تفسير سورة النحل (22)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك. آمين.

وها نحن مع سورة النحل، ومع هذه الآيات المباركات الكريمات:

قال تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ * إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ * مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [النحل:103-109].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ولقد نعلم أنهم يقولون: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل:103] من القائل لهذا القول؟

الله جل جلاله، يخاطب من؟ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل:103]، اذكروا أن هذه السورة مكية، وأهل مكة معرضون، فقد أعرضوا عن قبول دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا من رحم الله، فهؤلاء يبحثون كيف يصدون عن الاستجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم والإيمان به وبما جاء به؛ فحصل أن قيناً يشحذ السيوف ويصقلها صقلاً، وهو رومي -من بلاد الروم- أعجمي وليس بعربي، وهو أيضاً عبد رقيق لأحد أغنياء مكة اختلف في اسمه ولا عبرة بالاسم؛ لكثرة ما قيل في اسمه، ومن الجائز أن يكون هذا النوع متعدداً كذا واحداً، وبما أنه رومي من بلاد الروم فهو نصراني يعرف عن التوراة والإنجيل، فكان الحبيب صلى الله عليه وسلم يجلس إليه ليسمع منه وليعظه ويبين له؛ لأنه عبد رقيق، فلما شاهد المشركون أن النبي صلى الله عليه وسلم يجلس إلى هذا القين قالوا: هذا الذي يقوله لكم محمد إنما يتلقاه ويتعلمه من هذا الأعجمي، وأشاعوها كما تعرفون الإشاعات، ما عنده إلا ما يسمعه من هذا الرجل القين الرقيق ثم يقوله فقط، وهذه تفعل فعلها في الناس، فكل واحد مستعد ليفهم ذلك، وبمجرد ما قالوا هذا ظنوا أنه لن يقبل أحد على رسول الله ولن يستجيب لدعوته، مكراً وكيداً، مكر بها الشيطان وكادها لأجل أن يصرف الناس عن الحق ودعوة الحق وهو الإسلام.

لما حصل هذا أخبر تعالى بما تسمعون: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ [النحل:103] أي: رسول الله يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل:103] إنسان لا يتلقاه من السماء بواسطة الملائكة، وإنما بشر يعلمه.

لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ [النحل:103] لسان الذي يميلون إليه ويقولون: قاله، أعجمي والقرآن عربي فكيف يتفق هذا مع هذا؟

يا عقلاء! الأعجمي هل يستطيع أن يفصح ويأتي بمثل هذا القرآن؟

هذا القرآن عربي بلغتكم أيها العرب! على فصاحته وبيانه، فكيف تنسبونه إلى أعجمي لا يمكن أن ينطق أو يعبر عن شيء؟

لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ [النحل:103] ويميلون إليه ويقولون: هو القائل أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا [النحل:103] أي: القرآن لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل:103] واضح بين، لا غموض فيه ولا خطأ، فأبطل تلك الفرية وقضى عليها.

هذه الجملة أسكتت الذين يروجون أن النبي صلى الله عليه وسلم يتلقى علومه من أعجمي!

بالبيان والحجة أسكتهم، إذ قال تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ [النحل:103] أي: المشركون العرب في مكة إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ [النحل:103] أي: محمد صلى الله عليه وسلم بَشَرٌ [النحل:103] ما هو ملك، كما يقول: جبريل ينزل علي، بل بشر، فقال تعالى: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ [النحل:103] ويميلون إليه أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل:103].

كيف تصدقهم فيما يقولون؟ لا قيمة لدعواهم وافترائهم أبداً، ولم يبق إلا أن الرسول يتلقى كلام الله بواسطة الملك من السماء إلى الأرض، ما هو بإنسان أبداً، والفرية باطلة.

هل أعجمي يفصح هذه الفصاحة ويبين هذا البيان؟ مستحيل.

ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:104]، هذا الخبر ذو شأن عظيم.

هذا الخبر العظيم من أخبار الله الحق، اسمع ما يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [النحل:104] القرآنية التنزيلية أو الكونية أو المعجزات النبوية لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ [النحل:104] والله لا يهتدون إذ طريق الهداية: أن تؤمن بكلام الله ورسوله، فإذا أغلقت الباب عن نفسك وقلت: لا أتابع الرسول ولا أقول بما يقول. فكيف تهتدي؟

مستحيل، وإلى هذه الساعة الذي لا يؤمن بكلام الله القرآن العظيم ويقرأه ويعمل بما فيه والله لا يهتدي أبداً، لا يهتدي إلى طريق السعادة والكمال لا في الدنيا ولا في الآخرة.

هذا الخبر له شأنه: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:104] موجع.

ما هذا العذاب؟ ليس عذاب الدنيا الفانية الزائلة، بل هذا عذاب الدار الآخرة الباقية الخالدة، عذاب أليم في دار الشقاء، في جهنم والعياذ بالله تعالى.

سر عدم هداية الذين لا يؤمنون بآيات الله

وإن قلت: وما السر؟ علمناه يا شيخ! قلت: مادام قد كفر بالقرآن وأنكره وكذب به فقد أغلق في وجهه باب الهداية فوالله ما يهتدي، فإذا لم يهتد فكيف تكون نفسه؟

الجواب: أخبث من الشياطين، منتنة عفنة عليها ظلمتها؛ لأن الهداية التي تزكي النفس وتطهرها تكون عندما يصوم ويصلي ويجاهد ويرابط ويذكر الله، فتطيب نفسه وتطهر، لكن ما دام أنه كذب الرسول أو القرآن وكفر فعلى أي شيء تطيب نفسه وتزكو؟ لا شيء، وإنما تخبث وتتعفن وتتدسى، ومن ثم مستحيل في حقه أن يدخل دار النعيم الجنة.

وهذا الحكم مقرر في كتاب الله، وكررنا القول فيه ولا ننساه أبداً، فالله يقول: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].

من يرد على الله؟ هذا الحكم الإلهي يحلف الله عليه بأيمان ما حلف بها على حكم مثل هذا الحكم وإليكموها: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8]، يحلف على ماذا؟ على قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].

ومن هنا كن ابناً لمن شئت أو أباً لمن شئت وانتسب إلى من شئت فلا عبرة بنسب قط، لا عبرة بالنسب ولا بالأرض ولا بالزمان ولا بالمكان فالعبرة فقط: هل نفسك طاهرة أو خبيثة؟ فإن كانت طاهرة فقد فزت ونجوت من عذاب الله، وفزت بدار النعيم الجنة دار الأبرار، وإن كانت النفس خبيثة مدساة مغطاة بأوضار الذنوب والآثام فصاحبها خائب خاسر.

لا ننسى هذا الحكم الإلهي: قد أفلح من زكى نفسه؛ لأنه عمل بنفسه على تطهيرها وغسلها وتنظيفها وتطييبها فزكت وطابت. هذا الذي أفلح، والفلاح عند الله: الفوز بالنجاة من النار ودخول الجنة دار الأبرار، إذ قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، هذا حكم صارم قاطع لا يوجد من ينقضه، ويقول: إلا نفس فلان؟

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، اعملوا في هذه الدنيا خيراً أو شراً فلا جزاء هنا فالجزاء في دار الجزاء..في الدار الآخرة لا في الدار الأولى.

هذا الدار دار عمل فلا تعمل وتقول: لماذا ما أعطيت كذا؟ ولماذا ما أكافأ بكذا وكذا وأنا أصوم وأصلي؟

لا. فهذه الدار ليست دار جزاء، بل دار عمل، اعمل فقط والجزاء في الدار الآخرة، واسمع قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]. متى نوفى أجور عملنا؟ يوم القيامة وليس اليوم.

فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، هذه الآية عظيمة، ومعنا لطائف: فقد يعمل العبد المؤمن الصالح أعمالاً صالحة وإذا ابتلي بفقر أو بمرض لا يقول: كيف أنا أصوم وأصلي وأتهجد و.. و.. وأصاب؟!

لا ينبغي أن يقول هذا الكلام ولا يخطر بباله؛ لأنه يعرف أن هذه الدار دار عمل فيعمل!

والكافر أو الفاسق أو الفاجر لا يقول: أنا أفجر وأفسق وكذا وما أصابني لا فقر ولا مرض ولا كذا؛ ليعلم أن هذه الدار ما هي دار جزاء أبداً بل دار عمل: اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ [التوبة:105]، فما هي بدار جزاء أبداً، والآية صريحة في هذه الدلالة.

وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، من هم الذين لهم أجور؟ كل من بلغ سن التكليف وعمل خيراً أو شراً يثاب ويجزى بعمله، كل من بلغ سن التكليف لابد وأن يجزى على كسبه في هذه الدنيا إن كان خيراً بالجنة، وإن كان شراً بالنار والعياذ بالله من النار.

إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ [النحل:104] باب الهداية مغلق والطريق مسدود، ولا يمكن أن يهتدي عبد أبداً إلا بالإيمان بالله ولقائه وكتابه، وبواسطة كتابه والعمل بما فيه.

أما أن يوضع القرآن على الرفوف ويبتعد عنه ولا يقرأ ولا يؤخذ منه شيء، فكيف يهتدي من شأنه هذا؟! والله ما يهتدي؛ لأنه أغلق باب الهداية، فمن أين تأتي الهداية؟

تأملوا هذه: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:104]، فمن أراد الهداية فإنه يقبل على كلام ربه فيتدبره ويتدارسه ويحفظه ويعمل بما فيه، فهذا راغب في الهداية وعليه فإنه يعطاها ولا يحرمها.

أما من أعرض ولوى رأسه وأقبل على الأغاني والمعازف والباطل والكذب فكيف يهتدي؟

الذي لا يأكل هل يشبع؟ كيف يشبع؟ الذي لا يشرب هل يرتوي؟ والله ما يرتوي.

هذه سنن الله لا تتبدل، فمن أعرض عن كتاب الله وكذب به واستكبر عنه والله لن يهتدي، وإذا لم يهتد إلى ما يزكي نفسه ويطهرها ويطيبها فمصيره معروف ألا وهو سوء العذاب في جهنم.

هذه الآيات التي نتلوها عليها آمن الناس ودخلوا في رحمة الله واهتدوا وكانوا من سادات الناس، فلا تظنوا أنها ما استفاد منها أهل مكة بل ما هي إلا سنيات حتى أقبلوا كلهم بنسائهم ورجالهم على هذا الكتاب القرآن العظيم.

وإن قلت: وما السر؟ علمناه يا شيخ! قلت: مادام قد كفر بالقرآن وأنكره وكذب به فقد أغلق في وجهه باب الهداية فوالله ما يهتدي، فإذا لم يهتد فكيف تكون نفسه؟

الجواب: أخبث من الشياطين، منتنة عفنة عليها ظلمتها؛ لأن الهداية التي تزكي النفس وتطهرها تكون عندما يصوم ويصلي ويجاهد ويرابط ويذكر الله، فتطيب نفسه وتطهر، لكن ما دام أنه كذب الرسول أو القرآن وكفر فعلى أي شيء تطيب نفسه وتزكو؟ لا شيء، وإنما تخبث وتتعفن وتتدسى، ومن ثم مستحيل في حقه أن يدخل دار النعيم الجنة.

وهذا الحكم مقرر في كتاب الله، وكررنا القول فيه ولا ننساه أبداً، فالله يقول: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].

من يرد على الله؟ هذا الحكم الإلهي يحلف الله عليه بأيمان ما حلف بها على حكم مثل هذا الحكم وإليكموها: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8]، يحلف على ماذا؟ على قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].

ومن هنا كن ابناً لمن شئت أو أباً لمن شئت وانتسب إلى من شئت فلا عبرة بنسب قط، لا عبرة بالنسب ولا بالأرض ولا بالزمان ولا بالمكان فالعبرة فقط: هل نفسك طاهرة أو خبيثة؟ فإن كانت طاهرة فقد فزت ونجوت من عذاب الله، وفزت بدار النعيم الجنة دار الأبرار، وإن كانت النفس خبيثة مدساة مغطاة بأوضار الذنوب والآثام فصاحبها خائب خاسر.

لا ننسى هذا الحكم الإلهي: قد أفلح من زكى نفسه؛ لأنه عمل بنفسه على تطهيرها وغسلها وتنظيفها وتطييبها فزكت وطابت. هذا الذي أفلح، والفلاح عند الله: الفوز بالنجاة من النار ودخول الجنة دار الأبرار، إذ قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، هذا حكم صارم قاطع لا يوجد من ينقضه، ويقول: إلا نفس فلان؟

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، اعملوا في هذه الدنيا خيراً أو شراً فلا جزاء هنا فالجزاء في دار الجزاء..في الدار الآخرة لا في الدار الأولى.

هذا الدار دار عمل فلا تعمل وتقول: لماذا ما أعطيت كذا؟ ولماذا ما أكافأ بكذا وكذا وأنا أصوم وأصلي؟

لا. فهذه الدار ليست دار جزاء، بل دار عمل، اعمل فقط والجزاء في الدار الآخرة، واسمع قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]. متى نوفى أجور عملنا؟ يوم القيامة وليس اليوم.

فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، هذه الآية عظيمة، ومعنا لطائف: فقد يعمل العبد المؤمن الصالح أعمالاً صالحة وإذا ابتلي بفقر أو بمرض لا يقول: كيف أنا أصوم وأصلي وأتهجد و.. و.. وأصاب؟!

لا ينبغي أن يقول هذا الكلام ولا يخطر بباله؛ لأنه يعرف أن هذه الدار دار عمل فيعمل!

والكافر أو الفاسق أو الفاجر لا يقول: أنا أفجر وأفسق وكذا وما أصابني لا فقر ولا مرض ولا كذا؛ ليعلم أن هذه الدار ما هي دار جزاء أبداً بل دار عمل: اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ [التوبة:105]، فما هي بدار جزاء أبداً، والآية صريحة في هذه الدلالة.

وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، من هم الذين لهم أجور؟ كل من بلغ سن التكليف وعمل خيراً أو شراً يثاب ويجزى بعمله، كل من بلغ سن التكليف لابد وأن يجزى على كسبه في هذه الدنيا إن كان خيراً بالجنة، وإن كان شراً بالنار والعياذ بالله من النار.

إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ [النحل:104] باب الهداية مغلق والطريق مسدود، ولا يمكن أن يهتدي عبد أبداً إلا بالإيمان بالله ولقائه وكتابه، وبواسطة كتابه والعمل بما فيه.

أما أن يوضع القرآن على الرفوف ويبتعد عنه ولا يقرأ ولا يؤخذ منه شيء، فكيف يهتدي من شأنه هذا؟! والله ما يهتدي؛ لأنه أغلق باب الهداية، فمن أين تأتي الهداية؟

تأملوا هذه: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:104]، فمن أراد الهداية فإنه يقبل على كلام ربه فيتدبره ويتدارسه ويحفظه ويعمل بما فيه، فهذا راغب في الهداية وعليه فإنه يعطاها ولا يحرمها.

أما من أعرض ولوى رأسه وأقبل على الأغاني والمعازف والباطل والكذب فكيف يهتدي؟

الذي لا يأكل هل يشبع؟ كيف يشبع؟ الذي لا يشرب هل يرتوي؟ والله ما يرتوي.

هذه سنن الله لا تتبدل، فمن أعرض عن كتاب الله وكذب به واستكبر عنه والله لن يهتدي، وإذا لم يهتد إلى ما يزكي نفسه ويطهرها ويطيبها فمصيره معروف ألا وهو سوء العذاب في جهنم.

هذه الآيات التي نتلوها عليها آمن الناس ودخلوا في رحمة الله واهتدوا وكانوا من سادات الناس، فلا تظنوا أنها ما استفاد منها أهل مكة بل ما هي إلا سنيات حتى أقبلوا كلهم بنسائهم ورجالهم على هذا الكتاب القرآن العظيم.

ثم قال تعالى حقيقة أخرى: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [النحل:105]، حقيقة والله كما أخبر تعالى.

من هم الذين يكذبون على الله ويقولون: ما قال أو قال، أو فعل أو ما فعل؟ من هم؟

الجواب: الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [النحل:105]، أما من آمن بالكتاب الكريم وما فيه من الآيات والقرآن العظيم فلا يكذب ولا يفتري، مستحيل.

كيف يفجر؟ كيف يفسق؟ كيف يخرج عن طاعة الله؟ كيف يكيد للإسلام وأهله وهو يقرأ كتاب الله ويؤمن بما فيه؟

إنما يفتري ويختلق الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله!

وهذه دعوة إلى الإيمان بالقرآن العظيم، ومع الأسف فإننا آمنا بالقرآن ولكننا لا نتدارسه ولا نجتمع عليه ولا نأخذ هدايتنا منه، بل حولناه على الموتى نقرأه.

إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النحل:105] بالصدق وأمثاله هم الكاذبون، بالدعوة إلى الإيمان، بالقرآن والعمل بما فيه بعد قراءته وتدبره، والهداية مما فيه من أنواع الهداية.




استمع المزيد من الشيخ ابو بكر الجزائري - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة النحل (25) 4589 استماع
تفسير سورة النحل (4) 4008 استماع
تفسير سورة إبراهيم (9) 3687 استماع
تفسير سورة الحجر (12) 3609 استماع
تفسير سورة النحل (13) 3542 استماع
تفسير سورة النحل (3) 3503 استماع
تفسير سورة إبراهيم (12) 3462 استماع
تفسير سورة النحل (16) 3360 استماع
تفسير سورة النحل (1) 3227 استماع
تفسير سورة الحجر (6) 3158 استماع