(أُوْلئِكَ الذِينَ يَعْلمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ) هؤلاء هم المنافقون، يخادعون رسول الله ولا يعلمون أن الله يعلم ما في قلوبهم وسيحاسبهم على أفعالهم، فإن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فقال الله عز وجل لنبيه في شأن المنافقين وخذلانهم للمؤمنين:
(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلا بَليغًا، أمر الله رسوله صلي الله عليه وسلم فيهم بثلاثة أشياء: أولها الإعراض عنهم إهانة لهم وتحقيرا لشأنهم وتصغيرا لأمرهم، ثانيها: تخويفهم عقوبة الله وشدة بأسه ونقمته، إن أصروا على التحاكم إلي غير رسوله صلي الله عليه وسلم وما أنزل عليه، وثالثها قوله وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا أي يبلغ تأثيره إلي قلوبهم ليس قولا لينا لا يتأثرون به، ويقول تعالى:
(وَمَا أَرْسَلنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا ليُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لهُمْ الرَّسُولُ لوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) يرشد الله تعالى المنافقين أنهم لو كانوا صادقين في دعواهم الإيمان ووقع منهم الخطأ والعصيان، لأتوا رسول الله صلي الله عليه وسلم ليستغفر لهم عند ربهم، ويتوبوا من ذنبهم، فإنهم إذا فعلوا ذلك لو جدوا الله توابا رحيما، ثم قال تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلمُوا تَسْليمًا) .
روي البخاري أَنَّ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ خَاصَمَ الزبيرَ بن العوام رضي الله عنه 2187 فِي شِرَاجِ الحَرَّةِ التِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْل، اختلفا على قناة الماء التي تروي أرضهما، فَقَال الأَنصارى سَرِّحِ المَاءَ يَمُرُّ فَأبي عَليْهِ ? وكانت أرض الزبير قبل أرضه والماء يمر أولا على نخله - فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ للزُّبَيْرِ اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِل المَاءَ إلي جَارِكَ، فَغَضِبَ الأَنصارى وَقَال أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ - أي حكمت لصالحه من أجل قرابته - فَتَلوَّنَ وَجْهُ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ وغضب، فقَال اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ المَاءَ حتى يَرْجِعَ إلي الجَدْرِ ? ويعني اسق حتى يغطي الماء أصول نخلك ويبلغ إلي مقدار الكَعْبَيْنِ ولا عليك منه - فاسْتَوْعَي للزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الحُكْمِ، فَنزل قول الله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلمُوا تَسْليمًا) .
فالتحاكم إلي الطاغوت مناف للايمان وزيادة في الكفر والفسوق والعصيان، فلا يصح الإيمان بالله الا بالكفر بما يعبد من دون الله، والبراءة من الكافرين والولاية للمؤمنين، فلا تجتمع البراءة والولاية أبدا، فالولاية للمؤمنين عزة ونصرة، والولاية للكافرين ذلة وخسة.
وقد كان المشركون في الجاهلبية يعلمون أن شهادة ألا إله إلا الله، تستلزم الكفر بما يعبد من دون الله، وأن الإقرار بها يحتم كامل المولاه لله ولرسوله، ولذلك لما طلب رسول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلم َمن عمه أن ينطق بكلمة التوحيد وهو يحتضر، لم يطاوعه قلبه على أن ينطق بلا إله إلا الله لعلمه بلوازمها، فانتصر لدين الآباء المشركين وأبي أن يؤمن بخاتم الأنبياء والمرسلين، ولم يشهد ألا إله إلا الله، فهم كانوا يعلمون شروطها ولوازمها 1360 جاء في الصحيح من حديث سَعِيد بْن المُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ لمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالبٍ الوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْل بْنَ هِشَامٍ وَعَبْد َاللهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ المُغِيرَةِ، قَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ لأَبِي طَالب: ٍ يَا عَمِّ قُل لا إِلهَ إِلا اللهُ كَلمَةً أَشْهَدُ لكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ، فَقَال أَبُو جَهْلٍ وَعَبْد ُاللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلةِ عَبْد ِالمُطَّلبِ، فَلمْ يَزَل