بأسرها، وبهجةُ الحياة بأنواعها، فانظر إلي قول سليمان وتوحيده لرب العالمين، عندما رأي عرش بلقيس منقولا من اليمن إلي فلسطين، ومستقرا بين يديه بقدرة الله:
(قَال هَذَا مِنْ فَضْل رَبِّي) (النمل:40) فالفضل ليس لي ولا لجندي، وإنما هو فضل ربي، وقد استرعاني في ملكه واستخلفني (ليَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل:40) فهو المنفرد بالتوحيد في الغني، لا يساميه ولا يساويه أحد من خلقه، فلا غني يرقي إلي غناه، ولا على يسموا إلي علاه (هل تعلم له سميا) (مريم:65) .
وهذا نبي الله داود أعطاه الله الملك، فأطاع فيه ربه ومالكه، وأظهر فقره موحدا خالقه وقال تعالى عن داود (( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الايْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (ص:20:17) (وَإِنَّ لهُ عِنْدَنَا لزُلفي وَحُسْنَ مَآبٍ) (ص:25) وهذا إبراهيم (أسلم لله وأخلص له، وخضع لله محبا له معظما إياه، في كل ما منحه وأعطاه، من مال وجاه، ولما تعلق قلبه بولده الذي تمناه، وعلمه ورباه، ابتلاه الحق بذبح ولده، ليكون خالصا بحبه لربه.
واعلموا أيها المخلصون أن الله إذا ضيق الرزق على إنسان فلا يعني ذلك أنه مهان، فالفقير لا يهان إلا باعتراضه على المقسوم من قدره، أو خجله من فقره وحسده وحقده، يحقد الفقير على الأغنياء ويعترض على مر القضاء (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ على مَا آتَاهُمْ اللهُ مِنْ فَضْله) (النساء:54) فالحسد داء ليس له دواء، إلا الرضا بالقضاء.
فوجب على الموحدين أن يتمنوا السعادة للآخرين، وأن يسألوا رب العالمين، أن يمنحهم من فضله وعطائه ومدده ونعمائه، فمن ابتلاه الله بالفقر فلم يصبر على بلواه، لم يأخذ إلا ما قدره الله، وسوف يهان في الدنيا والآخرة، سيجمع بين التعاستين، ويهينه الله مرتين، مرة في الدنيا بحقده وحرمانه ومرة في الآخرة بعذابه وكفرانه، فالفقير الصابر له أسوة في رسول الله (، نشأ يتيما في لوعة اليتم فآواه الله ورعاه، وحنن عليه القلوب بعد أن أمات أباه، ربط الحجر على بطنه (من شدة الجوع، ومات ولده وقرة عينه حتى سالت من عينه الدموع، وأدماه قومه وطال نومه على الحصير، حتى أثر في جنبه وعمر رضي الله عنه يبكي ويعجب، ويقول ويتعجب: كسري وقيصر في الثمار والأنهار، ورسول الله يطوي بطنه بالليل والنهار، كل هذا حدث له وهو صاحب المقام واللواء، وإمام الأنبياء وسيد الشفعاء عليه أفضل الصلاة والسلام.
فالإخلاص يوجب على العبد أن يوحد الله في أوصاف الربوبية، فإذا ظلم العبد نفسه وخلع رداء العبودية، لينازع ربه في وصف الربوبية، أو يشاركه في العلو والكبرياء، وعظمة الأوصاف والأسماء، فليس للظالم إلا الشقاء والحرمان، ودوام العذاب في النيران، (يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَل في الحديث القدسي: الكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي شَيْئًا مِنْهُمَا أَلقَيْتُهُ فِي جَهَنَّمَ) ، وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ (في الحديث الذي رواه الإمام مسلم قَال:(لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ) ، فإن لم تكن عبدا لربك تعتقد أنك وما خولك وملكك خالصا له خاضعا لأمره، فإنك تطمع إلي تأليه نفسك والخروج عن وصفك، فتدعي لنفسك ما ادعاه فرعون من أوصاف الربوبية.
فأين الإخلاص والتوحيد الذي أمر الله به نبيه (فقال له:(إِنَّا أَنزَلنَا إِليْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ فَاعْبُدْ اللهَ مُخْلصًا لهُ الدِّينَ أَلا للهِ الدِّينُ الخَالصُ) (الزمر:2) وأمرنا أن نتأسي به فقال: (هُوَ الحَيُّ لا إِلهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلصِينَ لهُ الدِّينَ الحَمْدُ للهِ