فهرس الكتاب
الصفحة 29 من 85

يتكبر على الخلق بنعم الله، ويتعالي على العباد بما منحه وأعطاه، كما فعل فرعون وهامان ومن قبلهما النمرود بن كنعان، وفي قارون الذي ظغي وبغي، أبلغ مثل وعظة، فقد استكبر على قومه بأمواله الباهظة، ولم تؤثر فيه الدعوة أو الموعظة، فلم يفهم أن المال مال الله، وأن الحياة ابتلاء من الله:

(إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَي فَبَغَي عَليْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ أُولي القُوَّةِ إِذْ قَال لهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِليْكَ وَلا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ) ، فماذا قال؟ (قَال إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلمٍ عِندِي) .. فنسب الفضل إلي نفسه، وتناسي فضل ربه، وتناسي أنه أمين في ملكه، مبتلي بالمال إلي لوقت معلوم، وبقاؤه على هذا الحال لا يدوم، كما قال سبحانه وتعالي: (أَوَلمْ يَعْلمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلكَ مِنْ قَبْلهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ المُجْرِمُونَ) فلم يتذكر ولم يعبأ، وخرج متزينا يهزأ بدين الله، وكأن الله ما أعطاه شيئا من نعمه (فَخَرَجَ على قَوْمِهِ فِي زِينَتِه) .

رغب في مدحهم وثنائهم ليعلم الناس عزه وسلطانه، ويعظموا من قدره وشانه، وصار فتنه للناس حتى تمنوا مكانه (قَال الذِينَ يُرِيدُونَ الحَيَاةَ الدُّنيَا يَا ليْتَ لنَا مِثْل مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) ، فقال المخلصون العابدون، المؤمنون بأنهم في الأرض مستخلفون، وأن الملك لسيدهم وليس لقارون: (وَيْلكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لمَنْ آمَنَ وَعَمِل صَالحًا وَلا يُلقَّاهَا إِلا الصَّابِرُون) .

فصدر حكم الله على قارون وحكم ببغيه وعصيانه، وظلمه وطغيانه، وأن يكون عبرة لنظرائه وأقرانه، فشق الأرض تحت أقدامه فانطبقت عليه، وجاءه ملك الموت يعيده فقيرا لعزة الله وسلطانه: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ) هذا جزاء المستكبرين الظالمين، ليعود الناس إلي التوحيد، وإلي فطرة المخلصين من العبيد، الذين لا ينازعون الله في ملكه، أو يطمعون في شيء من حقه: (وَأَصْبَحَ الذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لوْلا أَنْ مَنَّ اللهُ عَليْنَا لخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلحُ الكَافِرُونَ) (القصص:82) فأدركوا عند ذلك أن الله هو المالك وأنه سبحانه وتعالي هو الخالق الرازق فقالوا مقرين بعد أن كانوا في الحياة راغبين:

(لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون) (القصص:82) وكأنهم يقولون: لولا أن من الله علينا بفقرنا لخسف بنا، فأصبح الفقر نعمة ومنة، والرضا بالمقسوم حكمة وفطنة، فبئس المال الذي يجعل صاحبه في هذا الحال، فإياك إياك مهما منحك الله وأعطاك، إياك من العلو والاستكبار لأن الله هو الملك الجبار: (تِلكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا للذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الارْضِ وَلا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ للمُتَّقِينَ) (القصص: 83) .

واعلم أن الغني لا يكرمه الله، إلا إذا شكر ربه شكر الزاهدين، وصبر على إغراء المال ومقاومته صبر الموقنين الموحدين، وعاد فقيراً بماله إلي ربه، ينسب الملك والفضل لرب العالمين، فإن الله أعطي المال والنبوة لأبي الأنبياء وإمام الحنفاء إبراهيم، وأعطي الملك والسلطان لداود وسليمان عليهم الصلاة والسلام أجمعين، فكانوا في ملكهم موحدين عابدين، مخلصين زاهدين، وكانوا أمناء في الأرض مستخلفين، فقال عن سليمان عليه السلام: (وَوَهَبْنَا لدَاوُودَ سُليْمَانَ نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (ص:30) فأنعم به من عبد على الرغم من كونه كان قويا غنيا، وملكا نبيا، لديه الدنيا

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام