عنوان الفتوى : الحكمة من ابتلاء الله لأحبابه، وجزاء المؤمن المظلوم الصابر
هل من العدل أن يتم ابتلاء أنثى بالاغتصاب؟ هل هذا حب من الله؟ وَلِمَ يتركهم بدون رفقة صالحة حتى لا يفقدوا الأمل في رحمة الله؟
وما مصيرهم بعد أن يلوموا الله، ويقولوا إنه إن كان يحبهم، ويريد لهم الجنة، ما تركهم فريسة بيد من لا يرحمون.
أتمنى الإجابة على أسئلتي.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالمثال الذي ذكره السائل (اغتصاب أنثى) وغيره مما يمكن ذكره من صور الظلم الموجودة في الحياة الدنيا، ترجع في النهاية إلى إشكالية واحدة، قديمة وحديثة في آن واحد! وهي إشكالية وجود الشر بصوره وأنواعه ودرجاته المتفاوتة. وهل هي تتعارض مع إثبات وجود الله تعالى، أو إثبات كماله في صفاته وأفعاله؟ فهذا هو الأصل والقضية الكلية التي ترد إليها أطراف الكلام، وقد سبق لنا تناولها بشيء من الإيضاح في إحدى المقالات المنشورة على موقعنا، وتجدها على هذا الرابط:
https://www.islamweb.net/media/index.php?page=article&lang=A&id=220654
ومع ذلك فالأمر يحتاج إلى مزيد بيان، فليس من المناسب أن يتساءل المرء عن قضية شائكة، حار فيها الفلاسفة، ولا زالوا حيالها في مد وجزر، ثم هو مع ذلك يريد أن يقرأ صفحة أو صفحات يسيرة تستوعبها وتفصِّلها، ولذلك فإننا نصح الأخ السائل بقراءة كتاب (مشكلة الشر ووجود الله) للدكتور سامي عامري. فهو من الكتب المعاصرة المميزة في هذا الباب. وكذلك ما يتعلق بسؤال وجود الشرور والآلام في الدنيا، من كتاب القرآن وأسئلتك الوجودية. للطبيب الشاب مهاب السعيد (في الطبعة الأولى من ص 232 : إلى ص 271 ). وراجع لمزيد الفائدة الفتويين: 135313، 117638.
وأما قول السائل: (هل هذا حب من الله؟) فلعله يشير بهذا إلى حديث: إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم. رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما، وصححه الألباني. فهو يستشكل كيف يكون تسليط هذا المعتدي من علامات محبة الله للمعتدى عليها؟ فنقول: الابتلاء في الدنيا عموما من علامات إرادة الخير للعبد، إما لتكفير سيئاته، وإما لرفعة درجاته، وإما لمتحيصه وتمييزه عن أهل الريب والنفاق؛ ولذلك جاء بعد هذه الجملة عبارة: فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط. فلا يستوي من يؤمن بالله تعالى، وحكمته في قضائه وقدره، وكماله في أسمائه وصفاته، مع من يرتاب ويمتري، ولذلك قد قال الله تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 179].
وقال الشيخ سليمان آل الشيخ في (تيسير العزيز الحميد): إن قلت: كيف يبتلي الله أحبابه؟! قيل: لما كان أحد لا يخلو من ذنب كان الابتلاء تطهيرًا لهم؛ كما صحت بذلك الأحاديث. وفي أثر إلهي: "أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب" ولأنه زيادة في درجاتهم لما يحصل مع المصيبة للمؤمن من الأعمال الصالحة؛ كما تقدم في حديث "إذا سبقت للعبد من الله منْزلة لم يبلغها، أو قال: لم ينلها بعمله ابتلاه الله في جسده، أو في ولده، أو في ماله، ثم صبَّره حتى يبلغه المنْزلة التي سبقت له من الله عزّ وجل". ولأن ذلك يدعو إلى التوبة، فإن الله تعالى يبتلي العباد بعذاب الدنيا ليتوبوا من الذنوب؛ كما قال تعالى: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. فمن رزقه الله التوبة بسبب المصيبة كان ذلك من أعظم نعم الله عليه، ولأن ذلك يحصل به دعاء الله والتضرع إليه؛ ولهذا ذم الله من لا يستكين لربه، ولا يتضرع عند حصول البأساء؛ كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} ودعاء الله والتضرع إليه من أعظم النعم، فهذه النعمة والتي قبلها من أعظم صلاح الدين ... وإذا حصل لك الدعاء الذي هو سؤال الله حاجاتك، فتسأله ما تنتفع به، وتستعيذ به مما تستضر به، كان هذا من أعظم نعم الله عليك، وهذا كثيرًا ما يحصل بالمصائب. وإذا كانت هذه النعم في المصائب، فأولى الناس بها أحبابه، فعليهم حينئذ أن يشكروا الله. لخصت ذلك من كلام شيخ الإسلام رحمه الله. انتهى.
وعلى أية حال، فإن مشكلة الشر لا يمكن إدراك الحكمة منها ولا التعامل معها، إلا ملاحظة الفرق الهائل بين علم الله تعالى المحيط بكل شيء، وبين علم العبد القاصر المحدود الذي لا يتعدى القشرة الرقيقة التي يدركها بحواسه الضعيفة، ولنا في قصة موسى مع الخضر مثال واضح لذلك.
ثم أيضا لا بد من ملاحظة الاتصال الوثيق في حكم الله تعالى بين الدنيا والآخرة، وأن الآخرة - وليس الدنيا - هي دار الجزاء وإقامة العدل المطلق بين الخلائق، وراجع في ذلك الفتويين: 381029، 124756. هذا .. ومع مراعاة حسن جزاء المؤمن المظلوم الصابر المحتسب عند لقاء الله، يزول الجانب الآخر من هذا الإشكال، قال ابن الوزير في إيثار الحق على الخلق: الله تعالى جعل ثواب العبد على ذهاب بصره الخلود الذي لا آخر له في نعيم الجنان الذي لا مثل له بحيث أن من غمس غمسة واحدة فيه من أهل البلاء يقال له: هل رأيت بؤسا قط؟ فيقول: ما رأيت بؤسا قط. فهذا في أول غمسة كيف في الدوام الأبدي فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر في مقعد صدق عند مليك مقتدر مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. وكل عاقل يشتري هذا بأن يقطع إربا إربا في كل حين، ولذلك قال الله تعالى {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} الآية. اهـ.
وأما السؤال عن مصير من يلوم الله تعالى على قضائه، ويسيئ به الظن: فهذا يختلف حكمه بحسب الحال، وإن كان مذموما على أية حال، وراجع في تفصيل ذلك الفتويين: 133564، 134641.
والله أعلم.