عنوان الفتوى : النهي عن المنكر عند تكرر المعصية وظن عدم القبول
السؤال
ما حكم النصيحة؟ وهل يجب علينا نصح كل إنسان مذنب نراه أمامنا؟ وخاصة أن هذا الأمر صعب جدًّا، وشبه مستحيل في هذا الوقت؛ لأن الناس تعمل الحرام أكثر من الحلال، فعند دخولي إلى تطبيق الواتساب أرى صديقاتي -هداهنّ الله- قد شاركن مقاطع أغانٍ، أو مسلسلات، أو صورًا لنساء كاسيات عاريات، وأود تقديم النصيحة لهنّ، ولكن أغلبهنّ لا يقبلن النصيحة، وقد جربت نصحهنّ من قبل، ولكنهنّ تضايقن مني، فهل يجب عليّ تكرار النصيحة؟ وإذا أردت نصح جميع صديقاتي المخطئات، فإني على هذه الحال سوف أبقى ساعات طوال في تطبيق الواتساب، ولن أخرج منه بسهولة، ولكن ضميري يؤنبني في مثل هذا الحالات، ومن جانب آخر فإني لا أستطيع نصح كل شخص مخطئ أراه كما كان يفعل الصحابة؛ لأن أعمال الناس في هذا الزمن أغلبها حرام، فما حكم تركي للنصيحة في بعض الأحيان؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن النصيحة بإنكار المنكر فرض على الكفاية، إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وقد يتعين النصح في مواضع، قال النووي عند شرح الحديث الذي أخرجه مسلم: من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (فليغيره) فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة. وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة. وهو أيضًا من النصيحة التي هي الدين، ولم يخالف في ذلك إلا بعض الرافضة، ولا يعتد بخلافهم، كما قال الإمام أبو المعالي إمام الحرمين: لا يكترث بخلافهم في هذا، فقد أجمع المسلمون عليه قبل أن ينبغ هؤلاء ...
ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين. وإذا تركه الجميع، أثم كل من تمكن منه بلا عذر، ولا خوف، ثم إنه قد يتعين كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو كمن يرى زوجته، أو ولده، أو غلامه على منكر، أو تقصير في المعروف. اهـ. من شرح صحيح مسلم.
وإنكار المنكر لا يتقيد بعدد معين من المرات، بل تتكرر مشروعية الإنكار ما دام المنكر باقيًا، كما سبق في الفتوى: 226342.
وأما ظن الناصح بعدم قبول نصحه: فقد اختلف العلماء فيه هل يسقط وجوب الإنكار أم لا يسقطه؟ والمشهور عند العلماء أنه لا يسقط الوجوب، جاء في الآداب الشرعية لابن مفلح: قال القاضي أبو يعلى في كتاب المعتمد: ويجب إنكار المنكر وإن لم يغلب في ظنه زواله في إحدى الروايتين. نقلها أبو الحارث. وقد سأله عن الرجل يرى منكرًا ويعلم أنه لا يقبل منه ويسكت؟ فقال: إذا رأى المنكر، فليغيره ما أمكنه. هو الذي ذكره أبو زكريا النووي عن العلماء، قال: كما قال تعالى: {ما على الرسول إلا البلاغ} [المائدة: 99].
وفيه رواية أخرى: لا يجب حتى يعلم زواله. نقلها حنبل عن أحمد فيمن يرى رجلًا يصلي لا يتم الركوع والسجود، ولا يقيم أمر صلاته، فإن كان يظن أنه يقبل منه، أمره ووعظه حتى يحسن صلاته. ونقل إسحاق بن هانئ: إذا صلى خلف من يقرأ بقراءة حمزة، فإن كان يقبل منك، فانهه.
وذكر في كتاب الأمر بالمعروف، وابنه أبو الحسين: هل من شرط إنكار المنكر غلبة الظن في إزالة المنكر؟
على روايتين: (إحداهما): ليس من شرطه؛ لظاهر الأدلة (والثانية): من شرطه، وهي قول المتكلمين لبطلان الغرض.
وكذا ذكرهما القاضي فيما إذا غلب على الظن أن صاحب المنكر يزيد في المنكر.
وقال ابن عقيل: إذا غلب على ظنه أنه لا يزول، فروايتان: (إحداهما): يجب، ثم ذكر رواية حنبل السابقة. وقال في رواية أخرى في الرجل يرى منكرًا ويعلم أنه لا يقبل منه هل يسكت؟ فقال: يغير ما أمكنه.
وظاهره أنه لم يسقط، وقال أيضًا: لا يجوز. انتهى كلامه.
وقال في نهاية المبتدئين: وإنما يلزم الإنكار إذا علم حصول المقصود، ولم يقم به غيره، وعنه: إذا رجا حصوله، وهو الذي ذكره ابن الجوزي.
وقيل: ينكره، وإن أيس من زواله، أو خاف أذى أو فتنة.
وقال في نهاية المبتدئين: يجوز الإنكار فيما لا يرجى زواله. اهـ.
ومما يسقط الوجوب: وقوع الحرج والمشقة البالغة بالإنكار؛ بسبب شيوع المنكر، وكثرة فاعليه، كما سبق أن بيناه في الفتوى: 403024.
وبعد هذا؛ فإنه لا يلزمك إنكار كل ما ينشره صديقاتك في الواتساب أو غيره، ما دام يقع عليك حرج ومشقة في الإنكار؛ بسبب كثرة ما يُنشر من مخالفات، لا سيما إن غلب على ظنك عدم قبولهنّ للنصح.
وأما سؤالك الثاني: فراسلينا به في رسالة أخرى، لأننا بيّنّا في خانة إدخال الأسئلة، أنه لا يسمح إلا بإرسال سؤال واحد فقط في المساحة المعدة لذلك، وأن الرسالة التي تحوي أكثر من سؤال، سيتم الإجابة عن السؤال الأول منها، وإهمال بقية الأسئلة.
والله أعلم.