وقد وصف الله رسوله - بالعبودية في أشرف المقامات، في مقام التحدي وفي مقام الإسراء، وفي مقام الدعوة إلي رب السماء، فقال في مقام التحدي: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلنَا على عَبْدِنَا فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة/23) وقال في مقام الإسراء: {سُبْحَانَ الذِي أَسْرَي بِعَبْدِهِ ليْلا مِنْ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلي المَسْجِدِ الأَقْصَي الذِي بَارَكْنَا حَوْلهُ لنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الإسراء/1) وقال في مقام الدعوة: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا وَأَنَّهُ لمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَليْهِ لبَدًا قُل إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} (الجن /20:18) .
وفي الصحيحين من حديث أَنَسٍ رَضِي الله عَنْه أن الرسل يدفعون الشفاعة العظمي عن أنفسهم، كل يقول لست لها: ويقول عيسي عليه السلام: (ائْتُوا مُحَمَّدًا - عَبْدًا غَفَرَ اللهُ لهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَاتُونِي فَأَنْطَلقُ حتى أَسْتَاذِنَ على رَبِّي، فَيُؤْذَنَ لي، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ رَاسَكَ وَسَل تُعْطَهْ وَقُل يُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَاسِي فَأَحْمَدُهُ بِتَحْمِيدٍ يُعَلمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ، فَيَحُدُّ لي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ) .
فالنبي - نال ذلك المقام بشرف العبودية وكمالها، ومن ثم جعله المثل الأوحد للإنسانية في تحقيقها، فأشرف صفات العبد صفة العبودية وأحب أسمائه إلي الله اسم العبودية، كما ثبت عن النبي - في حديث مسلم من حديث عبد الله بنِ عُمَرَ أن رَسُولُ اللهِ - قال: (إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلي اللهِ عَبْدُ اللهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ)
وهناك درجة تفوق العبادة تسمي درجة الخلة، ولكنها درجة خاصة لاثنين من البشر أولهما محمد - والثاني إبراهيم -، ورسولنا يفوق إبراهيم فيها، لما ورد عنه من التفضيل العام على سائر ولد آدم، فمن حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عند مسلم عن رَسُول اللهِ - قال: (أَنَا سَيِّدُ وَلدِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ القَبْرُ وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ) ، وربما يظن بعض من لا فقه لهم بالدين ولا بإكرام سيد الأنبياء والمرسلين أن المحبة أكمل من الخلة، وأن إبراهيم خليل الله ومحمد حبيب الله، وهذا جهل وتنقيص من شأن النبي -، فان الخلة نهاية المحبة، وقد أخبر النبي - أن الله اتخذ إبراهيم خليلا ونفي أن يكون له خليل غيرُ الله، أي يحبه حبا يبلغ في درجاته منتهاه، والخلة هي كمال المحبة التي تستغرق كل درجات الحب، والتي تتخلل في أعماق القلب وتمتزج بسائر أجزاء البدن.
وفي الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود أن النَّبِيِّ - قَال: (لوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْل الأَرْضِ خَليلا لاتَّخَذْتُ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ خَليلا وَلكِنْ صَاحِبُكُمْ خَليلُ الله) وفي رواية: (أَلا إِنِّي أَبْرَأُ إِلي كُل خِلٍّ مِنْ خِلهِ وَلوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَليلا لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَليلا إِنَّ صَاحِبَكُمْ خَليلُ الله) فبين - أنه لا يصلح له أن يتخذ من المخلوقين خليلا، وأنه لو كان ذلك، لكان أحق الناس بها أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
فالخلة توحيد المحبة والخليل هو الذي توحد حبه لمحبوبه، وهي رتبة لا تقبل المشاركة، ولهذا امتحن الله تعالى خليله إبراهيم بذبح ولده، لما تعلق به قلبه، فهو الشيخ الكبير الذي أنجب بعد عقم الطويل، فأراد الله تعالى أن يكون الخليل خالصا بحبه لربه، لا يكون لغيره في قلبه نصيب، فلما أسلم لأمر الله وقدم محبته على من سواه، فداه بذبح عظيم: {فَلمَّا بَلغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَال يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَي فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَي قَال يَا أَبَتِ افْعَل مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنْ الصَّابِرِينَ فَلمَّا أَسْلمَا وَتَلهُ للجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لهُوَ البَلاءُ المُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (الصافات/102) .