فهرس الكتاب
الصفحة 60 من 85

يُشَمِّتَهُ وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ فَليَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ فَإِذَا قَال هَا ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ) وسبب كراهة التثاؤب، أن التثاؤب يكون من الشبع وامتلاء البطون، فينشأ عنه الكسل والفتور والخمول، ويؤدي في النهاية إلي ثقل الأبدان، فإذا صلي الإنسان ضحك على صلاته الشيطان، ومن ثم كان في دفعه ثواب وليس في فعله عذاب ولا عقاب، ومن أمثلة المكروه في الأحكام، صبغ الشعر باللون الأسود، كما ورد في صحيح مسلم أن كما قال النيي صلي الله عليه وسلم عن الشيب:

(غَيِّرُوا هَذَا بِشَيْءٍ وَاجْتَنِبُوا السَّوَاد َ) ، فالشيب أو بياض شعر الرأس واللحية وقار، والمعهود في السنة أن يصبغ بلون فيه حمرة أو اصفرار، ومثال المكروه أيضا مباشرة الرجل لزوجته وهي حائض، بدون ثوب أو حفائض، وذلك حتى لا تجد النفس ذريعة إلي جماعها والوقاع بها، فيقع في الحرام، والأصل في الأحكام أنه يحل له منها كل شيئ إلا الجماع، وأما فيما دون الفرج فهو مباح له في وقت الحيض، ولكن الرسول صلي الله عليه وسلم أدب المؤمنين، وسد عليهم أبواب العصيان، وأغلق لهم أسباب الافتتان، فعن ميمونة أن رسول الله صلي الله عليه وسلم كان يباشر المرأة من نسائه وهي حائض إذا كان عليها إزار إلي أنصاف الفخذين أو الركبتين تحتجز به).

5 -أما الخامس من أحكام العبودية فهو المباح، والمباح هو ما خيرنا الشرع في فعله أو تركه، فلا يثاب المرء على فعله ولا يعاقب على تركه، ويسمي المباح أيضا بالحلال أو الجائز، كقوله تعالى: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) (المائدة: من الآية1) ، فحرم الله الاصطياد على المسلمين أثناء حجهم أو عمرتهم، لكن بعد أن يتحللوا من إحرامهم، أباح لهم الاصطياد، يصطادوا أو لا يصطادوا فالأمر مباح لهم على وجه التخيير وحرية التدبير، فقال تعالى: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) (المائدة: من الآية2) وكذلك الأمر في قوله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة:10) ، فالأمر في قوله تعالى فانتشروا للتخيير وإباحة البيع، لأنه كان محرما وقت صلاة الجمعة، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون َ) (الجمعة:9) ، وذلك لأنهم قاموا إلي التجارة والبيع أثناء الخطبة والنبي صلي الله عليه وسلم على المنبر، فحرم الله عليهم البيع والشراء تحريما مؤقتا أثناء الصلاة، ثم أباحه لهم إذا قضيت الصلاة وأن ينتشروا في الأرض ويبتغوا من فضل الله.

فهذه أحكام العبودية التي اشتملت على الأوامر التكليفية، التي تتطلب من العباد الامتثال والانقياد، والناس فيها على نوعين، وتنفيذهم لها على مرتبتين، مرتبة أصحاب اليمين، ومرتبة السابقين المقربين، فأما مرتبة أصحاب اليمين، فأداء الواجبات وترك المحرمات، مع ارتكاب بعض المكروهات وترك المستحبات، والتوسع في بعض المباحات، وأما مرتبة المقربين، فهي القيام بالواجبات والمندوبات وترك المحرمات والمكروهات زاهدين فيما لا ينفعهم يوم الممات، متورعين عن بعض المباحات، خوفا من ربهم حتى صارت المباحات في حقهم طاعاتٍ وقربات بصدق النية وكمال الانقياد في العبادات، فهذا انقياد الموحدين، السابقين المقربين، كان الشخص منهم إذا رفع صوته في حضرة رسول الله صلي الله عليه وسلم أحس كأن مصيبة حلت بقلبه، وكأن النار أحرقته بذنبه، روي الإمام مسلم 119 عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَال: (لمَّا نَزَل قول الله تعالى:

? يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لهُ بِالقَوْل كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ? (الحجرات/2) جَلسَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فِي بَيْتِهِ ? وكان صوته مرتفعا في حضرة النبي صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ - جَلسَ وَقَال: أَنَا مِنْ أَهْل النَّارِ وَاحْتَبَسَ عَنِ النَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَسَأَل النَّبِيُّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فَقَال؟ يَا أَبَا عَمْرٍو مَا شَانُ ثَابِتٍ اشْتَكَي؟

قَال سَعْدٌ: إِنَّهُ لجَارِي يا رسول الله، وَمَا عَلمْتُ لهُ بِشَكْوَى قَال: فَأَتَاهُ سَعْدٌ فَذَكَرَ لهُ قَوْل رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَقَال ثَابِتٌ: أُنْزِلتْ هَذِهِ الآيَةُ وَلقَدْ عَلمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْفَعِكُمْ صَوْتًا على رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَأَنَا مِنْ أَهْل النَّارِ، فَذَكَرَ ذَلكَ سَعْدٌ للنَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ: بَل هُوَ مِنْ أَهْل الجَنَّةِ، فَكُنَّا نَرَاهُ يَمْشِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْل الجَنَّةِ).

وإذا كان الشخص عاملا في مصنع وينقاد لصاحبه أتم انقياد حرصا على وظيفته، وطمعا في قربه ومحبته، أليس من الأولي أن ينقاد لربه وخالقه وأن يسلم أمره لمعبوده ومالكه، انظر إلي مدي انقياد المخلوق للمخلوق وطاعة الأمراء للملوك، لما بلغ أميرُ المؤمنين عبدُ الملك بن مروان اضطرابُ أهل العراق وكثرة التمرد والنفاق، جمع أهل بيته وأولي النجدة من جنده، وقال أيها الناس إن العراق تكدر ماؤها، وكثر غوغاؤها، وأملولح عذبها، وعظم خطبها وظهر ضرامها، وعسر إخماد نيرانها، فهل من ممهد لهم بسيف قاطع، وذهن جامع، وقلبٍ ذكي وأنفٍ حمي فيخمد نيرانها ويردع غيلانَها وينصِف مظلومها ويداوي الجرح حتى يندمل، فتصفو البلادُ ويأمن العباد، فسكت القوم ولم يتكلم أحد، فقام الحجاج وقال يا أمير المؤمنين: أنا للعراق قال من أنت لله أبوك، قال أنا الليث الضمضام والهزبر الهشام أنا الحجاج بن يوسف الثقفي قال ومن أين قال من ثقيف كهوف الضيوف ومستعملوا السيوف قال أجلس لا أم لك فلست لها ثم قال أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان: مالي أري الرؤوس مطرقة والوجوه ممزقة، فلم يجبه أحد فقام إليه الحجاج وقال أنا مجندل الفساق ومطفيء نار النفاق.

قال ومن أنت قال أنا قاصم الظلمة ومعدن الحكمة الحجاج بن يوسف، معدن العفو والعقوبة وآفة الكفر والريبة قال إليك عني فلست لها، ثم قال من للعراق فسكت القوم وقام الحجاج وقال أنا للعراق فقال إذن أظنك صاحبها والظافر بغنائمها وإن لكل شيء يا ابن يوسف آيةً وعلامة، فما آيتك وما علامتك؟

انظر إلي مدي انقياد المخلوق للمخلوق، وانقياد الحجاج للملوك، قال الحجاج آيتي وعلامتي: العقوبة والعفو والاقتدار والبسط والازورار والادناء والابعاد والجفاء والبر والتأهب والحزم وخوض غمرات الحروب بجنان غير هيوب فمن جادلني قطعته ومن نازعني قصمته ومن خالفني نزعته ومن دنا مني أكرمته ومن طلب الأمان أعطيته ومن سارع إلي الطاعة بجلته فهذه آيتي وعلامتي وما عليك يا أمير المؤمنين إلا أن تبلوني في الانقياد، فان لم أكن للاعناق قطاعا وللأموال جماعا وللأرواح نزاعا فاستبدلني يا أمير المؤمنين، فان الناس كثير ومن يقوم بهذا الأمر عدد قليل قليل، فقال عبد الملك أنت لها فما الذي تحتاج إليه قال قليل من الجند والمال، فدعا عبد الملك صاحب جنده فقال هيىء له من الجند شهوته، وألزِمْهُم طاعتَه وحذِّرْهم مخالفته ثم دعا الخازن فأمره بمثل ذلك.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام