فهرس الكتاب
الصفحة 192 من 337

3 -مناظرات إبراهيم الخليل لأصحاب الهياكل وأصحاب الأشخاص وكسره مذاهبهما:

وقد ناظر الخليل عليه السلام هؤلاء الفريقين:

فابتدأ بكسر مذاهب أصحاب الأشخاص وذلك قوله تعالى: ( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ) وتلك الحجة أن كسرهم قولا بقوله: ( أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون )

ولما كان أبوه آزر هو أعلم القوم بعمل الأشخاص والأصنام ورعاية الإضافات النجومية فيها حق الرعاية ولهذا كانوا يشترون منه الأصنام لا من غيره كان أكثر الحجج معه وأقوى الإلزامات عليه إذ قال عليه السلام لأبيه آزر: ( أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين ) وقال: ( يا أبت لم تعبد ما لا يسمع( 2 \ 51 ) ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ) لأنك جهدت كل الجهد واستعملت كل العلم حتى عملت أصناما في مقابلة الأجرام السماوية فما بلغت قوتك العلمية والعملية إلى أن تحدث فيها سمعا وبصرا وأن تغني عنك وتضر وتنفع وأنت بفطرتك وخلقتك أشرف درجة منها لأنك خلقت سميعا بصيرا نافعا ضارا والآثار السماوية فيك أظهر منها في هذا المتخذ تكلفا والمعمول تصنعا فيا لها من حيرة إذ صار المصنوع بيديك معبودا لك والصانع أشرف من المصنوع ( يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن )

ثم دعاه إلى الحنيفية الحقة قال: ( يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا ) ( قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم )

فلم تقبل حجته القولية فعدل عليه السلام عن القول إلى الكسر للأصنام بالفعل ( فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم ) ( فقالوا من فعل هذا بآلهتنا قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ) فأفحمهم بالفعل حيث أحال الفعل على كبيرهم كما أفحمهم حيث أحال الفعل منهم وكل ذلك على طريق الإلزام عليهم وإلا فما كان الخليل كاذبا قط

ثم عدل إلى كسر مذاهب أصحاب الهياكل وكما أراه الله تعالى الحجة على قومه قال: ( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين ) فأطلعه على ملكوت الكونين والعالمين تشريفا له على الروحانيات وهياكلها وترجيحا لمذهب الحنفاء على مذهب الصابئة وتقريرا أن الكمال في الرجال فأقبل على إبطال مذهب أصحاب الهياكل ( فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي ) على ( 2 \ 52 ) ميزان إلزامه على أصحاب الأصنام ( بل فعله كبيرهم هذا ) وإلا فما كان الخليل عليه السلام كاذبا في هذا القول ولا مشركا في تلك الإشارة

ثم استدل بالأفول: الزوال والتغير والانتقال على أنه لا يصلح أن يكون ربا إلها فإن الإله القديم لا يتغير وإذا تغير احتاج إلى مغير هذا لو اعتقدتموه ربا قديما وإلها أزليا ولو اعتقدتموه واسطة وقبلة وشفيعا ووسيلة فإن الأفول - الزوال - يخرجه أيضا عن حد الكمال وعن هذا ما استدل عليهم بالطلوع وإن كان الطلوع أقرب إلى الحدوث من الأفول فإنهم إنما انتقلوا إلى عمل الأشخاص لما عراهم من التحير بالأفول فأتاهم الخليل عليه السلام من حيث تحيرهم فاستدل عليهم بما اعترفوا بصحته وذلك أبلغ في الاحتجاج

ثم لما ( رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ) فيا عجبا ممن لا يعرف ربا كيف يقول: ( لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ) ؟ رؤية الهداية من الرب تعالى غاية التوحيد ونهاية المعرفة والواصل إلى الغاية والنهاية كيف يكون في مدارج البداية ؟

دع هذا كله خلف قاف وارجع بنا إلى ما هو شاف كاف فإن الموافقة في العبارة على طريق الإلزام على الخصم من أبلغ الحجج وأوضح المناهج وعن هذا قال: ( فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر ) لاعتقاد القوم أن الشمس ملك الفلك هو رب الأرباب الذي يقتبسون منه الأنوار ويقبلون منه الآثار ( فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين )

قرر مذهب الحنفاء وأبطل مذاهب الصابئة وبين أن الفطرة هي الحنيفية وأن الطهارة فيها وأن الشهادة بالتوحيد مقصورة عليها وأن النجاة والخلاص متعلقة بها ( 2 \ 53 ) وأن الشرائع والأحكام مشارع ومناهج إليها وأن الأنبياء والرسل مبعوثون لتقريرها وتقديرها وأن الفاتحة والخاتمة والمبدأ والكمال منوطة بتحصيلها وتحريرها ( ذلك الدين القيم ) والصراط المستقيم والمنهج الواضح والمسلك اللائح قال الله تعالى لنبيه المصطفى صلى الله عليه و سلم: ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون )

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام