لكن ما الذي يبعث على وجود الحب في القلب؟ المحبة باعثها في القلب جلال المحبوب، والجلال منتهي الحسن والعظمة في الذات والأسماء والصفات، والجلال يقوم على ركنين اثنين: الركن الأول هو الكمال، والركن الثاني هو الجمال، فالكمال هو بلوغ الوصف أعلاه، والجمال بلوغ الحسن منتهاه، فمتي كان المحبوب في غاية الكمال وفي غاية الجمال، وشعر المحب بكماله وجماله حدث الحب في القلب، وقد يكون الكمال أو الجمال ناقصا، لكن هو في عين المحب كامل جميل، فلا يري المحب أحدا أحسن من محبوبه على الرغم من نقصه وعيوبه، كما يحكي أن عزة التي أحبها كثير وتغني بحبها حتى بلغ الآفاق دخلت على الحجاج فقال لها: يا عزة والله ما أنت كما قال فيك كثير، فقالت: أيها الأمير إنه لم يرني بالعين التي رأيتني بها، فالمحب يري قبح المحبوب في عينه جمال، ألا تري أنه في المثل يقال، القرد في عين أمه غزال، وقد عبر بعضهم عن هذا فقال: والله ما أدري أزيدت ملاحة: وحسنا على النسوان أم ليس لي عقل.
وقد يكون الجمال في منتهاه والكمال في أعلاه، ولكن المحب لا يشعر بجمال محبوبه ولا بكماله فتنعدم المحبة، ولهذا أمرت النساء بستر وجوههن عن الرجال، فإن ظهور الوجه وخصوصا وجوه الحسان، يدعو القلوب إلي النظر والافتتان، ولهذا أيضا أجاز الشرع للخاطب أن ينظر إلي المخطوبة، فإنه إذا شاهد حسنها وجمالها، ورأي الكمال في سلوكها، كان ذلك أدعي إلي حبها والتعلق بها، روي ابن ماجة وصححه الشيخ الألباني من حديث المُغِيرَة بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه أنه قَال: (أَتَيْتُ النَّبِيَّ - فَذَكَرْتُ لهُ امْرَأَةً أَخْطُبُهَا فَقال: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِليْهَا فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا، قَال: فَأَتَيْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ فَخَطَبْتُهَا إِلي أَبَوَيْهَا وَأَخْبَرْتُهُمَا بِقَوْل رَسُول اللهِ -، فَكَأَنَّهُمَا كَرِهَا ذَلكَ، قَال المُغِيرَة: فَسَمِعَتْ ذَلكَ المَرْأَةُ وَهِيَ فِي خِدْرِهَا، فَقَالتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ - أَمَرَكَ أَنْ تَنْظُرَ فَانْظُرْ وَإِلا فَإِنِّي أَنْشُدُكَ - ألا تفعل - قَال المُغِيرَة: فَنَظَرْتُ إِليْهَا فَتَزَوَّجْتُهَا) .
وإذا كانت دواعي المحبة تتمثل في كمال المحبوب وجماله، وكان شعور المحب بجمال محبوبه وكماله باعثا على نماء الحب في القلب، فإن الله عز وجل إن أعطي الكمال لأحد سواه سلبه الجمال، وإن أعطي الجمال لأحد سواه سلبه الكمال، وإن أعطي الكمال والجمال لأحد سواه سلبه دوام الحال، وما أصدق المثل الذي يقال: الحلو ما يكمل.
فانظر إلي حكمة الله فيمن أعطاهم الكمال وسلبهم الجمال، غني بلغ الكمال في الغني ولكنه مريض بالسكر أو قبيح في المنظر أو جاهل أكبر، أو عقيم يشتهي الولد ويتمناه، فهو لا يتلذذ بماله أو غناه، ولا ينعم بما منحه الله، إلا إذا أدرك أن الابتلاء سر الحياة، فسلم لله وآمن بقدر الله، أو انظر إلي امرأة لها كمال في الخلق والنسب، والشرفِ والحسب، وهي أبعد ما يكون عن الخيانة، ومتصفة بالصدق والأمانة، ولكنها في الجمال قبيحة لا تسر الناظرين، دميمة ترعب الخاطبين، أو انظر إلي من أعطاه الله أرضا كبيرة واسعة، فله في الملك كمال وسعة، لكنه يفشل في استصلاحها لأي منفعة، وعلى العكس من ذلك انظر إلي من أعطاهم الجمال وسلبهم الكمال، رجل عالم ذكي قوي فتي، لكنه فقير مهان يبيت جوعان ولا يجد ما يستر الأبدان، أو انظر إلي امرأة جمالها يتغنى به الشبان، وقوامها لا تراه العينان، لكنها تخون زوجها ولا تصون عرضها وهي معرة على أهلها وكل الناس يتمني موتها، أو انظر إلي فلاح بسيط ليس له من الأرض سوي بضعة قراريط، لكن زراعته بارعة، وأشجاره طالعة، وثمارها يانعة، مناه في الحياة أن تكون أرضه واسة، لكن الحلو لا يكمل.