كَانُوا على أَتْقَي قَلبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلكَ فِي مُلكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا على أَفْجَرِ قَلبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلكَ مِنْ مُلكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُل إِنْسَانٍ مَسْأَلتَهُ مَا نَقَصَ ذَلكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِل البَحْرَ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَليَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَه).
فطهر نفسك عبد الله بالإخلاص لله وحده، واحذر الشرك فإنه لا ذنب بعده، وتحرىفي قولك وفعلك التوحيد فإن الأجر عنده، فلا تدعوا غير الله، ولا تطلب المدد من سواه، ولا تستغث إلا بالله، واجعل الطواف مقصورا ببيت الله فقط، ولا تقبل ضريحا أو مقصورة أو حجرا إلا حجرا واحدا في بيت الله، ولا تذبح إلا لله، واذبح باسم الله وحده، ولا تجعل النذر لسواه، ولا تتخذا على القبر مسجدا، ولا تقم فيه أبدا، فالمساجد بيوت الله فلا تجعلها مستعمرة لسواه، يحتلها أصحاب الضريح ويذكرون اسمه بالتصريح والتلميح، وقد قال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآصَال) (النور:36) وقال أيضا: (وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدً) (الجن:18) ، ولكنك تري أنهم يتوجهون بقلوبهم لتعظيم الضريح ويطوفون بقبره، ويدعون الناس إلي تقديسه وحبه بالكرامات المزعومة والأحلام المذمومة، التي هي من وحي الشيطان أو اختلاق بني الإنسان، وكل هذا كما تعلمون ينافي الإخلاص والتوحيد، ويغضب رب العبيد ..
فتحرى عبد الله في قولك وفعلك التوحيد، ولا تقل: توكلت على الله وعليك لأنك تشرك غيره معه في التوكل، ولكن قل: توكلت على الله ثم عليك، ولا تقل: مالي إلا الله وأنت، ولكن قل: مالي إلا الله ثم أنت، فهذا هو الإخلاص والتوحيد، ولا تقل: ما شاء الله وشئت، ولكن قل: ما شاء الله وحده، ولا تقل لأي شخص أيا كان: الله لي في السماء وأنت لي في الأرض أو هذا من فضل الله ومنك، ولكن قل: هذا فضل الله وجزاك الله خيرا، واطلب المدد من الله، ولا تقل: مدد يا بدوي أو شي الله يا عدوي، ولا تشرك بالله فتفعل كما يفعل الجاهلون، إياك أن تعلق في رقبتك خرزة أو تميمة أو حجابا، أو نابا أو عين الذئاب، أو تعلق برقبة الحيوان عظمة، تظن أنك تدفع عنه بهذا الشرك مكروها، أو تتقي مصيبة عظموها، فطهر قلبك بالتوحيد، واجعل نفسك من العبيد، الذين أخلصوا لربهم واستجابوا لله لما أمرهم أن يعبدوه مخلصين له الدين:
(هُوَ الحَيُّ لا إِلهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلصِينَ لهُ الدِّينَ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ) (غافر:65) وقل عبد الله: (إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ المُشْرِكِينَ قُل إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالمِينَ لا شَرِيكَ لهُ وَبِذَلكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلمِينَ) (الأنعام:163:161) .
فالركن الأول: الذي بني عليه الإخلاص لله هو توحيد العبادة له، فالمخلص لا يشبه المخلوق بالخالق أو المملوك بالمالك، ولكنه يفرد الله بالتعظيم الدعاء، والحب الخوف والرجاء، فهو عبد لمعبود واحد لا يشرك به شيئا.
أما الركن الثاني: الذي بني عليه الإخلاص فهو توحيد الربوبية لله، فلا يمكن لعبد أن ينال درجة الإخلاص إلا إذا خلع عن نفسه رداء الربوبية واكتسي بثوب العبودية، فعلم واعتقد أنه عبد في ملك سيده مستخلف في أرضه أمين على ملكه، قد ابتلاه فيما أعطاه، وامتحنه فيما خوله واسترعاه، أيرد الملك إلي المالك؟ أم ينسب لنفسه أوصاف الخالق؟