عنوان الفتوى : سبب المبالغة في ثواب أو عقوبة بعض الأعمال، وسرعة الملائكة, وفائدة الصلاة على رسول الله
تراودني شبهة بسبب فضل ثواب بعض الأعمال، والتي أرى أنها مبالغ فيها، ككون قراءة سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن، وصيام عاشوراء يكفر سنة ماضية، وأحيانًا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: من يفعل كذا وأضمن له الجنة؛ فأعتقد أن هذا مبالغ فيه، وهل جبريل -عليه السلام- قد بلّغه بهذه السرعة بأن فلانًا له الجنة؟ وأتعجّب من التساوي في جزاء بعض الأشياء، ككون من خرجت من بيتها متعطرة كالزانية، ولا أعلم فائدة الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بهذه الكثرة، وأليست قراءة القرآن الكريم والعلم أولى؟ ولماذا ندعو للنبي صلى الله عليه وسلم وهو غني عنا؟ آسف على طريقة التعبير، لكني شديد النقض، وأريد إجابة تردعني؛ حتى لا أعود إلى هذا التفكير مرة أخرى، وأرجو أن أتخلّص من هذا الجدال، وأن يهديني ربي، وهل دعائي الله تعالى أن تحدث لي معجزة حتى أصل إلى الحقيقة، غير صحيح؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يغفر ذنبك، ويلهمك رشدك، ويقيك شر نفسك، وأن يوفّقك لما يحب ويرضى.
وأما ما ذكرته في سؤالك، فهو متشعب، ويحتاج إلى تفصيل، نجتهد في بيانه ملخصًا من خلال النقاط التالية:
أولًا: ثواب الأعمال، ومضاعفة الأجور، إنما مبناها على فضل الله تعالى وكرمه، الذي لا يبلغ العقل منتهاه، وخزائنه ملأى، لا ينقصها شيء، وقدرته تامة، فلا يعجزه شيء، وهو الغفور الشكور، الذي يرضى من عباده بالقليل من العمل، ويتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، ويضاعف لهم الثواب فوق الأمل، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، فما يستنكر العبد من عطاء الله، وفضله، وهو الغني الحميد، البر الكريم، الواجد الماجد الواسع؟!
ثانيًا: أحاديث الوعد كأحاديث الوعيد، من حيث إن المذكور فيها سبب لحصول متعلّقه من الوعد أو الوعيد، ولكن هذا لا ينفكُّ عن بقية أعمال العبد، وأحواله؛ فلا بدّ من توفر الشروط، وانتفاء الموانع؛ ليحصل المطلوب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -كما في مجموع الفتاوى-: قد يتخلّف المقتضي عن المقتضى؛ لمانع لا يقدح في اقتضائه، كسائر أحاديث الوعد؛ فإنه لما قال: "من صلى البردين، دخل الجنة"، "من فعل كذا، دخل الجنة"، دلّ على أن ذلك العمل سبب لدخول الجنة، وإن تخلّف عنه مقتضاه لكفر، أو فسق. فمن ترك صلاة الظهر، أو زنى، أو سرق، ونحو ذلك؛ كان فاسقًا، والفاسق غير مستحق للوعد بدخول الجنة، كالكافر. وكذلك أحاديث الوعيد إذا قيل: من فعل كذا، دخل النار؛ فإن المقتضى يتخلّف عن التائب، وعمّن أتى بحسنات تمحو السيئات، وعن غيرهم. اهـ.
وقال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم: قد ورد ترتب دخول الجنة على فعل بعض هذه الأعمال، كالصلاة، ففي الحديث المشهور: «من صلى الصلوات لوقتها، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة»، وفي الحديث الصحيح: «من صلى البردين، دخل الجنة»، وهذا كله من ذكر السبب المقتضي، الذي لا يعمل عمله إلا باستجماع شروطه، وانتفاء موانعه. اهـ.
وقال الشيخ محمد أنور شاه الكشميري في «فيض الباري على صحيح البخاري»: فطرة الإنسان أنه يجعل كليات من عند نفسه، وليس هذا إلا لعدم إحاطته بأطراف الشيء وجوانبه، وليس حال العامة كالطبيب، فإنه إذ يحكم على دوائه بأنه مفيد أو مضر، لا يحكم إلا بظنه الغالب، لكن إذا جاءه واحد من الأغبياء يجعله كليًّا، ويزعم أنه مفيد أبدًا، ولا يمكن عنده خلاف ذلك؛ حتى إذا تخلف عنه الحكم مرة، يسبّ الطبيب، ويكذبه، ولا يدري أنه لا يسبّ إلا نفسه.
فكذلك إذا أخبر الشارع عن أشياء غائبة، وإن كان حكمه عليها قطعيًّا، لكن تكون هناك شرائط، وموانع معتبرة عنده؛ فيجيء واحد من الأشقياء، ولا يراعي تلك الشرائط، والموانع، ويجعل الكلام المرسل كليًّا، ثم إذا تخلف عنده الحكم، يضطرب، ويقلق؛ فلا يلومنّ إلا نفسه.
ولما كان حال الإنسان بين طرفي نقيض؛ فقد يتداوى بدواء ويكون عنده أنه نافع قطعًا، فلم ينفعه؛ فإنه لا يكذب نفسه، ولا يلزم الطبيب، ولكنه يعلل تارة بأن الدواء كان رديئًا، أو لم يستعمله على وجهه، أو عدم حمايته نفسه عن المضرات. ولكنه إذا مر على آية من آيات الله، أو حديث من أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، ويبدو له فيه قلق؛ فإنه لا يتعلل بشيء، ولا يطمئن قلبه بحال؛ حتى يكون أول كافر به، {قتل الإنسان ما أكفره}، فلا يخلو حاله إلا من حمق جليّ، أو نفاق خفيّ.
والجواب الآخر: أن الشارع ذكر الخواص على طريق «التذكرة» دون «القرابادين»، والتذكرة في مصطلح الطب: ما تذكر فيها خواص المفردات. والقرابادين: ما تذكر فيها خواص المركبات؛ فحكمه على العبادات، وذكر خواصها على طور التذكرة فقط، ولا يمكن غيره في الدنيا؛ فإن التركيب لا يحصل إلا بعد انصرام العالم، فحكمه أيضًا لا يظهر إلا هناك، وهذا كالطبيب يحكم على المفردات: أن هذا سم، وهذا ترياق، وهذا مسهل، وهذا قابض، ثم إذا ركب دواء من الأشياء الحارة والباردة معًا وكسر هذا سورة هذا، يخرج من بينها مزاج ثالث، مع وجود الدواء الحار والبارد فيه، ولا يأتي فيه قال وقيل، ولا يكذبه أحد لأنه ما كان ذكر من حرارته وبرودته إنما كان حاله بانفراده، فإذا مزج أحدهما بالآخر؛ خرج منه مزاج آخر. اهـ.
ثالثًا: مجيء الوحي، وسرعة الملائكة، لا تقاس بقدرتنا -نحن البشر-؛ فالأمر مختلف تمامًا .. هم عالم ونحن آخر، خِلقتنا غير خِلقتهم، وقدرتنا غير قدرتهم، والأمر كله لله الذي أقدرهم على ما نعجز نحن عن تصوّره، قال الدكتور عمر الأشقر في (عالم الملائكة الأبرار): من أسباب ضلال بني آدم في حديثهم عن عوالم الغيب أن بعضهم يحاول إخضاع هذه العوالم لمقاييسه البشرية الدنيوية، فنرى أحدًا من هؤلاء يعجب في مقال له من أن جبريل كان يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ثوان من توجيه سؤال إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى جواب من الله؛ فكيف يأتي بهذه السرعة الخارقة، والضوء يحتاج إلى ملايين السنوات الضوئية؛ ليصل إلى بعض الكواكب القريبة من السماء!؟ وما درى هذا المسكين أن مثله كمثل بعوضة، تحاول أن تقيس سرعة الطائرة بمقياسها الخاص، لو تفكّر في الأمر؛ لعلم أن عالم الملائكة له مقاييس تختلف تمامًا عن مقاييسنا نحن البشر. اهـ.
وقال أيضًا: أعظم سرعة يعرفها البشر هي سرعة الضوء، فهو ينطلق بسرعة (186) ألف ميل في الثانية الواحدة.
أمّا سرعة الملائكة؛ فهي فوق ذلك، وهي سرعة لا تقاس بمقاييس البشر، كان السائل يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يكاد يفرغ من سؤاله؛ حتى يأتيه جبريل بالجواب من ربّ العزة سبحانه وتعالى، واليوم لو وُجدت المراكب التي تسير بسرعة الضوء؛ فإنها تحتاج إلى (مليار) سنة ضوئية حتى تبلغ بعض الكواكب الموجودة في آفاق هذا الكون الواسع الشاسع. اهـ.
رابعًا: تشبيه بعض المعاصي بما هو أكبر منها وأشنع، إنما هو على سبيل المبالغة، وتفحيش الفعل؛ تنفيرًا عنه، وترهيبًا منه. وإشارة إلى كونه أحد أسبابه، أو مقدّماته، وليس المراد أن جزاء الفعلين واحد، وعقابهما متساوٍ.
ومن هذا: المرأة إذا خرجت متعطرة؛ بقصد لفت انتباه الرجال إليها؛ فإنها حينئذ تُشبَّه بالزانية، وراجع في ذلك الفتوى: 211507.
خامسًا: الصلاة على النبي صلى الله عليه إنما هي عبادة لله تعالى، أمر بها، ورغّب فيها؛ تشريفًا لنبيه صلى الله عليه وسلم، وتنويهًا بشأنه، ورفعًا لذكره، وإعظامًا لثوابه وجزائه، ثم هي مع ذلك سبب عظيم لانتفاع العبد، وسعادته، وأجره، ومثوبته؛ ففيها من الفضائل ما لا يزهد فيه إلا جاهل، أو جاحد، وراجع في ذلك الفتويين: 21892، 33808.
وإذا كانت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عبادة لله تعالى، يحبّها ويرضاها؛ فلا يصحّ أن يقام التعارض بينها وبين بقية العبادات، كتعلّم العلم، وقراءة القرآن، وإلا ففي أبواب العلم ما هو خاص بفضيلة الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي القرآن أمر صريح بها: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا. [الأحزاب:56]، وراجع لمزيد الفائدة الفتوى: 198891.
ومع ما تقدم؛ نوصيك باللجوء إلى الله، والاستعاذة به، وأن تضرع إلى الله بصدق، وانكسار بأن يهديك، وأن يصرف عنك الشكوك والوساوس.
واجتهد في الاستقامة على طاعة الله بالمحافظة على الفرائض، واجتناب المحرمات، والمسارعة في النوافل؛ فضعف الإيمان، وغفلة القلب، من أكبر أسباب الاستجابة للشكوك والوساوس.
وأكثر من قراءة القرآن الكريم، وتدبّره، والقراءة في تفاسيره المعتمدة، مع الحرص على البعد عن الاستماع لأصحاب الشبهات، أو القراءة لهم.
واجتهد في طلب العلم الشرعي من مصادره الموثوقة، وانظر الفتاوى: 266467، 182067، 390484.
وأما الدعاء بحصول خارق للعادة -وهو ما عبرت عنه بالمعجزة-؛ ففيه نوع من الاعتداء في الدعاء، وانظر في هذا الفتوى: 323944.
وأيسر من ذلك أن تدعو الله تعالى أن يشرح صدرك، ويهديك، ويوفّقك، ويجدّد الإيمان في قلبك، ويرزقك اليقين.
وعليك بهذا الدعاء النبوي المبارك؛ فأكثر منه، والهج به، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كربه أمر، يقول: "يا حي، يا قيوم، برحمتك أستغيث". رواه الترمذي، والحاكم، وصححه، وحسنه الألباني.
وقال صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة: ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به، أن تقولي إذا أصبحت، وإذا أمسيت: يا حي، يا قيوم، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين. رواه النسائي، والبزار، والضياء، والحاكم، وصححه هو، والمنذري، وحسنه الضياء، والألباني.
والله أعلم.