فهرس الكتاب
الصفحة 52 من 85

أراد رجل أن يختبر امرأته في حبها وحسن تصرفها، فنظر إليها وهي صاعدة على درجات السلم، فقال لها أنت طالق إن صعدت وطالق إن نزلت وطالق إن وقفت، فرمت نفسها على الأرض، فقال لها فداك أبي وأمي، والله إن مات الإمام مالك، احتاج إليك أهل المدينة في التعرف على أحكامهم.

(5) - ومن علامات المحبة التي تكشف مقدار الحب في القلب، سرور المحب بما يسر به محبوبه كائنا ما كان وإن كرهته نفس الإنسان، فيكون عنده بمنزلة الدواء، يحبه لما فيه من الشفاء، وهكذا المحب مع محبوبه يسره ما يرضيه على أي حال، وري الإمام مسلم 125 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه لمَّا نَزَلتْ على رَسُول اللهِ: {للهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ} ، اشْتَدَّ ذَلكَ على أَصْحَابِ رَسُول اللهِ -، فَأَتَوْا رَسُول اللهِ - ثُمَّ بَرَكُوا على الرُّكَبِ فَقَالُوا: أَيْ رَسُول اللهِ كُلفْنَا مِنَ الأَعْمَال مَا نُطِيقُ الصَّلاةَ وَالصِّيَامَ وَالجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ وَقَدْ أُنْزِلتْ عَليْكَ هَذِهِ الآيَةُ وَلا نُطِيقُهَا، قَال رَسُولُ اللهِ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَال أَهْلُ الكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلكُمْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا بَل قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِليْكَ المَصِيرُ، وكأن الرسول يقول لهم: افعلوا ذلك محبة لربكم وإن كان شاقا على نفوسكم، فقَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِليْكَ المَصِيرُ، فَأَنْزَل اللهُ فِي إِثْرِهَا: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِل إِليْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِليْكَ المَصِيرُ} فَلمَّا فَعَلُوا ذَلكَ نَسَخَهَا اللهُ تعالى فقال: {لا يُكَلفُ اللهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لهَا مَا كَسَبَتْ وَعَليْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَانَا} ، فهؤلاء أصحاب رسول الله - لما ابتلاهم الله بمراده كائنا ما كان، وإن كرهته نفس الإنسان، رفع الحرج عنهم وغفر ما كان منهم، أما من كان واقفا مع ما تشتهيه نفسه من الرخص في الأحكام، متتبعا لفتاوى أهل الكلام، فليست محبته لله محبة صادقة، بل هي محبة عليلة ناقصة.

(6) - ومن علامات المحبة كثرة ذكر المحبوب والاستمتاع بحديثه، فمن أحب شيئا أكثر من ذكره واطمئن إليه بقلبه، وشتان بين أن تذكر الله لأنك مطر إلي ذكره وحياتك قائمة على أمره، وبين من يكثر من ذكره رغبة في حبه وقربه، ولهذا أمر الله عباده بذكره على جميع الأحوال، وأمرهم بذكره حتى وهم عند القتال فقال: {يَا أَيُّها الذِينَ آمَنُوا إِذَا لقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لعَلكُمْ تُفْلحُونَ} (الأنفال/45) وأمرهم بذكره بعد الصلاة على كل حال فقال: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْل اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لعَلكُمْ تُفْلحُونَ} (الجمعة/10) وقال: {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا} (الأحزاب/42:41) ومدح سبحانه الذاكرين الله كثيرا والذاكرات فقال: {وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (الأحزاب/35) وذم الشعراء واستثني المؤمنين الذاكرين فقال: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الغَاوُونَ أَلمْ تَرَي أَنَّهُمْ فِي كُل وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ إِلا الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيرًا} (الشعراء/277) .

(7) _ ومن علامات الحبة الصادقة النظر إلي أفعال المحبوب فإن كانت نقصا سترها وإن كانت كمالا أذاعها ونشرها، ألا تري الوالد مع ولده، من محبته يرفع من شأنه ودرجته، ويهون من نقصه وعيبته، فما بالنا إذا كان ربنا ومحبوبنا، أفعاله كمال من كل وجه ولا نقص فيها بوجه من الوجوه، ألا يحتم ذلك علينا مدحَه والنظرَ في صنعه والمدوامةَ على شكره وذكره، ومن هنا وبدافع الحب الذي هيمن على القلب أراد إبراهيم عليه السلام مزيدا من القرب، برؤيته لفعل الله في إحياء موتاه فقال:

{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ المَوْتَى قَال أَوَلمْ تُؤْمِنْ قَال بَلي وَلكِنْ ليَطْمَئِنَّ قَلبِي قَال فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِليْكَ ثُمَّ اجْعَل على كُل جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَاتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة/260) .

قال المفسرون: أمره أن يأخذ غرابا وحمامة وديكا ويمامة، ثم قال له: أوثقهن واذبحهن وقطعهن، فقطعهن ونتف ريشهن ومزقهن وخلط بعضهن ببعض ثم جزأهن وجعل على كل جبل منهن جزءا، وأخذ رؤوسهن بيده، ثم أمره الله تعالى أن يدعوهن فدعاهن، فجعل ينظر إلي الريش يطير إلي الريش، والدم يجتمع على الدم والعظم يلتحم بالعظم، واللحم يلتصق باللحم، كل طائر أجزاؤه تلتئم وتنضم، حتى اكتمل البدن وتم، وقام كل طائر يسعى بين يديه بغير رأسه، ويرغب في التحامها بجسمه، إذا قدم له غير رأسه يأباه، فسبحان من خلقها وسواها، كل ذلك وإبراهيم عليه السلام ينظر إلي فعل الله وقدرته، ويتعجب من حكمته وقوته، فآيات الله في خلقه تدعوا المحبين إلي التفكر في الآثار، والنظر والاعتبار: {إِنَّ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الليْل وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولي الأَلبَابِ الذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران/191) .

(8) _ ومن العلامات الدالة على صدق المحبة في القلب أن ينام المحب على ذكر محبوبه، يذكره بلسانه عند نيامه وقيامه، ولذلك كان رسول الله - ينام وآخر كلامه ذكر الله، ويقوم وأول كلامه ذكر الله، وروي البخاري 6324 عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه أنه قَال: (كَانَ النَّبِيُّ - إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ قَال: بِاسْمِكَ اللهُمَّ أَمُوتُ وَأَحْيَا وَإِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ مَنَامِهِ قَال الحَمْدُ للهِ الذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِليْهِ النُّشُورُ) وروي البخاري 6320 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عن النَّبِيُّ - أنه قال: (إِذَا أَوَي أَحَدُكُمْ إِلي فِرَاشِهِ فَليَنْفُضْ فِرَاشَهُ، ثُمَّ يَقُولُ بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالحِينَ) .

(9) - ومن أهم علامات المحبة التي هي شرط من شروط لا إله إلا الله، طاعة المحبوب، والانقياد لأمره، والتصديق بخبره، وهذا يحصل فقط بكمال المتابعة لنبيه - {قُل إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللهُ وَيَغْفِرْ لكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (آل عمران/31) فجعل سبحانه وتعالي متابعة رسوله - سببا لمحبتهم وغفران ذلتهم، فالطاعة للمحبوب عنوان محبته كما قيل:

تعصي الإله وأنت تزعم حبه: هذا محال في القياس بديع

لو كان حبك صادقا لأطعته: إن المحب لمن أحب مطيع

(10) - ومن علامات المحبة ترديد كلام المحبوب والإقبال على حديثه وإلقاء السمع إليه، 5050خ فمن حديث عَبْد اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ في الصحيحين قَال: قَال لي النَّبِيُّ: اقْرَا على القرآن، قُلتُ: يَا رَسُول اللهِ آقْرَأُ عَليْكَ وَعَليْكَ أُنْزِل؟ قَال: نَعَمْ، فَقَرَاتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حتى أَتَيْتُ إِلي قوله: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُل أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدًا، قَال: حَسْبُكَ الآنَ فَالتَفَتُّ إِليْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ) وفي سنن أبي داود 1469 عن أَبِي سَعِيدٍ الخدري أن رَسُولُ اللهِ - قال: (ليْسَ مِنَّا مَنْ لمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآنِ) .

(11) - ومن علامات المحبة محبة بيت المحبوب، وانشراح الصدر لرؤيته، وشد الرحال لزيارته، وهذا هو السر الذي من أجله تعلقت القلوب بالبيت الحرام وكعبته، حتى هجروا الأوطان من أجل محبتة، وتحملوا السفر بمشقته، طمعا في

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام