فهرس الكتاب
الصفحة 79 من 85

(لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ) (آل عمران: من الآية118) ، أي من غيركم من أهل الأديان، وبطانة الرجل هم خاصة أهله الذين يطلعون على داخل أمره، قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إن ههنا غلاما من أهل الحيرة من النصارى حافظ كاتب، فلو اتخذته كاتبا فقال: قد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين، يقول ابن كثير: وهذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشي أن يفشوها إلي الأعداء من أهل الحرب، فما بالنا في هذا العصر ونحن نطلع الغربيين والشرقيين على أسرارنا ونفرح بمشاركتهم في أمورنا، ونسارع في مرضاتهم ونقلد سلوكياته، ونسير خلفهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، فيا أهل لا إله إلا الله أين الولاء لله والبراء من أعداء الله، أين الكفر بما يعبد من دون الله؟ إن الله تعالى يقول:

(أَلمْ تَرَ إلي الذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِل إِليْكَ وَمَا أُنزِل مِنْ قَبْلكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلي الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلهُمْ ضَلالا بَعِيدًا) ، فأنكر الله عز وجل على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله في القرآن، وعلى الأنبياء السايقين، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات وفض المنازعات إلي غير منهج الله الذي نزل في كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم.

وقد ذكر في سبب نزول هذه الآية أن رجلا من الأنصار ورجلا من اليهود تخاصما فيما بينهما، فقال اليهودي: بيني وبينك محمد وما يحكم به، وقال الأنصارى: بيني وبينك كعب بن الأشرف وما يحكم به، وقيل أنها نزلت في جماعة من المنافقين ممن أظهروا الإسلام والعبودية، وأرادوا أن يتحاكموا إلي حكام الجاهلية، والآية عامة وذامة لكل من تحاكم إلي غير الشريعة الإسلامية، وعدل عن الكتاب والسنة إلي ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هنا، ولهذا قال تعالى: (أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلي الطَّاغُوتِ) (وَإِذَا قِيل لهُمْ تَعَالوْا إلي مَا أَنزَل اللهُ وَإلي الرَّسُول رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) ، يعرضون عنك إعراض المستكبرين، ويفعلون أفعال المشركين، وهؤلاء بخلاف المؤمنين الذين قال الله فيهم: (إِنَّمَا كَانَ قَوْل المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إلي اللهِ وَرَسُولهِ ليَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلئِكَ هُمْ المُفْلحُونَ) .

وحال هؤلاء المنافقين يشبه حال الكثيرين ممن يدعون العلم والإيمان في هذه الأزمان، إذا قيل لهم تعالوا إلي ما أنزل الله وإلي الرسول رأيتهم يصدون وهم مستكبرون، ويعتذرون بأنهم لا يعرفون ولا يعقلون، وهؤلاء هم المعطلون، الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، يقولون بزعمهم إنما قصدنا التوفيق بين القواطع العقلية والفلسفة والكلامية، وبين الأدلة النقلية التي وردت في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ثم يجعلون الفلسفة الكلامية هي الأساس في الأصول الاعتقادية التي يحكمون بها على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، فما وافقها قبلوه وما خالفها ردوه وعطلوه وطلبوا له وجوه التأويلات البعيدة والتكلفات الشديدة التي تلوي أعناق النصوص.

ثم قال الله تعالى في ذم المنافقين: (فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا) ، إذا ساقتهم المقادير إليك في مصائب أصابتهم بسبب ذنوبهم وحمقهم، واحتاجوا إليك جاءوك يعتذرون إليك ويحلفون بالله لديك، ما أردنا بذهابنا إلي غيرك، وتحاكمنا إلي أعدائك إلا الإحسان والتوفيق، والمداراة والمصانعة، لا اعتقادا منا في صحة حكمهم، وصواب رأيهم، فقال تعالى في شأنهم:

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام