فالقلب وعاء قد يمتلأ بحب الله أو يمتلأ بحب غيره، كما قال جل في علاه: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ} (البقرة/165) فالقلب له الخيار في نوعية الحب ومقدار التعلق بالمحبوب، والمحبة التي هي موضوع محاضرة اليوم شرط من شروط لا إله إلا الله وإقرار العبد أنه لا معبود بحق سواه، فلا يصح قول اللسان ولا يصلح ركن من أركان الإيمان إلا بإفراد الله بالمحبة مع تحقيق الشروط الباقية، فشروط لا إله إلا الله ثمانية كما قال القائل في عدها ونظما:
علم يقين وإخلاص وصدقك مع: محبة وانقياد والقبول لها
وزيد ثامنها الكفران منك بما: سوي الإله من الأشياء قد ألها
روي البخاري من حديث أَنَس أن النَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال: (لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حتى أَكُونَ أَحَبَّ إِليْهِ مِنْ وَالدِهِ وَوَلدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، ومن رواية أبي هريرة: وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حتى أَكُونَ أَحَبَّ إِليْهِ مِنْ وَالدِهِ وَوَلدِهِ) .
والحب شيء في القلب من علم الغيب، يدفع النفس إلي السعي في رضا المحبوب، والحصول على المطلوب، والمحبة عمل من أعمال القلوب، فقد روي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - قال: (قَلبُ الشَّيْخِ شَابٌّ على حُبِّ اثْنَتَيْنِ طُولُ الحَيَاةِ وَحُبُّ المَال) فنسب النبي - الحب إلي القلب، فالحب عمل من أعمال القلوب يعرف بآثاره على اللسان أو بعلاماته في ظاهر الأبدن، فالحب مخفي في القلب، ولكن البدن يفضحه بآثاره وعلاماته، والله سبحانه وتعالي أعطي بعض خلقه القدرة على قياس درجة الحب في القلب، كيف يقوي الحب ويشتد، ويعلو ويمتد، فالملائكة المكرمون يدونون مقدار الأجر على حب العبد لله ومقدار الوزر على حبه لمن سواه، وكل ذلك حسب توجيه الإله لهم، فهم كما تعلمون لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يأمرون.
والمحبة درجات تنموا في القلب كلما ازداد مقدار الحب، فمنها الهوى والغرام والشوق، والهيام والشغف والعشق، والوجد والكمد والحرق، درجات تنموا في القلب كلما ازداد مقدار الحب، حتى تصل المحبة إلي أعلى درجاتها، وهي التي تسمي درجة العبادة، فالتعبد هو غاية الحب مع غاية الذل للمحبوب، يقال: عبَّده الحب أي ذلله، وطريق معبد بالأقدام أي مذلل، وكذلك المحب قد ذلله الحب، ولا تصلح هذه المرتبة في الحب لغير الله عز وجل، فالمحبة التي تصل إلي درجة العبودية هي أشرف أنواع المحبة وهي حق الله على عباده، ولا يصح فيها الشرك أبدا، ولذا فإنه من الخطأ الجسيم والظلم العظيم أن يعبر الشخص عن حبه لغيره بقوله: أنا أعبدك، أو هذا معبود الجماهير أو معبودة الجماهير، أو كما يفعل الحمقى من المحبين، المتيمين المجانين في حب النساء، يقول الشخص لمحبوبته: أنا أ عبدها، أو ما شابه ذلك من ألوان الشرك بالله، فانتبه عبد الله وكن عبدا موحدا.
وفي صحيح البخاري عَنْ معَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِي الله عَنْه قَال: بَيْنَا أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ - ليْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلا أَخِرَةُ الرَّحْل فَقَال: يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ، قُلتُ: لبَّيْكَ رَسُول اللهِ وَسَعْدَيْكَ، قَال: هَل تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ على عِبَادِهِ؟ قُلتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلمُ، قَال: حَقُّ اللهِ على عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَال: يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ، قُلتُ: لبَّيْكَ رَسُول اللهِ وَسَعْدَيْكَ، فَقَال: هَل تَدْرِي مَا حَقُّ العِبَادِ على اللهِ إِذَا فَعَلُوهُ، قُلتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلمُ، قَال: حَقُّ العِبَادِ على اللهِ أَنْ لا يُعَذِّبَهُمْ.