكام وسيطرتهم ووصل بأمراء الإقطاع إلى الغاية، وفقدت -تلك الشعوب الأوروبية الكافرة- معظم ما يجب أن يتمتع به الإنسان من حقوق؛ وبذلك اندفعت إلى إعلان الثورة على حكامها من الكنسيين والطغاة الماديين، وأطاحت بهم، وسيطرت على مقاليد البلاد، ثم كان من جراء ذلك إصدار ما يسمى بإعلانات حقوق الإنسان، هذه الإعلانات: التي تضمنت بعض ما يجب للإنسان، كالإعلان الفرنسي الشهير الذي لم يكن صدر إلا بعد الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وكان آخر تلك الإعلانات الإعلان العالمي الشهير: (بإعلان حقوق الإنسان) الذي صدر من الأمم المتحدة في أواسط القرن العشرين، عام خمسة وأربعين وتسعمائة وألف، وكان ذلك في أعقاب حرب عالمية دامية ذهبت بالأخضر واليابس، وذهبت فيها آلاف بل مئات الآلاف من الأرواح والضحايا.

إن حقوق الإنسان التي هي موضوع حديثنا اليوم، كلمة طالما تغنى بها الشعراء، وتكلم عنها الأدباء، وبحث فيها الفلاسفة، وتكلم عنها المصلحون وعلماء الاجتماع وعلماء الاقتصاد وغيرهم، فهي بيت القصيد لكثير من البحوث والأحاديث؛ فلا غرابة إذاً أن نعقد هذه الجلسة للكلام عن حقوق الإنسان في الإسلام.

السبب الثاني: أن هذه الحقوق -حقوق الإنسان- قد أخذت بعداً عالمياً واسعاً عريضاً، فمنذ أن صدر ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ووقعت على هذا الميثاق جميع الدول بلا استثناء، ثم صدرت ملاحق أخرى له تهتم ببيان حقوق الإنسان الاجتماعية أو الاقتصادية أو الإعلامية أو التعليمية أو السياسية أو غيرها، وهي الأخرى حظيت بتأييد غير قليل من دول العالم كلها شرقيها وغربيها.

فأصبح العالم اليوم يتحدث عن حقوق الإنسان حتى أمريكا، أمريكا التي تعاني بذاتها من التفرقة العنصرية، وأمريكا التي شهدت اضطرابات طويلة عريضة بسبب الاعتداء على حقوق من يسمونهم بالسود، حتى أمريكا تتحدث عن حقوق الإنسان، وتتذرع بهذه الحقوق إلى ما تريد، فهي تتدخل هنا أو هناك بحجة حماية حقوق الإنسان، أو رفع الظلم والاضطهاد عن المظلومين، إذاً أصبحت حقوق الإنسان أحياناً ألعوبة يتذرع بها الأقوياء للسطو على الضعفاء، وأصبحت ذريعة للعالم الغربي لتحقيق مآربه وأهدافه في الهيمنة على بلاد المسلمين -مثلاً- أو ابتزاز خيرات أرضهم نفطاً واقتصاداً، أو السيطرة على مقدرات بلادهم، أو القضاء على خصوم الغرب، كل ذلك يتذرعون إليه باسم حماية حقوق الإنسان والثأر للمظلومين.

هذا العالم الخاسر الكافر الذي لم يتورع عن أن يدفن ما يزيد عن ثمانين ألف إنسان وهم أحياء -وهو يضحك ويبتسم- اليوم ينادي ويتكلم باسم حقوق الإنسان المظلومة والمهضومة.

إذا كان الغرب اليوم يتكلم باسم حقوق الإنسان فإنه لا يعرف عن الإسلام إلا ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: مسألة تعدد الزوجات، وأن الإسلام أباح تعدد الزوجات.

المسألة الثانية: مسألة الرق والاسترقاق.

المسألة الثالثة: مسألة الجهاد والقتال.

وبناءً عليه يصور الغرب الإسلام على أنه دين أهدر حقوق الإنسان، فأهدر حقوق المرأة يوم سمح للزوج بأن يأخذ عليها أخرى وثالثة ورابعة، وأهدر حقوق الإنسان يوم رضي أن يكون عبداً رقيقاً يستخدم ويباع ويشترى، وأهدر حقوق الإنسان يوم أذن بقتاله وسفك دمه، هكذا تصور الحضارة الغربية الإسلام، وبناءً عليه كان لابد أن نتكلم عن حقوق الإنسان في الإسلام لنبين أي مستوى من الكرامة رفع الإسلام إليها هذا الإنسان الكريم.

أما السبب الثالث فهو: أن هذه الحقوق كانت سبباً لحوادث تاريخية جسيمة، فربما انتهت المطالبة بحقوق الإنسان -أحياناً- إلى انتفاضات سياسية أو اجتماعية، أو ثورات عارمة تأتي على الأخضر واليابس، أو نهضات فكرية أو نصوص تشريعية ودستورية، فضلاً عن مواثيق ومعاهدات دولية.

وإن الحديث عن هذه الحقوق -حقوق الإنسان في مجتمع ما- يعد ظاهرة صحية للغاية تدل على وعي هذا المجتمع وعلى تماسكه، لقد كانت الكثير من الدكتاتوريات المتسلطة على رقاب الشعوب عبر التاريخ كانت تميل إلى التسلط والفردية والاستبداد والأثرة، وتعتقد أن إعطاء الإنسان حقوقه أو بعض حقوقه أنه يهيئ له الفرصة للتمرد على الحكام ومقاومتهم ومحاولة التخلص منهم، هكذا يظنون! ولكن تجارب التاريخ أثبتت نقيض ذلك تماماً، وأثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن القيود والأغلال التي تكبل بها الشعوب والأمم لا تزيدها إلا رغبة في التحرر والانطلاق، على حين أن تمتع الشعوب بحقوقها المشروعة وحرياتها المشروعة يدفعها دفعاً إلى الاستقرار والتقدم، ويحميها من التمزق والانشطار الذي كثيراً ما يقع بسبب الاعتداء على مصالح الفرد أو مصالح الجماعة من قبل أقلية تحكم وتهيمن وتسيطر.

أما السبب الرابع لبحث هذا الموضوع فهو: أننا في الوقت الذي امتلأت آذاننا من الحديث عن حقوق الإنسان من الناحية النظرية، إلا أن آذاننا امتلأت -أيضاً- بما يواجهه الإنسان على محك الواقع من الإهدار لكرامته والانتهاك لحقوقه، ولهذا نقول: ربما لم ير الإنسان في تاريخه الطويل كاليوم قط إهداراً لحقوقه وانتهاكاً لكرامته.

فالإنسان الغربي اليوم لم تعد تفرض عليه الأمور بقوة الحديد والنار كما كان ذلك في الماضي، ولكن أصبحت الأمور تفرض عليه من خلال تأثير الإعلام، فبالأمس إذا أراد الحاكم في بلد غربي أن يحمل الناس على شيء حملهم بقوة الحديد والنار، أما اليوم فإنه يحملهم بقوة الإعلام، فإذا أراد أن ينتخبوا فلاناً -مثلاً- سلط الأجهزة الإعلامية لتلميع هذا الشخص والحديث عن منجزاته، والكلام عن بطولاته، وذكر مآثره حتى تمتلئ نفوس الناس قناعة فيصوتون له بملء اختيارهم وطواعيتهم، فالدكتاتورية هي هي، والاستبداد هو هو، سواء كان حملاً للإنسان بالقسر والقوة، أم كان إقناعاً للإنسان من خلال وسائل الإعلام المسلطة عليه، والتي تقوم معه حيث يقوم، وتقعد معه حيث يقعد.

أما الإنسان المسلم فعلى رغم أن العالم يعلن باستمرار أنه لا يعترف بالفوارق بين الأديان، إلا أن الإنسان المسلم قطعاً يحظى بمعاملة خاصة ملؤها الإهدار واللامبالاة والاعتداء الصارخ على حقوقه، سواء حقوق الأفراد أم حقوق الشعوب أم حقوق الدول، ولسان حال المسلم المستضعف المسكين يقول:

لو كنت من مازن لم تستبح إبلي      بنو اللقيطة من ذهل ابن شيبانا

إن الغرب يريد من المسلم فعلاً أن يتخلى عن إسلامه وتميزه بهذا الدين وانتمائه إلى هذه العقيدة، وبراءته من المخالفين له في الدين، ولكن الغرب نفسه لم يقنع الكافر هناك أن يتعامل مع المسلم على قدم الإخاء والمساواة، اللهم إلا بالكلام فحسب.

وأخيراً: فعلى رغم اهتمام الإسلام بالإنسان وتكريمه ومنحه الكثير من الحقوق بل كل الحقوق التي يستحقها إلا أن أقل الناس إحساساً بهذه الحقوق -بدون مبالغة- هم المسلمون.

الفرد المسلم لا يشعر بكرامته ولا يسعى إلى نيل حقه، بل لا يعرف أن له حقاً، ويستكثر القليل مما يدفع له أو يمنح، وربما يستكثر حتى مجرد الحديث عن هذا الموضوع، ولست أستغرب ولا أتعجب أن يقول قائل: أي علاقة لطالب علم شرعي أن يتكلم في حقوق الإنسان؟

وهكذا نجد أننا عملياً خضعنا لمسألة تبعيض الدين وتمزيقه، كما تطالب بذلك العلمانية وتدعو إليه، فأصبح مسموحاً للفقيه أن يتكلم في أحكام الطهارات والعبادات وغيرها، لكن حين ينتقل إلى الحديث عن القضايا العامة الكلية التي تحتاجها الأمة، فإن الكثيرين يفغرون أفواههم ويفتحون عيونهم ويقلبون أيديهم وملؤهم العجب والدهشة!! أي علاقة لهذا أن يتكلم في مثل هذا الموضوع؟!!

وكأن مثل هذه الموضوعات أصبحت نظرياً وعملياً حكراً على الغرب أو على تلامذة الغرب الذين يتكلمون في ديار الإسلام.

إن غيبة الوعي عن الدين جعلت الكثير من المسلمين لا يعرفون ماذا لهم من الحقوق في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يطالبوا بها، ولا ماذا عليهم من الواجبات والمسئوليات حتى ينهضوا بها ويتحملوها، وكذلك البعد عن الواقع جعلت الكثير من المسلمين لا يحركون ساكناً.

رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم      وخاضوا بحار الجد دعوى فما ابتلَّو

إن الكثير من المسلمين قد صودرت حتى إنسانيتهم، حتى شعور الواحد منهم بإنسانيته أصبح قليلاً ضئيلاً ضعيفاً، وأصبح المسلم يسمع -مثلاً- عن حقوق يتمتع بها غيره هنا أو هناك، فيظن أن هذا مما لم يخلق ولم يتأهل ولم يترشح له.

أعتقد أن الحرية من أكثر الكلمات تداولاً على الألسنة، وهي كلمة بارقة يستخدمها الكثيرون على نطاق واسع، فكل من أراد أن يلفت أنظار الناس نادى بالحرية، وكل من أراد أن يحقق أمانيه أو أهواءه رفع شعار الحرية، ومع ذلك فإن كلمة الحرية هي من أكثر الكلمات غموضاً!

أما المعنى الشرعي للحرية في الإسلام: فهي ضد الرق، ولا شك أن هذا المعنى غير مقصود الآن، وهو معنى آخر فالإنسان حر بمعنى أنه ليس رقيقاً مستعبداً هذا معنى آخر- وإنما الحرية تستخدم اليوم بمصطلح آخر مخالف لذلك تماماً، فمثلاً: حينما تتحدث مع شخص عن ملاحظة عليه في سلوكه أو أخلاقه، أو ملاحظة على ولده أو على زوجه، قال لك: يا أخي لا تتدخل في حريات الآخرين، دع هذا فمن باب الحرية الشخصية، أصبح الولد أحياناً يرفع شعار الحرية الشخصية ضد أبيه، وأصبح الإنسان المنفلت من القيود يرفع شعار الحرية الشخصية ضد جميع الإجراءات الأخلاقية والأعراف المرعية، ولذلك فلابد من وقفة عند هذه الكلمة البراقة "الحرية".

تقول بعض التعريفات: الحرية هي: حق الفرد في أن يفعل كل ما لا يضر بالآخرين.

إذاً: ليس هناك حرية في الدنيا مطلقة قط، لا عند المسلم ولا عند الكافر، ولا في أي قانون في الدنيا، إنما أكثر الناس توسعاً في الحرية -وهم الفرنسيون- يقولون لك: الحرية هي: حق الفرد أن يفعل ما لا يضر بالآخرين.

إذاً حريتك تنتهي حيث تبدأ حقوق الآخرين وحدودهم، فلك أن تتحرك في حدود ما لا يضر بالآخرين، وهنا لا بد أن نضيف: ولا يضر بنفسه أيضاً، ولا بد أيضاً أن نحدد الضرر بأنه يشمل الضرر الدنيوي، كأن يتعاطى الإنسان أكلاً أو شرباً أو لباساً لا يضر بدينه أو ماله أو صحته أو مكانته، وأيضاً يشمل الضرر الديني، الضرر الأخروي الذي يجعل الإنسان تحت طائلة المساءلة والعقاب أمام الله تعالى يوم الحساب.

فإذا كانت مسألة ما لا تضر بالإنسان ديناً ولا دنيا، ولا تضر بالآخرين أيضاً ديناً ولا دنيا فهنا يكون نطاق الحرية، ويكون الإنسان مأذوناً أن يتحرك ويعمل هذا الأمر، أمر مأذون له شرعاً فليس إثماً ولا حراماً، لا يضر بدينه وهو أيضاً لا يضر بدنياه، ولو تأملت لوجدت أن الضرر الدنيوي هو أيضاً محرم كما جاء في الحديث: {لا ضرر ولا ضرار}.

والحرية هي قرين الحق، فهما متلازمان في اصطلاح العديد من الفقهاء، وبذلك يتبين لك أن من المطلوب أن يتنازل الإنسان عن جزء من حقوقه الشخصية في مقابل عدم حرمان الآخرين من حقوقهم، إن هذا التنازل الجزئي منك أنت ليس تنازلاً بلا مقابل، بل أنت تفعل ذلك من أجل ألا تفاجأ يوماً من الأيام بأن الآخرين اعتدوا على حريتك الشخصية، فهذا هو ثمن الحياة الاجتماعية المشتركة بينكم، فالحريات أحياناً تتناقض.

فهذا صحفي -مثلاً- يصدر جريدة ويكتب فيها ما يقول مما يسيء إلى الدين وإلى الأخلاق وإلى فلان وإلى وإلى، ويقول: من حقي أن أكتب ما أريد، ومالك الجريدة أو الصحيفة يستطيع أن يمنع هذا الصحفي من الكتابة، ويقول له أيضاً: من حقي ألا ينشر في صحيفتي التي أملكها إلا ما أريد، والقارئ من حقه أن يرفض هذه الصحيفة تعاطياً وشراءً وتعاملاً، ويقول: من حقي ألا أشتري ولا أقرأ إلا ما أريد.

مثل آخر: الطريق (الشارع) هو مرفق عام يشترك فيه الجميع، فهو ملك للمجتمع وليس ملك لشخص بعينه، ومن حق كل إنسان يستفيد منه، لكن هذه الفائدة تتناقض عندما يستخدمها الإنسان بالأصوات المزعجة، أو يستخدمها -مثلاً- بالدعايات التي تضر بالآخرين وتغير عقولهم أو مفاهيمهم أو تسيء إليهم، وهذا سر من أسرار الحكم في الإسلام، فالحاكم في شريعة الله تعالى هو فرد اختاره الناس لكي ينظم لهم كيفية ممارسة الحقوق فيما بينهم بصورة صحيحة، وليس الحاكم وضع من أجل أن يصادر حقوق الناس. فلا بد أن يتنازل الجميع عن قدر من الحقوق والمصالح الذاتية حفاظاً على ذلك العقد الاجتماعي العام.

فعلى سبيل المثال-أيضاً- من حق الحاكم أن ينظم كيفية الحصول على الطعام -مثلاً- في بيعه أو تعاطيه، أو الشراب، أو السيارات، أو الرخص للسير، أو السفر، أو الشهادة، أو غير ذلك، أو أن يرتب وينظم عملية المرور، أو ينسِق العمل الوظيفي ويضع له شروطاً إلى غير ذلك، لكن إذا تجاوز هذا الأمر حد التنظيم المطلوب للمجتمع إلى التعقيد وافتعال العقبات والصعوبات والمشكلات؛ كان ذلك عبئاً على الإنسان، يفترض أن يتجاوزه ويتعداه، أو أدى هذا إلى امتهان كرامة الإنسان، أو مصادرة رأيه بالضغط والتهديد بحيث يكون الطعام -مثلاً- أو الشراب أو الشهادة أو الوظيفة أو المال أو غيرها لا تحصل للإنسان إلا عن طريق التسول، أن يريق ماء وجه، ويخضع للضغط والتهديد ومصادرة الرأي، فحينئذ تصبح عبئاً ثقيلاً يسعى الإنسان للتخلص منه بقدر المستطاع.

الله تعالى خلق آدم بيده -كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم- ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، ثم جعل ذريته مكرمين، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70] والله تعالى من فوق سبع سماوات يخاطب هذا الإنسان، وهذا أعظم تكريم متصور للإنسان أن الله سبحانه وتعالى الغني القدير الكبير المتعال يتلطف على هذا العبد الفقير الضعيف فيقول له: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار:6] يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6] إذاً الإنسان -والجن أيضاً- هو الكائن الوحيد المكلف المبتلى إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان:2] فهو الذي كلف بمسئولية وقيل له: إذا قمت بهذا الواجب فلك الأجر العظيم، وإذا قصرت به أو تخليت عنه؛ فالويل لك يوم يقوم الناس لرب العالمين.

حتى صورة الإنسان وشكله متميز؛ كما قال الله تعالى:لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4] نعم، ليس الإنسان في خيلاء الطاووس، ولا في قوة الفيل، ولا في خفة الطيور، ولكن يبقى خلق الإنسان خلقاً متميزاً معتدلاً مكتملاً؛ حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما روى البخاري وغيره:{إذا قاتل أحدكم أخاه -أي ضاربه- فليتق الوجه، فإن الله سبحانه وتعالى خلق آدم على صورته} أي: خلق الإنسان سميعاً بصيراً مكتمل الحواس، وجعل كرامة الإنسان أكثر ما تكون في وجهه، ولهذا كان السجود الذي هو أعظم عبادة هو انحناء الإنسان لربه ووضعه جبهته في التراب لرب الأرباب.

ولهذا -أيضاً كما في صحيح مسلم- {لما مرت جنازة قام لها الرسول صلى الله عليه وسلم فقيل له: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي. فقال عليه الصلاة والسلام: إن للموت لفزعاً -وفي رواية- أنه قال: أليست نفساً؟} فقام وأمر بالقيام للجنازة، وكثير من أهل العلم يقولون: إن هذا الحكم باق غير منسوخ، وأنه يستحب للإنسان إذا رأى الجنازة أن يقوم لها.

إذاً كرم الإسلام الإنسان من حيث هو، ولو نظرت إلى تكريم الإسلام لفئات خاصة من الناس كالعبيد الأرقاء أو الأيتام أو الضعفاء أو المعوقين أو النساء، أو غيرهم، أو الفقراء لوجدت أمراً عجباً، فكيف بتكريم الإنسان العادي؟

وفي خطبة الوداع التي كانت هي آخر خطبة ألقاها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه أرسى -عليه الصلاة والسلام- دعائم الحقوق الإنسانية بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية كلها، لا، بل بصورة لم تسبق ولن تلحق أيضاً:

{أيها الناس: أتدرون في أي شهر أنتم؟ وفي أي يوم أنتم؟ وفي أي بلد أنتم؟ قالوا: في شهر حرام وفي بلد حرام، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا لا يحل مال مسلم إلا بطيب نفس منه، وإن كل دم ومال ومأثرة كانت في الجاهلية تحت قدمي هاتين إلى يوم القيامة، ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم، واتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان -أي أسيرات- لا يملكن شيئاً، وإن لهن عليكم حقاً، ولكم عليهن حقا}.

فذكر الحقوق صلى الله عليه وسلم، ذكر حرمة الدماء بمنع القتل أو الجرح أو الاعتداء، وذكر حرمة الأموال بمنع أخذها أو ابتزازها أو نهبها أو سرقتها أو الحجر عليها، وذكر حرمة الأعراض بتحريم الاعتداء عليها بالقذف أو بالسب أو بالشتم أو بالزنا أو بغير ذلك، وذكر مسألة العلاقات الاجتماعية التي تحكم المسلمين، تحكم المسلم مع أخيه، وتحكم الرجل مع زوجته، وتحكم الوالد مع ولده، إلى غير ذلك، ولم تكن خطبة الوداع هي الموقف الوحيد الذي حدد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الحقوق؛ بل إنه حددها في أحاديث ربما لو جمعت لكانت في أكثر من عدة مجلدات وكلها تتعلق بحقوق الإنسان سواء الحقوق العامة أم الحقوق الخاصة لفئة معينة، كحقوق المرأة أو حقوق العامل أو حقوق الجار أو حقوق اليتيم أو حقوق الزوج أو غير ذلك.

وأستطيع أن أقول تبعاً لما قرره عدد غير قليل حتى من فقهاء القوانين اليوم: إن هناك حقوقاً كثيرة جاء بها الإسلام لم تفلح البشرية حتى الآن في المطالبة بها، فمثلاً: حق ضعاف العقول في الرعاية: هذا جاء به الإسلام ولم ينص عليه إعلان حقوق الإنسان، مثل حق اليتامى، حق الجار، حق القريب، حق الإنسان في الدفاع عن نفسه، حق الإنسان في العفو عمن ظلمه، حق الميراث للورثة رجالاً أو نساءً من الأقربين، كل هذه الحقوق لم تأت بها القوانين الوضعية، ولا إعلانات حقوق الإنسان.

كما أسلفت هناك عدة إعلانات لحقوق الإنسان، كان آخرها الإعلان عام 48م والذي وقعت عليه جميع الدول بلا استثناء، وبناءً عليه نستطيع أن نقول: إنه قانون عام ملزم للبشرية كلها، حسبما تقتضيه مواثيق الأمم المتحدة التي تعتبر هي الحكومة العالمية المتوجة، التي تتزعم ما يسمى بالنظام الدولي الجديد، فما هذه الحقوق التي جاءت بها تلك الإعلانات؟

الحقوق الشخصية والجسدية

هي أولاً -باختصار- الحقوق الشخصية والجسدية: مثل أمن الإنسان من أن يستعبد (أن يكون رقيقاً) وأمنه أن يقهر أو يسخر أو يقتل أو يغتصب رجلاً أو امرأةً، أو يعذب، كل هذه الحقوق بلا شك جاء بها الإسلام، كذلك حق الإنسان في حرية الانتقال من مكان إلى مكان أو الرجوع إلى مكانه الأول، حرمة المساكن وعدم الاعتداء عليها، حرمة الاتصال الهاتفي بين إنسان وآخر، وألا يحق لأحد أن يعتدي عليه أو يتصنت عليه، حرمة الاتصال البريدي أو المراسلة، وأنه لا يحق لأي جهة أن تكشف مراسلة بين طرفين، حق الزواج، حق السلامة الصحية للإنسان، كل هذه الحقوق تدخل فيما يسمى بالحقوق الشخصية والجسدية.

الحقوق القضائية

النوع الثاني: ما يسمونه بالحقوق القضائية: ويقصدون بها ضمان حق الإنسان في أن يدافع عن نفسه أمام المحاكم، ومساواة الناس أمام القضاة، وأنه ليس هناك إنسان يتميز عن آخر أمام القضاء، وعدم التعرض بصورة تعسفية للقبض على إنسان أو اعتقال إنسان أو نفي إنسان من بلد إلى آخر أو حبسه أو محاكمته إلا وفق نظام معمول به، كما يشمل هذا حق الإنسان في تقديم العرائض والشكاوى إلى أي جهة يشاء.

الحقوق الفكرية والسياسية

النوع الثالث: هو ما يسمونه بالحرية الفكرية والسياسية، وهذا يشمل أشياء كثيرة جداً قد يكون معمول بها في بعض البلاد، مثلاً: يشمل -عندهم وفي بلادهم- حق الإنسان في تكوين حزب سياسي والانضمام لعضويته، أو حق اللجوء إلى بلد آخر، أو حق تكوين الجمعيات والأحزاب أو غير ذلك، لكنه يشمل أيضاً أموراً جاء بها الإسلام، يشمل حرية الرأي والتعبير عنه وفق الأصول الشرعية، ونحن نعلم أن هذا لم يكن في الإسلام مجرد حق بل هو واجب، فالإسلام قد حرم التقليد على من يملك الاجتهاد ويعرف الصواب، وأوجب على المسلم أن يقول بالحق كما في الحديث المتفق عليه عن عبادة بن الصامت قال: [[وأن نقول الحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم]] فأوجب على المسلم أن يكون آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، قائلاً لكلمة الحق، مجاهداً في هذا السبيل، حريصاً على أن يعبر عن رأيه الناضج الصريح الذي يبني ولا يهدم ويحقق المصالح ويدفع المفاسد.

ومثله أيضاً حرية الصحافة والإعلام -كما يسمونه- ونحن نعلم أن الغرب حقق قدراً كبيراً مما يسمى بحرية الإعلام عندهم، فتجد أن الإعلام يتكلم عن قضايا كثيرة تتعلق بأوضاعهم الحكومية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها، وقد أفلح الإعلام عندهم في الكشف عن فضائح كثيرة مثلما فعلت بعض الصحف الأمريكية حين فضحت ما يسمى بقضية فضيحة "وتر جيت" ثم "إيران جيت" ثم "عراق جيت" إلى غيرها من الفضائح التي كانت الصحافة والإعلام هي السبب في كشفها وبالتالي معاقبة المتسببين فيها، إضافة إلى أمور أخرى تتعلق عندهم بحقوق الإنسان فيما يتعلق بالحرية الفكرية والسياسية.

الحقوق الاقتصادية والاجتماعية

أما الحق الرابع الذي ضمنته تلك الوثيقة: فهو ما يسمى بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية: مثل حق الإنسان في الملكية الخاصة، أن يملك المال أو الأرض ولا يحق لأحد أن يصادر ماله أو أرضه أو يعتدي عليه، ومثله حق الإنسان في التجارة والصناعة إلى غير ذلك، ونحن نجد أن هذه الحقوق مقررة في الشريعة والله تعالى يقول: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا [البقرة:275] والرسول عليه السلام يقول:{من أحيا أرضاً ميتةً فهي له} فهنا يظهر الفارق بين حق الفرد وحق المجتمع، فالرسول صلى الله عليه وسلم -مثلاً- في هذا الحديث أباح للإنسان أن يحيي الأرض الموات بحسبها، إن كانت أرضاً زراعية بالحفر والزرع، وإن كانت غير ذلك؛ كل أرض بحسبها، لكن هذا الأمر مقيد بشيء واحد فقط وهو ما يكون مصلحة عامة للمجتمع، فليس من حق الإنسان أن يحيي -مثلاً- أرضاً يحتاجها المجتمع كله في مصالحه العامة.

ومن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للإنسان مراعاة الإنسان في حال البطالة والعجز والمرض والشيخوخة، وأن الدولة مطالبة بمساعدته وإعانته، وهذا كما ضمنته حقوق الإنسان فقد ضمنته الحقوق الشرعية التي جاء بها سيد البشرية محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما أن من تلك الحقوق الاقتصادية حق مساواة الجميع أمام التكاليف، فالضرائب -مثلاً- إذا جاز أن تفرض ضرائب على الناس في الإسلام، فلا بد أن تكون بقدر الحاجة وبقدر متساوٍ للجميع، وهذا الأمر هو ما جاءت به منظمات حقوق الإنسان في الناحية الاقتصادية والاجتماعية.

الحقوق التعليمية والثقافية

أما الحق الأخير عندهم: فهو ما يسمى بالحقوق التعليمية والثقافية، مثل حق التعليم، وهو في الإسلام ليس حقاً بل هو واجب، وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم:{طلب العلم فريضة على كل مسلم} وهو حديث حسن، ومثله حق الإنسان في اختيار نوع التعليم الذي يمارسه، كما يدخل في ذلك حق الابتكار والاختراع العلمي، إضافة إلى حق مشاركة الإنسان في الحياة الثقافية والحياة العلمية في بلده، كل هذه الحقوق جاء بها الإسلام قبل إعلان حقوق الإنسان، وهي أيضاً في غالبها وجملتها جاء بها الإسلام قبل أربعة عشر قرناً من الزمان، لكن ثمة نقطة لابد من بيانها وهي النقطة الخامسة.