عنوان الفتوى : وجوب صلة الوالدين بما لا يحصل منه ضرر على الولد
ما حكم هجر الوالدين الذين لم أر منهما خيراً قط، ولا عطفاً حقيقياً، وكأنما يربونني لإذلالي فقط، وإهانتي، ونصر أخي علي وهو ظالم دائماً، وهو فى الأساس حاقد حقدا عظيما، فذلك نصر له وفرحة، بل واستغلال حتى أنه كان يتشاجر معي ويؤذيني كثيراً لعلمه أنه منتصر وهو ظالم. أنا في الذل منذ الطفولة، ولم أكن أعقل أن هذا ذل، أو لم أكن مستعداً للابتعاد عنهم. أنا لا أريد أن أعبر عن أذيتهما بشكل مبالغ فيه؛ لأخذ فتوى بتركهم، ولكن بالمنطق وطبقا للفطرة كيف أصل من يكتمون في صدورهم الحقد عليَّ والحسد، ويرغبون في إذلالي دائما، بل وتضييع حقوقي بشكل كبير مع الناس، وفي البيت، وكأني مستعبد بل بالفعل هكذا أكون مستعبدا. لا يفعلون إلا أذيتي إن تكلمت معهم ولو بالسلام. إما أن يؤذوني، أو يدخلوني في حوارات ليذلوني، وإما فلن يتكلموا معي، حتى البر يريدون إذلالي به. أهانوني إهانة عظيمة لا أطيق أن أراهم أو أعيش معهم؛ ليكملوا ذلي، ولا أستطيع أن أصله ولو بالهاتف. أيستطيع أحد أن يصل عدوه؟ أيرضى العدو أن يمكنه من أجر؟ بل إنهم لا يطيقون ذلك أو يتكلم معه، وليس في قلبه شيء له إلا الحقد فقط. أنا عمري الآن عشرون عاما تقريبا. عشت بالوساوس وأحلام اليقظة، وكثرة الاسترسال، بل لا أفعل غيره بسبب هذه الصدمات والذل. ولم أر فيهم أي رحمة، أو حب أو عطف، وإنما كأنهم من اليهود بل أشد منهم عداوة؛ كأنني أعيش مع شياطين لا يعرفون شيئا عن الخير، وذلك معي أنا فقط، أما أخي فلا. أقسم أنهم لم يتركوا موضعا أو شيئا يستطيعون أن يؤذوني أو يذلوني به ألا وفعلوا في صغري وفي كبري. بل ووصلت إهانتي بأن أكون ذليلا للجيران منذ الصغر، لم أكن أعي ذلك لأني كنت طفلا. أنا كنت متضايقا ولكن لا أدري أن الوالدين لا يحبونني، أو لا أستطيع كطفل أن أصدق ذلك فليس لي أي خبرة سابقة. لك أن تتخيل ثقة الطفل بوالديه. لست متأكداً إن كنت ابنهم (مع أني أشبههم) أم اختطفوني في الصغر، فأنا لا أستبعد عنهم شيئا فهما شديدو الخبث (منحرفو الفطرة) بكل ما تعني الكلمة. وقد ذكرت لكم في الفتاوى السابقة عنهما شيئا، ولا أذكر أرقامها. هل يرضى الله بأن تكون صلتي ذلا واهانة. الذل الحقيقي الذي لا يكون إلا له ؟؟ (وأنا على يقين بأني لن أجد فيهم رحمة، فمن لم يعطف علي ويرحمني صغيرا لن يرحمني كبيراً، بل كلما كبُرت زادوا أذية وإهانة . وهم لا يخافون الله، ولكن يخافون الناس والقانون، يرون أن ليس لي ناصراً وأني أعيش وهما (الإيمان)، وكأن معتقداتي في الرزق أي أنه من الله خطأ، وإنما الأمر مقتصر على الأسباب التي لا أملكها، وأمي حينما شعرت أني ذاهب تحاول إذلالي بما أنفقه أبي علي من قبل. لا يفعلون إلا ذلك، ولا أرى منهم إلا الأذية. حتى أبي يعلم أني في مكان ما يأتي حاملا كيسا من القمامة ليهينني أمام الناس. لهم أمور أخرى أستحي أن أذكرها، فهما شياطين حرفيا، يريدون أن أرضى بالذل، وإلا عادوني مواجهةً، ولا أظن أن الله يرضى بذلك أبداً. وحسبنا الله ونعم الوكيل . أرجو أن تراجع الفتاوى السابقة، فلا يمكنني ذكر أرقامها. فماذا تقول؟ وشكرا جزيلاً.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا شك في أن ما ذكرته عن والديك أمر غريب أشد الغرابة، فإن صح هذا الكلام عنهما فهما قد خالفا الشرع، وعطلا العقل، وجانبا الفطرة السليمة، فالمفترض فيهما الشفقة والرحمة بالولد، والحرص على كل ما فيه مصلحته وتجنيبه الأذى والشر لا العكس.
وهما بهذه التصرفات قد جعلاك في امتحان حقيقي، والدنيا دار ابتلاء وامتحان، قال الله سبحانه: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ {الملك:2}.
والابتلاء ينبغي مقابلته بالصبر، ففيه رفعة الدرجات، وتكفير الذنوب والسيئات، وانظر الفتوى: 18103. فاصبر عسى الله تعالى أن يعزك، ويرفع درجاتك في الدنيا والآخرة ويبلغك مبلغا لا يخطر لك على بال.
ولا ينبغي أن يغيب عن ذهنك أن الشرع الحكيم قد أعلى من شأن الوالدين، وقرن حقه بحقهما؛ كما قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا {الإسراء:23}.
وأمر بالإحسان إليهما ولو كانا كافرين يسعيان فيما فيه خسران الولد دنياه وأخراه بالكفر بالله، قال الله سبحانه: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا....الآية {لقمان:15}.
ولهذا قرر أهل العلم وجوب برهما وإن كانا ظالمين، عقد البخاري في كتابه الأدب المفرد بابًا أسماه: باب بر والديه وإن ظلما ـ وأورد تحته أثرًا عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: ما من مسلم له والدان مسلمان، يُصبح إليهما محتسبًا، إلا فتح له الله بابين ـ يعني: من الجنة ـ وإن كان واحدًا فواحد، وإن أغضب أحدهما، لم يرضَ الله عنه حتى يرضى عنه, قيل: وإن ظلماه؟ قال: وإن ظلماه. اهـ
فلا يجوز لك هجر والديك بحال، بل يجب عليك صلتهما، وينبغي أن تصبر عليهما، وتجتهد في تناسي ما قد حدث منهما، وأن تسأل ربك أن يعينك في هذا السبيل. واعمل على مقابلة إساءتهما بالإحسان، ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة، أن رجلا قال: يا رسول الله؛ إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، فقال: لئن كنت كما قلت، فكأنما تسفهم المل ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك. والمل هو الرماد الحار.
والحاصل أن بر الوالدين واجب، وصلتهما تكون بما يتيسر، قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ {التغابن:16}، ويرجع في الصلة إلى العرف، فما عدَّه الناس صلة، كان كذلك، وما لا فلا، فإن كان زيارتهما والاتصال عليهما قد يترتب عليهما ضرر أعظم، فيجب صلتهما على الوجه الذي لا يحصل منه ضرر، والمرجع فيما يعتبر صلة من عدمها إلى أعراف الناس، وراجع الفتوى: 237613.
ويجب عليك الحذر من أن يصدر منك ما يقتضي العقوق، وهو يحصل بأدنى إساءة؛ كعبوس الوجه، والتأفيف ونحو لك، وانظر لمزيد الفائدة الفتوى: 73485.
والله أعلم.