رَجُلا مَعَ امْرَأَتِي لضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ، فَبَلغَ ذَلكَ رَسُول اللهِ - فَقَال: أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، وَاللهِ لأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي، وَمِنْ أَجْل غَيْرَةِ اللهِ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ).
فمن قال لا إله إلا الله بحق وأحب الله ورسوله بصدق، يغار لله ويغار لرسوله على قدر محبته وإجلاله، وإذا انعدمت الغيرة لله ولرسوله من القلب انعدم الحب فيه، وإن زعم أنه من المحبين فهو كاذب، فإذا كان من ادعي محبة إنسان ورأي غيره منتهكا لحرمته ويسعى في أذيته ويخوض في عرضه وذمته، وهو ساكن لا يتحرك، قلبه قلب بارد لا يغار لصديقه ومحبوبه، فإنه عند الجميع كاذب في حبه منافق في ادعاء قربه، لعلمهم أن الغيرة للمحبوب من علامات المحبة الصادقة، فكيف يصح لعبد أن يدعي محبة الله وهو لا يغار لمحارمه إذا انتهكت، ولا لحقوقه إذا ضيعت، فأضعف الإيمان أن يغار لله من هواه الداعي إلي الشهوة، ومن شيطانه وطغيانه الداعي إلي الشبهة، فيغار لمحبوبه من تفريطه في حقه، وارتكابه لمعصيته، وإذا ذهبت هذه الغيرة من القلب ذهب منه الحب وسقط شرط من شروط لا إله إلا الله بل ذهب منه الدين وأصوله وإن بقيت آثاره وأطلاله.
وهذه الغيرة هي أصل الجهاد الأكبر، وأصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن خلت هذه الغيرة من القلب لم يجاهد الإنسان ولم يأمر بالطاعة والإيمان ولم ينه عن المنكر والعصيان، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَاتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلةٍ على المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ على الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيل اللهِ وَلا يَخَافُونَ لوْمَةَ لائِمٍ ذَلكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَليمٌ} (المائدة/54) .
وأما الغيرة على المحبوب كغيرة الإنسان على زوجته، وغيرته على أمته وابنته، فيغار أن يتعرض أحد لذكرهن أو المساس بعرضهن، فإن هذه الغيرة تختص بالمخلوق، ولا يجوز تصورها في حق الخالق، لأن المحب الصادق، يحب أن الناس كلهم يحبون الله ويذكرونه ويعبدونه، ويحمدونه ويشكرونه، ولا شيء أقر لعين المؤمن من ذلك، بل هو يدعو إلي ذلك بقوله وعمله، وكثير من الصوفية لم يفرقوا بين الغيرة لله والغيرة على الله، فضلوا وشبهوا غيرتهم على الله بغيرتهم على نسائهم، حتى وقع في كلامهم غلط عظيم، وبهتان جسيم، وكان بعض جهلتهم إذا رأي من يذكر الله أو يحبه، يغار منه، وربما أسكته إن أمكنه، ويقول: غيرة حبي على ربي تحملني على هذا، وإنما ذلك حسد وعصيان وبغي وعدوان ونوع معادة للرحمن أخرجوها في قالب الغيرة وشبهوا محبة الله بمحبة المخلوقين.
(4) - ومن علامات المحبة بذل المحب كل ما في وسعه وطاقته لرضا لمحبوبه، كما كان الصحابة رضي الله عنهم يدافعون عن رسول الله - في الحرب بنفوسهم، حتى ولو أدي ذلك لهلاكهم ومصرعهم، وذلك من فرط حبهم له -، ومعلوم أن من آثر محبوبه بنفسه، بذل ما في وسعه من ماله وملكه، والصحابة رضي الله عنهم سلموا أنفسهم وأموالهم لرسول الله -، فقالوا هذه أموالنا نقدمها إليك، وهذه نفوسنا بين يديك، فاحكم فيها بما شئت يا رسول الله، لو خضت بنا البحر لخضناه معك يا رسول الله، نقاتل بين يديك، ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك، روي البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود، أن المِقْدَادُ بن الأسود قال يَوْمَ بَدْرٍ: يَا رَسُول اللهِ إِنَّا لا نَقُولُ لكَ كَمَا قَالتْ بَنُو إِسْرَائِيل لمُوسَي: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة/24) وَلكِنِ امْضِ يَا رَسُول اللهِ وَنَحْنُ مَعَكَ مقاتلون).