تفسير سورة الأنبياء (4)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهانكم أن السور المكية مهمتها أنها توجد العقيدة السليمة الصحيحة، وتصحح العقيدة إذا كانت فاسدة غير صالحة، وأعظم ما تعالجه السور المكية تحقيق معنى لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن البعث الآخر حق. ولنستمع إلى هذه الآيات التي أنزلها الله على رسوله؛ ليقرر فيها التوحيد.

قال تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ [الأنبياء:21]، أي: هل هذه الآلهة التي اتخذها هؤلاء المشركون من الذهب والفضة والأصنام والأحجار يحيون الموتى؟ والجواب: والله لا. فالاستفهام للإنكار والجحود. فهم قد اتخذوا آلهة يعبدونهم من الأرض من أنواع الذهب ومن العاج ومن الحديد، فهل هؤلاء الآلة هُمْ يُنشِرُونَ [الأنبياء:21]، أي: يحيون الأموات؟ والجواب: لا. إذاً: فلا يبعدونهم، ويتركون الحي القيوم الذي يحيي ويميت، والذي هو خالق كل شيء، وبيده كل شيء، ولا تذهب عقولكم.

وقوله تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ [الأنبياء:21]؟ ينشرون بمعنى: يحيون الموتى، ويحيون النباتات، ويحيون الأشجار، ويحيون الحيوانات. ولا يحيي ولا يميت إلا الله.

قال تعالى بعد أن كذب دعواهم وأبطلها واستأصلها وأنكر عليهم هذا الشرك: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22]، أي: لو كان في السماوات والأرضين آلهة غير الله لفسدت السماوات والأرض والله العظيم؛ إذ لو كان في السماء إلهان فإنهما سيتحاربان؛ حتى يغلب أحدهما الآخر يدمره، وكذلك لو كان في الأرض آلهة أو إلهان مع الله لتحاربا وتقاتلا؛ حتى يفسد أحدهما الآخر. إذاً: فكون السماوات مستقرة على ما هي والأرضين كذلك على مدى الحياة والدهر كله فإن هذا يدل عقلاً أن الإله واحد، والحاكم واحد بالعقل والمنطق، ولو تعدد الآلهة لتعددت الفتن، وتحاربت الآلهة، وانتهت الحياة كلها ودمروها، كما قال تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22]، أي: السماوات والأرضين. فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [الأنبياء:22]. فنزه سبحانه وتعالى نفسه عن الوصف الكاذب بأن له ولداً، وله زوجه، وله شريك، وله آلهة معه، وقد نزه الله نفسه بنفسه فقال: فَسُبْحَانَ اللَّهِ [الأنبياء:22]! ولم يقل: فسبحاني! وإنما قال: فَسُبْحَانَ اللَّهِ [الأنبياء:22]! وهذا هو الاسم الأعظم من أسماء الله. رَبِّ الْعَرْشِ [الأنبياء:22] ومالكه وخالقه. فتنزه وتعالى عما يصفونه بالأباطيل والترهات والأكاذيب، كما يقول هذا: له زوجة، وهذا له ولد، وهذا له شريك، وهذا له كذا، كما تعرفون.

قال تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]. فالله لا يسأل لم فعل كذا، ولا يوجد أحد يسأله لم خلق فلاناً، أو لم أحيا فلاناً، أو لم أمات فلاناً، أو لم رفع السماء، أو لم وضع الأرض، فلا يوجد قط من يسأل الله عما يفعل. وغير الله من الملائكة والإنس والجن والمخلوقات كلها تسأل لم فعلت ولم لم تفعل. وماداموا يسألون فليسوا آلهة، فلا يعبدون ويؤلهون، ويفزع إليهم الناس، وتحوط بهم القلوب وتتعلق بهم. فاستأصل هذا الشرك نهائياً.

قال تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً [الأنبياء:24]، أي: بل اتخذوا من دونه آلهة، وهي: اللات والعزى ومناة وعيسى وفلان وفلان، فقد اتخذوا ملايين الآلهة المدعاة المكذوبة. قُلْ [الأنبياء:24] لهم يا رسولنا!: هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ [الأنبياء:24] وحججكم القطعية على صحة ما تزعمون. ولا أحد يستطيع أن يأتي ببرهان على أن عبداً من عباد الله يعبد، وأنه يخلق ويرزق، ويحيي ويميت، ويعطي ويمنع، ويضر وينفع، سواء كان صنماً أو كان إنسان أو كان ملكاً. فقل لهم يا رسول الله!: هاتوا براهينكم وحججكم على صحة عبادة اللات أو العزى أو مناة، أو عيسى أو مريم . قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ [الأنبياء:24].

ثم قال تعالى: قل لهم هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي [الأنبياء:24]. فهاهو القرآن الكريم ذكر من معي من أمة البشر يذكرونني به، ويعرفون ما أحللت وما حرمت، وما أوجبت وما منعت، وما خلقت وما أوجدت. هذا ذكر القرآن، وذكر من قبلي التوراة والإنجيل، فليس فيها جواز عبادة غير الله، ووالله ما يوجد فيها هذا، وليس فيها وصف الله بالعجز والنقصان، فهذا والله ما كان. فهذا هو البرهان، وهو قال الله وقال رسوله، فهذا كتاب الله بين أيديكم، فاقرءوه واسمعوه يقرأ عليكم؛ حتى تعرفوا الحقيقة، وهي: أنه لا إله إلا الله. وكذلك هذه الكتب التي سبقته لا يوجد فيها وصف الله بالزوجة والولد، ولا يوجد وصف الله بالشريك والمثيل، فهذا والله ما كان. فأنتم ليس لكم علم ولا معرفة، بل أنتم جهلة، فاقبلوا العلم وخذوه، واعترفوا بجهلكم، ولهذا قال تعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الأنبياء:24]. وهذا من باب الآداب، وإلا فكلهم لا يعلمون، ومن باب الاستيفاء، فقد يوجد فرد أو أفراد، فقال: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:24]. فأكثرهم لا يعرفون الحق أبداً، فلهذا هم معرضون عن دعوة الله، فأعطوها أدبارهم، وأعرضوا عنها، وأقبلوا على الباطل والشر والفساد. وسبحان الله العظيم!

إذاً: فقوله تعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ [الأنبياء:24]، أي: حججكم وبراهينكم على صحة ما تزعمون وتدعون من أن لله آلهة تعبدونها معه. هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ [الأنبياء:24]. فالقرآن بين أيديكم فيه أخبار الأولين والآخرين، وفيه كل ما تتطلبه الحياة فيها من أمر ونهي، وفيه حياة كاملة وسعادة تامة، وكذلك الكتب التي قبلي التوراة والإنجيل ليس فيها الآلهة المزعومة، وليس فيها أحد يعبد مع الله. والحجج لا تأتي إلا من الكتاب والوحي. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:24] لذلك، لو كان يعرفون لم يعرضوا.

وهنا أكرر القول: لابد من العلم، ولو نرحل ونسافر إليه، ولو نهجر بلدنا وننتقل إلى بلد العلم، ونحن الآن لا نهاجر، ولا ننتقل من بلد إلى بلد، بل كل قرية فيها علم، ومع الأسف فأهل البلاد معرضون، ولا يجتمعون عليه، ولا يتعلمون، بل إنهم مشغولون بدنياهم، ومشغولون بغفلتهم، فهي التي شغلتهم. ولولا العلم لما استطاع الرجل أن يكون ربانياً، صادق الحديث، طيب الحياة، طاهر النفس، فهذا لا يتم هذا بدون علم، كما قال تعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ [الأنبياء:24] فلهذا فَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:24]. لا يستجيبون لدعوة رسول الله، ولا يقبلونها.

قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ [الأنبياء:25] يا رسولنا! مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]. ووالله ما أرسل الله رسولاً قبل نبينا إلا وأوحى إليه أنه لا إله إلا الله، فليعبد الله، ولا يعبد سواه، كقوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، أي: ابتعدوا عن الطاغوت، وهو عبادة الشيطان والأصنام. وقال في هذا الخبر: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].

وهناك شيء آخر: فعبادتنا لله ليس الله في حاجة إليها، فقد كان ولم يكن شيء، ولكن هذه العبادة من شأنها أن تزكي أنفسنا

وتكملنا وتسعدنا، فنحن الذين نستفيد منها، وقد خلقنا الله تعالى لهذه العبادة، وخلق الجنة لأهلها، وخلق النار للكافرين البعيدين عنها؛ حتى لا تتعطل أحكام الله عز وجل.

والله عز وجل يعبد الله يرحمكم الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. وإذا كنت لا تعلم ما هي هذه الأوامر والنواهي فسأل أهل العلم حتى تعلم، ولا تقل: لست في حاجة إلى هذا، فهذا هو الإعراض والعياذ بالله تعالى.

وسر حياتنا وعلة وجودنا: أن نعبد الله، فعلينا أن نتعلم كيف نعبد الله. والعبادة هي: الطاعة في ذل وخشوع، فقم بالواجب وانهض به وابتعد عن الحرام وتجنبه وكلك خشوع وخضوع لله عز وجل، وليس في كبرياء وعناد.

قال تعالى أيضاً: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا [الأنبياء:26]. قد قلنا: إن قبائل من العرب قالوا: الملائكة بنات الله، وأن الله تعالى أصهر إلى الجن فأنجب الملائكة. وقرروا هذه، ولقد عاش الناس على هذا قروناً. ونحن نعجب كيف أن الله تزوج من الجن جنية وأنجبت له الملائكة؟! وكيف شاعت هذه الفكرة الباطلة الخاطئة واستمرت إلى أن ينزل القرآن.

ولا عجب الآن فالمسيحيون والصليبيون الذين ملئوا الأرض وامتلأت بهم يعتقدون أن عيسى ابن الله، وأن أمه مريم زوجة لله، وهذا مع علومهم ومعارفهم. فلهذا لا تعجب أن تقول: أنه وجد من العرب من يزعم أن الملائكة بناتاً، وينسب لله ذلك، كما قال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء:26]. خلقهم ليعبدوه، فهم عابدون له، فقد أكرمهم بعبادته وطاعته، وحبه والإيمان به. فهؤلاء الملائكة ليسوا آلهة تبعد مع الله، بل هم بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء:26].

قال تعالى: لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ [الأنبياء:27] أبداً. فلا أحد منهم يسبق الله ويقول قبل أن يقول الله، لا جبريل ولا ميكائيل، ولا إسرافيل ولا عزرائيل، ولا أي ملك، فلا يستطيع أحد أن يقول قبل أن يقول الله. وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27]. بل هم يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]. سواء المكلف بالأمطار أو بالرياح، أو بالموت أو بالحياة، وكل أحد منهم مكلف بعمل، وهو مع ذلك لا يفتر يسبح الله عز وجل. وهم لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27] إذا أمرهم، ولا يخالفون أمره أبداً، بل يعملون به.

قال تعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [الأنبياء:28]. فالماضي والحاضر كله معلوم، فهو خالق كل شيء، و يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ [الأنبياء:28]، أي: المستقبل، وَمَا خَلْفَهُمْ [الأنبياء:28]، أي: من ورائهم في الدنيا والآخرة.

ومعنى هذا: أن الله أحاط علمه بكل شيء، فلا يعبدون هؤلاء وينسبونهم إليه، والله غني عنهم، ويقولون: هؤلاء بنات الله وأولاد الله، بل إنه يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ [الأنبياء:28]، أي: الملائكة إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى . وهذه القضية من عقائد المسلمين، وهي أن هناك شفاعة يوم القيامة، فالشفاعة يوم القيامة عقيدة من عقائدنا. والشفاعة في الدنيا محمودة؛ ففي الحديث: ( اشفعوا تؤجروا ). فلو توسطت لشخص في قضية أو حاجة من حاجاته تريد وجه الله فهذا خير، وقد أمرنا به، ففي الحديث: ( اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على يد رسوله ما يشاء ). أما الشفاعة يوم القيامة فمن نسبها إلى الأوثان والأصنام فهذا ضلال في ضلال، ومن نسبها إلى الأنبياء والرسل والملائكة فيجب أن يعلم أنه لا يوجد من الملائكة من يقول: رب! شفعني في فلان، أو يقول: رب! أخرج فلاناً من النار، حتى يكون الله عز وجل قد رضي بذلك، كما قال تعالى في سورة النجم: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم:26]. فالشفاعة يوم القيامة تكون بشرطين: أولاً: أن يأذن الله للشافع، فيقوله له: يا عبد الله! اشفع في أمك، وثانياً: أن يكون المشفوع له ممن رضيهم الله في جواره في الجنة دار السلام، كما قال تعالى هنا: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28].

فالذين يعولون على شفاعة الملائكة والأنبياء والأصنام والأحجار هم واهمون غالطون تماماً، ولن يتم لهم ذلك أبداً.

والشفاعة العظمى صاحبها رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر أنه يأتي تحت العرش، ويخر ساجداً، ويسبح الله ويمجده ويثني عليه بتسابيح ما كان يعرفها، وإنما يلهمها إلهاماً، ولا يزال يسبح الله ويحمده ويمجده ويثني عليه حتى يقول له الله تعالى: ( محمد! ارفع رأسك، وسأل تعط، واشفع تشفع )، أي: يا محمد! ارفع رأسك من السجود، واسأل تعط، واشفع تشفع، فيشفعه الله في الحكم وفصل القضاء يوم القيامة، ويشفعه فيمن شاء من المؤمنين الموحدين.

والشاهد عندنا: أنه قد يشفع الله أباك؛ لأنه من أهل القرآن العاملين به، فيأذن له أن يشفع فيمن أحب أن يشفع بإذن الله عز وجل.

والشاهد عندنا في الآية الكريمة: أن الذين عبدوا الملائكة قالوا: إنهم أبناء الله وبناته، فقال تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28]. فالشفاعة لله. وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:28] خائفون، أي: الملائكة.

وهناك من البشر من يرفعون رءوسهم ويسبون الله والله، ويسخرون من الإسلام ويستهزئون به؛ لأن قلوبهم ميتة. وهذا بسبب الجهل. والملائكة مشفقون خائفون من ربهم، وأنتم تعرفون قوة الملائكة، فجبريل عليه السلام ملك واحد له ستمائة جناح، وقد تجلى ظهر يوماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة في جياد، فسد الأفق السماوي كله بأجنحته، وناداه: يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله، مع هذا لا يوجد من لا يخاف الله منهم، وجل الفسقة والفجرة والكفار لا يخشون الله عز وجل؛ لأنهم ما عرفوا، وجبريل عرف، وهم لم يعرفوا.

فهيا نعود إلى العلم، فإما أن نعرف وإما والله ما نستطيع، والذي لا يفرق بين الحلال والحرام فلن يأكل الحلال، فلابد من طلب العلم.

قال تعالى: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الأنبياء:29]. ولم يقال هذا إلا إبليس، فهو الذي قال: أنا إله دون الله، وكل من أله غير الله فكأنما قال: هذا إله مع الله.

وقوله تعالى: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ [الأنبياء:29]، أي: من الملائكة، فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الأنبياء:29]. والذي قال: إِنِّي إِلَهٌ [الأنبياء:29] هو من كان مع الملائكة، وهو الشيطان إبليس فقط. فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء:29]. المشركين الفاسقين الفاجرين، الذين ظلموا أنفسهم وظلموا ربهم، فعبدوا غيره، وظلموا أنفسهم ولطخوها وخبثوها بما صبوا عليها من أوضار الذنوب والآثام، كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء:29].

فافهموا معاشر المستمعين! كلام الله، ووالله إنه لا أسهل منه ولا أيسر، ولكن فقط علينا أن نتدبر ونتفكر.

اسمعوا الآيات وتأملوها، قال تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ * أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ * وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء:21-26]؛ لأنهم قالوا: الملائكة بنات الله. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27]. وليسوا آلهة معه. يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ [الأنبياء:28-29] كما قالها إبليس فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء:29]. والظالمون هم: كل مشرك ظالم لله عز وجل؛ لأن العبادة حق الله، مقابل أنه خلقه ورزقه، فصرفها لغيره، فليس هناك أظلم هذا، ووالله إنه لظالم: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. سواء كان ظلماً للنفس، بأن يصب عليها أطنان الذنوب والآثام، فتتلطخ وتنتن وتعفن، وتصبح من أعداء الله وليس من أوليائه، أو كان ظلماً لعباد الله بالاعتداء على أعراضهم وأموالهم وأبدانهم، أو على قلوبهم يفسدها، أو على أرواحهم يدسيها.

هذه أنواع الظلم، والله نسأل أن لا نكون من الظالمين.